كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) (١) ثمّ قال بعد ذلك : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) (٢) يعني في هذه النعم ، وعن هذه العبر ، فهو في الآخرة أعمى ؛ أي هو عمّا غيّب عنه من أمر الآخرة أعمى ، ويكون قوله : (فِي هذِهِ) كناية عن النّعم لا عن الدنيا ويقال : إن ابن عباس «رحمة الله عليه» سأله سائل عن هذه الآية فقال له : اتل ما قبلها ، ونبّهه على التأويل الذي ذكرناه.
والجواب الثاني : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ) يعني الدنيا (أَعْمى) عن الإيمان بالله والمعرفة بما أوجب الله عليه المعرفة به ؛ فهو في الآخرة أعمى عن الجنّة والثواب ؛ بمعنى أنه لا يهتدي إلى طريقهما ، ولا يوصل إليهما ، أو عن الحجّة إذا سوئل ووقف ، ومعلوم أنّ من ضلّ عن معرفة الله تعالى والإيمان به يكون يوم القيامة منقطع الحجة ، مفقود المعاذير.
والجواب الثالث : أن يكون العمى الأوّل عن المعرفة والإيمان ، والثاني بمعنى المبالغة في الإخبار عن عظم ما يناله هؤلاء الكفار الجهّال بالله من الخوف والغم والحزن الذي أزاله الله عن المؤمنين العارفين بقوله : (لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٣) ، ومن عادة العرب أن تسمّى من اشتدّ همّه وقوي حزنه أعمى سخين العين ، ويصفون المسرور بأنّه قرير العين ، قال الله تعالى : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٤).
والجواب الرابع : أنّ العمى الأوّل يكون عن الإيمان ، والثاني هو الآفة في العين على سبيل العقوبة ؛ كما قال الله تعالى : (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦)) (٥). ومن يجيب بهذا الجواب يتأوّل قوله تعالى : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) على أنّ المعنى فيه الإخبار عن الاقتدار وعدم المشقّة في
__________________
(١) سورة الإسراء ، الآية : ٧٠.
(٢) سورة الإسراء ، الآية : ٧٢.
(٣) سورة يونس ، الآية : ٦٢.
(٤) سورة السجدة ، الآية : ١٧.
(٥) سورة طه ، الآيات : ١٢٤ ـ ١٢٦.