تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٣

المولى علي الروزدري

تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٣

المؤلف:

المولى علي الروزدري


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-54-X
ISBN الدورة:

الصفحات: ٣٨٢

تلك المنقصة ، بحيث تكون تلك مضمحلّة في جنبها ، ويستتبع الحكم لجهة العبادية ، فيكون مأمورا به لا غير.

أمّا تخصيص النهي بغير مورد الاجتماع دون حمله على الإرشاد ـ كما يصنع في القسم الأوّل ـ فلأنّ ظاهر النهي هو كونه مولويّا لا إرشاديا ، ولا داعي إلى الخروج عنه في سائر أفراد المنهيّ عنه ، فيجب الحكم بمقتضاه بعد البناء على ثبوت الكراهة الشرعية في سائر الأفراد [ و ] لا يمكن حمل النهي في مورد الاجتماع على الإرشاد ، لاستلزامه استعماله في معنيين ، فتعيّن إخراجه منه وتخصيصه بغيره.

لا يقال : لمّا لم يمكن حمل النهي على الكراهة الشرعيّة بالنسبة إلى جميع أفراد العنوان المنهيّ عنه ـ التي منها مورد الاجتماع ـ فالأمر يدور بين ارتكاب أحد الأمرين المخالفين للأصل : أحدهما تخصيص النهي بغير مورد الاجتماع ، وثانيهما حمله على الإرشاد من غير تخصيص فيه أصلا ، إذ به أيضا يرتفع محذور اجتماع الوجوب والكراهة من غير حاجة إلى ارتكاب شيء آخر مخالف للأصل ، فلا أولويّة لارتكاب الأوّل على ارتكاب الثاني.

لأنّا نقول : لا شبهة أنّ النهي الإرشادي بالنسبة إلى غير مورد الاجتماع على تقديره لا بدّ أن يكون المطلوب به الترك على الإطلاق ، وبالنسبة إلى مورد الاجتماع على تقدير ثبوته له لا بدّ أن يكون المطلوب به الترك إلى بدل ، وهو فعل واحد من سائر أفراد العنوان المأمور به ، فعلى تقدير حمل النهي على الإرشاد من غير تخصيص يلزم ـ مضافا إلى ارتكاب حمله على الإرشاد الّذي هو مخالف للأصل ـ استعماله في معنيين ، بأن يكون المراد بالنسبة إلى غير مورد الاجتماع الترك على الإطلاق ، وبالنسبة إلى مورد الاجتماع الترك إلى بدل ، لعدم جامع بينهما حتّى يستعمل النهي فيه ، فلا بدّ من إرادة كلّ منهما مستقلا ، وهو كما ترى.

وأمّا التزام غلبة جهة العباديّة في مورد الاجتماع على المنقصة الثابتة فيه

٤١

الناشئة من جهة العنوان المنهيّ عنه على تقدير استكشافها من النهي ، فلأنّه لو لا غلبة هاتيك على تلك ـ بل تكونان متساويتين ـ فلا معنى لترجيح جهة العبادية المقتضية للأمر وثبوت مقتضاها لها دون العكس.

ثمّ إنّه لا يخفى أنّه بعد إحراز منقصة في ذلك الفرد يكون ذلك أدنى مرتبة وأقلّ ثوابا من سائر أفراد المأمور به ، لاشتمالها على المصلحة المحضة واشتمال ذلك على المصلحة المقرونة بمنقصة ذاتية وان كانت تلك المصلحة غالبة عليها ، إلاّ أنّ الغلبة توجب ضعف جهة النهي بحيث لا يقتضي معها ما كان يقتضي بدونها من النهي ، لكنّها لا توجب تساوي مواردها [ مع ] سائر (١) الأفراد.

نعم لا بدّ أن تكون المصلحة الموجودة فيه بمقدار المصلحة الثابتة لأصل الطبيعة المأمور بها الداعية إلى الأمر بها ويكون المقدار الزائد القائم بسائر الأفراد من المصلحة زائدا على تلك المصلحة ، وإلاّ لا ينطبق ذلك الفرد على المأمور به ، فلا يقع امتثالا عنه ، لعدم كونه محصّلا للغرض المقصود منه ، فافهم.

هذا تمام الكلام في القسم الثالث.

وأمّا القسم الأوّل من تلك الأقسام : فلا بدّ من حمل النهي فيه على الإرشادي ، بتقريب أنّ للطبيعة لا مأمور بها كالصلاة ـ مثلا ـ مقدارا من المصلحة أوجبت توجّه الأمر إليها وتعلّق الطلب بها ، لكنّها قد يعتريها في بعض أفرادها عنوان آخر غير محبوب للشارع في نفسه ، ويتّحد معه في ذلك الفرد ، فيحدث فيها في ضمن ذلك الفرد منقصة بالإضافة إلى سائر الأفراد ، لكن لا يرتفع عنها ذلك المقدار من المصلحة ، فيكون الطلب المتعلق بها باعتبار ذلك الفرد لأجل ذلك أضعف من الطلب المتعلّق بها باعتبار سائر الأفراد ، وقد تكون مجرّدة عن ذلك العنوان ، لكنّها غير مقرونة بشيء من المزايا القائمة ببعض

__________________

(١) في الأصل : لسائر.

