بحسب علمه ومعرفته ، وعنه تفرقت بهم الطرق : فطائفة أخرجت أفعالهم عن قدرة الله تعالى ، وطائفة أنكرت الحكم والتعليل ، وسدّت باب السؤال. وطائفة أثبتت كسبا لا يعقل! جعلت الثواب [والعقاب] عليه. وطائفة التزمت لأجله وقوع مقدور بين قادرين ، ومفعول بين فاعلين! وطائفة التزمت الجبر ، وأن الله يعذبهم على ما لا يقدرون عليه! وهذا السؤال هو الذي أوجب التفرق والاختلاف.
والجواب الصحيح عنه ، أن يقال : إن ما يبتلى به العبد من الذنوب الوجودية ، وإن كانت خلقا لله تعالى ، فهي عقوبة له على ذنوب قبلها ، فالذنب يكسب الذنب ، ومن عقاب السيئة السيئة بعدها. فالذنوب كالأمراض التي يورث بعضها بعضا. يبقى أن يقال : فالكلام في الذنب الأول الجالب لما بعده من الذنوب؟ يقال : هو عقوبة أيضا على عدم فعل ما خلق له وفطر عليه ، فإن الله سبحانه خلقه لعبادته وحده لا شريك له ، وفطره على محبته وتأليهه والإنابة إليه ، كما قال تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً ، فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) الروم : ٣٠. فلما لم يفعل ما خلق له وفطر عليه ، من محبة الله وعبوديته ، والإنابة إليه ـ عوقب على ذلك بأن زين له الشيطان ما يفعله من الشرك والمعاصي ، فإنه صادف قلبا خاليا قابلا للخير والشر ، ولو كان فيه الخير الذي يمنع ضدّه لم يتمكن منه الشر ، كما قال تعالى : (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ ، إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) يوسف : ٢٤. وقال إبليس : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) ص : ٨٢ ـ ٨٣. وقال الله عزوجل : (هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ. إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) الحجر : ٤١ ـ ٤٢. والإخلاص : خلوص القلب من تأليه ما سوى الله تعالى وإرادته ومحبته ، فخلص لله ، فلم يتمكن منه الشيطان. وأما إذا صادفه فارغا من ذلك ، تمكن منه بحسب فراغه ، فيكون جعله مذنبا مسيئا في هذه الحال عقوبة له على عدم هذا الإخلاص. وهي محض العدل.
فإن قلت : فذلك العدم من خلقه فيه؟ قيل : هذا سؤال فاسد ، فإن العدم كاسمه ، لا يفتقر الى تعلق التكوين والإحداث به ، فإن عدم الفعل ليس أمرا وجوديّا حتى يضاف الى الفاعل ، بل هو شر محض ، والشر ليس الى الله سبحانه ، كما قال صلىاللهعليهوسلم في حديث الاستفتاح : «لبيك وسعديك ، والخير كله في يديك ،