وأبو حنيفة ، يقدّم القياس الجلي على الخبر الواحد المعارض له (١). والمدافعون عن أبي حنيفة يزعمون انه انما كثر القياس في مذهبه ، لكونه في زمن قبل تدوين الحديث ، ولو عاش حتى تدوين الاحاديث الشريفة ، وبعد رحيل الحُفّاظ في جمعها من البلاد والثغور ، وظفر بها ، لأخذ بها وترك كل قياس كان قاسه.
وتعليقنا على هذا الادعاء من أصحاب المذهب الحنفي : لِمَ تأخر تدوين الحديث النبوي الى أواسط القرن الثاني الهجري ، بحيث اضطر الفقهاء والمجتهدون للاستفادة من القياس والرأي لاستنباط الاحكام الشرعية مع نُدرة الاحاديث النبوية التي لو دوّنت في حينها لما حصل ما حصل من اختلاف في الأحكام المستنبطة وبُعْدها عن الحكم الصحيح الذي أراده الله تعالى للمسلمين.
ثم ان الحقائق تثبت ان الاحاديث كانت متوافرة عند أبي حنيفة ، لكنّه كان يردّها ، لمخالفتها القياس في نظره ، وقد تكون الاحاديث التي يردّها مما عَمَل به غيره ، لصحّتها أو لحُسنها وصلاحيتها للاحتجاج (٢). وإن كثيراً من أهل الحديث استجازوا الطعن على أبي حنيفة لردّه كثيراً من أخبار الآحاد والعدول ، لأنه كان يذهب في ذلك الى عرضها على ما اجتمع عليه من الأحاديث ومعاني القرآن ، فما شذّ عن ذلك ردّه وسمّاه شاذاً (٣).
ولذلك فان اتهام أبي حنيفة بأنه يُقدّم القياس ويعتد بالرأي من دون الحديث ليس بباطل ، وان الذين يقولون بأنه ما يكون لأبي حنيفة ولا لغيره ولا لأحد من أهل الايمان
__________________
(١) أدب الاختلاف : ٩٤ ـ ٩٥.
(٢) المذاهب الفقهية : ٣٨ ـ ٣٩.
(٣) الانتقاء ـ ابن عبد البر : ١٤٩.