والعلم ، أن يترك سُنّة رسول الله ، اذ لا يترك السُنّة إلا مبتدع ، ولا يزيغ عنها إلا هالك ، قد أقرّوا بزيغ أبي حنيفة من حيث لا يشعرون.
وأما الذين يدّعون بأن أبا حنيفة إنما اخذ بالقياس وترك الحديث الصحيح ، فإنه لابد أن يكون القياس مسبوقاً بنص صحيح من الشارع ، فما في القياس طرح للسُنّة ، بل هو العمل بسُنّة هي أقوى في نظر المجتهد من سُنّة أخرى (١).
فهو زعم عجيب يفتقد الدليل والبينة ، لأن أبا حنيفة لم يدّع ذلك أبداً ، وانما هو يُعمل الرأي والقياس إذا لم يطمئن للحديث وشكّك بصحته ، فيما يُثْبت الفقهاء الآخرون صحته المطلقة ، ومن حقنا أن نتساءل : لماذا يخفي أبو حنيفة ، خبر الحديث الصحيح عنده يا ترى ، فهل يخفيه لكي يثير الشكوك حول نفسه؟ أم ان هؤلاء يحاولون الدفاع عن صاحب المذهب الحنفي بكل الذرائع والمبررات مهما كانت واهية ومُضادة للعقل ، هذا في وقت يعترض الشافعي على أبي حنيفة لعمله بالحديث المُرسل ، للجهل بصفات الراوي التي تصحّ بها الرواية ، بينما ترى أبو حنيفة ان المُرسل في قوة المُسند يحتج به ، ووجه احتجاجه بأن الصحابة أنفسهم أرسلوا (٢) .. لكن الصحابة ليسوا كلهم عدولاً ، كما أثبتنا من قبل ، واذا كان بعض الصحابة يثق بالآخر ، فربما اندسّ بين الصحابة العدول ، صحابة مشكوك فيهم ، ويتظاهرون بالتقوى والصلاح ، فيضعون من الأحاديث ما يشوّه الحديث النبوي ، بعد ان أثبت القرآن الكريم والرسول الكريم صلىاللهعليهوآله نفسه بأن هناك صحابة منافقون وفي قلوبهم مرض ، بل وان النبي صلىاللهعليهوآله نفسه كان يجهل حالهم ، فينقل الصحابي الثقة ، الخبر المكذوب منهم دون أن يعلم ولا يذكر اسماءهم
__________________
(١) المذاهب الفقهية : ٤٠.
(٢) المذاهب الفقهية : ٤٢ ـ ٤٣.