وقد يحكي العربي عن الفارسي كلاما مرتّبا مهذّبا ما نطق به الفارسي وإنّما أشار إلى معناه.
فقد زال التعجب من الموضعين معا ، وأيّ شيء أحسن وأبلغ وأدلّ على قوّة البلاغة وحسن التصرّف في الفصاحة من أن تشعر نملة لباقي النمل بالضرر لسليمان وجنده بما تفهم به أمثالها عنها ، فتحكي هذا المعنى الذي هو التخويف والتنفير بهذه الألفاظ المونقة والترتيب الرائق الصادق. وإنّما يضلّ عن فهم هذه الأمور وسرعة الهجوم عليها من لا يعرف مواقع الكلام الفصيح ومراتبه ومذاهبه (١).
ـ (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢١) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢)) [النمل : ٢٠ ـ ٢٢].
ما يحيل لكون هدهد سليمان عليهالسلام عاقلا من طريقة العقول؟ ليسوغ الانصراف عن ظواهر ما حكاه الله تعالى عنه من الأقوال والأفعال الدالّة بظاهرها القوي أنّه ذو عقل يساوي عقول المكلفين.
وأقوى ذلك قول سليمان عليهالسلام : (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) وهذا وعيد عظيم لا يجوز توجّهه إلى غير ملوم على الخطأ ، المقصور فهمه عن فهم المكلّفين.
وكيف يجوز أن يوجب عليه مثل ذلك؟ لعدم البرهان المبين ، وهو الحجّة الواضحة التي يقيم عذره ، ويسقط الملامة عنه ، وقد كان له أن يذبحه من غير هذا الشرط على مقتضى ما أجاب به سيدنا «حرسه الله تعالى» من قبل ، أنّ ذلك كان مباحا له.
فلو لا أنّ العذاب هاهنا والذبح جاريان مجرى العقاب ، لما اشترطه في وجوبهما عليه عدم البرهان ، وفي سقوطهما عند حصوله.
__________________
(١) الرسائل ، ١ : ٣٥٥.