٤٢

الأفراد أيضا ، كما في الصلاة في البيت ـ مثلا ـ ، فيكون الطلب المتعلّق بها باعتبار ذلك آكد منه على الفرض الأوّل ، وأضعف منه بالنسبة إلى الفرض الآتي ، وقد تكون مع تجرّدها عن ذلك العنوان مقرونة بجهة زائدة راجحة قائمة ببعض أفرادها ، فيكون الطلب المتعلّق بها باعتبار هذا الفرد آكد منه على الفرضين السابقين ، وهذا كما في الصلاة في الأمكنة المشرّفة كالمساجد والبقاع المشرّفة ، ويكون الثواب في الفرض الثاني أكثر منه على الفرض الأوّل ، وفي الفرض الثالث أكثر منه على الفرض الثاني والأوّل ، ومحلّ النهي فيما نحن فيه من قبيل الفرض الأوّل ، فإنّه لمّا كان مقرونا بمنقصة مقتضية لنقصان الثواب على فعله طلب الشارع طلبا إرشاديا تركه إلى بدل خال عن تلك المنقصة ، فإنّه ـ بعد إحراز مقدمتين : إحداهما صحّة تلك العبادة ، وأخراهما امتناع اجتماع الأمر والنهي ـ لا بدّ من خصوص هذا التصرّف ، لعدم سبيل لغيره [ في ] المقام ، (١) فإنّه ـ بعد إحراز تينك المقدّمتين ـ يدور الأمر بين رفع اليد عن النهي بالمرّة ، وبين حمله على الإرشاد ، لأنّه لا يمكن فيه ما صنعنا في القسم الثالث ، إذ المفروض انحصار مورده في مورد الاجتماع فإخراجه منه عين طرحه.

وكيف كان ، فلا يمكن حمل النهي في القسم المذكور على الكراهة المصطلحة ولو مع قطع النّظر عن المقدّمتين أيضا ، إذ المفروض أنّ المطلوب به الترك إلى بدل ، وهو ليس من معنى الكراهة المصطلحة في شيء ، فإنّها عبارة عن طلب الترك على الإطلاق. هذا.

وأمّا القسم الثاني من تلك الأقسام الثلاثة ، وهو العبادة المكروهة التي لا بدل لها كالصوم في اليوم العاشر من المحرّم ، فبعد القطع فيه بصحّة العبادة ، كما هو كذلك في المثال المذكور ، والقطع بامتناع اجتماع الأمر والنهي لا بدّ من

__________________

(١) في الأصل : إلى المقام ..

٤٣

حمل النهي فيه على الإرشادي ، بتأويل أنّ العبادة فيها مصلحة توجب رجحانها ، لكنّها قد عرضها عنوان آخر ذو مفسدة مقتضية الأرجحيّة تركها بالنسبة إلى فعلها ، بمعنى أن تلك المفسدة الثابتة لذلك العنوان المتّحد مع تلك العبادة ليست بحيث تزيل مصلحة العبادة وتحدث فيها حزازة ، بل هي مع اتّحادها مع ذلك العنوان ذات مصلحة وحسنة من غير حزازة فيها أصلا ، بحيث لو أتى بها فقد أتى بمحبوب الشارع ومطلوبه ، ويستحقّ الثواب على فعله ، إلاّ أنّ مفسدة ذلك العنوان المتّحد معها اقتضت أرجحيّة تركها بالنسبة إلى فعلها ، نظرا إلى كونها أقوى من تلك المصلحة ، فيكون دفعها أرجح من جلب تلك المصلحة فنهي الشارع إرشادا عن فعل الصوم كنهيه عن غير الأهمّ في كلّ واجبين متزاحمين يكون أحدهما أهمّ من الآخر ، فإنّ طبيعة الصوم فيها مصلحة موجبة لرجحانها على الإطلاق ، إلاّ أنّها في اليوم العاشر من المحرّم اتّحدت مع عنوان آخر ذي مفسدة ، وهو النسبة [ إلى ] بني (١) أميّة ـ لعنهم الله تعالى ـ ، ولمّا كان ترك ذلك العنوان أرجح من فعل الصوم مع كون الصوم راجحا أيضا ، فنهي الشارع عنه بها إرشاديّا مطابقا لحكم العقل الإرشادي بتقديم الأهمّ في كلّ عنوانين متزاحمين أحدهما أهمّ.

وبالجملة : الحال في المقام نظير الحال في القسم المذكور من المتزاحمين.

هذا ، ويشكل هذا بأنّ تلك المفسدة العارضة لتلك العبادة من جهة اتّحادها مع ذلك العنوان إن كانت مساوية لمصلحة نفس تلك العبادة ، فلا يعقل كون تركه أرجح حتّى يكون النهي لأجله للإرشاد ، وإن كانت أقوى منها فلا بدّ أن تغلب عليها ، فتكون تلك المصلحة مضمحلّة في جنبها ، ومعه لا يعقل بقاء الأمر بالعبادة ، بل يستتبع الحكم للجهة الغالبة.

__________________

(١) في الأصل : ببني ..

٤٤

اللهم إلاّ أن يقال : إنّ أرجحيّة الترك ليست مسبّبة عن قوّة المفسدة ، بل هي أضعف من تلك المصلحة ، لكنّه قد وجد هناك عنوان آخر متّحد مع ترك تلك العبادة ، وأوجد لأجل الاتّحاد مصلحة ناقصة في ترك العبادة ، فتلك المصلحة الناقصة مع تلك المفسدة الناقصة الآتية من قبل العنوان الآخر بأجمعهما أقوى من مصلحة فعل تلك العبادة ، مع كون كلّ واحدة منهما وحدها أضعف منهما ، فيصحّ بقاء الأمر بالعبادة ، لعدم جهة غالبة على جهتها ، إذ العبرة في استتباع الحكم للجهة الغالبة على الجهة الغالبة بنفسها ، لا الغالبة بسبب انضمامها إلى جهة أخرى موافقة لها.

والحاصل : أنّ الحكم الفعلي يستتبع الجهة الواحدة لا المتعدّدة ، وإذا كانت جهة العبادة أقوى من كلّ واحدة من تينك الجهتين فالحكم يستتبع تلك دون شيء منهما أو كليهما ، وأرجحيّة تركها الحاصلة من انضمام الجهتين إنّما أوجبت مجرّد النهي الإرشادي عنها ، دون الشرعيّ ، فتأمّل.

ومنها : الواجبات التخييريّة الشرعيّة والعقليّة المجتمعة مع الاستحباب العيني ، ووجه الاستدلال بها ما مرّ في العبادات المكروهة.

