تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٣

المولى علي الروزدري

تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٣

المؤلف:

المولى علي الروزدري


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-54-X
ISBN الدورة:

الصفحات: ٣٨٢

فلا طريق له إليه.

وثانيهما : أنّه بعد الغضّ عن الإشكال الأول يشكل الأمر في أدلة اعتبار الأمارات والأصل الّذي يقوم مقام القطع على تقدير أخذه في موضوع الحكم من حيث الكشف ، فإنّ المراد من تلك الأدلة إمّا جعل حكم ظاهري للمكلف الشّاك في مرحلة الظاهر ، وإمّا جعل حكم واقعي ثانويّ ، وإمّا الأعمّ من الأمرين.

لا سبيل إلى الثاني للقطع بشمولها للموارد التي يكون الأحكام المشكوكة في تلك الموارد على تقديرها أحكاما لذات تلك الموارد وأنّ البناء على طبق الأمارات فيها إنّما هو حكم ظاهري لا يترتّب عليه أثر الواقع بعد انكشاف تلك الأمارات.

ولا إلى الثالث أيضا ، لاستلزامه لاستعمال الخطاب في معنيين ، لعدم الجامع بين الحكمين حتّى يكون هو المراد منه ، إذ النّظر في الحكم الظاهري إنّما هو إلى الشك في الواقعي وفي الواقعي إلى ذات الشيء من غير ملاحظة العلم والجهل أصلا ، وبين جهتيهما تناقض ظاهر ، ولا جامع بينهما حتّى يكون هو المراد فيتعيّن الأوّل ، وعليه تختصّ تلك الأدلّة بما إذا كان الحكم المشكوك فيه على تقديره لذات المشكوك ، فلا تشمل صورة يكون الحكم له مقيدا بقيام طريق عليه ، فلا تقوم الأمارات مقام القطع المأخوذ قيدا لموضوع الحكم بمقتضى أدلة اعتبارها ، بل لا بدّ من أدلّة أخرى تفيد تنزيلها منزلته.

هذا ، لكن يندفع الإشكال الأول فيما إذا كان المكلّف قاطعا بأنّ قطعه بخمرية شيء ملازم لقطعه بمصادفة ذلك القطع للواقع ، بل هو عليه ، إذ القاطع لا يكون إلاّ قاطعا وجازما بانتفاء احتمال الخلاف ، فقطعه المذكور طريق إلى موضوع الحكم المأخوذ فيه القطع أيضا ، وفيما إذا لم يكن قاطعا مع قيام أمارة أو أصل على خمرية مائع مشكوك الخمرية فإن الاحتياج إلى الطريق إلى موضوع الحكم إنّما هو لأجل ترتّب ذلك الحكم على مورد يراد ترتّبه عليه ومن المعلوم

٢٦١

حصول ذلك الغرض بتعبّد الشارع المكلّف بترتّبه على ما يشكّ كونه هو الموضوع الواقعي له ، فعلي تقدير ذلك التعبّد لا حاجة إلى طريق إليه أصلا ، ومحلّ الفرض من هذا القبيل ، فإنّ قضيّة أدلّة اعتبار الأمارات والأصول (١) إنّما هو التعبّد بمقتضاها وجعل مؤدّياتها هو الواقع في ترتيب الآثار المجعولة له ، فيترتّب على مواردها جميع أحكام (٢) ذوات تلك المقامات والآثار المجعولة لها واقعا والتي جعلت لها بشرط قيام طريق عليها في مرحلة الظاهر فإن صادفت هي للواقع فيكون الأحكام المترتبة عليها في الظاهر واقعية أيضا وإلا فهي ظاهرية محضة.

هذا مضافا إلى أنّ الأمارات بعد اعتبار الشارع إياها وجعل الاحتمال المخالف لها بحكم العدم يكون كالقطع في مرحلة الظاهر فهي حينئذ طريق إلى إحراز الموضوع للحكم المذكور.

وأمّا الإشكال الثاني : فيدفعه أنّه على تقدير تسليم التّناقض بين جهتي الحكم الظاهري والواقعي لا يلزم منه استعمال الخطاب في معنيين ، إذ المقصود بالإفادة منه لي الا تعليق الحكم المذكور فيه على ما ذكر فيه من الموضوع من غير قصد فيه إلى إفادة جهة به وإنّما هي على تقديرها ببيان آخر لا به ، إذ المفروض أنّها جهة الحكم والقضية فلا يجب إفادتها بما يفيد به الحكم حتى يلزم منها استعمال الخطاب في معنيين مع تعدّد جهة الحكم المذكور فيه لفرض عدم جامع بينهما.

وأمّا نفس الحكم الظاهري والواقعي فلا تناقض (٣) بينهما ولا بين موضوعيهما حتى يلزم منه استعمال الخطاب المقصود به إفادة كليهما في معنيين ، فإنّ كلا من الأحكام الخمسة التكليفية والوضعيّة قدر مشترك بين الظاهري

__________________

(١) ( الأصول ) ساقط من ( أ ).

(٢) ( أحكام ) ساقط من ( أ ).

(٣) في ( ب ) : فلا جامع. بدل : فلا تناقض.

٢٦٢

والواقعي ويكون تعدده بمجرد الاعتبار والحيثية.

