تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٣

المولى علي الروزدري

تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٣

المؤلف:

المولى علي الروزدري


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-54-X
ISBN الدورة:

الصفحات: ٣٨٢

ومنهيّ عنه ، وأنّه عاص لفعله وتركه ، وهو المنسوب إلى القاضي (١) وإلى جماعة من أصحابنا ، واستقربه المحقّق القمّي (٢) رحمه الله.

والقول بأنّه مأمور به وليس منهيّا عنه ولا معصية عليه أيضا ، وقد نسب هذا إلى قوم آخرين.

والقول بأنّه مأمور به ليس منهيّا عنه حال كونه مأمورا به لكنّه عاص به بالنظر إلى النهي السابق ، وقد اختاره بعض مؤخّري المتأخّرين (٣).

والقول بأنّه منهيّ عنه وليس مأمورا به أصلا ، وقد حكي هذا عن بعض متأخّري المتأخّرين (٤).

حجّة القول الأوّل : بأنّ الأمر والنهي دليلان تواردا ، فلا بدّ من إعمالهما ، إذ المانع منهما : إمّا العقل فليس إلاّ لكونه تكليفا بالمحال ، وهو لا يصلح مانعا لجوازه إذا كان من قبل المكلّف ، وإمّا العرف فلا دلالة عليه.

وأجيب عنه : بأنّ الخروج أخصّ من الغصب ، وتوارد الأمر والنهي على العامّ والخاصّ يفيد عرفا تخصيص ما تعلّق منهما بالعامّ بغير الخاصّ ، وهو هنا النهي ، فيخصّص بغير الخروج.

وهو بمكان من الفساد ، إذ العموم والخصوص كسائر النسب الأربعة إنّما

__________________

(١) الفصول :

(٢) القوانين ١ ـ ١٥٣ عند قوله : ( الثالث : إنّه مأمور به ومنهيّ عنه ... وهو الأقرب ).

(٣) ( وهو صاحب الفصول ـ قدّس سرّه ـ ) على ما جاء في هامش الأصل ، راجع الفصول : وكذا اختاره المولى النراقي ـ قدّس سرّه ـ في مناهج الأصول في مبحث اجتماع الأمر والنهي في الفائدة الخامسة.

(٤) جاء في هامش الأصل : ( وهو الحاج محمّد إبراهيم الكرباسي ـ قدّس سرّه ـ في كتابه المسمّى بالإشارات ، على ما حكي عنه ). وإليك لفظه : ( والحقّ أنّه لا أمر بالخروج هنا ، بل الواجب عليه عدم التصرّف في ملك الغير بغير إذنه ، والخروج هنا مقدّمة له ، وليس واجبا ). ص : ١١٤.

٦١

يلاحظان بالنسبة إلى مفهوم متعلّقي الحكمين ، لا بالنسبة إلى مصاديقهما ، فانحصار مصداق أحد العامّين من وجه في مورد الاجتماع لا يجعله أخصّ مطلقا من العامّ الآخر ، والحال فيما نحن فيه كذلك ، فإنّ الخروج بحسب مفهومه أعمّ من وجه من الغصب ، وإنّما انحصر مصداقه في مورد الاجتماع.

والتحقيق في الجواب :

أوّلا ـ أنّ المسألة عقلية لا مساس بملاحظة أحكام التعادل والترجيح فيها (١).

وثانيا ـ مع جواز التكليف بالمحال مطلقا الّذي هو مبنى الحجّة المذكورة.

وثالثا ـ أنّه على تقدير تسليمه لا يكفي ولا ينهض ـ حجّة على مطلب المستدل ، لأنّ ذلك من قبيل التكليف المحال ، نظرا إلى امتناع اجتماع الإرادة والكراهة في شيء واحد.

حجّة القول الثاني : أنّ المتوسّط في المكان المغصوب أمره دائر بين البقاء فيه إلى آخر عمره وبين الخروج عنه ، لا سبيل إلى الأوّل ، لاستقلال العقل بتقديم الأقلّ من المحذورين بعد الاضطرار إلى ارتكاب أحدهما. ومن المعلوم أنّ حرمة الخروج على تقديرها إنّما هي من باب كونه غصبا وتصرّفا في مال الغير ، ولا ريب أنّ التصرّف في مال الغير على التقدير الأوّل أكبر منه على الثاني ، فيكون الثاني أقلّ من الأوّل ، فيدخل فيما يستقلّ به العقل من وجوب ارتكاب الأقلّ من المحذورين بعد الاضطرار إلى ارتكاب أحدهما ، فيجب ، ومعه لا يعقل كونه منهيّا عنه ، لما مرّ من استلزامه للتكليف المحال ، فيكون مأمورا به فقط ، وأمّا عدم المعصية عليه فلأنّها فرع ثبوت النهي ، والمفروض عدمها.

حجّة القول الثالث : على كون الخروج مأمورا به لا غير هي ما مرّ في

__________________

(١) كذا في الأصل ، والصحيح في العبارة : .. لا مساس لها بأحكام التعادل والترجيح.

٦٢

القول الثاني.

وأمّا على كونه معصية للنهي السابق فبما حاصله : أنّ النهي السابق على الدخول قد اقتضى جميع أنحاء التصرّف في ملك الغير التي منها التصرّف الخاصّ المتّصف بعده بعنوان الخروج ، إلاّ أنّ المانع ـ وهو لزوم التكليف بالمحال أو المحال ـ منع من بقائه حال الأمر ، وهو لا يقتضي عدم وقوعه معصية له.

