ش : هذا بناء على ما تقدم من أن الله تعالى قد سبق علمه بالكائنات ، وأنه قدر مقاديرها قبل خلقها ، كما قال صلىاللهعليهوسلم : «قدّر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ، وعرشه على الماء» (٢٨١). فيعلم أن الله قد علم أن الأشياء تصير موجودة لأوقاتها ، على ما اقتضته حكمته البالغة [فكانت كما علم]. فإن حصول المخلوقات على ما فيها من غرائب الحكم لا يتصوّر إلا من عالم قد سبق علمه على ايجادها. قال تعالى : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) الملك : ١٤. وأنكر غلاة المعتزلة أن الله كان عالما في الأزل ، وقالوا : إن الله تعالى لا يعلم أفعال العباد [حتى يفعلوا]! تعالى الله عما يقولون علوّا كبيرا. قال الإمام الشافعي رضي الله عنه : ناظروا القدرية بالعلم ، فإن أقرّوا به خصموا ، وإن أنكروا كفروا. فإن الله [تعالى] يعلم أن هذا مستطيع يفعل ما استطاعه فيثيبه ، وهذا مستطيع لا يفعل ما استطاعه فيعذبه ، فإنما يعذبه لأنه لا يفعل مع القدرة ، وقد علم الله ذلك منه ، ومن لا يستطيع لا يأمره ولا يعذبه على ما لم يستطعه.
وإذا قيل : فيلزم أن يكون العبد قادرا على تغيير علم الله ، لأن الله علم أنه لا يفعل ، فإذا قدر على الفعل قدر على تغيير علم الله؟ قيل : هذه مغالطة ، وذلك أن مجرد مقدرته على الفعل لا تستلزم تغيير العلم ، وإنما يظن من يظن تغيير العلم اذا وقع الفعل ، ولو وقع الفعل لكان المعلوم وقوعه لا عدم وقوعه ، فيمتنع أن يحصل وقوع الفعل مع علم الله بعدم وقوعه ، بل إن وقع كان الله قد علم أنه يقع ، وإن لم يقع كان الله قد علم أنه لا يقع. ونحن لا نعلم علم الله إلا بما يظهر ، وعلم الله مطابق للواقع ، فيمتنع أن يقع شيء يستلزم تغيير العلم ، بل أي شيء وقع كان هو المعلوم ، والعبد الذي لم يفعل لم يأت بما يغيّر العلم ، [بل هو قادر على فعل لم يقع ، ولو وقع لكان الله قد علم أنه يقع ، لا أنه لا يقع.
وإذا قيل : فمن عدم وقوعه يعلم الله أنه لا يقع ، فلو قدر العبد على وقوعه قدر على تغيير العلم]؟ قيل : ليس الأمر كذلك ، بل العبد يقدر على وقوعه وهو لم يوقعه ، ولو أوقعه لم يكن المعلوم إلا وقوعه ، [فمقدور العبد إذا وقع لم يكن المعلوم
__________________
(٢٨١) صحيح ، وتقدم بالحديث (رقم ٨٠).