وكذا موضوعات الأحكام الظاهرية وهي المشكوك والمظنون والمقطوع به أمور مشتركة بين (١) كونها موضوعات الأحكام الواقعية وتعدّدها بتعدد (٢) أحكامها إنّما هو بمجرد الاعتبار الملحوظ في أحكامها ، فقوله ( لا تنقض اليقين بالشك ) أريد منه تنزيل وجوب المشكوك فيه منزلة المتيقّن والمعاملة معه معاملته ، والوجوب حكم صالح لأن يكون واقعيّا ولأن يكون ظاهريا ، وكذلك المشكوك صالح لأن يكون موضوعا له على كل من التقديرين فالمذكور فيه الحكم والموضوع مشتركان بين الجهتين وإن كانت الجهتان متناقضتين ، فالذي استعمل فيه الخطاب ـ وهو وجوب تنزيل المشكوك منزلة المتيقن ـ يمكن أخذه على وجه عام يصلح لكلّ من الجهتين مع كون الداعي له في كل مورد شخص (٣) إحداهما فنفس الحكم الظاهري وموضوعه لا يناقضان نفس الحكم الواقعي وموضوعه ، بل الجامع بين أنفسهما وموضوعيهما متحقق ـ كما عرفت ـ والمستعمل فيه الخطاب ليس إلا الحكم وموضوعه ، فإذا كان الفرض إنشاء كلا الحكمين معا فيمكن إنشاء القدر المشترك بينهما بخطاب واحد والمفروض عدم التناقض بين موضوعيهما ، فيمكن إرادة القدر المشترك بينهما ـ وهو مطلق المشكوك ـ فلا يلزم من إرادة كلا الحكمين معا استعمال الخطاب في معنيين.

وهذا نظير إنشاء القدر المشترك بين الوجوب والندب الصالح لأن يكون وجوبا ولأن يكون ندبا ، فيقع في كل مورد أحدهما بحسب ما يقتضيه ذلك المورد نعم على تقدير تسليم التناقض بين جهتي الحكم الظاهري والواقعي يتجه

__________________

(١) كذا ، والصحيح عوض ( بين ) ، في.

(٢) في نسخة ( أ ) : ( لتعددها ) ، وفي نسخة ( ب ) وتعدّدها والصحيح المثبت.

(٣) في النسخة ( أ ) : ( شخصي ) ، والأولى ما في المتن.

٢٦٣

إشكال آخر غير ما تقدم وهو أنّ غاية ما يترتب على ما مرّ من عدم لزوم استعمال الخطاب في معنيين إذا كان المقصود منه كلاهما لكن يلزم اجتماع النقيضين في قصد الآمر ، إذ المنشأ بخطاب واحد شخصي ليس إلا إنشاء واحد كذلك.

ومن المعلوم أنّ الواحد الشخصي لا يعقل أن يستند وجوده إلى جهتين متناقضتين مفروض تحققهما في نفس الفاعل وفي قصده لاستلزامه اجتماع النقيضين في قصده.

ويمكن دفعه بأنه لا امتناع في استناد وجود شخصي إلى متناقضين معا كعدم امتناع استناده إلى ضدين كذلك ، وإنما ينشأ الامتناع على تقديره من اجتماع نفس العلتين اللتين (١) هما ضدان أو نقيضان كما في مورد الفرض في مورد واحد فمنشؤه في مورد الفرض إنما هو تحقّق النقيضين معا في آن واحد في قصد الآمر كما ذكر في بيان الإشكال أيضا.

ومن المعلوم أنّ اجتماع النقيضين كاجتماع الضدين إنما يمتنع مع تحقق الوحدات الثمانية المعتبرة فيه التي منها الإضافة ، والاتّحاد من جهتها منتفية في المقام كما لا يخفى ، فإنّ ذلك الإنشاء المفروض وإن كان واحدا شخصيا لكنه بالإضافة إلى كل مورد يغاير نفسه بإضافته إلى مورد آخر ، فإذا لوحظ بالنسبة إلى مورد مشكوك الواقعة حكم من الأحكام غير مقيد بالعلم والجهل مثلا يكون ظاهريا ، وإذا لوحظ بالنسبة إلى مورد لا يكون له حكم آخر واقعا فيكون واقعيا ، فاستناده إلى تلك الجهتين المتناقضتين لا يكون بالإضافة إلى مورد واحد ، بل إنما هو بتعدد الإضافة ، فاذن لم تتحقق الجهتان المذكورتان في نفس الآمر بالإضافة إلى مورد واحد حتّى يلزم اجتماع النقيضين الممتنع هذا.

والّذي يقتضيه دقيق النّظر انه لا تناقض بين جهتي الحكم الظاهري

__________________

(١) في النسختين ( الذين ).

٢٦٤

والواقعي بوجه وتوضيحه :

أنّ الملحوظ في الأحكام الظاهرية إنّما هو اعتقاد المكلف نفيا ـ كما في الأصول العملية ـ أو إثباتا ـ كما في مورد الأدلة والأمارات ـ بمعنى أنها مجعولة للوقائع باعتبار اعتقاد المكلف أو عدم اعتقاده فجهتها إنّما هي اعتقاد المكلف بالموضوع أو الحكم أو عدم اعتقاده بهما أصلا ، وأمّا الأحكام الواقعية فلا ينحصر جهتها في ذات الشيء مع قطع النّظر عن تعلق العلم أو الجهل به ، قد تكون هي وقد تكون هي ما تعلق العلم أو الجهل به كالظن بالقبلة في يوم الغيم والعلم بالأعيان النجسة عند من يجعل النجاسة معلّقة على العلم بها وكالشك في النجاسة مع عدم العلم بالنجاسة السابقة في جواز الدخول في الصلاة مثلا وإن كانت النجاسة متحققة واقعا في الثوب والبدن ، فإذن لا منافاة بين الجهتين لإمكان اجتماعهما وتصادقهما على مورد واحد ، فلا حاجة حينئذ إلى الجواب عن الإشكال المذكور بها مرّ ، لعدم وروده حينئذ أصلا كما لا يخفى.

الثاني : قد يؤخذ العلم جزء لموضوع حكم من حيث الكشف والطريقية المطلقة على وجه آخر مغاير لاعتباره جزء كذلك على الوجه المتقدّم ، وهو أن يكون أخذه كذلك بعنوان كونه معرّفا لخصوصية في مورده مقصودة لا تعلم أصلا فيكون المأخوذ في موضوع الحكم حينئذ حقيقة هي الخصوصية المعرفة به (١) على نحو الإجمال لا هو.

