تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٣

المولى علي الروزدري

تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٣

المؤلف:

المولى علي الروزدري


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-54-X
ISBN الدورة:

الصفحات: ٣٨٢

ألا ترى أنه إذا أوقد سراج في مسجد داج ، فانكشف به أنّ فيه كلبا ، يصدق أن يقال حينئذ : إنّ هذا انكشف كونه كلبا بالسراج ، وكلّ ما كان كذلك يجب إخراجه عن المسجد ، مع أنه مستهجن جدّاً ، نظرا إلى أنّ أحكام الكلب إنّما هي ثابتة لذات الكلب ، لا لما انكشف كونه كلبا بالسراج.

هذا بخلاف الأمارات المعتبرة شرعا ، فإنّها بالنظر إلى [ إثبات ] الأحكام الواقعية لمتعلّقاتها وإن لم يكن لها دخل أصلا ، حيث إنّها ثابتة [ لذات ] الأفعال من غير مدخلية طريق إليها ، لكنها بالنظر إلى الحكم الظاهري كالتغيّر بالنسبة إلى الحدوث من حيث كونها مأخوذة في موضوعه ، فيكون إثبات الأحكام الظاهرية لمتعلّقاتها متوقّفا على توسيطها لذلك.

وبعبارة أوضح : إنّ الحرمة الواقعية للخمر ـ مثلا ـ إنّما هي ثابتة لذات الخمر الواقعية ، فلا تثبت لمشكوك الخمرية لعدم إحراز صدق الخمر عليه ، والحكم على ذلك المشكوك بالحرمة ظاهرا لا يكون إلاّ بعد قيام أمارة على كونه خمرا ، فيتوقّف الحكم بها عليه في الظاهر على توسيطها ، بأن يقال : إنّ هذا ما قامت البيّنة على كونه خمرا ، وكلّ ما كان كذلك فهو حرام في مرحلة الظاهر ، فهذا حرام في مرحلة الظاهر.

فصار حاصل الفرق بين القطع الّذي هو طريق إلى أحكام متعلّقة وبين الأمارات : أنّه لما لم يكن مأخوذا في موضوع أحكام متعلّقة ـ لا واقعا ، لفرض أنّ الأحكام الواقعية إنّما [ هي ] لذات متعلّقه ، ولا ظاهرا ، لفرض كونه .. (١). ـ غير مأمور بالعمل على مقتضاه شرعا ، فلا يقع وسطا لإثبات أحكام متعلّقة مطلقا ، فلا يطلق عليه الحجّة بوجه.

هذا بخلاف الأمارات المعتبرة لكونها مأخوذة في الأحكام الظاهرية ،

__________________

(١) النسخة ( أ ) غير مقروءة والمتن على طبق نسخة ( ب ) ، والمعنى مستقيم.

٢٤١

فيطلق عليها الحجّة بهذا الاعتبار.

هذا توضيح ما أفاده المصنّف.

أقول : لا يخفى على المتأمّل أنّ الأمارات المعتبرة بالنسبة إلى أحكام متعلّقاتها ليست كالتغيّر بالنسبة إلى الحدوث من حيث كونه موضوعا له ، حتى يصحّ توسيطها في إثبات تلك الأحكام لمتعلّقاتها كذلك.

أمّا بالنظر إلى الواقع فظاهر ، وأمّا في الظاهر (١) فلأنّ الحكم على متعلّقاتها بتلك الأحكام في الظاهر يتوقّف على ثبوت مصداقية تلك المتعلّقات للعناوين الكليّة التي هي الموضوعات لتلك الأحكام في الواقع ولو بطريق شرعي ، فالحكم عليها بأحكام الواقع لأجل كونها محرزة لصغرى تلك الأحكام ، فإنّ المائع المشكوك في خمريّته لا يجوز الحكم عليه بحكم الخمر ، وهي الحرمة واقعا ، لعدم إحراز صدق الخمر عليه ، والحكم عليه بها في الظاهر يتوقّف على ثبوت خمريته بطريق شرعي ، والأمارات القائمة على كونها خمرا مبيّنة لمصداقيته للخمر بمقتضى دليل اعتبارها الدالّ على وجوب تصديقها وإلغاء احتمال مخالفتها للواقع ، فإذا قامت بيّنة على خمرية مائع مشكوك الخمرية ـ مثلا ـ فهي محرزة لصغرى ، وهي قولنا : هذا خمر ، وثبوت الحرمة له ـ حينئذ ـ إنّما هو بتوسيط الخمر ، فيقال حينئذ : إنّ كلّ خمر حرام ، فهذا حرام ، لا بتوسيط البيّنة ، بأن يقال : إنّه ما قامت البيّنة على كونه خمرا ، وكلّ ما كان كذلك فهو حرام ، فهذا حرام ، فتوقّف الحكم بالحرمة عليه ظاهرا على قيام أمارة على خمريته إنّما هو من حيث ثبوت مصداقية الخمر بها ، لا لأجل كونها واسطة لإثبات الأكبر ـ وهو قولنا : حرام ـ للأصغر الّذي هو ذلك المائع المشكوك في خمريته.

ويكشف عن ذلك : أنّ الأحكام الثابتة لمتعلّقات الأمارات إنما يحكم

__________________

(١) في ( ب ) وأما بالنظر إلى الظاهر.

٢٤٢

عليها بعنوان كون تلك المتعلّقات مصاديق للعناوين الكلّية الواقعية التي هي الموضوعات الأوّلية في الواقع لتلك الأحكام ، لا بعنوان كونها موضوعات اخر (١) في قبال تلك العناوين ، وإلاّ لزم التصويب وخروج تلك الأحكام عن كونها أحكاما ظاهرية.

والحاصل : أنّ ما كان طريقا إلى شيء ـ سواء كان هو القطع أو غيره من الطرق الغير العلمية المعتبرة ـ ليس من شأنه التوسّط لإثبات أحكام ذلك الشيء ، بل غاية ما يترتّب عليه إنّما هو ثبوت مصداقية متعلّقة للعناوين الكلّية التي هي الموضوعات الأوّلية لتلك الأحكام ، فلا فرق من تلك الجهة بين القطع والأمارات بوجه.