ويتّجه على الاحتجاج بها أيضا ما أوردناه على الاحتجاج بتلك من أن هذا استدلال بالظواهر في المسألة العقليّة.

هذا مضافا إلى أنّ الثابت في تلك الأمثلة ليس الاستحباب المصطلح جدّاً ، حيث إنّه ملازم لجواز ترك مورده لا إلى بدل ، وهذا متعذّر فيها لكون المستحبّ بعض أفراد الواجب ، فلا يجوز تركه على الإطلاق ، بل إنّما يجوز تركه إلى بدل من سائر أفراد الواجب ، وما يكون كذلك لا يعقل أن يثبت له الاستحباب المصطلح الّذي [ هو ] ملازم لجواز الترك مطلقا ، وإلاّ لزم التناقض بين الحكم وبين موضوعه كما لا يخفى.

نعم ربما أمكن أن يقال : إنّ ذلك الفرد من الواجب الّذي ادّعي

٤٥

استحبابه وإن لم يمكن اتّصافه بالاستحباب المصطلح ، إلاّ أنّه لمّا كان مشتملا على مزيّة بالنسبة إلى سائر الأفراد فتلك المزيّة دعت إلى صدور طلب آخر غير إلزامي مماثل للوجوب التخييري الثابت له جنسا وفصلا بمعنى أنّه طلب منفصل بجواز الترك إلى بدل ، ولا منافاة بينه وبين الوجوب التخييري لعدم المضادّة بينهما بوجه ، بل [ هما ] متماثلان من جميع الوجوه.

لكنّه مدفوع : بأنّه كما يكون التضادّ مانعا من الاجتماع كذلك يكون التماثل مانعا منه أيضا ، ضرورة امتناع اجتماع المثلين في محلّ واحد لما حقّق في محلّه من أنّ المحلّ من مشخّصات العرض القائم به ، ويمتنع أن يكون الشيء الواحد مشخّصا لشيئين.

وربما يتخيّل اندفاع ما ذكرنا ـ من امتناع ثبوت الاستحباب المصطلح فيما نحن فيه من جهة التناقض بينه وبين موضوعه ـ بأنّ موضوعه إنّما هو اختيار ذلك الفرد على غيره ، لا نفس ذلك الفرد حتّى يلزم التناقض ، وعنوان الاختيار مما يجوز تركه على الإطلاق ، فإنّه لا يلزم منه ترك الواجب ، إذ غاية الأمر أن يفعل واحدا من الأفراد لا بعنوان اختياره على غيره وترجيحه عليه ولو كانت ذلك وهو الفرد الراجح ، بل بعنوان كونه أحد أفراد الواجب.

وإن شئت قلت : إنّ المتوجّه إلى ذلك الفرد طلبان : أحدهما وجوبي ملحوظ فيه البدليّة لمورده ، والآخر ندبي لم يلحظ فيه ذلك. وعدم جواز تركه على الإطلاق إنّما هو مقتضى الطلب الأوّل ، وإلاّ فمقتضى الثاني جواز تركه كذلك.

والحاصل : أنّه قد عرض له مانع عن العمل بما يقتضيه الاستحباب المصطلح ، وهو لا يستلزم انتفاءه.

هذا ، لكنّه مدفوع أيضا : بأنّ عنوان الاختيار وإن كان مغايرا لفعل ذلك الفرد بحسب المفهوم ، لكنّه متّحد معه في المصداق بحيث لا مصداق له سواه ، فيعود المحذور ، فافهم.

٤٦

ثمّ بعد البناء على امتناع اجتماع الوجوب والاستحباب في تلك الأمثلة فلا بدّ من تصرّف في ظواهر الأدلّة :

وأوجه وجوه التصرّف ـ بل المتعيّن ـ حمل ما دلّ على الاستحباب في الواجبات التخييرية الشرعيّة على الطلب الإرشادي الكاشف عن تأكّد ذلك الطلب الوجوبيّ التخييري المتعلّق بالفرد الراجح ، لا كونها طلبا آخر شرعيّا مماثلا لذلك الطلب الوجوبيّ أو مضادّا له ، لما عرفت من امتناع كليهما معه ، بناء على عدم جواز اجتماع الوجوب والتحريم إن كان مع تعدّد الجهة ، أو مطلقا إن كان مع وحدتها مع أنّه لا يصحّ النقض بتلك الأمثلة على القائلين بامتناع الاجتماع على تقدير اتّحادها كما عرفت سابقا.

قال دام ظلّه : ولعلّ الغالب أنّ المزيّة الموجودة في ذلك الفرد ليست جهة مغايرة لجهة الوجوب الموجودة فيه ، بل من سنخها ، بمعنى أنّ جهة الوجوب فيه أقوى منها في غيره ، فتلك القوّة أوجبت تأكّد طلبه.

ولا يخفى أنّ المزيّة المذكورة على تقدير مغايرتها لجهة الوجوب فهي ممحّضة لجهة الاستحباب ، ومقتضية له إلاّ أنّ المانع منع من ترتّب مقتضاه ، فلا بدّ حينئذ أن تكون هي مؤكّدة لجنس الوجوب الثابت لذلك الفرد ، وهو الطلب ، دون فصله أو المركّب منهما ، إذ لا يعقل أن تكون جهة الاستحباب مؤكّدة لجهة الحتم والإلزام التي هي فصل الوجوب.

نعم على تقدير أن يكون الوجوب أمرا بسيطا عقلا ، لا مركّبا مشتملا على الجنس والفصل ، فلا يجري فيه هذا الكلام ، فإنّها حينئذ مؤكّدة لذلك الأمر البسيط لا محالة.

هذا ، وكيف كان ، فالحال فيما نحن فيه نظير الحال في الواجبين المتزاحمين اللذين أحدهما أهمّ من الآخر ، فإنّه كما لا توجب المزيّة الموجودة في الأهمّ منهما

٤٧

صدور طلب آخر مولويّ من الشارع ، بل إنّما توجب تأكّد الطلب الابتدائي ، وصدور طلب إرشادي كاشف عن الاهتمام في شأن ذلك الواجب ، فكذلك المزيّة المفروضة فيما نحن فيه.