وهذا أسلم من اعتباره جزء للموضوع على الوجه السابق من المناقشة المذكورة في قيام الاستصحاب مقامه ، بل لا يتوجه تلك المناقشة عليه حينئذ أصلا إلاّ أنّ الحكم المأخوذ فيه العلم حينئذ ليس لمتعلقه باعتبار العلم أصلا (٢) حتى يقال

__________________

(١) في نسخة ( ب ) : الخصوصيّة المعرفيّة على نحو ..

(٢) أبدال ( أصلا ) إلى : أثرا ، أفضل بقرينة قوله : حتى يقال ...

٢٦٥

إنّ دليل اعتبار الاستصحاب تقتضي ترتيب آثار المتيقن الثابتة له لا باعتبار اليقين مع المشكوك فلا يشمل الآثار الثابتة له باعتباره.

ثمّ إنّ الفرق بين اعتبار العلم على هذا الوجه وبين اعتباره على الوجه المتقدم أنّه على تقدير اعتباره على الوجه المتقدم يتوقف ثبوت الحكم الّذي أخذ العلم في موضوعه على حصول العلم بمعنى أنّه لا يتوجّه ذلك الحكم في الواقع إلى المكلف قبل حصوله أصلا.

هذا بخلاف اعتباره على هذا الوجه فإنه عند حصوله يكشف عن ثبوت الحكم لموارده قبله ، فإنّ المفروض أنّه معرف حينئذ لخصوصية هي مأخوذة في موضوع الحكم والمعرّف ليس حجة لتحقق المعرّف بالفتح من حينه بل هو حاصل قبله وإنما هو علة لتحقق المعرفية به.

ومن هنا يظهر بينهما فرق آخر بالنسبة إلى زمن زوال العلم ، فإنه على تقدير اعتباره على هذا الوجه يكون مورده محكوما بما حكم عليه حال العلم واقعا لما ذكر بخلاف ما اعتبر على الوجه المتقدم ، فإنه بعد زوال حينئذ يقطع بعدم ذلك الحكم لمورده إن لم يقم مورد العلم أمارة أو أصل.

وأما الفرق بين اعتباره على هذا الوجه وبين كونه طريقا محضا فإنما هو ثبوت الحكم لمورده واقعا على الثاني وإن لم يعلم ولم يقم أمارة أو أصل عليه أصلا.

هذا بخلاف اعتباره في الموضوع على هذا الوجه فإنه على تقديره إذا لم يعلم مورده أصلا لم يكن محكوما بذلك الحكم واقعا أزلا وأبدا.

ثم ان العلم قد يؤخذ نفسه موضوعا لحكم كان يكون الحرمة مثلا لما علم أنّه خمر وإن لم يكن خمرا في الواقع ولازمه كون ذلك الحكم واقعيا في جميع موارده واعتباره على هذا الوجه أيضا قد يكون من حيث الكشف فيقوم غيره من الأمارات والأصول مقامه وقد يكون من باب صفته الخاصة به فلا يقوم غيره مقامه إلاّ بدليل ثالث غير أدلّة اعتباره.

٢٦٦

الثالث : إذا أخذ العلم في دليل في موضوع حكم من حيث الكشف والطريقية المطلقة أو أخذ نفسه موضوعا له كذلك فلا يلزم في شيء من المقامين استعمال لفظ العلم في أعم منه وما يقوم مقامه ، إذ الغرض حينئذ وإن كان أعم لكن يمكن إفادة عمومه بدليل آخر ، ومع فرض كون الغرض هو الأعم لا بدّ ان يكون ذكر الأخص وهو العلم لنكتة ويكفي فيها كونها هو التنبيه على كون العلم فردا له بنفسه من غير حاجة إلى جعل أصلا وأنّه لا بدّ أن يقتصر في الحكم المفروض على مورد العلم ما لم يقم دليل على إقامة الظن (١) مقامه بمعنى عدم جواز التعويل على الظن الّذي لم يقم على اعتباره دليل كما هو الظاهر في وجه إناطة جواز صلاة الزوال باليقين في قوله عليه السلام « إذا استيقنت الزوال فصل » فإنّ الظاهر أنّ النكتة فيها إنما هو التنبيه على عدم الاعتبار (٢) بالظن الغير المعتبر.

وقد يكون النكتة هو التنبيه على زمان تنجز التكليف ولأن العلم سبب لتنجزه وفعليته على المكلف كما هو الظاهر من قوله عليه السلام « كلّ شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام » وقوله عليه السلام « كل شيء طاهر حتى تعلم أنّه قذر ».

الرابع : إذا ورد دليل علق فيه الحكم المذكور على العلم فالظّاهر أنّ اعتبار العلم فيه ليس من باب أخذه في موضوع ذلك الحكم بوجه ، بل إنّما هو من باب الطّريقية المحضة إلى إثبات ذلك الحكم لمتعلقه.

والنكتة في اعتباره في الدليل مع أنّه بنفسه طريق إلى حكم متعلقه إنّما هي التنبيه على كيفية إطاعة ذلك الحكم ، والمنشأ لذلك الظهور إنّما هو غلبة إرادة هذا المعنى من أمثال هذه التراكيب في العرف كقوله ( إذا علمت بقدوم زيد

__________________

(١) في النسختين ( هذه ) بدل الظن ، والأنسب ما أثبتناه.

(٢) في النسختين ( الإمكان ) بدل الاعتبار ، والصحيح ما أثبتناه في المتن.

٢٦٧

فاستقبله ) وأمثاله ونظيره في الشرع قوله عليه السلام « كل شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر فإذا علمت فقد قذر ».

والحاصل أنّ تلك التّراكيب وإن كانت بنفسها ظاهرة في اعتباره في موضوع الحكم المذكور فيها ، بل ظاهرة في اعتباره في الموضوع بما هو صفة خاصة أيضا ، لكون العلم ظاهرا فيه ، لكنها بغلبة استعمالها فيما ذكر صارت ظاهرة فيه عرفا فيكون دلالتها على ما ذكر من الظواهر العرفية.