ويتّجه عليه : أنّ المدّعى إنّما هو إثبات كونه معصية له ، ومجرّد عدم المنافاة لا ينهض دليلا عليه ، وكان الحريّ بالاحتجاج عليه ـ بعد ثبوت النهي سابقا بالنسبة إلى ذلك التصرّف الخاصّ كما جعله المستدلّ مفروغا عنه ومسلّما ـ ما حقّقنا سابقا في الوجه الرابع من الوجوه الخمسة المتقدّمة من أنّه إذا كان المنهيّ عنه من ذوات الأسباب لا يعقل عصيانه إلاّ بعد إيجاد سببه الموجب للاضطرار إلى ارتكابه ، ومعه يرتفع النهي لاستلزام بقائه التكليف بالمحال ، فيقع الفعل معصية حال ارتفاع النهي عنه ، وما نحن فيه من ذلك الباب ، فيجري عليه حكمه ، فافهم.

حجّة القول الرابع : ما يبنى عليه القائل به من عدم وجوب مقدّمة الواجب ، لأنّ وجوب الخروج على تقديره إنّما هو لترك التصرّف الزائد عنه من الغصب الّذي هو واجب.

وفيه : منع كون الخروج مقدمة لترك التصرف الزائد ، بل من مصاديقه ومتّحد معه من باب اتّحاد الكلّي مع الفرد ، فليس من مقولة مقدّمة الواجب في شيء حتّى يمنع وجوبه بمنع وجوبها.

هذا مضافا إلى أنّا قد حقّقنا في محلّه : أنّ إنكار وجوبها مكابرة للوجدان.

ثمّ الحقّ في المقام ما حقّقه ـ دام ظلّه على مفارق الأنام ـ من أنّ ذلك التصرّف الخاصّ ـ وهو الخروج ـ مبغوض ذاتا ، لكونه من أفراد طبيعة الغصب المبغوضة على الإطلاق من حيث هي ، لكنّه قد عرضه عنوان آخر حسن ، وهو

٦٣

التخلّص عن الغصب ، والحكم العقليّ يستتبعه ، لما مرّ في بيان حجّة القول الثاني ، فيكون مأمورا به بهذا الاعتبار ، ومعه لا يعقل تعلّق النهي به ـ كما عرفت ـ ولا يقع معصية أيضا ، لتوقّفها على النهي ، ولو كان هو النهي السابق إذا كان المنهيّ عنه من ذوات الأسباب ـ كما عرفت آنفا ـ ولا يعقل النهي عن التخلّص من أوّل الأمر ، لوجوبه على الإطلاق ، ولأنّه على تقديره موجب لصيرورة الفعل معصية ، فيكون الأمر به أمرا بها ، وقد عرفت امتناعه ، فتعيّن كونه مأمورا به لا غير.

وبعبارة أخرى أوضح : أنّه لا ينبغي الارتياب في وجوب التخلّص عن المقدار الزائد عن ذلك التصرّف الخاصّ من الغصب ، وهذا الحكم ثابت لهذا الموضوع من حيث ثبوت الحرمة للغصب.

ومن المعلوم أنّ هذا الموضوع لا يتحقّق إلاّ بعد الغصب والدخول فيه ، فلا يعقل تعلّق النهي به ولو كان هو النهي السابق ، لاستلزامه للتناقض ، فإنّ النهي عن الّذي لا يتحقّق إلاّ بالغصب يناقض الأمر به ، فيجب رفع التناقض ، ويتعيّن رفعه برفع النهي مطلقا لعدم إمكان رفع الأمر ، فيتحقّق أنّه مأمور به لا غير ، وأنّه نفسه ليس معصية لعدم النهي عنه أصلا. نعم هو بذاته مبغوض للشارع لاشتماله على مفسدة الغصب ، لكن عروض عنوان التخلّص له المقتضي للأمر به من توجّه النهي إليه (١) مطلقا ، فيكون مرتكبه عاصيا ومعاقبا بمقدار عقاب ذلك التصرّف الخاصّ على تقدير حرمته من جهة أخرى ، وهي أنّ إيقاع النّفس في المبغوض الذاتي محرّم ولو كان سبب الإيقاع فعلا مباحا ، فكيف بما إذا كان محرّما كما فيما نحن فيه؟! فإنّه أوقع نفسه في ذلك المبغوض الذاتي بارتكابه للدخول في ملك الغير عدوانا ، فبالدخول فيه يتحقّق عصيانان :

__________________

(١) ضميرا ( له ) و ( به ) راجعان على ( الخروج ) ، والضمير في ( إليه ) عائد على ( الغصب ).

٦٤

أحدهما عصيان النهي عن الغصب ، والآخر عصيان النهي عن إيقاع النّفس في المبغوض الذاتي ، فالمرتكب لذلك التصرّف الخاصّ لم يكن عاصيا بذلك التصرّف ، وإنّما هو عاص من تلك الجهة ، وحرمة إيقاع النّفس وجعلها مضطرّة إلى ارتكاب المبغوض الذاتي ليست غيريّة ـ كما لعلّها ربما تتوهّم ـ بل نفسيّة ، وحكمتها السلامة عن مفسدة المبغوض الذاتي ، ولا يجب أن يكون الحرام النفسيّ لمفسدة في نفسه ، بل يمكن كونه كذلك لمفسدة حاصلة من غيره ، كما أنّ الواجب النفسيّ أيضا لا يجب أن يكون وجوبه لمصلحة في نفسه ، بل يمكن أن يكون لمصلحة حاصلة في غيره ، كما في وجوب تعليم الغير أحكام دينه ، إذ لا يعقل أن يقال : إنّه واجب غيري ، لأنّه عبارة عمّا يجب التوصّل به إلى امتثال ما يجب على نفس ذلك المكلّف لا غير.

