لا أبتهج بأن أكون في الباطن أستحقّ تثريبا وأدعى في الظاهر أديبا ، ومثلي مثل البيعة الدّامرة تجمع طوائف من المسيحيّة أنّها تبرئ من الحمّى ، أو من كذا ، وإنّما هي جدر قائمة لا تفرق بين ملطس الهادم والمسيعة (١) بيد الهاجريّ ، وسيّان عندها صنّ الوبر (٢) وما يعتصر من ذكيّ الورد. ولست بدعا ممّن كذب عليه ، وادّعي له ما ليس عنده ، وقد ناديت بتكذيب القالة نداء خصّ وعمّ واعترفت بالجهالة عند من نقض وأمرّ واعتذرت بالتقصير إلى من هزل وجدّ. وقد حرم الكلام في هذه الأشياء لأنّي طلّقتها طلاقا بائنا لا أملك فيه الرّجعة وذلك لأنّني وجدتها فوارك فقابلت فركها بالصّلف وألقيت المرامي إلى النّازع ، وخلّيت الخطب لرقاة المنابر. وكنت في عدّان المهلة أجد إذا زاولت الأدب كأنّني عار يعتمّ أو أقطع الكفّين يتختّم. وينبغي له أدام الله تمكينه إن ذكرني عنده ذاكر أن يقول : «دهدرّين سعد القين» (٣) إنّما ذلك أجهل من صعل الدّوّ (٤) خال كخلوّ البوّ (٥).
ولو كنت في جنّ العمر كما قيل لكنت قد أنسيت ونسيت لأنّ حديثي لا يجهل في لزوم عطني (٦) الضّيّق وانقطاعي عن المعاشر ذهاب السّيّق (٧) ولو أنّني كما يظنّ لبلغت ما اخترت وبرزت للأعين فما استترت. وهو يروي البيت السائر لزهير : [الكامل]
٧٢٩ ـ والسّتر دون الفاحشات ولا |
|
يلقاك دون الخير من ستر |
وإنّما ينال الرتب من الآداب من يباشرها بنفسه ويفني الزمن بدرسه ويستعين الزّهلق والشّعاع المتألّق لا هو العاجز ولا المحاجز. [الوافر]
٧٣٠ ـ ولا جثّامة في الرّحل مثلي |
|
ولا برم إذا أمسى نؤوم |
ومثله لا يسأل مثلي للفائدة بل للامتحان والخبرة فإن سكتّ جاز أن يسبق إلى الظّنّ الحسن ؛ لأنّ السّكوت ستر يسبل على الجهول. وما أحبّ أن تفتري عليّ الظّنون كما افترت الألسن في ذكرها أنّي من أهل العلم.
__________________
(١) الملطس : المعول تكسر به الحجارة ، والمسيعة : خشبة ملساء يطيّن بها.
(٢) الصّنّ : بول الوبر ، والوبر : دويبة غبراء على قدر السنور.
(٣) انظر مجمع الأمثال للميداني (١ / ٢٦٦).
(٤) الصعل : الصغير الرأس ويقال للظليم صعل ، والدوّ : الفلاة الواسعة.
(٥) البوّ : ولد الناقة.
(٦) العطن : الدار.
(٧) السّيّق من السحاب : الذي طرأته الريح كان فيه ماء أو لم يكن.
٧٢٩ ـ الشاهد لزهير في ديوانه (ص ٩٥).