نعم في إثبات مصداقية متعلّقات الأمارات لتلك العناوين يحتاج إلى توسيط الأمارات ، فإنّها ما لم يعلم مصداقيتها لها فلا يحكم بكونها مصاديق لها واقعا ، والحكم عليها بمصداقيتها لها في الظاهر إنّما هو لأجل قيام تلك الأمارات على مصداقيتها لها ، فإذا كان المطلوب مصداقيتها لها في الظاهر فيتوقف إثباتها على توسيط الأمارات ، بأن يقال : هذا المائع قامت البيّنة على خمريته ، وكلّ ما كان كذلك فهو خمر في الظاهر ، فهذا خمر في الظاهر ، وهذا بخلاف القطع ، فإنّ حقيقة القطع بكون مائع خمرا انكشاف مصداقيته للخمر ، فلم يبق بعد تحقّقه حالة منتظرة في الحكم بكون ذلك المائع خمرا واقعا أو ظاهرا إلى ملاحظة مقدّمة أخرى ، وهي أنّ كلّ معلوم الخمرية خمر ، بل يحكم ـ حينئذ ـ بكونه خمرا واقعا وظاهرا.

هذا مضافا إلى أنّه لا يصحّ توسيطه ـ أيضا ـ لأنّ القطع ليس مقوّما للخمر ، لا واقعا ولا ظاهرا.

__________________

(١) في ( أ ) : موضوعا آخر.

٢٤٣

أمّا واقعا فظاهر ، وأمّا ظاهرا فلفرض عدم تعبّد من الشارع بالعمل بالقطع لكونه طريقا منجعلا بنفسه ، ولذا لو قيل : ـ هذا معلوم الخمرية ، وكلّ معلوم الخمريّة خمر ـ يكون الكبرى كاذبة بالنظر إلى الواقع والظاهر :

أمّا بالنظر إلى الواقع فلعدم كون العلم مقوّما للخمرية ، لإمكان كونه جهلا مركّبا ، فيكذب القول بكون معلوم الخمرية خمرا في الواقع.

أما بالنظر إلى الظاهر فلعدم حكم الشارع بالبناء على مؤدّى القطع في الظاهر.

نعم كلّ معلوم الخمرية خمر عند القاطع واقعا ما دام قاطعا بخمريته.

فظهر أنّ الفرق بين القطع والأمارات : إنّما هو في الاحتياج إلى توسيط الأمارات في إثبات مصداقية متعلّقاتها للعناوين الكلّية في الظاهر ، وعدم الاحتياج إلى توسيط القطع وإثبات مصداقية متعلّقة لتلك العناوين مطلقا وأنّ منشأ ذلك الفرق إنّما هو سببية الأمارات لمصداقية متعلّقاتها لتلك العناوين ظاهرا ، وعدم سببية القطع لمصداقية متعلّقه لها مطلقا ، فكان الأجود أن يفرّق المصنّف ـ قدّس سرّه ـ بينهما بالاحتياج إلى التوسيط وعدمه بالنظر إلى مصداقية متعلّقاتها لموضوعات الأحكام الواقعية.

ثمّ إنّ قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( ليس كإطلاق الحجّة على الأمارات المعتبرة شرعا ) (١) ..

إن أريد به أنّ إطلاق الحجّة على الأمارات الشرعية حقيقة في اصطلاح الأصوليين لكونها أوساطا لإثبات أحكام متعلّقاتها ففيه :

بعد الغضّ عمّا مرّ ـ من منع كونها أوساطا لها ـ أنّه ليس كلّ ما كان وسطا

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٤.

٢٤٤

حجّة في اصطلاحهم ، وإنّما هو وسط مخصوص ، وهو ما كان طريقا لإثبات أحكام متعلّقه كما اعترف به قدّس سرّه.

وقد عرفت أنّ توسيط تلك الأمارات ـ على تقديره ـ إنّما هو بالنظر إلى إثبات متعلّقاتها لها في مرحلة الظاهر ، لا الواقع ، لقيام احتمال مخالفتها له.

وقد عرفت أنّ ذلك من جهة دعوى كونها مأخوذة في موضوع تلك الأحكام وهو ـ قدّس سرّه ـ قد اعترف بأنّ ما كان مأخوذا في موضوع حكم لا يطلق عليه الحجّة في اصطلاحهم وإن كان يصحّ توسيطه ، ويطلق عليه الحجّة في اصطلاح أهل الميزان ، ولذا أخرج القطع المأخوذ في موضوع الحكم عن كونه حجّة في اصطلاحهم ، فلازم ما اعترف به عدم صحّة إطلاق الحجّة على الأمارات حقيقة في اصطلاحهم ، لمساواتها للقطع المأخوذ في موضوع الحكم.

وإن أريد أنّ إطلاق الحجّة على الأمارات حقيقة في اصطلاح أهل الميزان وإن لم يكن حقيقة في اصطلاح الأصوليين فيتّجه عليه : أنّه ـ قدّس سرّه ـ يعترف بكونها حجّة في اصطلاحهم.

والحاصل : أنّ وجه صحّة إطلاق الحجّة على الأمارات كونها أوساطا لإثبات أحكام متعلّقاتها في الظاهر ، ووجه توسيطها في إثباتها إنّما هو كونها مأخوذة في موضوع أحكام متعلّقاتها ، كما يظهر من قياسه لها على التغيّر بالنسبة إلى الحدوث ، فيكون المصحّح لإطلاق الحجّة عليها بالأخرة هو كونها مأخوذة في موضوع تلك الأحكام في الظاهر ، فيكون دعوى إطلاق الحجّة عليها حقيقة في اصطلاح الأصوليين مناقضة لما بنى عليه تلك الدعوى من كونها مأخوذة في موضوع تلك الأحكام ، لعدم صحّة إطلاق الحجّة على ما يكون كذلك حقيقة في اصطلاحهم بمقتضى اعترافه.