فبهذا اندفع توهّم : أنّ حرمة إيقاع النّفس في المبغوض الذاتي لا توجب وقوعه معصية ، لما تقرّر في محلّه من أنّ الحرمة الغيريّة لا توجب وقوع موضوعها عصيانا.

وبالجملة : تحقّق أنّ المتوسّط في المكان المغصوب مأمور بالخروج لا غير ، لكن عليه معصية إيقاع النّفس في ذلك المبغوض الذاتي ، فعليه من العقاب مقدار ما على ذلك التصرّف الخاصّ على تقدير حرمته أيضا ، كما هو الشأن في سائر موارد إيقاع النّفس في المبغوض ، فإنّ من جعل نفسه مضطرّا إلى شرب الخمر ـ مثلا ـ فمع الاضطرار لا يعقل النهي عنه لعدم قابليّة المورد ، لكنّه مبغوض ذاتا ، فيعاقب المكلّف عقاب شرب الخمر.

والحاصل : أنّ هنا مقدّمات ثلاثا لا محيص لإنكار شيء منها :

أحدها : كون الخروج واجبا من باب التخلّص لا غير.

وثانيها : عدم إمكان تحقّق المعصية على الخروج.

وثالثها : أنّه معاقب بمقدار عقاب الخروج على تقدير حرمته.

٦٥

والجمع بين تلك المقدّمات لا يمكن إلاّ على النحو الّذي اخترناه ، ولعلّ القائلين بالقول الثاني يسلّمون لما ذكرنا من ثبوت العقاب عليه بمقدار ما على الخروج على تقدير حرمته ، فلا يكون ما اخترناه قولا خامسا.

ثمّ (١) إنّه يتفرّع على ما اخترناه من كون الخروج مأمورا به لا غير وعدم كونه معصية توجّه أيضا (٢) صحّة صلاة المتوسّط حال الخروج من غير جهة فعل الصلاة ، أو لا؟ وجهان مبنيّان على أنّ الخروج من مقدّمات التخلّص عن التصرّف الزائد أو من أفراده ، فعلى الأوّل لكونه واجبا غيريا فلا يقع إطاعة حتّى يستحقّ بفعله الثواب.

وعلى الثاني نعم لكونه واجبا نفسيّا ، فيمكن إيقاعه على وجه الطاعة ، فيستحقّ عليه الثواب ، ونحن لمّا قوّينا الثاني ـ كما عرفت في دفع حجّة القول الرابع ـ يستحقّ عليه الثواب.

ثمّ إنّ ما ذكرنا من كون المتوسّط عاصيا ـ من جهة إيقاع نفسه في المبغوض الذاتي ، وهو الخروج ـ مختصّ بصورة تعمّده للتوسّط (٣) في المكان المغصوب ، كما هو المفروض في مورد الأقوال المذكورة ، إذ مع عدمه لا يتحقّق العصيان بالنسبة إلى ذلك التكليف لعدم تنجّزه عليه.

إيقاظ : كلّما ذكرنا في المسألة المعروفة المتقدّمة والمسائل المتأخّرة عنها أيضا إنّما هو على تقدير كون الأمر والنهي كليهما نفسيّين.

وأمّا إذا كانا غيريّين أو مختلفين فالأقرب جواز اجتماعهما مع تعدّد

__________________

(١) من هنا إلى آخر المبحث الآتي غير موجود في نسخة الأصل ، وأخذناه من النسخة المستنسخة عنها التي نوّهنا عنها في مقدّمة الجزء الأوّل من هذا الكتاب.

(٢) العبارة تستقيم بحذف الكلمتين ( توجّه أيضا ).

(٣) في النسخة المستنسخة : على التوسّط ..

٦٦

جهتيهما وعدم انحصار فرد المأمور به في المنهيّ عنه ، سواء كان ذلك الاجتماع بالنسبة إلى زمان واحد أو في زمنين ، لما عرفت من أنّه لا مانع منه حينئذ إلاّ تخيّل اجتماع الضدّين ، وقد عرفت بطلانه.

وأمّا في غير الصورة المذكورة فالأقرب ذلك أيضا فيما إذا كان النهي غيريّا أو كلاهما غيريين مع تعدّد زمنيهما ، لانحصار ما يتوهّم من المانع حينئذ في كون الأمر متعلّقا بالمعصية ، وهو مدفوع بأنّ النهي الغيري لا يقتضي وقوع متعلّقه معصية.

وأمّا مع اتّحاد زمنيها فلا ، لاستلزامه اجتماع الإرادة والكراهة في شيء واحد وفي زمن واحد.

وأمّا فيما إذا كان الأمر غيريّا والنهي نفسيّا فالأقرب الجواز أيضا فيما إذا لم يكن متعلّق الأمر معصية ، وذلك فيما إذا تعدّد زمناهما مع عدم اقتضاء النهي وقوع متعلّقه معصية في الآن الثاني ، بأن لا يكون من ذوات الأسباب ، وأمّا مع وقوعه معصية كما في صورة اتّحاد زمنيها أو مع اختلافهما مع كون الفعل من ذوات الأسباب فالحقّ الامتناع.

ويظهر وجه ذلك كلّه من التأمّل فيما حقّقنا في المسائل المذكورة ، فراجع ، والله الهادي إلى سواء السبيل ، والحمد لله ربّ العالمين.

٦٧
٦٨

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه ثقتي

القول في مسألة دلالة النهي على فساد المنهيّ عنه.