ومن هنا ظهر ضعف تمسّك بعضهم بالحديث المذكور على أنّ النجاسة إنّما ثبت للأعيان النجسة بشرط العلم بتلك الأعيان ـ بمعنى أنّها ليست نجسة مع الجهل بها واقعا ـ بتقريب أنّ قوله عليه السلام « فقد قذر » فعل ماض وهو دال على الحدوث فيدل الحديث على أنّه إذا حصل العلم بها يحدث النجاسة من حينه.

ويدفعه أنّ الشرط في ظاهر الرواية إنّما هو العلم بالقذارة وهي النجاسة لا العلم بكون الشيء المشكوك من تلك الأعيان. ومن المعلوم تقدم المعلوم على العلم طبعا ، فلا بد أن يكون النجاسة ثابتة لها واقعا قبل العلم بها ، فيكون ذلك قرينة على حمل الطهارة فيها على الظاهرية فيكون الرواية حينئذ حجة على خلاف مطلب المستدل.

ثمّ إنّه على تقدير عدم ظهور الدليل المعلق فيه الحكم على الشيء المعلوم في اعتباره العلم بعنوان الطريقية المحضة لا بد في تشخيص اعتباره كذلك أو على وجه الموضوعية بأحد الوجوه فيها من الرجوع إلى دليل آخر ، فإن ظهر منه اعتباره كذلك كأن علق فيه تلك الحكم على نفس المتعلّق من دون أخذ العلم فيه بوجه أو اعتباره على وجه الموضوعية فيتبع حكم ما ظهر منه.

٢٦٨

وإن لم يظهر ذلك من دليل آخر إمّا لأجل انتفائه رأسا أو لإجماله [ يرجع ](١) إلى الدليل الأول ، فإن انحصر الاحتمال فيه في اعتباره فيه كذلك وفي اعتباره على وجه الموضوعية بعنوان الطريقية المطلقة فيقوم غيره من الأمارات والاستصحاب مقامه ، لما عرفت سابقا من التوافق بين اعتباره على هذين الوجهين في ذلك وإن احتمل اعتباره على وجه الموضوعية بعنوان كونه صفة خاصة فلا يقوم غيره مقامه أصلا ، بمعنى أنّه لا حكم على متعلقه بذلك الحكم في غير صورة العلم به سواء قامت عليه أمارة أو أصل أو لم يقم عليه أحدهما أصلا لتوقفه على اعتباره بأحد الوجهين المذكورين وهو غير ثابت لفرض قيام الاحتمال الثالث المنافي له.

الخامس : إذا علم المكلف باندراج موضوع خاص في أحد العناوين الكلية يتحقق عنده صغريان كما إذا قطع بخمرية مائع فإنه يتحقق عنده حينئذ صغريان إحداهما قوله ( هذا خمر ) والآخر قوله ( هذا معلوم الخمرية ) فحينئذ يلاحظ ذلك العنوان الكلي من حيث ثبوت الحكم له في الأدلة الشرعية ، فحينئذ يتحقق له إحدى كبريات ثلاث على سبيل امتناع الجمع والخلو ففي ملاحظة نوع الخمر في الأدلة الشرعية وكيفية ثبوت حرمتها بالنظر إليها لا يخلو الحال من أنّه إمّا أن يكون الحرمة ثابتة لها بالنظر إلى الدليل المثبت لها لذاتها من غير تقييدها بالعلم أصلا وإمّا أن يكون ثابتة لها باعتبار حصول العلم بها مطلقا.

فعلى الأول يتحقق له كبرى وهي قوله ( كل خمر حرام ).

وعلى الثاني يتحقق له كبرى أقوى وهي قوله بعض الخمر المعلومة حرام.

وعلى الثالث يتحقق له كبرى وهي كل معلوم الخمرية حرام.

لا إشكال في الحكم على ذلك الموضوع الخاصّ الخارجي المفروض

__________________

(١) إضافة يقتضيها السياق.

٢٦٩

حصول العلم به بحكم ذلك العنوان على الأول والثالث كليهما لاندراجه على كل منهما في الموضوع في الكبرى المحكوم عليه بذلك الحكم.

وأمّا على الثاني ففي الحكم عليه به مطلقا إشكال ، بل الظاهر منعه لأنه إنّما يحكم على الأصغر بحكم الوسط الثابت له في الكبرى لأجل اندراجه فيه ومن المعلوم أنّه على تقدير جزئية تلك الكبرى فلا يلزم اندراجه فيه ، بل لا يعقل إلاّ فيما إذا كان العلم بذلك الجزئي الخارجي حاصلا من الوجه الّذي اعتبر في تلك الكبرى ، فلا بد من الحكم عليه بذلك الحكم حينئذ على تلك الصورة فلا تغفل.

ثمّ إنّ هاهنا مطالب اخر لطيفة لا يسعني مجال لتعرضها فينبغي التعرض لها في رسالة القطع بعنوان الزّيادات إن شاء الله.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( ثم إنّ هذا الّذي ذكرنا في القطع مأخوذا تارة على وجه الطريقية وأخرى على وجه الموضوعية جار في الظّن أيضا ) (١).

لا يخفى أنّ الظن باعتبار كشفه عن متعلّقه ـ على الوجه المحتمل للنقيض كالعلم باعتبار كشفه عن متعلّقه على الوجه المانع منه ـ غير قابل للجعل بوجه ، فإنّه من صفاته الذاتيّة اللازمة له غير قابل للإيجاد كونه تحصيلا للحاصل ، ولا للنفي لفرض لزومه له ، إلاّ أنّه لا يترتّب على هذا الوجه من الكشف بمجرّده أحكام متعلّقه وآثاره مع قطع النّظر عن تعبّد الشارع بإلغاء الاحتمال المخالف له : فمجرّد ورود دليل على حرمة الخمر مثلا لا يصحّ الحكم على مظنون الخمرية بالحرمة ، لفرض كون الظن محتملا للخلاف ، ومعه لا يحرز صغرى القياس حتى يستنتج من ضمّها إلى تلك الكبرى حرمة المظنون الخمرية ، بل يتوقف تلك على ورود دليل آخر على اعتبار ذلك الظنّ وتنزيله

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٦

٢٧٠

منزلة العلم.