ودعوى إطلاقها عليه كذلك في اصطلاح أهل الميزان وإن لم يكن مناقضة له ، بل متوقّفة عليه ، إلاّ أنّ الاعتراف بكونها مأخوذة في موضوع تلك الأحكام

٢٤٥

مناقض لاعترافه بكونها حجّة في اصطلاح الأصوليين ، نظرا إلى ما ذكره من أنّ الطريق المأخوذ في موضوع الحكم لا يطلق عليه الحجّة في اصطلاح الأصوليين ، فلا تغفل.

والتحقيق : ما ذكرنا من عدم كونها مأخوذة في موضوع أحكام متعلّقاتها ، فلا تكون أوساطا في إثباتها بوجه ، لأنّ الوسط لإثبات حكم لا يقع وسطا إلاّ بكونه مأخوذا في موضوعه ، ولازم ذلك عدم كونها حجّة في تلك الأحكام بالنظر إلى اصطلاح أهل الميزان ، وإنّما تكون كذلك بالنظر إلى إثبات مصداقية متعلّقاتها لتلك الأحكام لكونها أوساطا في إثباتها ، كما مرّ.

لكن ذلك لا يقدح بإطلاق الحجّة عليها حقيقة بالنظر إلى اصطلاح الأصوليين إن كانت هي في مصطلحهم عبارة عما ذكره المصنّف ـ من أنّها ما كانت طريقا إلى إثبات أحكام متعلّقه ، فإنّ كون شيء طريقا إلى إثبات أحكام شيء آخر [ لا ] يتوقّف على التوسيط ، بل ينافيه ، ويحصل طريقية الأمارات لإثبات أحكام متعلّقاتها بكونها معيّنة لمصداقية متعلّقاتها لموضوعات الأحكام الواقعية ، فيخالف اصطلاح الأصوليين اصطلاح أهل الميزان في الحجّة ، ولا بدّ أن يكون كذلك ، إذ التوسيط المأخوذ في اصطلاحهم لا يحصل إلاّ بكون الطريق مأخوذا في موضوع الأكبر الّذي هو المحمول للأصغر في النتيجة ، فينافي ما اعتبر فيها في اصطلاح الأصوليين من كونها طريقا لإثبات أحكام متعلّقها ، أي الأحكام الثابتة لذات متعلّقها.

وبذلك ظهر بطلان ما مرّ سابقا في توضيح كلام المصنّف : من أنّ الحجّة في اصطلاح الأصوليين عبارة عن وسط مخصوص ، فعلى هذا لا بدّ أن يكون لفظ الحجّة في مصطلح الأصوليين منقولا عن معناه اللغوي ، لا عن معناه المصطلح عند أهل الميزان ، لعدم المناسبة بينهما بوجه من الوجوه.

هذا ، لكن الظاهر أنّ الحجّة عند الأصوليين ليست عبارة عما ذكره

٢٤٦

المصنّف ، بل إنّما هي ما كان قاطعا للعذر فيما بين العبد وبين الله تعالى وهو ما لو عمل العبد على طبقه ليس لله تعالى المؤاخذة عليه على تقدير استلزام العمل به لمخالفة الواقع وارتكاب مبغوضيته تعالى ، ولو لم يعمل به له المؤاخذة عليه على تقدير مصادفته للواقع ، مع تضمّنه الحكم الإلزاميّ.

والّذي يكشف عن ذلك أنّ الحجّة عندهم تطلق على الأمارات والأدلّة والأصول العملية على حدّ سواء ، بحيث لا يكون إطلاقها على الأصول والأدلّة مجازا عندهم قطعا ، وليس ذلك لأجل اشتراكها لفظا بين الموارد الثلاثة ، بل إنّما هو لأجل أنّها عبارة عندهم عن معنى عامّ يصدق على كلّ منها على حدّ سواء ، وهو ليس إلا ما ذكرنا ، إذ لا يعقل جامع بينها غيره ، ضرورة أنّ الأصول العملية ليست طرقا أصلا ، فضلا عن كونها مبيّنة لأحكام متعلّقاتها ، فكيف يمكن كون ذلك جامعا بين الكلّ؟! وهذا المعنى لا تناسب بينه وبين المعنى المصطلح عند أهل الميزان بوجه كالمعنى السابق ، فلا بدّ أن يكون لفظ الحجّة منقولا عن معناه الأصلي إليه ، والعلاقة المصحّحة للنقل إنّما هي علاقة السببية ، فإن كان قاطعا للعذر بنى عليه (١) ، وسدّ مجال المؤاخذة والسؤال.

ثمّ إنّ حجّية القطع بهذا المعنى ـ أيضا ـ لا اعتبار عليها (٢) بوجه ، لاستقلال العقل بقبح مؤاخذة العامل بقطعه على تقدير تخلّفه عن الواقع.

نعم يجوز الأمر على تقدير انكشاف الخلاف له بالتعبّد بالواقع على ما هو عليه أداء وقضاء.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( والحاصل : أنّ كون القطع حجّة غير معقول ،

__________________

(١) النسختين غير مقروءة ولعلّها هكذا : فلأن كان قاطعا للعذر بنى للعلية ، ويحتمل السقط قبل هذه العبارة.

(٢) أي ليست قابلة للجعل والاعتبار.

٢٤٧

لأنّ الحجّة ما يوجب القطع بالمطلوب ، فلا يطلق على نفس القطع. ) (١) ..

يعني أنّ إطلاق الحجّة على القطع حقيقة غير معقول ، لأنّها حقيقة فيما يوجب القطع بالمطلوب. هذا.

أقول : ما ذكره حاصلا لما ذكره سابقا فيه ما لا يخفى ، إذ ما ذكره سابقا كان مبنيّا على اعتبار التوسيط في الحجّة المفقود في القطع ، لا على اعتبار إيجابها القطع بالمطلوب.

نعم هذا فرق آخر بين القطع وغيره من الطرق والأمارات ، حيث إنّها موجبة للقطع بالمطلوب في مرحلة الظاهر بمعنى أنّه يكون مؤدّياتها مقطوع التعبّد بها من الشارع.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( وحكمه أنّه يتبع في اعتباره مطلقا أو على وجه خاصّ دليل ذلك الحكم ) (٢).

