المشهورة في كون سبب النّزول ، هو اختلافهم في أنّه : هل يجوز إتيانهنّ من دبرهنّ في قبولهن ؛ وسبب النّزول لا يكون خارجا عن الآية ، ومتى حملنا الآية على هذه الصّورة لم تكن الآية نزلت على ذلك السّبب.
ويمكن الجواب عن هذا : بأن الاعتبار بعموم اللّفظ لا بخصوص السّبب ، فإن السّؤال قد يكون خاصّا والجواب عامّا ، وهو كثير.
قوله : (وَقَدِّمُوا) مفعوله محذوف ، أي : نيّة الولد ، أو نية الإعفاف ، وذكر الله أو الخير ؛ كقوله : (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ) [البقرة : ١١٠].
وقال عطاء عن ابن عبّاس : هي التّسمية عند الجماع (١).
قال ابن الخطيب (٢) : وهذا في غاية البعد ، والّذي عندي فيه : أن قوله : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) جار مجرى التّنبيه على إباحة الوطء ؛ كأنه قيل : هؤلاء النّسوان إنّما حكم الشّرع بإباحة وطئهنّ لكم ؛ لأجل أنّهن حرث لكم ، أي بسبب أن يتولّد الولد منهن ، ثم قال بعده : (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ) ولا تأتوا غير موضع الحرث ؛ فكان قوله : (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ) دليلا على الإذن في ذلك الموضع ، والمنع من غير ذلك الموضع ، فلمّا اشتملت الآية على الإذن في أحد الموضعين ، والمنع من الموضع الآخر ، لا جرم قال : (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) أي : لا تكونوا في قيد قضاء الشّهوة ، بل كونوا في قيد تقديم الطّاعة ، ثم إنه ـ تعالى ـ أكّد ذلك بقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ) ، ثم أكّده ثالثا بقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) ، وهذه التّهديدات الثّلاثة المتوالية ، لا يليق ذكرها إلّا إذا كانت مسبوقة بالنّهي عن شيء لذيذ مشتهى ، فثبت أن ما قبل هذه الآية دالّ على تحريم هذا العمل ، وما بعدها أيضا دالّ على تحريمه ؛ فثبت أنّ الصّحيح في تفسير هذه الآية ، ما ذهب إليه الجمهور.
قوله : «لأنفسكم» متعلّق ب «قدّموا» ، واللام تحتمل التعليل والتعديّ ، والهاء في «ملاقوه» يجوز أن تعود على الله تعالى ، ولا بد من حذف مضاف ، أي : ملاقو جزائه ، وأن تعود على مفعول «قدّموا» المحذوف. وتقدّم الكلام في التّقوى ، وتقدّم أيضا تفسير لقاء الله في قوله : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) [البقرة : ٤٦].
والضمير في «وبشّر» للرّسول عليه الصلاة والسلام لتقدّم ذكره في قوله : «يسألونك» قاله أبو البقاء (٣) ، وفيه نظر ؛ لأنّ ضمير الخطاب والتكلّم لا يحتاج أن يقال فيهما : تقدّم ذكر ما يدلّ عليهما ، ويجوز أن يكون لكلّ من يصحّ منه البشارة.
__________________
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٤١٧) عن ابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٤٧٨) عن ابن عباس وعطاء وزاد نسبته للخرائطي في «مكارم الأخلاق» عن عطاء.
(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٦٤.
(٣) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٩٤.