ثم إنّه قد يكون مأخوذا في موضوع الحكم في الدليل على وجه الطريقية المطلقة ، وقد يكون مأخوذا فيه بعنوان كونه صفة خاصّة ، وقد يؤخذ نفسه موضوعا له كما في الظن بالقبلة يوم الغيم ، فإن جواز الصلاة إنما هو مع نفس الظن بها واقعا وإن لم يكن الجهة المظنونة هي القبلة.

وأما مثال ما أخذ منه في الدليل على وجه الطريقية المحضة ، لا الموضوعية بوجه هو الظن الواقع حال الانسداد في الدليل العقلي المعروف بدليل الانسداد ، ولأجل ذلك يقع الإشكال في خروج بعض الظنون عنه كالظنّ القياسي وغيره من الظنون ، الغير المعتبرة.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( لكن الكلام في أنّ قطعه هذا هل هو حجة عليه من الشارع وإن كان مخالفا للواقع في علم الله تعالى فيعاقب على مخالفته ) (١).

يعني أن يكون العمل بالقطع كأحد الواجبات الشرعية موردا للتكليف به من الشارع فيكون مخالفته عصيانا له موجبا لاستحقاق العقاب [ عليه ].

فمراده بالحجة ليس ما يراد بها في مباحث حجية الأدلة الظنية والأمارات ، إذ المراد بها في تلك المباحث إنّما هو اعتبار الشارع لتلك الأدلة والأمارات طرقا للواقع في مقام امتثال تكاليف الواقعية وقاطعة للعذر فيما بينه وبين العباد بحيث يكون منجزة للتكاليف الموجودة واقعا في مواردها على المكلف ومراده بها في المقام كما عرفت إنّما هي الموضوعية للتكليف الشرعي.

لكن لا يخفى ما في التعبير عنها بها من الركاكة لعدم المناسبة ولو صحّ إطلاق الحجة بهذا الاعتبار يصح إطلاقها على سائر الموضوعات للأحكام

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٨.

٢٧١

الشرعية من الواجبات والمحرمات كالصلاة وشرب الخمر ونحوهما بأن يقال الصلاة حجة أو شرب الخمر حجة واللازم باطل بالبديهة فالملزوم مثله ، والملازمة واضحة ، فكان عليه ـ قدّس سرّه ـ أن لا يعبر عنه بالاعتبار المذكور بها ، ويحرر النزاع هكذا : فهل العمل بالقطع واجب شرعا فيكون مخالفته معصية موجبة لاستحقاق العقاب أولا وإن كان في تصوّر وجوبه الشرعي أيضا إشكال تقدمت الإشارة إليه في حجية القطع من حيث الطريقية وسيأتي له مزيد توضيح إن شاء الله تعالى.

ثم إنّه ينبغي قبل الخوض في المقام تمهيد مقال.

فاعلم أنّ البحث عن مخالفة القطع يتصور على وجوه واعتبارات فيختلف نسبته بالنظر إلى بعضها مع نسبته إلى بعض آخر من تلك الوجوه :

فإنّه إن وقع باعتبار حرمة مخالفة القطع وجوب العمل به شرعا فيدخل بهذا الاعتبار في المسائل الفقهية لصدق حدّها عليه حينئذ ، لكونها عبارة عما يبحث فيه عن أحوال فعل المكلف شرعا بمعنى أحكامه الشرعية المجعولة له من الخمسة التكليفية أو الوضعيّة.

وإن وقع باعتبار قبح مخالفته كقبح الظلم ونحوه فيدخل في المسائل الكلامية لأنه من شأن المتكلّم.

وإن وقع باعتبار إدراك العقل لقبح مخالفته وعدم إدراكه له فيدخل في المسائل الأصولية العقلية ، لأنّ المسألة الأصولية ما كان موضوعها أحد الأدلة الأربعة المعروفة التي منها العقل سواء كان البحث فيها كبرويا كالبحث عن حجية الخبر أو عن حجية العقل أو صغرويا كالبحث عن حكم العقل بالملازمة بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها وبين الأمر بالشيء والنهي عن ضده ، وما نحن فيه على التقدير المذكور من قبيل الثاني كما لا يخفى.

وعلى جميع الاعتبارات الثلاثة إما أن يكون الملحوظ ومحط النّظر عنوان

٢٧٢

مخالفة القطع من حيث هي مع قطع النّظر عن اتحادها مع عنوان آخر ، وإمّا أن يكون الملحوظ هي بالنظر إلى اتّحاده مع بعض العناوين الأخر.

وعلى الثاني إما أن يجعل العنوان الآخر عنوان التجري على المولى وإمّا أن يجعل عنوان الإقدام على ما قطع بكونه قبيحا وإن لم يكن كذلك في الواقع.

لا سبيل إلى الأوّل أعني فرض محط النّظر في البحث عن مجرد مخالفة القطع من حيث هي ، ضرورة أنّها بمجرّدها لا قبح فيها ولا حرمة شرعا أيضا ، وإنما يمكن دعوى ثبوت أحدهما أو كليهما فيما إذا اتحدت مع عنوان آخر فاللائق بحال المحصّلين البحث عنها بأحد الوجهين الآخرين ، ومورده على أوّلهما أخص منه على ثانيهما ، إذ التجرّي عبارة عن الإقدام على ما علم بكونه مبغوضا للمولى وعصيانا له ، ومن المعلوم أنّ العصيان قسم من القبح وهو أعم منه ، إذ التجري مختص بمورد الطاعات بخلاف الإقدام على ما علم بكونه قبيحا ، لأنّ ذلك القبح قد لا يكون موردا للنهي من المولى.