والحاصل : أنّ الحال فيما نحن فيه نظير الحال في الواجبين المتزاحمين اللذين أحدهما أهمّ من الآخر ، لكن لم يبلغ الاهتمام فيه إلى حدّ التعيين ، بل أوجبت المزيّة الموجودة فيه مجرّد رجحان فعله بالنسبة إلى الآخر واختياره عليه ، لا وجوب تقديمه عليه.

هذا كلّه في الواجبات التخييرية الشرعية.

وأما الواجبات التخييرية عقلا التي دلّت الأدلّة على استحبابها ، فلا بدّ فيها من حمل ذلك الطلب المستفاد من تلك الأدلّة على الإرشادي الكاشف عن أرجحيّة ذلك الفرد بالنسبة إلى سائر أفراد المأمور به ، لكنّ المزيّة الموجودة فيه ليست مؤكّدة لطلب آخر ، لعدم تعلّق الطلب بخصوص الأفراد أصلا ، بل يتوجّه لأرجحية ذلك الفرد في وقوعه امتثالا عن ذلك الفرد المتعلّق بأصل الطبيعة المأمور بها بالإضافة إلى سائر أفرادها. هذا.

ومنها : تداخل الأغسال الواجبة والمندوبة ، ووجه الاستدلال به أيضا نظير ما مرّ ، وكذا الجواب عنه ، فإنّ ذلك لو كان من مقولة اجتماع الأمر والنهي ، فمن يمنع منه عقلا لا بدّ أن يؤوّل تلك الموارد إلى شيء آخر ، لعدم معارضة بين القطع والظاهر بوجه.

والتحقيق في الجواب : أنّ تداخل الأغسال الواجبة والمندوبة على تقدير ثبوته شرعا ليس من مقولة اجتماع الوجوب والاستحباب على النحو الّذي هو محلّ النزاع في المقام في شيء أصلا ، فإنّا إن بنينا على كون كلّه غسل حقيقة مغايرة للآخر ـ كما لعلّه الظاهر من الأدلّة ـ أو أنّ الغسل حقيقة واحدة غير متكثّرة بالوجوب والاستحباب أو بتكثّر الأسباب واختلافها ، مع اعتبار الإيجاد

٤٨

في متعلّق كلّ من الطلبين المتعلّقين بها الذين أحدهما وجوبي ، والآخر ندبي ، بأن يكون موضوع كلّ منهما إيجاد واحد لتلك الطبيعة ، بمعنى كون المطلوب إيجادين لها : أحدهما واجب ، والآخر مندوب ، فلا ريب حينئذ أنّ معنى تداخلها إنّما هو سقوط أحد الأمرين بإيجاد متعلّق الأمر الآخر ، وهذا ليس من اجتماع الوجوب والاستحباب أصلا.

٤٩

الثالث من وجوه المجوزين لا جتماع الامر والنهي

وبعبارة أخرى : أنّه على أحد التّقديرين المذكورين يكون متعلّق كلّ من الطلبين مغايرا لمتعلّق الآخر ذهنا وخارجا أيضا ، فلا اتّحاد في متعلّقهما ولا تصادق بينهما بوجه ، حتّى يكون مورد الاجتماع متّصفا بهما ومسقطا عنهما لصدق متعلّقهما عليه.

وإن بنينا على اتّحاد حقيقة الأغسال الواجبة والمندوبة ـ مع عدم اعتبار الإيجاد في متعلّق الوجوب والاستحباب ـ يكون (١) متعلّقهما حينئذ شيئا واحدا من غير تعدّد الجهة أيضا ، والقائل بجواز الاجتماع في المقام لا يقول به ، فيلزم على كلا الفريقين علاج ذلك (٢) ، فلا يصحّ للقائل بجواز الاجتماع في المسألة المتنازع فيها النقض على المانعين بذلك لاشتراك وروده بينهما.

هذا ، مع أنّ السقوط على التقدير الأوّل ليس من باب التداخل المصطلح المتنازع فيه في مسألة التداخل ، فإنّ النزاع ثمّة إنّما هو فيما إذا تعلّق طلبان بطبيعة واحدة ، فيقال حينئذ : أنّه هل يكفي امتثالهما بإيجاد واحد من تلك الطبيعة ، أو لا؟

نعم يمكن النزاع في التداخل وعدمه فيما إذا كان الطلبان متعلقين بطبيعتين بينهما عموم من وجه إذا أتى بمورد الاجتماع بعقد مبحث آخر ، بل يمكن إدخاله في

__________________

(١) في الأصل : فيكون ..

(٢) في الأصل : من علاج في ذلك ..

٥٠

محلّ النزاع في تلك المسألة المعهودة ، بتقريب أنّ النزاع فيها إنّما هو في أنّه إذا أتى بشيء يكون مصداقا لمتعلّقي الطلبين ومحصّلا لهما فهل يجوز الاكتفاء به عنهما ، أو لا؟ ولا يبعد.

وكيف كان ، فمسألة تداخل الأغسال خارجة عن تلك المسألة على التقدير الأوّل ، بل على الثاني أيضا ، لعدم التصادق بين متعلّقي الطلبين على كلّ منهما بوجه ، بل يباين كلّ منهما الآخر مطلقا ، فافهم.

الثالث أنّ السيّد إذا أمر عبده بخياطة ثوب ، ونهاه عن الكون في مكان مخصوص ، فخاطه فيه ، فلا ريب في أنّه يعدّ في العرف مطيعا وعاصيا باعتبار الجهتين ، وكذلك الحال فيما إذا أمره بمشي خمسين خطوة في كلّ يوم ، ونهاه عن الدخول في الحرم ، فمشى المقدار المذكور في داخل الحرم.

