تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٣

المولى علي الروزدري

تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٣

المؤلف:

المولى علي الروزدري


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-54-X
ISBN الدورة:

الصفحات: ٣٨٢

من باب التأديب فيجوز قطعا.

لأنّا نقول : مخالفة الآداب (١) أيضا من الأمور القبيحة فهو إمّا لا يبغضه فيرجع إلى الكلام الأول ، وإمّا يبغضه فيخرج عن الفرض ، لأنّه حينئذ آت بمبغوضه اختيارا ويكون سببا لاستحقاق المؤاخذة لذلك.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( وينسب إلى غير واحد من أصحابنا الأخباريين عدم الاعتماد على القطع الحاصل من المقدمات العقلية القطعية الغير الضرورية ) (٢).

حاصل هذا التفصيل التفصيل في اعتبار القطع من حيث كونه طريقا إلى متعلقه من حيث أسبابه بأنّه إذا كان حاصلا من المقدّمات العقلية النظرية لا يجوز العمل به وإذا كان حاصلا من غيرها من المقدّمات المحسوسة (٣) أو العقلية القريبة من الإحساس يجوز العمل به ، كما أنّ التفصيل الآتي في الأمر الثالث تفصيل في اعتباره كذلك من حيث الأشخاص.

وأنت بعد ما ذكرناه في اعتباره من أنّه لا يعقل المنع عنه بوجه من الوجوه (٤) ولا يعقل اختصاص اعتباره بسبب دون آخر أو بشخص دون آخر أو بزمان دون آخر يظهر لك فساد هذين التفصيلين.

نعم يجوز النهي عن الخوض في بعض المقدمات المحصلة له بحيث لو خالف وخاض فيها وقطع بخلاف الواقع وعمل بقطعه ذلك لا يعذر في مخالفة الواقع بل يجوز عقابه عليها لاستنادها بالاخرة إلى اختياره.

نعم لا يعقل النهي عن العمل به بعد حصوله ، وهو لا ينافي جواز العقاب ،

__________________

(١) في نسخة ( أ ) : ( أدب ).

(٢) فرائد الأصول ١ : ١٥.

(٣) في نسخة ( ب ) : من المقدمات العقلية المخصوصة المحسوسة.

(٤) ( من الوجوه ) ساقطة من ( أ ).

٣٠١

لما عرفت.

وكيف كان فالكلام في العمل به حال (١) حصوله وبقائه وقد عرفت عدم جواز النهي عنه حينئذ بوجه.

ثم إنّ الذّاهب إلى هذا التفصيل بين من علّله بكثرة المخالفة للواقع في القطع الحاصل من المقدّمات النظرية ، كالمحدّث الأسترآبادي (٢) وبعض من وافقه من الأخباريين ، وبين من علّله بعدم تمامية الحجة بمجرّده ، إذ لا بدّ فيها من بلوغ الحكم عن المعصوم عليه السلام بالنّقل عنه أو السماع منه ، كالسيد الصدر (٣) (قدّس سرّه).

وبعبارة أخرى إنّ التكليف بشيء لا يتنجّز على المكلف بحيث يستحق العقاب على مخالفته إلاّ بتبليغ حجة سمعية عليه من المعصوم عليه السلام فحكم العقل به واستقلاله بواسطة المقدمات النظرية لا ينهض حجة عليه وكذلك إذا انضم إليه حجة سمعية منهم عليهم السلام واصلة إلى المكلف ولو بالعقل (٤).

ولا يخفى أنّ ذلك ليس إنكارا لقاعدة التّطابق بين العقل والشرع ، فإنّ معناها أنّ حكم العقل بأمر هل هو كاشف عن حكم الشارع به على نحو ما حكم به العقل أو لا ، ومبنى الكشف على ثبوت الملازمة ـ بين قبح شيء وبين نهي الشارع عنه ، وبين حسنه التام الملزم عند العقل وبين أمره به ـ بأنّه بعد ثبوتها كذلك إذا قطع العقل بقبح شيء فيتحقق عنده صغرى وهي أنّ هذا قبيح فينضم

__________________

(١) في ( ب ) : ( بعد ) عوض ( حال ). وهكذا : ( بعد حصوله ) بدل ( حينئذ ).

(٢) الفوائد المدينة : ١٣١ ـ ١٢٩.

(٣) شرح الوافية للسيّد الصدر. مخطوط.

(٤) في ( ب ) : غير واضحة والمستظهر المتن ، وفي ( أ ) ( النقل ). فتأمّل.

٣٠٢

إلى تلك ، الكبرى ، أعني ( كل قبيح حرام من الشارع ) فيستنتج منها حرمته ، وكذلك إذا قطع بحسنه الملزم ومن المعلوم أنّ القطع بحكم الله تعالى الواقعي (١) بمقتضى المقدمات العقلية إنّما يكون بعد ثبوت الملازمة عند قطع القاطع ، فالسيد المذكور إنّما يمنع من الاعتماد على القطع الحاصل على ذلك الوجه بعد تسليم حصوله وفرض وجوده المتوقف على تلك الملازمة ، وإلاّ لكان الوجه على تقدير إنكاره لتلك الملازمة إنكار حصول القطع من المقدمات النظرية رأسا فتأمل.