ثمّ إنّ ذلك وإن كان أعمّ موردا من التجري لكنه لا يجري في جميع موارد القطع ، ضرورة أن متعلقه قد يكون من الأمور التي لا يقبح تركه أو فعله.

وكيف كان فالبحث عن مخالفة القطع باعتبار اتحادها مع أحد من ذينك العنوانين في الحقيقة راجع إلى البحث عن حكم أحدهما شرعا أو عقلا وهذه المسألة غير معنونة في كتب السابقين.

وإنما أحدث البحث عنها بعض متأخري المتأخرين (١) وتبعه المصنف وغرضهما كما يظهر من أدلتهم الآتية ومن بعض أمثلتهم في مقام الاحتجاج إنما هو البحث عنها بعنوان التجري وعن حرمته بهذا الاعتبار شرعا كما يظهر ذلك من الأدلة (٢) والأمثلة ومن قوله قدّس سرّه فيعاتب على مخالفته أيضا ونحن نشير

__________________

(١) في نسخة ( ب ) : بعض المتأخرين ، وفي نسخة ( أ ) ما أثبتناه في المتن.

(٢) في نسخة ( ب ) : من الأدلّة أي من أدلّتهم الآتية ، وفي ( أ ) كما في المتن.

٢٧٣

إلى حكمها باعتبار العنوان المتقدم إن شاء الله في تتمة المسألة فانتظر.

ثم النزاع فيها إن فرض في حكم مخالفة القطع باعتبار أحد العنوانين المذكورين شرعا فيصح التمسك فيها بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع على تقدير كشفه عن رأي المعصوم قطعا كصحة التمسك فيها بالعقل فيكفي للمثبت حينئذ قيام أحد الأدلة الأربعة على مدّعاه كما أنّه لا بدّ للنافي من دعوى عدم قيام شيء منها عليه.

وإن فرض في حكمها بملاحظة أحد الوجهين عقلا فالمرجع فيها هو العقل لا غير.

نعم لو ورد دليل شرعي قطعي من جميع الجهات على أحد طرفيها كالكتاب أو السنة القطعية الصدور والدّلالة معا ، أو علم اتفاق جميع الأمة أو جملة منهم يعلم بدخول المعصوم عليه السلام فيهم على أحد طرفيها فهما ـ من جهة كشفهما عن رأي المعصوم من الخطأ ـ يكونان دليلين على مؤداهما ويصح التمسك بهما عليه بل يجب.

ولا ينافي ذلك ما ذكرنا من انحصار المرجع على الفرض المذكور في العقل ، إذ التمسك بهما حقيقة راجع (١) إلى التمسك بالعقل السليم عن شوائب الأوهام بل يخالفه تعالى (٢) فيما إذا كان الدليل الشرعي القطعي هو الكتاب.

والحاصل : أنّ الغرض أنّ المسألة على الفرض المذكور مما لا يدخله التعبد وهو ينافي الرجوع إلى الأدلة الشرعية الغير العلمية لعدم إفادتها العلم بحقيقة مؤدياتها واقعا حتى يؤخذ بها من تلك الجهة لرجوعها إلى اللحاظ المذكور في العملية منها والّذي يفيده من العمل وإن كان يجب التعبد به في مرحلة الظاهر لكنه غير

__________________

(١) في نسخة ( ب ) : راجع حقيقة. وفي ( أ ) ، المثبت.

(٢) ( تعالى ) : ساقط من نسخة ( ب ) ، والمقصود من العبارة غير واضح.

٢٧٤

مقصود من البحث في المسألة.

هذا بخلاف العلمية منها ، فإنها تفيد العلم بالواقع والعمل كليهما ، فيصح التمسك بها بالاعتبار الثاني ، وهذا في الحقيقة ليس تمسكا بها ، بل إنما هو تمسك بالقطع وإنما هي أسباب موجبة له.

ثمّ إنّا قيّدنا جواز التمسك بالإجماع في المسألة في الفرض الأول بكونه كاشفا عن رأي المعصوم عليه السلام قطعا للتنبيه على عدم العبرة فيها في ذلك الفرض أيضا باتفاق طائفة لم يعلم بدخول المعصوم عليه السلام فيهم وإنما يراد به استكشاف رأيه من باب الحدس لأجل أنه لا عبرة به مع فرض كشفه عن رأيه عليه السلام ، لقيام احتمال أن يكون قول كل واحد من المجمعين عن رأيه وعقله لا عن تعبد المعصوم عليه السلام له به ، وعلى تقدير حصوله لا حجية فيه فينحصر مورد صلاحيته لذلك فيما لم يكن إليه سبيل لعقول غير أهل العصمة.

فمن هنا ينقدح الإشكال في الإجماع في جميع المسائل الفرعية المماثلة للمقام وهي ما للعقل إليها سبيل ، كمسألة حرمة الظلم أو الغصب مثلا الّذي هو قسم منه ، بل وفي جميع المسائل الأصولية الشرعية المماثلة له أيضا ، كمسألة حجية الخبر أو مطلق الظن شرعا عند الانسداد وكمسألتي البراءة والاحتياط ، وكذا مسألة الاستصحاب.

والحاصل : أنه إذا كانت المسألة مما انحصر طريقها في البلوغ عن المعصوم عليه السلام مع فرض اتفاق من عداه إلى حد يمتنع تواطؤهم على الكذب على أحد طرفيها والقول بغير علم فيقال إنّ هؤلاء يمتنع تواطؤهم بأجمعهم على الكذب والقول بغير علم فجملة منهم صادقون فيما قالوا وقاطعون به لا محالة وطريق قطعهم فيها منحصر في البلوغ من المعصوم عليه السلام فما قالته تلك الجملة واصل منه عليه السلام فنستنتج من هاتين المقدمتين ونستكشف منهما أنّ ما اتّفقوا عليه واصل منه عليه السلام ، ومن المعلوم ان المقدمة الأخيرة منتفية

٢٧٥

فيما إذا كانت المسألة مما للعقل إليها سبيل ، والأولى بمجردها غير وافية بالمطلوب.