وجه الاستدلال : أنّ الإطاعة والعصيان لا تتحقّقان في الخارج إلاّ بالأمر والنهي ، فصدقهما على شيء واحد كاشف عن وجود الأمر والنهي فيه ، فثبت وقوع اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ، فثبت به المطلوب ، وهو إمكان الاجتماع ، حيث إنّ الوقوع أخصّ من الإمكان فيستلزمه هذا.

قال دام ظلّه : كون المثال الأوّل مماثلا للمقام مبنيّ على كون متعلّق الأمر نفس تلك الحركات ، وهي إدخال الإبرة وإخراجها عن الثوب مع كون متعلّق النهي هو الكون بمعنى التصرّف ، لا وجود المكلّف أو تحيّزه الجسمي ، وإلاّ لم يكن مماثلا ولا شاهدا له على تقدير ثبوته بوجه ، فإنّه إذا كان متعلّق الأمر هي الصفة الحاصلة للثوب من تلك الحركات ، حيث إنّه يجوز الأمر بها لكونها مقدورة بالواسطة سواء كان متعلّق النهي والكون بمعنى التصرّف ، أو وجود المكلّف أو التحيّز الجسمي ، أو كان متعلّق النهي هو الكون بمعنى وجود المكلّف أو تحيّزه

٥١

الجسمي (١) ، وإن كان متعلّق الأمر هي نفس تلك الحركات لا (٢) يتّحد موضوعاهما في الخارج حتّى يلزم اجتماع الأمر والنهي في أمر واحد ، بل يتعدّدان فيه ، ويتمايز (٣) كلّ منهما عن الآخر.

والظاهر أنّ المراد بالخياطة إنّما هو تلك الحركات ، لأنّها الظاهرة منها ، كما أنّ من المعلوم أنّ المراد بالكون هو التصرّف ، لا أحد المعنيين الآخرين له ، لعدم صلاحية شيء منهما لتعلّق التكليف به كما لا يخفى ، فيكون منطبقا على المقام ومماثلا له كمماثلة المثال الثاني له ، فيكون كلّ منهما ـ على تقدير ثبوته ـ دليلا عليه. هذا.

وقد أجيب عن الاحتجاج المذكور : تارة بأنّ الأمر بالخياطة إنّما تعلّق بتحصيل الخياطة بأيّ وجه اتّفق ، وأخرى أنّه مع تسليم ذلك نمنع من كونه الكون المنهيّ عنه جزء من مفهوم الخياطة ، وثالثة أنّه مع تسليم ذلك نمنع من صدق الامتثال والحال هذه. هذا.

ولا يخفى ما في الجوابين الأوّلين من الضعف :

أمّا الأوّل منهما فلأنّ الظاهر منه كما استظهره المحقّق القمّي ـ رحمه الله ـ أيضا تعلّق الأمر بطبيعة الخياطة غير مقيّدة بشيء ولا بخصوصية من خصوصيات الأفراد ، وليس هذا إلاّ تسليما لمطلب المستدلّ ، لا ردّا عليه ، إذ لا نعني بالاجتماع إلاّ عدم تقيّد الطبيعة المأمور بها بالنسبة إلى الفرد المحرّم وكونه

__________________

(١) كذا في الأصل والظاهر نقص العبارة لجواب الشرط المتقدّم : ( فإنّه إذا كان متعلّق الأمر هي الصفة ... إلخ ) وتقدير الجواب : يتّحد موضوعهما في الخارج ، فيلزم اجتماع الأمر والنهي في أمر واحد.

(٢) في الأصل : فلا يتّحد.

(٣) كذا في الأصل ، والأصحّ : يمتاز.

٥٢

مصداقا وواقعا امتثالا عنها.

والتوجيه الّذي يذكره بعض المتأخّرين ـ من أنّ غرض المجيب لعلّه حمل الخياطة في المثال المذكور على الأمر القائم بالثوب دون نفس الفعل الّذي هو مقدّمة لحصوله من غير تقييد لذلك الأمر بحصوله من مقدّمة جائزة ، فعلى هذا لا يكون المثال مماثلا للمقام كما عرفت ـ لا شاهد عليه ، بل مخالف لظاهر كلامه.

نعم [ هو ] محتمل من كلامه كاحتمال أن يكون مراده من تعلّق الأمر بالخياطة هو تعلّق الغرض بها وصدق الإطاعة من جهة انطباق ذلك الفرد المحرّم على ما هو الغرض من الأمر بناء على أنّ الإطاعة لا تتوقّف على الأمر ، فيكون الدليل أعمّ من المطلوب ، لعدم استلزام صدق الإطاعة حينئذ للأمر ، فيصحّ وقوعه جوابا عن المستدلّ.

والتحقيق في الجواب : منع صدق الإطاعة أوّلا ، ثمّ على تقدير تسليم تحقّقها بدون الأمر ، منع استلزامه للمطلوب ، لكونها أعمّ منه ، فلا ينفع ثبوتها للمستدلّ في شيء بوجه.

هذا خلاصة الكلام في أدلّة الجواز ودليل المنع أيضا بما فيه.

والحقّ هو جواز الاجتماع كما عرفت سابقا ، والمعتمد فيه على الوجه الأوّل.

وأمّا حجّة المفصّل بين ثبوت الجواز عقلا وامتناعه عرفا فقد أشير إليها في أوّل المسألة على كلا الاحتمالين فيه.

وتوضيحها : أنّ دليل الجواز عقلا عند المفصّل هو ما ذكر.

وأمّا حجّة الامتناع عرفا : فإن كان المراد بعدم الجواز عرفا هو فهم تخصيص الأمر بالنسبة إلى مورد الاجتماع ، فهي فهم العرف ـ الّذي هو المعتمد في الأحكام ـ المستفاد من الخطابات ، وإن كان هو الامتناع بالنظر المسامحي

٥٣

فالوجدان (١) أو الرجوع إلى أنظار العرف وتحصيل ما عندهم ، ويترتّب عليه (٢) ما يترتّب على الامتناع العقلي ، نظرا إلى ما أشرنا إليه هناك من أنّ الأحكام الشرعية ليست مبنيّة على الدقائق الحكميّة ، بل على الأنظار العرفية المبنيّة على المسامحة ، فتحمل الخطابات الشرعية عليها.

