صحيفة واحدة ، فرأوه ولمسوه وشاهدوه عيانا لطعنوا فيه ، وقالوا : انه سحر. وهذا النموذج من الناس موجود في كل جيل ، بل في عصرنا الذي نعيش فيه فئة كبيرة لا تكتفي بإنكار الملموس المحسوس ، حتى تسمي هذه الأشياء بأضدادها فتعبر عن الذئب بالحمل ، وعن الأفعى بحمامة السلام ، فهذه الولايات المتحدة تقوم بعملية حرب الابادة في فيتنام ، وتقول: أنا أبني وأعمل للحياة .. وتلك إسرائيل تعتدي ، وتقول : أنا المعتدى عليه ..
(وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ). لو لا بمعنى هلا ، والضمير في عليه يعود إلى محمد (ص) وفي قالوا إلى مشركي قريش ، فقد سألوا النبي (ص) أن يبعث الله معه ملكا يشهد بما يدعيه ، ويكون له عونا على تنفيذ رسالته ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : (وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) ـ ٧ الفرقان.
(وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ). أي لو أن الله أنزل اليهم ملكا لماتوا ، ولا يؤخرون طرفة عين. وتسأل : وأية ملازمة بين إنزال الملك اليهم ، وبين هلاكهم عاجلا؟.
وأجاب بعض المفسرين بأن الناس إذا شاهدوا الملك تزهق أرواحهم من هول ما يشهدون .. ولا يعتمد هذا القول على أساس.
وقال آخرون : لقد سبق في حكمة الله أن يهلك كل من يخالف الملك .. وهذا أسوأ من سابقه ، لأن الله سبحانه لم يهلك الذين يخالفونه في هذه الحياة ، وليس الملك بأعظم شأنا منه تعالى علوا كبيرا.
والصحيح في الجواب ان وجه الملازمة سر لم يظهره الله لعباده ، ولا يدرّك هذا السر بالعقل ، فيجب السكوت عما سكت الله عنه.
(وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً). لو أرسل الله إلى الناس ملكا فلا يخلو : اما أن يبقى على صورته ، واما أن يتمثل في صورة البشر .. ومحال أن يبقى على صورته ، وفي الوقت نفسه يكون رسولا إلى الناس ، لأن طبيعة الملائكة غير طبيعة الإنسان ، وتبليغ الرسالة يستدعي المعاشرة والمؤانسة ، وهي لا تحصل مع تباين الخلق والطباع .. هذا ، إلى أن الملائكة لم يخلقوا للحياة على هذا الكوكب.