ومن هنا يظهر عدم صلاحية الاتفاق للكشف عن المطلوب المذكور أيضا.

ثم إنه على تقدير جعل النزاع في قبح التجري أو في حرمته شرعا قد يجعل محط النّظر فيه مطلق التجري وقد يجعل قسما خاصا منه وهو الّذي لا يصادف الحرام الواقعي المعبر عنه بالمعصية الحكمية ، كالتعبير عن الانقياد الغير المصادف لواجب واقعي بالطاعة الحكمية وعلى الثاني مجال للإنكار على مثبت الحرمة باستلزام قوله لتعدّد العقاب فيما إذا صادف التجري حراما واقعيا ويكون معصية حقيقية من هذه الجهة ، لأنّ المعصية الحكمية التي يقول هو بحرمته لا يعقل اجتماعها مع الحقيقيّة ، لتفصّلها بعدم مصادفة الحرام الواقعي التي هي فصل الحقيقيّة حتّى يقول النّافي إنّ المعصية الحقيقية وهي الإتيان بالحرام الواقعي سبب مستقل لاستحقاق العقاب ، والتجري سبب آخر ، وهما مجتمعان في صورة الإتيان بالحرام الواقعي عالما به ، ولازمه استحقاق عقابين فينكر ببطلان اللازم على المثبت ، فلا يحتاج إلى تكلّف بالجواب بتداخل العقابين أيضا.

هذا بخلاف الأولى إذ عليه لا يمكن (١) الإنكار عليه بما مرّ ، لفرض أخذ مطلق التجري ـ الصادق على المعصية الحقيقية أيضا ـ سببا مستقلا لاستحقاق العقاب وإن كان يمكن منعه بمنع سببه غير عنوان التجرّي للعقاب في المعصية الحقيقية من العناوين المتحققة فيها ، فإنه إذا كان السبب لاستحقاق العقاب هو عنوان التجرّي لا غير ، فلازمه استحقاق عقاب واحد في المعصية الحقيقية أيضا ، لأنه فيها أيضا لم يتعدد وجوده ، بل له في كلّ منها ومن الحكمية وجود واحد فلا

__________________

(١) كذا في نسخة ( ب ) وفي ( أ ) : « لا » فقط.

٢٧٦

يقتضي في شيء منهما إلا عقابا واحدا.

والمصنف ومن سبقه إلى عنوان هذه المسألة قد جعله محطّ النّظر فيها مطلق التجري فإنّهما قد تذاكرا للإشكال المذكور ولم يجيبا عنه بعدم اجتماع السببين ، بل أجاب عنه ذلك الشخص المتقدم على المصنف بتداخلهما والمصنف قد التزم به على القول بحرمة التجري وكونه سببا مستقلا إلاّ أنه قد استراح عنه بمنع أصل السببية.

فحاصل ما يظهر منهما جعل النزاع في المسألة في حرمة مخالفة القطع باعتبار التجري شرعا من غير اختصاص له بالغير المصادف معه الحرام الواقعي.

لكن دعوى الحرمة الشرعية للتجري دون إثباتها خرط القتاد ، لعدم ما يصلح للدلالة عليها من الكتاب أو السنة أو الإجماع ، فالدخولي منه أي الاتفاق المشتمل على المعصوم عليه السلام معلوم العدم ، والحدسي منه على تقديره قد عرفت حاله في أمثال المسألة.

وأما العقل فغاية ما يحكم به على تقدير حكمه إنّما هو قبح التّجري والانتقال من القبح إلى النّهي الشرعي إنّما يصح ويكون فيما إذا علم بصلاحية المورد للنهي كما أنّ الانتقال من الحسن إلى الأمر الشرعي إنما هو فيما إذا علم كون المورد مما يصلح للأمر به.

وما اشتهر من أنّ كل ما حكم به العقل حكم به الشرع لا ينافي ذلك ، لأن المراد به إنّما هو توافق الشرع للعقل فيما كان صالحا للخطاب ، فليس ما ذكرنا تخصيصا له نعم ينتقل منهما إلى مبغوضية الشيء للشارع أو محبوبيّته له ـ كما في الإطاعة والمعصية الحقيقيّين ـ فإنّ العقل مستقل بحسن الأولى وقبح الثانية على وجه يعلم منه محبوبية الأولى ومبغوضية الثانية له مع عدم كشفه عن الأمر والنهي لعدم صلاحيتهما لذلك ، لما تقرر ـ في محله ـ من أنّ الأمر بالأولى

٢٧٧

والنهي عن الثانية على تقديرهما مستلزمان للتسلسل أو الترجيح بلا مرجح ، والتجري وإن لم يكن حاله كحالهما من حيث وضوح عدم الصلاحية للخطاب إلاّ أنّ الإنصاف [ أنّ ] كونه مما يصلح له أيضا غير معلوم ، بل مظنون عدمه نظرا إلى أنّ فائدة الخطاب إنّما هو تحريك المكلف نحو الفعل أو الترك ، والمفروض ان المتجرّي قاطع بحرمة ما يتجري به وقطعه ذلك كاف في تحريكه نحو الترك إن كان ممن يطيع إذا خوطب ، والفوائد الاخر التي أشرنا إليها في طريقية القطع قد عرفت عدم صلاحية بعضها له والبعض الآخر منها كالتأكيد أيضا بعد محل تأمل.

هذا مضافا إلى أنّ التجري ـ ولو كان المحض منه ـ من مقولة العصيان والنهي عنه كالنهي عن العصيان مستلزم للمحال وهو التسلسل أو الترجيح من غير مرجح فيكون النهي عنه محالا لذلك بعد الإغماض عن استحالته لما مرّ ، لأنه إذا فرض ان المكلف إذا قطع بحرمة شيء فارتكابه لذلك الشيء تجرّ جدا فإذا فرض النهي عن هذا التجري فيكون مخالفة ذلك النهي أيضا تجريا بالضرورة فحينئذ إمّا ان ينهى عن ذلك التجري أيضا أو لا.