وتنقيحه يقتضي رسم أمور :

الأوّل : لا يخفى أنّ للنّهي اعتبارات يصلح لوقوعه محلا للبحث بالنظر إلى كلّ منها :

فمنها : ملاحظة وضعه لغة للدلالة على فساد متعلّقه وعدم وضعه لها.

ومنها : ملاحظة وضعه لها شرعا وعدمه.

ومنها : ملاحظة انفهام الفساد منه عرفا مع قطع النّظر عن وضعه لغة وشرعا وعن ثبوت الملازمة بين مدلوله وبين الفساد ، فيكفي لمدّعي دلالته عليه إثبات دلالته عليه بأحد [ تلك ] الوجوه ، كما أنّه يلزم على النّافي نفيها بجميع تلك الوجوه.

ومنها : ثبوت الملازمة بين مدلوله وبين فساد متعلّقه عقلا وعدمها.

ومنها : ملاحظة ثبوت تلك الملازمة شرعا وعدمها ، فالمسألة على غير الأخيرين لفظية ، كما أنّها على ما قبل الأخير وعلى الأخير شرعيّة.

ثمّ إنّها على ما قبل الأخير من المبادئ الأحكامية بالبيان المتقدّم في المسألة المتقدّمة ، وكذلك على الأخير أيضا ، لأنّ لوازم الأحكام المبحوث عنها في المبادئ الأحكامية لا تختصّ بالعقليّة منها ، فعليّه تدخل المسألة في المبادئ الأحكامية بذلك البيان.

ثمّ الظاهر ـ من التفاصيل المذكورة في المسألة بالأدلّة الآتية فيها ـ أنّ النزاع فيها ليس من جهة أحد الاعتبارين الأخيرين بخصوصه ، ولا الأعمّ

٦٩

الشامل لكليهما المقابل لغيرهما من تلك الاعتبارات ، فإنّ القول بدلالة النهي على الفساد لغة ، وكذلك احتجاج بعضهم عليها بفهم العرف ينافيان ذلك ، كما لا يخفى ، فهل النزاع راجع إلى أوّل الثلاثة الأول ، أو الثالث منها أو إلى أوسطها؟

الظاهر بل المقطوع به عدم رجوعه إلى شيء من الأوّل والأوسط ، فإنّ ثبوت القول بدلالة النهي على الفساد شرعا ينافي رجوعه إلى الأوّل ، وكذلك ثبوت القول بدلالته عليه لغة ينافي رجوعه إلى الأوسط ، فوجود ذينك القولين يكشف عن عدم اختصاص محلّ النزاع بشيء منهما.

ثمّ الظاهر أنّ النزاع في المسألة ليس في تشخيص ما وضع له النهي بأحد الوجهين ـ أعني وضعه للفساد لغة أو شرعا (١) على سبيل منع الخلوّ ـ لوجود القول فيها بدلالته على الفساد مع نفي وضعه له مطلقا.

نعم النزاع في ذلك إنّما هو نزاع آخر واقع بين القائلين بالدلالة.

فتلخّص أنّ الّذي انعقدت له المسألة إنّما هو البحث عن النهي بالاعتبار الثالث من تلك.

الثاني : الظاهر أنّ المراد بالنهي المبحوث عن دلالته على الفساد إنّما هو التحريمي فقط ، كما أنّ الظاهر أنّ المراد به هو التحريم بالقول ، لا مطلقا ، فتخرج النواهي الشرعية مطلقا عن محلّ النزاع ، كخروج التحريم الثابت بدليل غير لفظيّ عنه ، فهل المراد به النفسيّ الأصليّ ، أو الأعم؟ الظاهر منه الأوّل عند الإطلاق ، كما هو الحال فيه في المقام ، ونحن سنتعرّض لتحقيق الحال على نحو الإجمال فيما استظهرنا خروجه عن محلّ الخلاف في تنبيهات المسألة ـ إن شاء الله ـ فانتظر.

ثمّ المراد بالفساد ما يقابل الصّحة ، والصحيح في اللغة ما يعبّر عنه

__________________

(١) في النسخة المستنسخة : عقلا ، والصحيح ما أثبتناه.

٧٠

بالفارسية بـ ( درست ) ، ومقابله الفساد ، وهو المعبّر عنه فيها بـ ( نادرست ) ، والظاهر عدم ثبوت نقل فيهما عن معنييهما اللغويّين ، إذ الظاهر أنّهم يريدون من صحيح كلّ شيء وفاسدة ذينك المعنيين ، والتعاريف المذكورة لهما إنّما هي تعبيرات عنهما ببعض لوازمهما الشرعيّة ، فاختلاف تلك التعاريف غير راجع إلى المعنى ، بل إنّما هو راجع إلى اختلاف لحاظ أنظار المعرّفين لهما ، بمعنى أنّ كلّ واحد لاحظ بعض آثارهما الشرعيّة ، فعبّر عنه بذلك الأمر.

ثمّ إنّ الصحّة والفساد ليسا من مقولة الإيجاب والسلب ، بل الفساد عدم الصحّة فيما من شأنه الاتّصاف بها ، بأن يوجد في نوعه ما يتّصف بهما ، فيكون الفساد من مقولة العدم والملكة بالنسبة إلى الصحّة ، فالأمور الغير القابلة للاتّصاف بالصحّة لا تتّصف بالفساد.

ثمّ إنّهما من الأمور الإضافية المختلفة باختلاف ما أضيف إليه ، فقد يكون الشيء صحيحا [ باعتبار ، وفاسدا ](١) باعتبار آخر.

