ونفس هذا الكلام الّذي قالوه في التجريبيات ، قالوه أيضا في الحدسيات ، فذكروا انّ نور القمر مستمد من ضوء الشّمس ، لأنّ ضوءه دائما يتشكل بشكل يناسب مع نسبة مكان الشّمس إليه ، فإن لم يكن ضوؤه مستمد منها ، فهذه صدفة ، والقضية العقلية الأولية تقول بأنّ الصدفة والاتفاق لا يتكرر ، إذن يتبرهن أنّ ضوءه مستمد من ضوء الشّمس ، إذن فضوؤها علّة لضوئه ، فتسري إلى دائمية ضوئه.
وكذلك قالوا في المتواترات : فإنّ التواتر على ما عرفوه ، عبارة عن اجتماع عدد من النّاس وتوافقهم على الإخبار عن قضية يكونون بنحو من الكثرة بحيث يمتنع تواطؤهم على الكذب ، وامتناع تواطؤهم ، باعتبار أنّه لو كان كل واحد منهم يكذب لكان صدفة ، وهي لا تتكرر وليست دائمية ، إذن فيثبت صدقهم.
فالمتواترات ، والحدسيات ، والتجريبيات ، أقاموها على أساس هذه القضية العقلية القبلية.
وقد ناقشنا هذا المطلب في كتاب الأسس المنطقية للاستقراء ، وأثبتنا بسبعة براهين ، انّ هذه القضية العقلية الأولية ، وهي كون «الاتفاق لا يكون دائميا ، وانّ الصدفة لا تتكرر» أثبتنا انّها ليست قضية عقلية ثابتة قبل التجربة ، كاستحالة اجتماع النقيضين ، وإنّما هي قضية مبنية على الاستقراء والتجربة وحساب الاحتمالات ، فمثلا : عند ما نعطي مريضا قرصا من الأسبرين فيشفى ، نقول : يحتمل أن يكون سبب شفائه ذلك القرص ، ولكن يبقى احتمال آخر وهو أن يكون سبب شفائه حادثة أخرى اقترنت مع الأسبرين صدفة ، لكن إذا أعطي الأسبرين لشخص آخر مريضا بنفس المرض وشفي فاحتمال أن يكون سبب شفائه أمر آخر غير ذلك القرص لاحتمال أن تكون الصدفة قد تكررت في هذا الأمر الثاني احتمال ضعيف ، وهو أضعف من الفرض الأول ، وهكذا يضعف