وذلك لأنّه لم يكن لمتعلّقه أثر حتى يترتّب عليه من غير توقّف على اعتباره شرعا أصلا ، والحكم المعلّق على المقيّد به كسائر الأحكام الشرعية المعلّقة على الموضوعات ، وهو باعتبار كونه مأخوذا في موضوعه كسائر الأوصاف المأخوذة في موضوعات الأحكام ، سواء كان اعتباره كذلك من حيث صفته الخاصّة به (٣) أو من حيث كشفه وطريقيته ، فيدور أخذه فيه ـ مطلقا ، أو على وجه خاصّ ـ مدار اعتبار الشارع إيّاه على أحد الوجهين.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( ثمّ من خواصّ القطع الّذي هو طريق إلى الواقع قيام الأمارات الشرعية وبعض الأصول العملية مقامه في

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٤.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٥.

(٣) كذا في النسخة ( أ ) ، والصحيح : ( من حيث صفته الخاصّة به ). ، أو ( من حيث الصفة الخاصّة به ).

٢٤٨

العمل بخلاف المأخوذ في الحكم على وجه الموضوعية ) (١).

لا بحيث يكون ذلك لازما له ، بل قد يكون على وجه يقوم مقامه الأمارات وبعض الأصول ، كما إذا كان جعله موضوعا للحكم من حيث جهة كشفه عن متعلّقه وكونه طريقا إليه ، وقد لا يكون كذلك ، كما إذا أخذ فيه من حيث كونه صفة خاصّة ، فالقطع الّذي هو طريق إلى الواقع مشارك في الحكم المذكور المأخوذ في موضوع الحكم من جهة كشفه وطريقيّته ، فلا ثمرة بينهما من تلك الجهة.

وإنّما يظهر هذه الثمرة بين كلّ منهما وبين القطع المأخوذ في موضوع الحكم بعنوان كونه صفة خاصّة ، كما أنّ كلا قسمي المأخوذ منه في موضوع الحكم مشاركان في حكم آخر مختصّ بهما يفارقان فيه عمّا هو طريق إلى الواقع ، وهو الإجزاء ، فإنه إذا كان القطع ببولية شيء طريقا محضا إلى الواقع من دون مدخلية له في حكم البول ، وهو النجاسة ، وقلنا : إنّ الطهارة من الخبث من الشرائط الواقعية للصلاة ـ مثلا ـ فأتى المكلّف بها مع ملاقاة بدنه أو لباسه بالبول (٢) في الواقع مع الشكّ فيه وعدم قيام أمارة من الأمارات ـ القائمة مقام القطع ـ على ملاقاة بدنه أو لباسه له ، فظهر بعد العمل أنه صلى معه ، لا يجزيه ما أتى به حينئذ ، لانكشاف عدم إتيانه بالمأمور به على ما هو عليه ، وإذا كان مأخوذا في موضوع حكم النجاسة ـ بأن لا يكون حكم ذات البول هي النجاسة ، بل يكون موضوعها هو البول المعلوم ـ فلازمه الإجزاء في الفرض المذكور ، فإنّه ـ حينئذ ـ قد صلّى مع عدم النجاسة واقعا ، ضرورة عدم الحكم المعلّق على عنوان مقيّد بقيد بانتفاء ذلك القيد.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٦.

(٢) كذا في النسخة ( أ ) ، والصحيح : للبول.

٢٤٩

ثمّ إنّ هذين القسمين يفترقان فيما إذا صلّى مع البول مع الشكّ فيه ، لكن قام أمارة على بولية ما لاقاه من المائع المشكوك في بوليته ، وقلنا : إنّ النجاسة من أحكام معلوم البول ، لا ذات البول ، وإنّ الطهارة فيها من الشرائط الواقعية للصلاة ، فحينئذ إن كان اعتبار العلم في موضوع النجاسة من حيث طريقيته إلى متعلّقه فهو قد صلّى مع النجاسة الواقعية في الفرض المذكور لقيام الأمارة المفروضة مقامه ـ حينئذ ـ في جزئية لموضوع النجاسة ، فلا يجزيه هذه الصلاة بعد انكشاف كون ما لاقاه بولا بالعلم واقعا ، بل عليه الإعادة في الوقت مع بقائه أو القضاء مع خروجه ، وكذا لا يجزيه قبل انكشاف بوليته ـ أيضا ـ بمعنى أنه لا يجوز له الاكتفاء بتلك الصلاة في مرحلة الظاهر قبله.

وإنّما وصفنا عدم الإجزاء قبله بكونه ظاهريا ، لأنّ المفروض أنّ موضوع النجاسة واقعا هو ذات البول مطلقا ، لا من أحكام ما قام طريق على بوليته كذلك ، فلو فرض قيام طريق على بولية شيء على القول المذكور مع عدم كونه بولا في الواقع لا يكون نجسا في الواقع ، بل إنّما هو محكوم بالنجاسة ظاهرا ، فقبل انكشاف بولية ما قامت الأمارة على بوليته ، لمّا لم يعلم ببوليته واقعا ، يكون (١) ذلك في تلك الحال محكوما بالنجاسة في الظاهر ، فيترتّب عليه أحكام النجاسة ظاهرا.

وإن كان اعتباره فيه من حيث كونه صفة خاصّة فالصلاة المذكورة مجزية له واقعا قبل انكشاف بوليته وبعده ، لعدم صلاحية قيام الأمارات ـ حينئذ ـ مقامه حتّى يكون محصّلة للقيد المأخوذ في موضوع النجاسة.

وهذا الفرق إنّما هو بالنظر إلى أدلّة اعتبار الأمارات ، وإلاّ فيمكن ورود دليل آخر على تنزيل مشكوك البولية منزلة معلومها في الحكم بالنجاسة في

__________________

(١) في النسخة ( أ ) : فيكون ..

٢٥٠

الثمرة بين القسمين بالنظر إلى ذلك الدليل.