وتوضيح ذلك أنّ موردهما إمّا من الأفعال ، أو من الجواهر والأعراض ، وهما على الأوّل قد يلاحظان باعتبار كون الفعل مطابقا لغرض الجاعل له الداعي إلى جعل نوعه ـ إن كان من الموضوعات الجعلية ـ وعدم مطابقته له ، فيتّصف بالصحّة على الأوّل ، وبالفساد على الثاني ، وقد يلاحظان باعتبار كونه مطابقا لغرض نوع الفاعلين المرتكبين لنوعه الداعي إلى ارتكابهم له وعدمه ، فيتّصف بالأوّل على الأوّل ، وبالثاني على الثاني.

ثمّ إنّه إذا كان من الموضوعات المجعولة فمع وحدة جاعله مع اتّحاد غرضه من جعله أيضا ، فالملحوظ في اتّصافه بواحد منهما إنّما هو مطابقته لغرضه المذكور وعدم مطابقته له ، ومع تعدّد غرضه فالملحوظ في الاتّصاف إنّما هو المطابقة

__________________

(١) إضافة يقتضيها السياق.

٧١

وعدمها بالإضافة إلى واحد من الأغراض ، فقد يكون صحيحا باعتبار مطابقته لواحد منها ، وفاسدا باعتبار مخالفته لآخر ، ومع تعدّد جاعله [ و ] تعدّد (١) الأغراض بتعدّدهم فالملحوظ فيه مطابقة غرض واحد منهم وعدم المطابقة له ، فقد يكون الفعل صحيحا باعتبار مطابقته لغرض واحد منهم ، وفاسدا باعتبار عدم مطابقته لغرض غيره ، ومع اتّحاده مع تعدّدهم فإن اتّصف بالصحّة بملاحظة مطابقته لغرض واحد منهم فيتّصف بها مطلقا ، وكذلك اتّصافه بالفساد ، كما لا يخفى.

ثمّ إنّهما إن كانا باعتبار مطابقته لغرض الجاعل وعدم المطابقة فينسبان إلى ما ينسب إليه الجاعل ، فإن كان هو الشارع فيوصفان بوصفه فيعبّر عنهما بالصحّة والفساد الشرعيّين ، أو غيره بوصفه وإن كان باعتبار مطابقة غرض نوع الفاعلين وعدم المطابقة له فينسبان إلى ما ينسب إليه ذلك النوع.

فعلى هذا فقد يكون الشيء صحيحا عرفا ـ مثلا ـ وفاسدا غير صحيح شرعا ، وذلك مثل شرب الخمر ـ مثلا ـ إذا وقع مطابقا على نحو المتعارف المجعول له وهو وقوعه مسكرا ، فإنّه صحيح باعتبار مطابقته لغرض جاعله من أهل العرف ، ولا يتّصف بالصحّة شرعا ، لعدم تعلّق غرض من الشارع بشر به له ، فكيف بمطابقته له أو عدمها.

وأمّا على الثاني ، أي على تقدير كون موردهما من الجواهر والأعراض فالملحوظ في الاتّصاف بواحد منهما إنّما هو مطابقة المورد لغالب أفراد نوعه ، بمعنى عدم نقصانه عنها في الجهة (٢) المطلوبة منها وإن اشتمل على مزيّة بالنسبة إليها ، وعدم مطابقته لها بالمعنى المذكور.

هذا ، وقد ظهر مما ذكرنا من اعتبار الجعل في الموضوعات المجعولة

__________________

(١) في النسخة المستنسخة : مع تعدّد ..

(٢) كان في النسخة : في الجملة. والصحيح ما أثبتناه في المتن.

٧٢

بالنسبة إلى نوعها ومن اعتبار كون الغرض المقصود له من نوعها ـ أنّ مثل القمار وصوم الزمان يتّصفان بالفساد لتعلّق جعل من الشارع بنوعهما ، وهو مطلق المعاوضة والإمساك وتعلّق غرضه منه بنوعهما في الجملة ، فيكون من شأن نوعهما الاتّصاف بالصحّة ، فيتّصفان بالفساد باعتبار عدم إفادتهما لذلك الغرض من نوعهما.

ثمّ إنّه لا بأس بالتعرّض لما عرّفوا الصحّة والفساد الشرعيّين على نحو الإجمال ، فنقول :

قد اتّفقت كلمتهم في تعريفهما في المعاملات على أنّ الصحيح منها ما يترتّب عليه الأثر ، أي ما يكون بحيث يفيد الأثر المقصود من جعل نوعه كنقل العين كما في البيع والصلح ، أو المنفعة كما في الإجارة ، أو حصول العلقة ورفع البينونية (١) كما في الأنكحة ، أو حصول البينونية (٢) كما في الطلاق ، ومقابله الفساد ، وإنّما اختلفوا في تعريفهما في العبادات ، فالمتكلّمون بأنّ الصحيح ما وافق الشريعة ، والفقهاء أنّه ما أسقط القضاء ، ومقابله الفاسد في كلا التعريفين.

وقد عرفت ما أشرنا إليه سابقا أنّ ذلك الاختلاف غير راجع إلى المعنى ، وإنّما التغاير بينهما إنّما هو بحسب المفهوم.

ومع الجمود في مفهومهما قالوا : يظهر الثمرة بينهما فيمن صلّى بالطهارة المستصحبة ، ثمّ انكشف عدمها حال الصلاة ، فإنّها صحيحة على الأوّل وفاسدة على الثاني.

وفيه ما أورده بعض المتأخّرين من المحقّقين (٣) : من أنّه إن أراد من موافقة الشريعة وإسقاط القضاء موافقتها وإسقاطه بالنظر إلى الواقع فلم يبق فرق

__________________

(١ و ٢) كذا في النسخة المستنسخة ، والمناسب : البينونة ..