هذا ، لكن لا يخفى أنّ ذلك التفصيل ليس تفصيلا في هذه المسألة ، بل القائل موافق لغيره من القائلين بالجواز ، وانفهام (٣) تخصيص أحد [ من ] الأمر والنهي بالنسبة إلى مورد الاجتماع ، أو الامتناع بالنظر إلى الأنظار العرفيّة كلّ منهما دعوى أخرى ونزاع آخر لا ربط له بالمسألة في شيء ، ومع ذلك كلّه فالجواب عنه : منع الامتناع بكلا الاحتمالين فيه.

خاتمة (٤) : قد عرفت أنّ النزاع في المسألة المذكورة في جواز اجتماع الوجوب والتحريم ـ في شيء واحد في زمان واحد مع تعدّد جهتهما ـ وعدمه ، وعلمت ما هو الحقّ فيها.

بقي من الوجوه المتصوّرة لاجتماعهما وجوه اخر قد علم حكم بعضها في مطاوي الكلمات المتقدّمة في تلك المسألة إجمالا ، لكنّه ينبغي التعرّض لجميع تلك الوجوه ، وتحقيق الكلام في كلّ منها على التفصيل ، فنقول :

منها : اجتماع الوجوب والتحريم في شيء واحد في زمان واحد مع اتّحاد جهتيهما بمعنى كون متعلّق كلّ منهما عين ما تعلّق به الآخر.

ومنها : الوجه المتقدّم بحاله إلاّ أنّ زمني الأمر والنهي مختلفان.

__________________

(١) أي فالحجّة هي الوجدان ..

(٢) أي على الامتناع بالنظر المسامحي.

(٣) سبق بيان عدم تأتي ( الانفعال ) من هذه المادّة.

(٤) أي ( خاتمة المسألة ) هكذا جاء في هامش الأصل.

٥٤

ومنها : اجتماعهما في شيء واحد وفي زمان واحد مع تعدّد جهتيهما وانحصار مصداق المأمور به في المحرّم.

ومنها : الوجه المتقدّم بحاله إلاّ أنّ زمني الأمر والنهي مختلفان.

ومنها : الوجه الثالث بحاله إلاّ أنّه لم ينحصر فرد المأمور به المحرّم ، ولم يتّحد زمنا الأمر والنهي.

فإذا عرفت ذلك فاعلم أنّه لا شبهة في امتناع اجتماع الأمر والنهي على الوجه الأوّل والثالث مطلقا ـ سواء كان متعلّقهما من ذوات الأسباب مع اتّحاد سببها الموجب للاضطرار إلى ارتكابها ، أو لا ـ لاستلزام اجتماعهما في كلّ منهما التكليف بالمحال ، بل التكليف المحال ، نظرا إلى امتناع تعلّق الكراهة والإرادة بشيء واحد ، فلا يمكن للمجوّزين للتكليف بالمحال التزام جواز الاجتماع في شيء منهما ، فكيف بغيرهم النافين له ، وقد عرفت أيضا أنّ القائلين بالجواز في المسألة المتقدّمة لا يقولون به في أمثال ذلك ممّا لا مندوحة فيه للمكلّف في امتثال الأمر.

وأمّا الوجه الثاني : فالتحقيق فيه التفصيل بين ما كان متعلّقهما من ذوات الأسباب ـ بعد ارتكاب سببها الموجب لاضطرار المكلّف إلى فعلها ، أو قبله ـ وبين ما كان من غيرها ، فيجوز الاجتماع على الثاني ، فإنّ الطلب المتقدّم المرتفع في الزمان اللاحق إن كان هو النهي فقد وقع مخالفته من قبل ، ولا يكون الإتيان بالفعل في الزمان الثاني مخالفة وعصيانا له ، فلا مانع من تعلّق الأمر به في الزمان الثاني ، لعدم استلزامه لاجتماع الإرادة والكراهة ، لانتفاء الكراهة عنه حينئذ ، لأنّ موضوعها هو العصيان ، وقد تحقّق من قبل ، وليس ذلك الإتيان عصيانا ، ولا للتكليف بالمحال أو المحال أيضا ، لعدم إرادة ترك الفعل منه حينئذ بالفرض ، وإن كان المرتفع هو الأمر فكذلك أيضا ، إذ بعد مخالفته الموجبة لرفعه لا يبقى محبوبية بعده للفعل حتّى يكون النهي عنه مستلزما لاجتماع الإرادة والكراهة ، فلا يلزم التكليف المحال لذلك أيضا ولا التكليف بالمحال ، لفرض ارتفاع الطلب السابق.

٥٥

هذا كلّه على فرض وقوع مخالفة الطلب السابق ، وأما على فرض إطاعته فالأمر أوضح.

