نسيانا علميا ، ونسيانا عمليا. (فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي : سلطنا بعضهم على بعض ، وصار بينهم من الشرور والإحن ، ما يقتضي بغض بعضهم بعضا ومعاداة بعضهم بعضا إلى يوم القيامة. وهذا أمر مشاهد ، فإن النصارى لم يزالوا في بغض وعداوة وشقاق. (وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) فيعاقبهم عليه.
[١٥] لما ذكر تعالى ، ما أخذه الله على أهل الكتاب ، من اليهود والنصارى وأنهم نقضوا ذلك ، إلا قليلا ، أمرهم جميعا أن يؤمنوا بمحمد صلىاللهعليهوسلم ، واحتج عليهم بآية قاطعة دالة على صحة نبوته. وهي : أنه يبين لهم كثيرا مما يخفون عن الناس ، حتى عن العوام من أهل ملتهم. فإذا كانوا هم المشار إليهم في العلم ولا عند أحد في ذلك الوقت إلا ما عندهم ، فالحريص على العلم ، لا سبيل له إلى إدراكه إلا منهم. فإتيان الرسول صلىاللهعليهوسلم بهذا القرآن العظيم ، الذي بيّن به ما كانوا يتكاتمون بينهم ، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب ـ من أدل الدلائل على القطع برسالته. وذلك مثل صفة محمد في كتبهم ، ووجود البشائر به في كتبهم ، وبيان آية الرجم ونحو ذلك. (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) أي : يترك بيان ما لا تقتضيه الحكمة. (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ) وهو القرآن ، يستضاء به في ظلمات الجهالة ، وعماية الضلالة. (وَكِتابٌ مُبِينٌ) بكل ما يحتاج الخلق إليه ، من أمور دينهم ودنياهم. من العلم بالله ، وأسمائه ، وصفاته ، وأفعاله ، ومن العلم بأحكامه الشرعية وأحكامه الجزائية.
[١٦] ثم ذكر من الذي يهتدي بهذا القرآن؟ وما هو السبب الذي من العبد لحصول ذلك فقال : (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ) أي : يهدي من اجتهد وحرص ، على بلوغ مرضاة الله ، وصار قصده حسنا ـ سبل السلام ، التي يسلم صاحبها من العذاب ، وتوصله إلى دار السلام ، وهو العلم بالحق والعمل به ، إجمالا وتفصيلا. (وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ) ظلمات الكفر والبدعة والمعصية ، والجهل والغفلة. (إِلَى النُّورِ) نور الإيمان والسنّة ، والطاعة ، والعلم ، والذكر. وكل هذه من الهداية بإذن الله ، الذي ما شاء كان ، وما لم يشأ ، لم يكن. (وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).
[١٧] لما ذكر تعالى أخذ الميثاق على أهل الكتابين ، وأنهم لم يقوموا به بل نقضوه ـ ذكر أقوالهم الشنيعة. فذكر قول النصارى ، القول الذي ما قاله أحد غيرهم ، بأن الله هو المسيح ابن مريم. ووجه شبهتهم ، أنه ولد من غير أب ، فاعتقدوا فيه هذا الاعتقاد الباطل. مع أن حواء نظيره ، خلقت بلا أم. وآدم أولى منه ، خلق بلا أب ولا أم. فهلا ادعوا فيهما الإلهية ، كما ادعوها في المسيح؟ فدل على أن قولهم ، اتباع هوى من غير برهان ولا شبهة. فردّ الله عليهم ، بأدلة عقلية واضحة فقال : (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً). فإذا كان المذكورون ، لا امتناع عندهم ، يمنعهم لو أراد الله أن يهلكهم ، ولا قدرة لهم على ذلك ـ دل على بطلان إلهية من لا يمتنع من الإهلاك ، ولا في قوته شيء من الفكاك. ومن الأدلة أنّ (لِلَّهِ) وحده (مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) يتصرف فيهم بحكمه الكوني والشرعي والجزائي ، وهم مملوكون