(٣) القوانين : ١٥٧.

٧٣

بينهما ، فإنّه بهذا الاعتبار فاسد على كلا التعريفين ، أو بالنظر إلى مرحلة الظاهر فكذلك ، فإنّه صحيح بهذا الاعتبار على كليهما.

ودعوى اختلاف اللحاظ بينهما مدفوعة بأنّه خلاف الظاهر.

هذا ، والأجود أن يجعل مورد الثمرة بينهما صلاة ناسي بعض الأجزاء الغير الركنيّة ، كما أفاده ـ دام ظله ـ فإنّه قد حقّق في محلّه أنّه غير مأمور بالصلاة الفاقدة لتلك الأجزاء المنسيّة ، فلا تكون موافقة للشريعة ، مع أنّها مجزية ومسقطة للقضاء إجماعا ، فتتّصف بالصّحة على التعريف الثاني دون الأوّل.

ثمّ المراد بإسقاط القضاء في الثاني كون الفعل بحيث يسقط على تقدير ثبوته ، فلا ينقض الحدّ في طرفي الصحيح والفاسد بصحيحة العيدين وفاسدتهما (١).

فإذا عرفت ذلك فاعلم أنّ النزاع في المسألة إنّما هو في الأمور القابلة للاتّصاف بوصفي الصحّة والفساد بحسب نوعهما ، وأمّا التي لا تقع في الخارج إلاّ صحيحة محضة ـ بمعنى أنّ وجودها ملازم للصحّة كعنوان الإطاعة لله (٢) والخضوع والسجود له بحيث لو وجدت وجدت بوصف الصّحة ، وإن لم توجد لم توجد أصلا ـ أو فاسدة (٣) كذلك ، فهي خارجة عن محلّ النزاع ، ضرورة عدم تأثير النهي في الأوّل في شيء بعد إحراز وجودها في شيء ، وثبوت الفساد قبله في الثاني.

وقد يقع الإشكال في بعض الأمور من جهة كونه من الأمور القابلة

__________________

(١) حيث إنّ القضاء ساقط في صحيحة العيدين وفاسدتهما ، وعدم النقض بذلك على تعريف الصحيح والفاسد عند الفقهاء لعدم ثبوت القضاء في صلاة العيدين.

(٢) في النسخة المستنسخة : ( منه ) ، والصحيح ما أثبتناه.

(٣) في النسخة المستنسخة : وفاسدة ..

٧٤

للاتّصاف بهما أو من غيرها (١) فيشكل الحكم بدخوله في محلّ النزاع ، وأيضا يشكل إجراء أصالة الصحّة فيه إذا دار الأمر بين كونه من الأمور القابلة للاتّصاف بهما وبين كونه مما لا يوجد في الخارج إلاّ صحيحا ، نظرا إلى أنّ الأصل المذكور إنّما شأنه إحراز وصف الصحّة بعد إحراز وجود موردها ، فيختصّ مورده بما إذا شكّ في أصل الوصف ، فلا يجري فيما إذا رجع الشكّ في الوصف إلى الشكّ في وجود الموضوع ، ومن الأمور المشتبهة المشكوك في كونها ممّا يقبل الاتّصاف بالصحّة والفساد الغسل ـ بالفتح ـ والاستنجاء أيضا.

وقد حكى ـ دام ظلّه ـ عن شيخنا الأستاذ ـ قدّس سرّه ـ أنّه أشكل في إجراء أصالة الصّحة في الغسل إذا شكّ في صحّته معلّلا بأنّه إن لوحظت بالنسبة إلى حقيقة الغسل أو إلى التطهير أو إلى رفع الخبث ، فلا سبيل لها إلى شيء منها ، لعدم وقوع شيء منها في الخارج على قسمين ، بل وجود كلّ منها ملازم للصحّة.

أمّا الأوّل : فواضح.

وأمّا الثاني : فلأنّه ليس معناه إيجاد طبيعة الغسل حال كون الفاعل في صدد تحصيل الطهارة بها ، حتّى يمكن تفكيكه عن الطهارة في الخارج ، ويكون من باب قولهم : علّمته فلم يتعلّم ، بل مجاز فيه ، وحقيقة إنّما هو إيجاد الطهارة ، فإن أحرز وجودها فلا مجرى للأصل المذكور ، للعلم بصحّتها حينئذ أيضا لملازمتها لوجودها ، وإن شكّ فيها لم (٢) يحرز الموضوع ، حتّى يثبت له صفة الصحّة.

وأمّا الثالث : فهو أيضا واضح كالأوّل.

هذا ، والإشكال بعينه جار في الاستنجاء أيضا كما لا يخفى.

__________________

(١) في النسخة المستنسخة : غيره ..

(٢) في النسخة المستنسخة : فلم.

٧٥

هذا ، لكن الظاهر كما اختاره ـ دام ظلّه ـ أيضا كون الغسل مما يقبل الاتّصاف بهما ، فإنّه من حيث إنّه وإن لم يقع في الخارج على قسمين ، لكنّه باعتبار سببيّته لرفع الخبث يقع فيه على قسمين ، والصحيح منه ما يفيد رفعه ، والفاسد منه ما لا يفيده ، فموضوع الأصل المذكور إنّما هو الغسل حال كون الفاعل في صدد رفع الخبث ، وهو غير ملازم لرفع الخبث ، فيجري فيه الأصل المذكور ، فاندفع الإشكال ، وبه يندفع الإشكال عن الاستنجاء أيضا.

