وقد قال بعض المشايخ : إنما يعرف توحيد الرجل عند الصدمة الأولى من المحنة ، يعنى بذلك إقباله على الله بقلبه فى أول الوهلة.
وقد حكى عن أحمد بن أبى الحوارى أنه قال : كنت مع أبى سليمان الدارانى فى طريق مكة فسقطت منى السطيحة ، فأخبرت أبا سليمان بذلك قال : يا راد الضالة ، يا هادى من الضلالة ، اردد علينا الضالة ، قال : فلم ألبث حتى أتى رجل يقول : من سقطت منه سطيحة ، فإذا هى سطيحتى ، قال : فأخذتها ، قال أبو سليمان : حسبت أنه يتركنا بلا ماء فمضينا قليلا ، وكان برد شديد ، وعلينا الفرا ، فرأينا رجلا عليه طمران رثان وهو يترشح عرقا ، فقال أبو سليمان : نواسيك من فضل ما معنا ، فقال : الحر والبرد خلقان من خلق الله ، إن أمرهما غشيانى ، وإن أمرهما تركانى ، فأنا أسير فى هذه البادية منذ ثلاثين سنة ما ارتعدت ولا انتفضت ، يلبسنى فى البرد فيحا من محبته ، ويلبسنى فى الحر برد رحمته ، يا دارانى ، تشير إلى الزهد وتجد البرد ، يا دارانى تبكى وتصيح وتستريح إلى الترويح ، قال : فمضى أبو سليمان وهو يقول : لم يعرفنى غيره.
قال الأستاذ : هذه الحكاية تدل على أن أبا سليمان صدق فى فزعه إلى الله تعالى والتجائه إلى الله عند فقد السطيحة فحقق الله ظنه لما وصل إليه مفقوده ، ثم صانه عن محل الإعجاب بما أراه من محل من زاد عليه فى معناه ، ثم صغر فى عينه حال نفسه بما اطلع عليه من مزية غيره عليه فى مقامه ، وتلك سنة الله مع أوليائه أن يصونهم عن ملاحظة الأعمال ويصغر فى أعينهم ما يصفو لهم من الأحوال.
وكان الشيخ أبو عليّ الدقاق ، رحمهالله تعالى ، يقول : علامة من كان صادقا فيما ظهر عليه من التواجد ، أن تكون خجلته بعد صحوه من تلك الغلبة أكثر من خجلة من قارف كبيرة ، وكان كثيرا ما ينشد فى معناه :
يتجنب الآثام ثم يخافها |
|
فكأنما حسناته آثام |