قالوا : وكل قول سوى هذا فصريح العقل يردّه ويقضي ببطلانه ، وكل من اعترف بأن الرب تعالى لم يزل قادرا على الفعل لزمه أحد أمرين ، لا بد له منهما : أما أن يقول بأن الفعل لم يزل ممكنا ، واما أن يقول لم يزل واقعا ، والا تناقض تناقضا بينا ، حيث زعم أن الرب تعالى لم يزل قادرا على الفعل ، والفعل محال ممتنع لذاته ، لو أراده لم يمكن وجوده ، بل فرض ارادته عنده محال وهو مقدور له. وهذا قول ينقض بعضه بعضا.
والمقصود : أن الذي دل عليه الشرع والعقل ، أن كل ما سوى الله تعالى محدث كائن بعد أن لم يكن. أما كون الرب تعالى لم يزل معطّلا عن الفعل ثم فعل ، فليس في الشرع ولا في العقل ما يثبته ، بل كلاهما يدل على نقيضه.
وقد أورد أبو المعالي في «ارشاده» وغيره من النظار على التسلسل في الماضي ، فقالوا : انك لو قلت : لا أعطيك درهما الا أعطيك بعده درهما ، كان هذا ممكنا ، ولو قلت : لا أعطيك درهما حتى أعطيك قبله درهما ، كان هذا ممتنعا.
وهذا التمثيل والموازنة غير صحيحة ، بل الموازنة الصحيحة أن تقول : ما أعطيتك درهما الا أعطيتك قبله درهما ، فتجعل ماضيا قبل ماض ، كما جعلت هناك مستقبلا بعد مستقبل. وأما قول القائل : لا أعطيك حتى أعطيك قبله ، فهو نفي للمستقبل حتى يحصل في المستقبل ويكون قبله. فقد نفى المستقبل حتى يوجد المستقبل ، وهذا ممتنع. أما نفي الماضي حتى يكون قبله ماض ، فان هذا ممكن.
والعطاء المستقبل ابتداؤه من المستقبل (٧٧). والمعطى (٧٨) الذي له ابتداء وانتهاء لا يكون قبله ما لا نهاية له ، فان ما لا نهاية له فيما يتناهى ممتنع.
قوله : (ليس بعد خلق الخلق استفاد اسم «الخالق» ولا بأحداثه البرية استفاد اسم «الباري»)
ش : ظاهر كلام الشيخ رحمهالله أنه يمنع تسلسل الحوادث في الماضي ، ويأتي في
__________________
(٧٧) في المطبوعة : ايتاؤه من المعطي.
(٧٨) في المطبوعة : والمستقبل.