والظاهر أنّه ـ أيضا ـ كالغسل من حيث اتّصافه بالصّحة والفساد ووقوعه في الخارج على قسمين.

ويظهر اختيار ذلك من شيخ الطائفة ـ قدس سره ـ على ما حكي عنه في مسألة الاستنجاء ، حيث إنّه حكم بفساد الاستنجاء الواقع بالعظم والروث محتجّا عليه بورود النهي عنه ، وهو يقتضي الفساد.

وكيف كان ، فلا ينبغي الإشكال في إجراء الأصل المذكور في الغسل والاستنجاء ، نظرا إلى التوجيه المذكور ، ولولاه لانسدّ باب الرجوع إلى ذلك الأصل في أبواب العقود والإيقاعات أيضا كما لا يخفى على المتأمّل لجريان الإشكال المذكور فيها بعينه فيقال ـ في مثل البيع ـ : إنّ الأصل المذكور إن لوحظ فيه بالنسبة إلى طبيعة البيع ـ وهو الإيجاب والقبول ـ فيكون حاله حال طبيعة الغسل ، وإن لوحظ بالنسبة إلى أثره فيكون حاله حال رفع الخبث ، وإن لوحظ بالنسبة إلى عنوان نقل الملك فحاله حال التطهير.

ويندفع الإشكال المذكور عنها أيضا بالتوجيه المتقدّم ، فعليك بالتطبيق ، فلا نطيل الكلام بإعادته.

ثمّ إنّ الصحّة والفساد في العبادات من الأحكام العقلية بناء على تفسيرهما بموافقة الأمر وعدم الموافقة له ، فإنّ الموافقة والمخالفة من الأمور الواقعية [ التي ] يدركها العقل ، ولا سبيل للجعل إلى شيء منهما بالضرورة.

٧٦

وأمّا بناء على تفسيرهما بإسقاط القضاء وعدم إسقاط القضاء ، فقد يكونان منها ، وقد يكونان من أحكام الوضع التي لا يتحقّق إلاّ بالوضع والجعل : إمّا مستقلا ، أو تبعا للأحكام التكليفية على اختلاف القولين فيها.

توضيح ذلك : أنّ موارد إسقاط الفعل للقضاء مختلفة :

فمنها : ما يلزمه ذلك عقلا ، وذلك كما فيما إذا أتى بالعبادة بجميع الأمور المعتبرة فيها واقعا.

ومنها : ما لا يلزم ذلك عقلا ، لكن الشارع اجتزأ بالفعل واحتسبه عن الواقع ، وذلك كما في صورة مخالفة العبادة المأتيّ بها للواقع مع ثبوت كونها مجزية عنها ، كصلاة ناسي الأجزاء الغير الركنيّة ، حيث إنّها مجزية عن الواقع إجماعا ، وليس مأمورا بها أو بدلا عن المأمور به الواقع ـ كما حقّق في محلّه ـ حتى يقال :

إنّه بعد ثبوت البدليّة يلزمها سقوط القضاء عقلا ، فالملزوم مجعول ، واللازم عقليّ غير قابل للجعل.

وأمّا في المعاملات : فإن لوحظا بالنسبة إلى كلّيّاتها ـ كصحّة عقد البيع الكلّي ، أو فساد بيع الرّبا كذلك ـ فهما من أحكام الوضع ، إذ معنى صحّتها إنّما هو كونها بحيث يفيد الأثر المقصود من جعل نوعها ، وهذا إنّما هو معنى سببيّتها لإفادة ذلك الأثر ، ومن المعلوم أنّ السببيّة أمر مجعول من الشارع ، وكذلك فسادها.

وإن لوحظا بالنسبة إلى مصاديق تلك الكلّيّات ـ وهي الجزئيّات الحقيقة منها ـ فهما من الأحكام العقلية ، إذ معنى صحّة تلك المصاديق وفسادها إنّما هو مطابقتها لتلك الكلّيّات وانطباقها عليها وعدم انطباقها عليها ، ومن المعلوم أنّ الانطباق وعدمه من الأمور الواقعيّة الغير القابلة للجعل ، المدركة بالعقل ، هكذا

٧٧

أفاد ـ دام ظلّه ـ (١).

وأقول : في كون الفساد من أحكام الوضع ـ فيما إذا كان الصحّة منها إشكال ، فإنّه في تلك الموارد إنّما يتحقّق بعدم إحداث الشارع سبب الصحّة من الإجزاء أو السببية ، ولا يتوقّف على إحداثه بسبب عقليّ له ، ومن المعلوم أنّ عدم حدوث سبب الصحّة أزليّ غير قابل للجعل والوضع ، فينبغي أن يكون الفساد في تلك الموارد أيضا من الأحكام العقليّة.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّه وإن كان يتحقّق بمجرّد عدم إحداث سبب الصحّة في المورد ، إلاّ أنّ عدم إحداثه إنّما هو بيد الشارع واختياره ، بحيث لو شاء لقطع ذلك العدم بإيجاد أمر وجوديّ في مورده ، وهو سبب الصّحة ، وهذا النحو من العدميّات ليس من العدم الأزليّ ، بل هو من قبيل العدم الحادث ، فيكون من الأمور المجعولة بهذا التقريب ، فافهم.

وأشكل من ذلك كون إسقاط القضاء في صلاة ناسي الأجزاء من أحكام الوضع ، فإنّه لا يكون منها إلاّ على أحد الوجوه المتصوّرة فيها ، والالتزام بذلك الوجه دونه خرط القتاد.