وعلى الثاني يلزم الترجيح من غير مرجح لمساواته للأول ، وعلى الأوّل فيكون مخالفة النهي الثالث أيضا تجريا فننقل الكلام إليه بعينه وهكذا إلى أن بلغ ما بلغ ، فإن اقتصر في النهي على مرتبة خاصة يلزم الترجيح بلا مرجح والا يلزم التسلسل.

هذا إذا كان النهي على تقديره متعلقا بالتجري على وجه الإطلاق لا بخصوص المحض منه كما هو المفروض عند المصنف ومن سبقه إلى تحرير المسألة.

[ و ] أمّا إذا كان متعلقا بخصوص المحض منه فحينئذ وإن أمكن أن يقال إنّه إذا تعلق النّهي به فمخالفة ذلك النهي يكون عصيانا حقيقا فينتفي المساواة

٢٧٨

بينها وبين متعلقه ، فلا يلزم على تقدير اختصاص النهي بمتعلقه ترجيح بلا مرجح حتى يقال إنّه يلزم النّهي عن مخالفة ذلك النّهي أيضا فإذا نهى عنها فننقل الكلام إلى مخالفة النهي الثاني ، فيقال إمّا ينهى عنها أيضا أو لا ، وعلى الثاني يلزم الترجيح بلا مرجح لمساواتها لمخالفة النهي الأول في كونهما عصيانين حقيقيين وعلى الأول يلزم التسلسل لنقل الكلام بعينه إلى كل مرتبة بالتقريب المتقدم.

لكن يرد الإشكال المذكور من جهة أخرى وهي أنّ مخالفة النهي المتعلق بالتجري المحض وإن لم تكن مماثلة أو مساوية له إلاّ أنها أقوى منها ، لكونها معصية حقيقية على تقدير النهي عنها ومع النهي عنه يلزم ترجيح المرجوح على الراجح وهو أقبح من الترجيح بلا مرجح فإنّ نهى عنها أيضا فننقل الكلام إلى مخالفة النهي الثاني فيقال إنّها كمخالفة النهي الأول وحينئذ إمّا أن لا ينهى عنها ، فيلزم الترجيح بلا مرجح أو ينهي عنها فيلزم التسلسل لنقل الكلام بعينه إلى كل مرتبة من مراتب المخالفة.

وأيضا توجه النهي عن التجري المحض إلى القاطع الّذي يكون قطعه مخالفا للواقع إمّا أن يكون بعنوانه الخاصّ بأن يقال أيّها القاطع المخطئ لا تتجر ، أو لا تخالف قطعك وإمّا أن يكون بعنوانه العام الشامل لغيره أيضا بأن يقال أيها القاطع لا تخالف قطعك ولا تتجر.

وعلى الثاني : قد عرفت عدم الفائدة فيه لكونه تحصيلا للحاصل بالنسبة إلى فائدة التحريك لكفاية قطعه فيه ولا نرى له فائدة سواها.

وعلى الأول : يلزم خروجه عن مورد النهي بمجرد النهي لأنّ نهيه بذلك العنوان يوجب التفاته إلى خطئه وزوال قطعه فلا يبقى له قطع حتى يعمل به فلا فائدة في ذلك النهي أيضا إن كان الغرض منه عمل القاطع بقطعه ذلك.

نعم يصحّ إذا كان الغرض تنبيهه على خطئه ولم يكن المقصود عمله بقطعه المذكور ، وليس الكلام فيه الآن.

٢٧٩

هذا مضافا إلى أنّ القاطع ، ما دام قاطعا ـ كما هو المفروض ـ لا يتمكن من تمييز موارد خطأ قطعه عن غيرها ، لأنّ احتمال الخطأ في بعضها ينافي قطعه فيه ، فكيف يقطعه بالخطإ فيه إذ القاطع لا يكون قاطعا الا بكونه جازما لعدم الخطأ فهو ما دام قاطعا لا يحتمل توجه النهي ـ عن التجري المحض المأخوذ فيه الخطأ ـ إليه فلا يعقل كون المحرك له إلى العمل في تلك الحال ذلك النّهي فيلغو (١) توجيهه فيها وبعد زوال قطعه قد قضى الأمر لانقضاء زمن العمل فيلغو (٢) توجيهه إليه بعد الزوال أيضا لأنّه حال القطع الّذي هو زمن العمل إمّا يعمل به أو يخالفه.

وعلى الأول يلزم من النهي بعد زواله طلب الحاصل ، لحصول الغرض منه قبله.

وعلى الثاني يلزم طلب المحال ، لامتناع قلب ما صدر إلى نقيضه بعد تحققه فيمتنع توجّه النهي المذكور إليه في جميع الحالات فتبين أنّ التجرّي ليس من مقولة ساير العناوين كالظّلم والكذب لأنّ يصلح للنّهي عنه وإنما هو من مقولة العصيان الغير القابلة له.

ومن هنا يظهر أيضا أنّ قبحه على تقديره ليس كقبح الظلم والكذب فإن قبحه إنما هو من جهة كونه تضييعا لحق المولى ، لأن من حقه على العبد أن لا يهتك العبد حرمته وهو هتك لحرمته وقبحه من هذه الجهة لا يختص بمولى دون مولى ولا بعبد دون عبد ، ولا بما إذا لم يكن الفعل المتجري به في نفسه أمرا ذا مصلحة بل هو ثابت فيما إذا كان ذا مصلحة أيضا بل العبد مذموم عند العقلاء من تلك الجهة مطلقا.

__________________

(١ و ٢) كان في النسختين : ( أو فيلغي ) ، والصحيح ما في المتن.

٢٨٠