__________________
ـ فمحلة العامة قلوبها محبوسة فى الجو لا تصعد ، لأن الشهوات قد ثقلتها ، والهوى قد قيدها ، وقلوب المريدين فى سيرهم فى منازلهم أينما وقف فهو محله ، وإنما قيده هواه ، وثقله باقى شهواته ، وقلوب الواصلين فى محلاتهم عند العرش ، وقد قيدهم باقى أهوائهم لا يصلون إلى مجالسه فى ملكه ، وقلوب أهل الصفو من الواصلين ، واصلة إليه فى مجالسه ، فذلك خالص النجوى ، وصافى الذكر ، وهذا الصنف هم الذين قال موسى : «يا رب ، أقريب أناجيك أما بعيد فأناديك؟ قال : أنا جليس من ذكرنى» فالمجلس لهؤلاء. فالذاكرون تباينت طبقاتهم لاختلاف الأحوال فى الذكر ، فليس من أحد يذكر ربه إلا وبدوّ ذلك الذكر من ربه ، وذلك الذكر من الرب إذن للعبد فى الارتحال إليه.
فإذا ذكر الله مبتديا فإنما ذكره من ملك البهجة ، فذاك شوق الله إلى عبده ، ذكره ليهيج بذكره له من العبد ذكره ، فيهيج شوقه إلى الله كلّ على قدره.
فالعامة لا تقدر مطالعة هذا ولا تمييزه ولا تفطن لما يتردد فى صدورهم من ذلك لأنهم فى المرج والشجر الملتفة ، وهى أشغال النفوس فى الصدور ، ولذلك قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «تفرغوا من هموم الدنيا ما استطعتم ، فما أقبل عبد بقلبه على الله إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين تفد إليه بالود والرحمة ، وكان الله بكل خير إليه أسرع».
فذكر الله دنوه من العبد ، فدنوه على قدر مصير العبد إليه ، ولذلك قال صلىاللهعليهوسلم فيما روى عن ربه : «أنا مع عبدى ما تحركت بى شفتاه» (البيهقى ـ ابن حبان).
فكل ذاكر يرجع إليه من ذكره بما انتهى إليه ، فمن انتهى ذكره إلى محل حاد عنه إلى ذى الإحسان رجع إلى قلبه بحلاوة الرحمة وغليل الرأفة ، ومن انتهى ذكره إلى محل حاد عنه إلى ذكر المن رجع إلى قلبه بحلاوة المحبة البارزة المحتظاة منها ، ومن انتهى ذكره إلى محل حاد عنه إلى ذكر التدبير رجع إلى قلبه بحلاوة القربة ، ومن انتهى ذكره إلى محل خلص إلى القدرة رجع قلبه بحلاوة الفرح بالله وحلاوة محبّة الله الباطنة ، وهو الّذي قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «إن الله إذا أحب عبدا نادى : يا جبريل ، إنى أحب فلانا فأحبوه ، فينادى جبريل فى السماوات : إن الله قد أحب فلانا ورضى عنه فأحبوه» (مسلم).
فليس هذا الحب الموضوع فى هذا الحديث الحب العام لأن كل موحد يحبه ربه ، ولم يعطه التوحيد ولا منّ به عليه إلا من حبه له.