وسيأتي في بيان وجه قيام بعض الأصول العملية مقام القطع المأخوذ في موضوع الحكم ما يوضّح ذلك ، فانتظر.

فلنرجع إلى توضيح وجه قيام الأمارات مقام القطع الّذي هو طريق محض إلى الواقع والّذي أخذ في موضوع حكم على وجه الطريقية :

تمهيد مقال : الغرض من قيام الأمارات وبعض الأصول مقام القسمين المذكورين من القطع إنّما هو قيامها في ترتيب حكم المقطوع على مواردها بحيث لا يتوقّف ترتّبه عليها على (١) دليل ثالث دلّ على تنزيل المشكوك منزلة المقطوع في الحكم ، بمعنى أنّا إذا لاحظنا دليل ذلك الحكم في المقطوع مع ملاحظة أدلّة اعتبار الأمارات أو الأصل الّذي يقوم مقام القطع يكفينا في ترتيب حكم المقطوع على مواردها من غير حاجة إلى دليل ثالث أصلا ، وإلاّ فلا شبهة في جواز قيامها مقام القطع المأخوذ في موضوع الحكم بعنوان كونه صفة خاصة بمقتضى دليل ثالث دالّ على تنزيل مواردها منزلة واشتراكها معه في الحكم ، كدليل تنزيل التراب منزلة الماء ، فلا فرق بالنظر إليه بين الأقسام الثلاثة للقطع من حيث قيامها مقامه.

ثمّ إنّ المقصود من كون القطع مأخوذا في موضوع الحكم على وجه الطريقية إلى متعلّقه ليس أخذه فيه على وجه الطريقية المطلقة ـ التي هي القدر المشترك بين القطع والظن ، بأن يكون الغرض من الدليل الدالّ على حرمة مقطوع الخمريّة مثلا هو حرمة ما يرجّح كونه خمرا في نظر المكلّف ، إذ على تقدير أخذه فيه كذلك لا حاجة في ترتيب ذلك الحكم على موارد الأمارات إلى أدلّة اعتبارها بوجه لقيامها مقامه حينئذ مع عدم دليل على اعتبارها أصلا ، بل ومع

__________________

(١) في ( أ ) : لا يتوقف ترتّبه عليها إلى دليل .. وفي نسخة « ب » : بدليل.

٢٥١

الدليل على عدم اعتبارها أيضا ، لأنه بعد فرض أخذ تلك الطبيعة المشتركة بين القطع والظنّ في موضوع الحرمة يكون تلك الأمارات الظنيّة مساوية للقطع في دخولها في ذلك الدليل ، لصدق تلك الطبيعة على الجميع على حدّ سواء ، نعم يمكن تقييد تلك الطبيعة ببعض أفرادها كالقطع أو هو مع بعض أفراد الظنّ من حيث الجزية لموضوع الحكم ، لكن لا بدّ أن يكون ذلك بدليل آخر غير ما دلّ على عدم (١) اعتبار الظنّ الخارج من حيث الطريقية ـ بل المقصود أخذه فيه من حيث كشفه مقابل جهة كونه صفة خاصّة ، بأن يكون موضوع الحكم في قوله لا تشرب الخمر المعلوم ـ مثلا ـ هو الخمر المنكشف ، ومن المعلوم أنّ حقيقة انكشاف أمر إنّما هي ظهوره على وجه لا غبار ولا غطاء عليه ، ومصداقها منحصر في العلم ، لأنّ الظنّ وإن كان له جهة إراءة وحكاية عن متعلّقه ، إلاّ أنّه لعدم منعه من احتمال النقيض لا يظهر معه ما يحكي عنه على الوجه المذكور.

لا يقال : إنّه إذا كانت حقيقة انكشاف المأخوذ في موضوع الحكم عبارة عمّا ذكر مع فرض انحصار مصداقها في القطع ، فيئول اعتبارها في الموضوع إلى اعتبار الصفة الخاصّة للعلم ، لعدم تحقّقها في غير مورد تلك الخصوصيّة.

لأنّا نقول : معنى اعتبار الانكشاف على الوجه المذكور ـ في موضوع الحكم في مقابل الصفة الخاصّة للقطع ـ أنّ النّظر في جعل الحكم وإيراده على الخمر المعلوم ـ مثلا ـ إنّما هو إلى تلك الحيثية ، أعني حيثية كشف العلم عن متعلّقة الّذي هو الخمر من غير ملاحظة حيثية كونه صفة قائمة بنفس المكلّف بحيث لو فرض محالا وجود فرد آخر للكشف لكان مساويا للعلم في تحقّق موضوع الحكم به بالنظر إلى غرض الشارع ، وقائما مقامه من غير حاجة إلى دليل آخر غير ما دلّ على حرمة معلوم الخمرية ، وانحصار مصادقة في العلم لا

__________________

(١) في ب : على اعتبار.

٢٥٢

يوجب كون الموضوع للحكم هي خصوصية العلم ، بل لا يعقل ، إذ المفروض إلغاء تلك الخصوصية في مقام جعل الحكم ، فهو يناقض اعتبارها في الموضوع.

ثمّ إنّ اعتبار الأمارات الغير العلمية يتصوّر على وجوه :

أحدها : أن يجعل الشّارع إياها بمنزلة الكاشف الحقيقي وتنزيلها منزلته في جميع ماله من الآثار المترتبة عليه من حيث طريقيته وحكايته عن آثار متعلقه ومن حيث جزئيّته لموضوع الحكم ، وتنزيلها منزلته من الحيثية الأولى آئل إلى إلغاء الشارع احتمال المخالف لمؤداها والحكم بالبناء على كونها صادقة في حكايتها عن مؤدياتها ، ومن الحيثية الثانية آئل إلى حكمه ـ في الموارد التي لو انكشف بالعلم لكان لها باعتبار انكشافها وتقييدها به حكم عن الأحكام ـ بمثل ذلك الحكم إذا قامت تلك الأمارات في تلك الموارد فيكون اعتبارها من هذه الحيثية حقيقة راجعا إلى إعطاء الشارع إياها حكم الجزئية لموضوع ذلك الحكم وتشريكها مع الكشف الحقيقي في حكم الجزئية.

