وكأنّ بعض الفلاسفة (١) المسلمين المتأخرين تنبه إلى أنّه لا يمكن الالتزام بأنّ معرفة الواقع الموضوعي أوليّة ، إذ لو كانت أوليّة للزم أن لا تخطى ـ كما يعتقدون ـ معرفة حسيّة أبدا ، بينما الخطأ في الحواس موجود ، إذ أنّ خداع الحواس كثير ، ومعه ، كيف يقال بأنّ الإدراك الحسّي معرفة أوليّة؟ وكأنّه لأجل هذا ، أراد هذا الفيلسوف المسلم أن يتخلص من هذا المحذور ، فبنى على أنّ المعرفة الحسيّة بنحو القضية الإجمالية هي أوليّة ، بمعنى أنّ بعض الإحساسات بالجملة لها مطابق في الواقع ، إذ ليست كل هذه الأشياء الّتي نحسّ بها من حولنا مجرد خيالات ، ولذلك ادّعى البداهة والأوليّة فيها.
ونحن في كتاب فلسفتنا قبل الأسس المنطقية للاستقراء ، اتجهنا إلى علاج آخر ، فبنينا على أنّ المعرفة هنا في القضايا الحسيّة معرفة مستنبطة بقانون العلية ، باعتبار ان الصورة الحسيّة حادثة لا بدّ لها من علّة ، وقانون العلية قضية أوليّة أو مستنبطة من قضية أوليّة ، فما أحسّ به بالذات هو الصورة وإلّا كيف حصلت هذه الصورة في أفق النّفس؟ إذن ، فعن طريق قانون العلية نثبت الواقع الموضوعي للصورة الحسيّة.
وفي مقابل هذه الاتجاهات الثلاثة اتجاه المثاليين ، حيث أنّهم يقولون بأنّه لا معرفة أوليّة لنا بالواقع الموضوعي أصلا ، بل انّ هذه الموجودات المحسوسة كلها ، ليس لها واقع خارجي وراء الصور الذهنية القائمة في النّفس ، إذن فتمام ما نعرفه هو المحسوس بالذات.
وأمّا المحسوس بالعرض فلا معرفة لنا به.
وكل هذه الاتجاهات الفلسفية الأربعة الّتي تذبذب بها الفكر البشري خلال ألفي عام غير صحيحة ، فالمعرفة الحسيّة ليست بديهية
__________________
(١) العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائي «قده».