ويدلّ أيضا : على ذلك قولهم «نظرت إلى الهلال فلم أره» ، و «نظرت كذا فما رأيته» ، كما تقولون : «أصغيت إليه فلم أسمعه» و «ذقته فلم أجد له طعما» ، فلو كان النظر هو الرؤية لكان هذا الكلام يتضمّن النفي والإثبات للشيء الواحد.
ويقوّي أيضا ما ذكرناه انّا نعلم بالمشاهدة كون الناظر ناظرا إذا كان محدقا نحو الشيء ، ولا نعلمه رائيا له إذا كان المرئي خفيا ملتبسا ، ولهذا يحتاج في أنّه راء له إلى الرجوع إلى قوله ، ولا يحتاج إلى ذلك في كونه ناظرا ، ولهذا يقولون : «رأيته ينظر إلى كذا» ولا يقولون : «رأيته يرى كذا».
ويدلّ أيضا عليه : أنّ أهل اللغة جعلوا للنظر أصنافا من حيث عرّفوه ، وجرى في الحكم مجرى ما يشاهدونه ، فقالوا : «نظر غضبان» و «نظر راض» و «نظر شرر» و «نظر متعة» و «نظر بغضة» ولم نجدهم صنّفوا للرؤية أصنافا ، ولا جعلوها ضروبا ، فيجب أن يكون المختلف الضروب عندهم غير ما هو شيء واحد ، ولهذا لا يسمع من أحد منهم «رؤية محبّ» و «رؤية راض» ، ولا أن يبدّلوا لفظة «النظر» في المواضع التي ذكرناها بلفظ الرؤية ، فدلّ على أنّ الفائدة فيهما مختلفة.
والنظر عندنا هو تقليب الحدقة الصحيحة نحو المرئيّ أو مكانه طالبا لرؤيته ، وهذه الفائدة لا تصحّ فيه تعالى ، فينبغي أن ينفى عن الآية فائدة النظر المختصّة بالغير ، ويحمل ذلك على ما يصحّ من الانتظار أو غيره.
على أنّا لو سلّمنا لهم أنّ النظر يفيد الرؤية وأنّها إحدى فوائده ، لم يسلّم استدلالهم أيضا بالآية ؛ لأنّ لفظ «النظر» لها فوائد كثيرة من الذكر والاعتبار والتعطّف والانتظار ، فما المنكر من أن يريد بها في الآية الانتظار ، ولا شبهة في أنّ الانتظار ممّا يفاد بهذه اللفظة ، قال الله تعالى : (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) (١) ، ويقول القائل : «إنّما أنظر إلى الله وإليك» ولا يريد إلّا الانتظار ، وقال الشاعر :
__________________
(١) سورة النمل ، الآية : ٣٥.