وثانيها : أن يجعلها بمنزلته من الحيثية الأولى فقط.

وثالثها : أن يحكم في مواردها في مرحلة الظاهر بمؤدّياتها وبتعبد المكلف ابتداء بتلك المؤديات من دون تقييد بطريقيّتها ولا بجزئيتها لموضوع الحكم الّذي كان الكاشف مأخوذا في موضوعه أصلا.

وحاصل اعتبارها على هذا الوجه إنّما هو تنزيل مؤدياتها منزلة الواقع لا تنزيل أنفسها منزلة الكاشف أصلا ، فيكون حالها على هذا الوجه حال الاستصحاب من حيث كون مؤدياتها أحكاما ظاهرية غير مجعولة مرآة للأحكام الواقعية.

ثمّ إنّ الوجه الأخير غير محتمل من أدلة اعتبارها جدّاً ، فينحصر الاحتمال في تلك الأدلة في الأوليين ، والأظهر منهما هو أوّلهما.

فإذا عرفت ذلك فقد ظهر لك وجه قيام الأمارات مقام القطع الّذي هو

٢٥٣

طريق محض والّذي هو مأخوذ في موضوع حكم من حيث كشفه عن متعلقه.

وتوضيحه : أنه إذا كان المفروض أنّ الشارع جعل تلك الأمارات بمنزلة الكاشف في جميع ما له من الآثار ـ كما هو الظاهر من أدلة اعتبارها ـ فهي تقوم مقامه في جميع أحكامه وآثاره التي منها الطريقية إلى أحكام متعلقه إذا كان لمتعلقه بنفسه أحكام كما في القسم الأول من القسمين المذكورين منه ، ومنها جزئيّته باعتبار كشفه عن متعلقه لموضوع حكم غير مجعول لذات متعلقه كما في القسم الثاني من القسمين ، فلا يبقى بعد قيامها في مورد ـ على كونه هو الّذي من مصاديق ما كان حكمه بنفسه الوجوب أو الحرمة أو غيرهما من الأحكام التكليفية أو الوضعيّة ، أو أنّه من مصاديق ما كان محكوما بأحد تلك الأحكام على تقدير انكشافه للمكلف ـ حالة منتظرة على ترتب تلك الأحكام جميعا إلى دليل آخر ، إذ على الأوّل هي محرزة لصغرى بمقتضى حكم الشارع بتصديقها وإلغاء احتمال خلافها وهو كون المائع المشكوك في خمريته خمرا فيقال : إنّ هذا خمر ، فيضمّ إلى كبرى كلية ثابتة بقوله ( لا تشرب الخمر ) وهي أنّ كل خمر حرام ، فيستنتج من هاتين المقدمتين حرمة ذلك المائع من غير توقف على دليل آخر.

وعلى الثاني هي محققة لصغرى وهي قولك هذا المائع يحكم بمكشوف الخمرية فيضم إلى كبرى كلية وهي قولك كل ما كان كذلك فحكمه حكم مكشوف الخمرية وهي الحرمة ، فيستنتج من هاتين المقدمتين أنّ هذا المائع حكمه الحرمة.

وإن شئت قلت إنّه إذا كان المفروض أنّ الشارع علّق الحرمة في قوله ( لا تشرب الخمر المعلومة ) على مكشوف الخمرية وأنّه نزّل البينة مثلا منزلة الكاشف في جميع آثاره التي منها جزئيّته لحكم الحرمة في المثال المذكور في قوله ( صدّق البينة ) فيستفاد من هذين الخطابين أنّ موضوع الحرمة عنده هو القدر المشترك بين مكشوف الخمرية وبين ما قامت البيّنة على خمريته وهو ما قامت

٢٥٤

حجة على خمريته فيكون البينة بعد اعتبارها مصداقا حقيقيا لما اعتبر جزء لموضوع الحرمة ومساوية للكشف الحقيقي في صدقه عليها ، فيقال حينئذ إنّ هذا المائع مما قامت الحجة على خمريّته ، وكل ما كان كذلك فهو حرام ، فهذا حرام.

هذا بخلاف ما إذا كان القطع مأخوذا في حكم بعنوان كونه صفة خاصة ، فإنّ أدلة اعتبار الأمارات حينئذ غير وافية بترتّب ذلك الحكم على موردها ، فإنّ غاية ما يفيده بالفرض إنّما هو تنزيلها منزلة الكاشف ، فإذا كان المفروض أنّ الشارع قطع النّظر ـ في جعل القطع قيدا في موضوع حكم ـ عن جهة كشفه واعتبر خصوصيته ، فلا يقتضي أدلة اعتبار الأمارات بترتب ذلك الحكم على مواردها ، فإنّ ترتّبه عليها على تقديره لا بدّ أن يكون لتنزيل الشّارع تلك الأمارات منزلة نفس تلك الخصوصية المخصصة بالقطع المأخوذة في موضوع ذلك ، لأنّ نفس تلك الخصوصية ممتنعة الوجود في غيره ، والمفروض أنّ الأدلة المذكورة لا يدلّ عليه ، والّذي يدلّ عليه لا يجدي ، لفرض أنّ جهة الكشف ليس لها مدخلية في ذلك الحكم أصلا.

هذا خلاصة الكلام في الثمرة المتقدمة بالنظر إلى الأمارات.

وأما الأصول العملية فما يمكن أن يقال فيه بذلك إنّما هو الاستصحاب ، لا غيره من الأصول الثلاثة الأخر العامة ، ولا الأصول الخاصة ـ أيضا ـ كأصالة الطهارة وأصالة الحلّ وأصالة الصّحة بناء على كونها حكما تعبّديّا لا أمارة من جهة ظهور الحال وإلاّ دخلت في الأمارات كالاستصحاب بناء على اعتباره من باب الظّن.