وأمّا على الأوّل : فلا شبهة في امتناع الاجتماع على أوّل شقّيه ، وهو صورة ارتكاب سبب الفعل ، فإنّ النهي السابق وإن ارتفع بعد الاضطرار إلى فعل المنهيّ عنه الناشئ عن اتّحاد سببه ، بل لا يعقل بقاؤه ، إلاّ أنّ أثره ـ وهو وقوع ذلك الفعل عصيانا ـ باق على حاله ، وذلك لأنّ التكليف المتعلّق بفعل إنّما تتحقّق مخالفته بارتكاب ذلك الفعل في وقت وجوب الاجتناب عنه إذا كان ذلك التكليف نهيا ، أو بتركه في وقت وجوب الإتيان به إذا كان ذلك التكليف أمرا ، ومن المعلوم أنّ الأفعال ـ التي هي من مقولة ذوات الأسباب ـ إذا تعلّق بها أمر أو نهي يكون وقت الإتيان بها أو تركها بعد زمن إيجاد أسبابها ، فكما أنّ امتثالها إنّما يتحقّق في ذلك الزمان لا غير ، فكذلك عصيانها لا يقع إلاّ فيه لا قبله ، بحيث لو فرض أنّ المكلّف أتى بشيء قبل ذلك الزمان بسوء اختياره موجب لسلب قدرته على امتثالها في ذلك الزمان ، فلا يكون إتيانه بذلك الشيء مخالفة حقيقيّة للتكليف المتعلّق بها ، بل إنّما هو مخالفة حكمية ، بل المخالفة الحقيقية إنّما هي بترك تلك الأفعال أو ارتكابها في ذلك الزمان ولو كان ذلك بسبب سلب اختياره عن نفسه قبله بسوء اختياره ، ولمّا كان المفروض فيما نحن فيه كون متعلّق النهي من مقولة تلك الأفعال وإتيان المكلّف بما أوجب اضطراره إلى ارتكابه في وقت وجوب الاجتناب عنه ، فيكون ارتكابه له في ذلك الوقت عصيانا لذلك النهي ، وإن كان النهي لا يعقل بقاؤه بعد الاضطرار إلى ارتكاب متعلّقه ولو كان بسوء اختيار المكلّف ، إلاّ أنّ مخالفته لا تتحقّق في مثل تلك الأفعال إلاّ على هذا النحو ولو لا ذلك لزم أن لا يعصي أحد بارتكاب المحرّم الّذي هو من مقولة ذوات الأسباب ، نظرا إلى انّ الإتيان بما أوجب ارتكابه ليس عصيانا له ، فإذا فرض عدم تحقّق العصيان بارتكاب نفس المحرّم بعد ارتكاب ذلك السبب بتوهّم أنّ

٥٦

النهي قد ارتفع ، ومعه لا عصيان ، فلم يعص في ارتكاب ذلك المحرّم من وجه ، وهو خلاف الضرورة من دين سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله الطاهرين ـ.

والحاصل : أنّ مخالفة النهي في غير ذوات الأسباب تقارن وجود النهي وفيها لا يعقل تقارنها له ـ كما عرفت ـ بل إنّما تقع بعد ارتفاعه ، فإذا ثبت أنّ ارتكاب الفعل في الزمن الثاني عصيان لذلك النهي السابق فلا يعقل تعلّق الأمر به في الزمن الثاني ، لما مرّ من امتناع تعلّق الإرادة والكراهة بشيء واحد.

هذا كلّه مع فرض كون التكليف السابق هو النهي.

وأمّا إذا كان هو الأمر فقد علم ممّا حقّقنا امتناع اجتماعه مع النهي اللاحق أيضا.

ثمّ هذا الّذي ذكرنا إنّما هو على أوّل الشقّين من الشق الأوّل من شقّي الوجه الثاني.

وأمّا على ثانيهما : فالوجه جواز الاجتماع ، وذلك لأنّ المفروض فيه عدم ارتكاب المكلّف لما يوجب اضطراره إلى مخالفة التكليف السابق ، فيكون ارتفاعه حال قدرته على امتثاله ، والارتفاع ـ حينئذ ـ لا يعقل (١) إلاّ على نحو البداء الحقيقي الّذي لا يجوز في حقّه تعالى ، أو المجازي الّذي هو النسخ ، ومن المعلوم أنّه بكلا قسميه إبطال للتكليف السابق ، ومعه لا يؤثّر في كون الإتيان بالفعل أو تركه بعد ارتفاعه معصية له ، فلا مانع من توجّه الطلب المناقض للطلب السابق المرتفع على هذا الوجه ، وامتناع الاجتماع على الشقّ الأوّل من ذينك الشقّين أيضا مبنيّ على عدم ارتفاع التكليف السابق على هذا الوجه ، وأمّا معه فلا مانع من الاجتماع فيه أيضا.

__________________

(١) وذلك لأنّ ارتفاع كلّ تكليف إمّا بامتثاله أو بمخالفته ، والمفروض عدمهما ، وإمّا برفعه على نحو البداء على أحد الوجهين فيه ، ولمّا كان ارتفاعه على نحو البداء الحقيقي ممتنعا في حقّه تعالى ، فيتعيّن أن يكون بالنسخ ، فيبطل ذلك الطلب به ، فلا يقتضي ما ذكر. لمحرّره عفا الله عنه.

٥٧

وأمّا الوجه الرابع : فالحقّ فيه أيضا التفصيل المتقدّم : من أنّه إذا كان الفعل من ذوات الأسباب (١) بعد إيجاد سببه ـ الموجب لاضطرار المكلّف إلى تركه فيما يجب (٢) فعله ، أو العكس ـ يمتنع الاجتماع إلاّ على نحو البداء لعين ما مرّ.

وأمّا إذا كان من غيرها أو منها قبل إيجاد سببه فيجوز لما مرّ ، وتعدّد الجهة بعد انحصار فرد المأمور به في المحرّم مثل اتّحادها من غير فرق أصلا إنّما يجدي إذا لم ينحصر فيه ، مثال ما إذا كان من ذوات الأسباب (٣) بعد إيجاد ما أوجب اضطراره إلى المخالفة ، إلقاء المكلّف نفسه اختيارا في بئر الغير عدوانا ولم يصل بعد (٤) إلى ماء البئر ، فأراد الارتماس فيه حينئذ بعنوان الغسل ـ بالضمّ ـ ، فعلى ما حقّقنا لا يصحّ منه ذلك فإنّه وإن كان غير مضطرّ إلى الوصول إليه من باب الغسل ، بل يقدر عليه من باب عنوان آخر ، فلا مانع من الأمر بذلك الارتماس من هذه الجهة ، إلاّ أنّ النهي السابق اقتضى حرمة جميع أفراد المنهيّ عنه التي منها ما صادف الارتماس بعنوان الغسل واتّحد معه ، فتكون ذات (٥) ذلك الارتماس معصية ، فلا يصحّ تعلّق الأمر [ به ] ، فلا يجدي ولا يصحّ منه ذلك بوجه ، لأنّ الصحّة تتوقّف على وجود الأمر ، بل على القول بعدم توقّفها عليه أيضا لامتناع وقوع الطاعة بالمعصية ، وأمّا على جواز الاجتماع فالوجه أيضا عدم الصحّة ، لما ذكرنا من امتناع وقوع الطاعة بالمعصية ، فتنفى الثمرة بينهما.