وتوضيح ذلك : أنّ سقوط القضاء بفعل تلك الصلاة الفاقدة لبعض الأجزاء : إمّا لكونها من أفراد الصلاة الواقعيّة المأمور بها ، بأن يعتبر متعلّق الأمر الواقعي على وجه يعمّ تلك الصلاة في تلك الحال وإن كانت خارجة عنه في غير الحالة المذكورة ، نظير الصلاة مع التيمّم ، فإنّها من أفراد متعلّق الأمر الواقعي ، وبدليّته إنّما هي بالإضافة إلى سائر أفراد ذلك المتعلّق ، لا إليه ، فتكون تلك

__________________

(١) لاحظ قوله (ره) : ( هكذا أفاد ـ دام ظلّه ـ وأقول ). فإنّه صريح في أنّ هذا الكتاب تصنيف لنفس الكاتب ، لا تقرير لبحث أستاذه ( قدّه ) ، وإن كان (ره) ذكر كثيرا من آراء أستاذه العظيم ( قده ) في كتابه هذا.

٧٨

الصلاة الفاقدة للأجزاء في تلك الحال بدلا عن الصلاة الجامعة لها التي هي فرد آخر من متعلّق الأمر الواقعي.

وإمّا لأنّ الشارع قد اكتفى بها مع عدم اشتمالها على مصلحة أصلا تفضّلا على المكلّف.

وإمّا لأنّها وإن لم تكن من أفراد المأمور به لكنّ الغرض الملحوظ فيه الداعي إلى الأمر به يحصل بها أيضا في تلك الحال ـ بمعنى أنّ الغرض من المأمور به أعمّ منه ـ فكونها مسقطة للقضاء لقيامها بذلك الغرض ، نظير التوصّليات الساقطة بغير ما امر به ممّا هو منطبق على الغرض ومحصل له.

لا سبيل إلى الأوّل ، لما مرّت الإشارة إليه من أنّه لا يعقل كون تلك الصلاة الناقصة مأمورا بها بوجه مع أنّه على تقديره يستلزم كون الإسقاط من اللوازم العقلية.

ويشكل المصير إلى الثاني أيضا ، إذ لا يعقل أن يكتفى الشارع ويجتزئ بما يكون وجوده كعدمه مع عدم اكتفائه بعدمه لاشتراكهما في عدم اشتمالهما على مصلحة ، بل يجب ـ على تقدير رفع الأمر بالقضاء مع ثبوت المقتضي له من باب التفضّل ـ رفعه في كلا المقامين ، ولا يعقل التفكيك بينهما ، لعدم مزيّة لأحدهما على الآخر فيما يكون منشأ التفضّل ، فعدم رفعه في صورة نسيان أصل الصلاة ربما يكشف عن أنّ رفعه في تلك الصورة ليس من باب مجرّد التفضّل ، فتعيّن أن يكون رفعه لكون تلك الصورة الناقصة في تلك الحال قائمة بالغرض من المأمور به الواقعي ، وأنّ عدم تعلّق الأمر بها إنّما هو لقصور لسان الأمر لعدم قابليّة المورد ، لا لقصور (١) المقتضي في الفعل في تلك الحال ، ومن المعلوم أنّ ترتّب سقوط القضاء على ما يكون مطابقا للغرض عقليّ غير قابل للجعل.

__________________

(١) في النسخة المستنسخة : لقصر.

٧٩

نعم هو على الوجه الثاني من الأمور الجعليّة ، فإنّ رفع الأمر من باب التفضّل عين إسقاط القضاء ، ومن المعلوم أنّ رفعه بجعله ووضعه ، لكنّه لا يمكن المصير إليه.

فتحقّق أنّ إسقاط القضاء في المثال المذكور من الأحكام العقلية.

وهذا الّذي ذكرنا ـ من أنّ صلاة الناسي للأجزاء الغير الركنيّة إنّما هي مسقطة للقضاء ، لكونها منطبقة على الغرض المقصود من المأمور به الواقعي مع عدم تعلّق أمر بها ـ إنّما هو مقتضى الجمع بين مقدّمات ثلاث لا محيص عن واحدة منها :

إحداها : كون تلك الصلاة مجزئة ومسقطة للقضاء إجماعا.

وثانيها : أنّه لا يعقل كونها مأمورا بها ، كما حقّق في محلّه.

وثالثها : أنّه لا يعقل أن يكون الإسقاط من باب التفضّل المحض ، لما عرفت ، والجمع بين تلك المقدّمات لا يمكن إلاّ على الوجه الّذي حقّقناه ، فتدبّر.

ثمّ إنّه بعد الإغماض عن بطلان الوجه الثاني وإن كان الإسقاط من أحكام الوضع لكن الفعل لا يتّصف بكونه مجزيا ، لأنّ الإجزاء غير مستند إليه بوجه ، كما لا يخفى.

ثمّ إنّا قد أشرنا سابقا إلى أنّ النزاع في المقام إنّما هو في الأمور القابلة للاتّصاف بالصحّة والفساد بحسب نوعها وإن لم يكن هناك عموم أو إطلاق من الشارع يقتضيان صحّة المنهيّ عنه مع قطع النّظر عن النهي.

لكن يظهر من المحقّق القمّيّ (١) ـ قدّس سرّه ـ تخصيصه لمورد النزاع بما إذا كان هناك أحد الأمرين المقتضيين لصحّته مع قطع النّظر عن النهي ، حيث قال : النزاع فيما وصل له جهة صحّة من الشارع ، وعلّله [ بأنّه ] إن

__________________

(١) قوانين الأصول : ١ ـ ١٥٥ ، والنصّ منقول بالمضمون.

٨٠