أمّا وجه قيام الاستصحاب مقام القطع المأخوذ في الدليل بعنوان الطريقية المحضة فواضح ، فإنّ دليل اعتباره وهو قوله عليه السلام ( لا تنقض اليقين بالشّك ) يفيد تنزيل مورده ـ وهو المشكوك الّذي علم حالته السابقة على الشك ـ منزلة نفس المتيقن في الآثار ، والمفروض أنّ الحكم ـ في قوله ( لا تشرب

٢٥٥

الخمر المعلوم ) مثلا ـ إنّما هو لذات الخمر فهو يقتضي البناء على حرمة مشكوك الخمرية المعلوم كونه خمرا من قبل.

نعم قيامه يغاير قيام الأمارات مقامه ، فإن الأمارات مبيّنة لموضوع الحكم ، فيكون الحكم على مواردها بحكم الخمر مثلا من جهة كون تلك الموارد محكومة بالخمرية بحكم الشارع ، بخلاف الاستصحاب ، إذ ليس شأنه إثبات الموضوع أصلا ، فإنّ دليل اعتباره إنّما يقتضي تنزيل مورده منزلة ذات المعلوم سابقا ، ويفيد الحكم عليه بمثل حكمه ، لا الحكم بكونه هو المتيقن السابق حتى يثبت به موضوع الحكم.

وبالجملة إذا كان المفروض أنّ الحكم لذات الخمر في قوله ( لا تشرب الخمر المعلوم ) فلا إشكال في أنّه ـ بعد ملاحظة قوله ذلك وملاحظة قوله ( لا تنقض اليقين ) الدّال على ترتب حكم المعلوم على المشكوك ـ لم يبق حالة منتظرة في الحكم ـ على المائع المشكوك الخمرية المعلوم كونه خمرا سابقا ـ بالخمرية إلى دليل ثالث.

وأمّا قيامه مقامه على تقدير أخذه في موضوع حكم من جهة كشفه عن متعلقه فقد يشكل بأنّ مقتضى دليل اعتباره إنّما هو تنزيل مورده منزلة المتيقن في الأحكام الثابتة لذات المتيقن و (١) الحكم الّذي ـ يراد إثباته بذلك الدّليل ـ ليس لذاته في محلّ الفرض ، فلا يشمله ذلك الدليل فلا مساس فيه (٢) بالاستصحاب.

ويمكن التفصّي عنه بوجهين.

أحدهما : أنّ دليل اعتبار الاستصحاب على تقدير إفادته لتنزيل مورده

__________________

(١) في النسختين : وفي ، والصحيح ما أثبتناه في المتن.

(٢) الظاهر أن يكون : لا مساس به.

٢٥٦

منزلة المتيقن في الأحكام الثابتة لذاته لا يختص بالأحكام التكليفية الثابتة له ، بل يعم الوضعيّة أيضا.

ومن المعلوم أنّ ذات المعلوم في محلّ الفرض وإن لم يكن له الحكم التكليفي المفروض ، بل إنّما هو له مقيدا بكونه منكشفا لكن جزئيته لموضوع ذلك الحكم من الأحكام الوضعيّة المجعولة فذلك الدليل الدال على تنزيل (١) المشكوك منزلته فيما له من الحكم يفيد جزئيّته لموضوع ذلك الحكم على نحو جزئيّة ذات ذلك المتيقن له بحيث إذا لحقه الجزء الآخر الّذي يلحق ذات ذلك المتيقن وهو الانكشاف يترتب عليه ذلك الحكم ، فقوله عليه السلام ( لا تنقض اليقين بالشك ) يفيد تنزيل مشكوك الخمرية المعلوم كونه خمرا في السابق مقام ذات الخمر في كونه جزء لموضوع الحرمة بحيث إذا علم وانكشف للمكلّف مثل انكشاف ذات الخمر يترتب عليه حكم الحرمة.

ومن المعلوم أنّ مشكوك الخمرية بعنوان كونه كذلك أمر وجداني لا يعقل للمكلف الشك فيه ، بل هو معلوم له ، إذ لو فرض كونه غافلا لما كان شاكا أيضا ، لتوقف الشك على الالتفات ـ كما مرّ في أوّل المسألة ـ ومع التفاته وشكه عالم بكونه شاكا في خمرية المائع ، والمفروض كونه مشكوك الخمرية ، فمشكوك الخمرية المنزّل مقام ذات الخمر في جزئيته لموضوع الحرمة ملازم للجزء الآخر له ، وهو العلم ، بخلاف ذات الخمر ، لإمكان الشك فيه حينئذ بعد ملاحظة قوله ( لا تشرب الخمر المعلوم ) وقوله عليه السلام ( لا تنقض اليقين بالشك ) المفيدة لما ذكر وأنّ مشكوك الخمرية بعنوان كونه كذلك معلوم للمكلف [ و ](٢) لم يبق له حالة منتظرة في الحكم عليه بالحرمة إلى ملاحظة دليل ثالث.

__________________

(١) في النسخة ( أ ) : ( التنزيل ) ، والصحيح ما أثبتناه في المتن من ( ب ).

(٢) إضافة يقتضيها السياق.

٢٥٧

وثانيهما : قوله ( لا تنقض اليقين بالشك ) يفيد جعل المكلّف متيقّنا بأن يعامل مع نفسه حال الشك ما كان يعامل معها حال اليقين وجعل مشكوكه منزلة المتيقن من غير اختصاص له بإفادة تنزيله منزلته في الآثار الثابتة لذاته ، بل يعمّ ما كان له باعتبار اليقين أيضا.

لا يقال : إنّه إذا كان عامّا للآثار الثابتة له باعتبار اليقين ، فيلزم انتفاء الثمرة المذكورة بالنسبة إلى الاستصحاب ، فإنّ لازمه قيامه مقام القطع المأخوذ في موضوع حكم من جهة خصوصيّته أيضا.

لأنّا نقول : الظّاهر من قوله عليه السلام ( لا تنقض اليقين بالشك ) ليس هو العموم إلى ذلك المقدار ، بل الّذي يظهر منه هو العموم بالنسبة إلى الآثار الثابتة للمتيقن من حيث كون اليقين طريقا إليه وكاشفا عنه ، وأمّا بالنّسبة إلى أزيد منه فلا أقل من إجماله فيه إن لم يكن ظاهرا في نفيه.