__________________

(١) أي .. كان الفعل من الأفعال ذات الأسباب ..

(٢) في الأصل : فيما إذا يجب فعله ..

(٣) أي .. كان الفعل من الأفعال ذات الأسباب ..

(٤) أي إلى الآن.

(٥) استعملت الذات ـ استعارة ـ بمعنى عين الشيء ، واستعملت بهذا المعنى مفردة ومضافة ، وليس ذلك من كلام العرب. مفردات الراغب : ٢٦٣. بتصرّف.

٥٨

نعم تظهر الثمرة بينهما فيما إذا كان المكلّف غافلا عن الغصبية ـ أو ناسيا لها أو جاهلا بحكمها جهلا يعذر معه ـ فقصد الغسل يصحّ (١) منه ذلك على جواز الاجتماع ، إذ لا مانع حينئذ من وقوع الطاعة لانتفاء المعصية ، لتوقّفها على الالتفات ، بل القويّ حينئذ هو جواز الاجتماع لذلك ، لأنّ المانع منه : إمّا المعصية ، والمفروض عدمها ، وإمّا التضادّ بين الحكمين ، وقد عرفت اندفاعه في المسألة المتقدّمة مع تعدّد الجهة.

هذا بالنسبة إلى العبادات.

وأمّا في غيرها فيصحّ منه مطلقا ، لعدم توقّفها فيها على تحقّق الطاعة ، بل يتوقّف على انطباق الفعل على الغرض ، وهو لا ينافي المعصية ، فافهم.

وأمّا الوجه الخامس : من الوجوه الخمسة المتقدّمة ، فعلى ما اخترناه من جواز الاجتماع في المسألة المتقدّمة فهو فيه أولى ، لانتفاء احتمال اجتماع الضدّين فيه على تقدير الاجتماع ، أو ضعفه بالنسبة إليه في تلك المسألة.

وأمّا على القول بامتناعه ثمّة ، فينبغي القول بجوازه هنا ، إذ مع تسليم استلزام الاجتماع ثمّة لاجتماع الضدّين فهو ممنوع فيما نحن فيه لتعدّد زمنهما.

فإذا عرفت ذلك كلّه ، فاعلم أنّه قد يجعل من مصاديق الوجه الرابع الخروج عن المكان المغصوب بعد توسّط المكلّف فيه بسوء اختياره بتقريب : أنّ النهي السابق على التوسّط فيه اقتضى حرمة جميع أنحاء التصرّف ـ في مكان الغير ـ التي منها التصرّف الخاصّ الّذي هو الخروج بعنوان التخلّص عن المقدار الزائد منه من الغصب ، فيكون ذلك التصرّف منهيّا عنه بالنهي السابق ، وبعد التوسّط يكون مأمورا به لكونه تخلّصا عن المقدار الزائد.

لكنّه ـ دام ظلّه ـ أشكل في انطباق ذلك المثال على ذلك الوجه :

__________________

(١) في الأصل : فيصحّ ..

٥٩

بدعوى أنّ تعلّق الأمر بذلك التصرّف الخاصّ المتّصف بعنوان التخلّص ، إنّما كان حين النهي لا بعده ، لأنّ موضوع التخلّص واجب أزلا وأبدا ، فيكون منطبقا على الوجه الثالث.

نعم زمن امتثال ذلك الأمر متأخّر عن زمان توجّهه نحو المكلّف ، لأنّه لا يكون إلاّ بعد الدخول في المكان المغصوب.

لكنّه مدفوع : بأنّ الحكم قد يلاحظ بالنسبة إلى الفعل ، وقد يلاحظ بالنسبة إلى المكلّف ، والّذي ذكره ـ دام ظلّه ـ من أنّ عنوان التخلّص واجب أزلا وأبدا إنّما هو بالاعتبار الأوّل ، وأمّا بالاعتبار الثاني فلا ، فإنّ الحكم لا يتوجّه نحو المكلّف إلاّ بعد دخوله في موضوع ذلك الحكم ، ومن المعلوم أنّ موضوع وجوب التخلّص ليس ذات المتوسّط في المكان المغصوب ، بل إنّما هو عنوان المتوسّط فيه ، فلا يتوجّه إليه الأمر إلاّ بعد دخوله في ذلك العنوان ، وهو لا يكون إلاّ بعد التوسّط فيه الّذي هو متأخّر عن زمن النهي ، فيكون منطبقا على الوجه الرابع ، فتأمّل بعين الإنصاف ، وجانب التقليد والاعتساف.

نعم لا يختلف حكم المثال المذكور باعتبار دخوله في الوجه الرابع أو الثالث ، لأنّك قد عرفت امتناع الاجتماع على الوجه الثالث مطلقا ، وكذلك على الوجه الرابع إذا كان الفعل من ذوات الأسباب بعد إيجاد سببه الموجب للاضطرار إلى ارتكابه.

ومن المعلوم أنّ التصرّف الخاصّ في المثال المذكور من ذوات الأسباب بعد ارتكاب سببه الموجب للاضطرار إليه ، فيمتنع اجتماع الأمر والنهي فيه على التقديرين.

ثمّ إنّه لا بأس بالتعرّض لتحقيق الحال في حكم المثال المذكور فنقول :

قد اختلفوا فيه على أقوال أربعة : القول بأنّ المتوسّط مأمور بالخروج

٦٠