ثمّ إنّ المصنّف لمّا بنى في مسألة الاستصحاب على اعتباره بالنسبة إلى الآثار الثابتة لنفس المتيقن ، فالذي ينفعه في دفع الإشكال المذكور هو الوجه الأوّل لكنه ( دام ظله ) اختار عموم دليل اعتباره لما يكون له باعتبار اليقين وليس ببعيد ، بل الظاهر ذلك بعد تعذّر حمل قوله عليه السلام ( لا تنقض اليقين بالشك ) على حقيقته ، لأنّه حينئذ أقرب إليها من إرادة عدم نقض آثار ذات المتيقن فقط ، فلا تغفل.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( ومما ذكرنا يظهر أنّه لو نذر أحد أن يتصدق كل يوم بدرهم ما دام متيقنا بحياة ولده فإنه لا يجب التصدّق عند الشك في الحياة لأجل استصحاب الحياة بخلاف ما لو علق النذر بنفس الحياة ، فإنه يكفي في الوجوب الاستصحاب ) (١).

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٦.

٢٥٨

أقول : مراده (قدّس سرّه) أخذ اليقين في المثال المذكور باعتبار كونه صفة خاصّة وإلاّ فقد عرفت حكم قيام الاستصحاب مقامه على تقدير أخذه في موضوع الحكم من حيث الكشف والطّريقية المطلقة ، لكن لا يخفى أنّ (١) الحكم بوجوب التصدق لأجل استصحاب الحياة على تقدير تعليق النذر على نفس الحياة لا يستقيم ، بل مقتضى القاعدة عدم وجوبه حينئذ أيضا (٢).

وينبغي التنبيه على أمور :

الأول : إنّ ما ذكرنا من أنّ القطع قد يكون مأخوذا في موضوع حكم ـ بمعنى كونه جزء منه ـ لازمه انتفاء الحكم المعلّق على المقيّد به واقعا بانتفائه أو انتفاء ذات المقيّد ـ الّذي هو متعلّقه ـ ، فإذا فرض أنّ الحرمة علقت على الخمر المعلومة واقعا ، فتنتفي بانتفاء العلم بها ، وكذا بانتفاء الخمرية ـ أيضا ـ وإن كان العلم حاصلا بأن قطع بخمريّة مائع مع عدم كونه خمرا في الواقع ، ضرورة انتفاء الحكم المعلق على مقيد بانتفاء كل من جزئي ذلك المقيد ، فالخمر المجهولة رأسا أو المائع المقطوع بكونه خمرا مع عدم كونه خمرا في الواقع لا حرمة لشيء منهما واقعا على الفرض المذكور من غير فرق في ذلك بين ما إذا أخذ العلم جزء لموضوع الحكم من حيث كونه صفة خاصة وبين ما إذا أخذ من حيث كشفه عن متعلقه.

نعم فرق بينهما من جهة أخرى وهي أنّ الحرمة الواقعية على الثاني يتوقف انتفاؤها فيما إذا كان المائع المفروض خمرا في الواقع على عدم قيام أمارة أو أصل على خمريّته أيضا ، لما مرّ من أنّ القيد المأخوذ في الموضوع أعمّ من القطع

__________________

(١) في ( ب ) : ان تخصيص الحكم. وفي ( أ ) كما في المتن.

(٢) مراده من قوله قدس سره : لكن لا يخفى ... إلى آخره غير واضح الا على القول هكذا : وان احتمل ان لا يكون مقصودا له وهو انه ان كان الموضوع لوجوب التصرف هو اليقين بحياة الولد على وجه الصفتيه فبانتفائه ينتفي الحكم بخلاف ما لم يكن كذلك وان كانت مأخوذة بنحو الموضوعية على وجه الطريقية.

٢٥٩

وهو ممّا لا ينتفي إلاّ بانتفاء جميع مصاديقه ، فلو لم يحصل العلم في الفرد المذكور بكون المائع المذكور خمرا مع فرض قيام أمارة أو أصل على الخمرية فهو حرام واقعا.

هذا بخلاف ما إذا أخذ القطع جزء لموضوع الحرمة بعنوان كونه صفة خاصة ، إذ عليه لا يقوم غيره مقامه من الأمارات أو الأصول بمقتضى أدلّة اعتبارها فيلزم من انتفائه حينئذ عدم الحرمة واقعا ولو مع قيام أمارة أو أصل على خمريّة ذلك المائع المشكوك الّذي هو خمر في الواقع.

اللهم إلاّ أنّ يدلّ دليل آخر على قيام الأمارات في المورد مقامه ، والكلام مع قطع النّظر عنه.

وكيف كان ، فإذا لم يكن المائع ـ المقطوع بكونه خمرا ، أو الّذي قامت أمارة أو أصل على خمريّته ـ خمرا في الواقع مع عدم قيام حجة على خمريته (١) من العلم أو غيره من الأمارات والأصول على كلا الوجهين. فعلى هذا إذا قطع بخمرية مائع أو قامت أمارة أو أصل على كونه خمرا ـ بناء على قيام دليل على قيامها مقامه ـ مع عدم كونه خمرا في الواقع ، فيكون الحرمة له حينئذ مجرد حكم ظاهري.

ثمّ [ إنّ ] ها هنا إشكالين :

أحدهما : أنّ أخذ العلم جزء لموضوع الحكم على الوجه المذكور غير معقول ، فإنه آئل إلى تعليق الحكم على موضوع لا طريق للمكلف إليه ، فإنّ غاية ما يكون أنّه يقطع بكون المائع خمرا أو يقوم أمارة أو أصل على خمريّته ، وأمّا كون ذلك المائع في الواقع خمرا ، بأن يكون القطع أو الأمارة والأصل مصادفة للواقع

__________________

(١) أي مع عدم قيام حجة بالخصوص بعنوان دليل آخر كما أشار إليه عند قوله بسطرين قبل هذه العبارة حيث قال : اللهم إلا أن يدل دليل آخر وكما تقدم الإشارة إليه سابقا أيضا.

٢٦٠