وكيف كان ، فما ادّعاه غير مبنيّ على إنكار تلك الملازمة وغير متوقف عليه بوجه.

ثمّ إنّ التعليلان مضافا إلى أنهما شبهتين في مقابلة البديهة غير تامّين في أنفسهما أيضا.

أمّا الأوّل ، فلوجوده في المقدمات الشرعيّة أيضا كما أشار إليه المصنف فيكون المنع لأجله تعليلا بالعلة المشتركة وهو كما ترى.

وأما الثاني ، فلما أشار إليه المصنّف من أنّه إذا قطع من المقدمات العقلية بحكم فهو كاشف عن صدور مثله من الشّارع أيضا ، بناء على أنّ حكم كلّ شيء ورود بعض ما لم يصل إلينا مخزون عند أهله فهم فيه الحجة.

اللهم إلا أن يمنع من صدور كل حكم أو يدّعى عدم تمامية الحجة بمجرد العلم بصدوره من الشارع من أي سبب يحصّله ، بل إنّما يتمّ إذا وصل البيان بطريق سمعي وكلاهما في محل المنع.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( وقد عثرت بعد ما ذكرت هذا على كلام يحكي عن المحدث الأسترآبادي ) (٢).

__________________

(١) في النسختين : ( الواقعة ).

(٢) فرائد الأصول ١ : ١٥.

٣٠٣

أقول : أول من اختار هذا التفصيل وأقدمهم زمانا هو ذلك المحدّث ، ولا بأس بتوضيح مراده على نحو الاقتضاء.

فاعلم أنّ مراده أنّه إذا كان العلم النظريّ منتهيا إلى مادّة قريبة من الإحساس فلا يقع فيه الخطأ من العلماء من حيث نتائج أفكارهم المنكشفة بها ولا الخلاف منهم في ذلك ، إذ الخلاف إنّما يكون فيما إذا كان المطلوب من الأوامر النظرية الخفيّة القابلة للخطإ فيها فما لم يقع فيه الخطأ منهم لوضوح طريقه كما فيما ينكشف من المقدمات القريبة من الإحساس لا يقع فيه الخلاف بينهم.

وتوضيح عدم وقوع الخطأ فيها أنّ الخطأ في الفكر إمّا من جهة الخطأ في مادة القياس وإمّا من جهة الخطأ في صورته ، وكلاهما منفيان فيها.

أمّا الأول فلان الحسّ كافل له وعاصم عن الخطأ فيه.

وأمّا الثاني فلأنّ ما ارتكز في أذهانهم من قواعد الاستدلال وكيفية ترتيب القياس عاصم عن الخطأ من جهته أيضا ، فإنّ قواعد القياس مركوزة في أذهان العوام بل الحيوانات وعاصمة لهم عن الخطأ من جهة الصورة ، فكيف بالعلماء.

لا يقال : إنّ الحسّ قد يخطئ فليس كافلا للخطإ من جهة المادة.

لأنّا نقول : إنّه على تقديره في غاية الندرة ، واحتماله عند العقلاء في غاية البعد ، بحيث يكون في حكم المعدوم ، بل هو عندهم مجرد تجويز العقل بحيث لا يشكون فيما أخبر به عن حسّ بعد العلم بعدم تعمّد الكذب ، وانحصار سبب كذب الخبر في حكايته عن حسه.

ألا ترى أنّهم لا يفرقون بين الإخبار عن إحساس شيء وبين الإخبار عن نفس المحسوس ، كأن يقول الراوي سمعت أنّ الصادق عليه السلام قال كذا أو يقول قال الصادق عليه السلام كذا.

هذا بخلاف ما إذا لم ينته إلى مادة قريبة من الإحساس ، لعدم ما يكفل عن الخطأ فيه من جهة المادة ، فلا بدّ فيه من الرّجوع إلى الصادقين عليهما

٣٠٤

السلام لعصمتهم عن الخطأ.

والمراد بالمادة إنّما هو الوسط في القياس باعتبار التّلازم بينه وبين طرفي المطلوب وهما الأكبر والأصغر ، وبالهيئة إنّما هي صورة القياس وكيفيّته المتحققة له بملاحظة القواعد المقررة له في علم الميزان من كليّة الكبرى ، وإيجاب الصغرى مثلا كما في الشّكل الأول ، وهكذا إلى آخر الشّرائط المقرّرة للأشكال الأربعة في ذلك العلم ، ومن المعلوم أنه لا قاعدة تفيد كون أمر لازما للأصغر ، بمعنى كونه محمولا له وملزوما للأكبر حتى لا يقع الخطأ لأجلها في المادة وطريق ذلك منحصر في الحسّ ، هذا خلاصة مرامه بتوضيح منا.

وقد عرفت الجواب عنه إجمالا ، وإن شئت تفصيله فنقول :

إن أراد بعدم الاعتماد على القطع الحاصل من المقدمات العقلية الغير الضرورية عدم جواز ركون القاطع إلى قطعه الحاصل منها ما دام باقيا كما هو الظّاهر من كلامه وكلام من وافقه أيضا ، فقد عرفت أنّه لا يعقل ذلك فيما إذا كان القطع كاشفا محضا ، ولو أمكن يجري في القطع الحاصل من المقدمات الشّرعية أيضا.

هذا مضافا إلى أنّه إذا قطع العقل بحكم فيستكشف منه صدور مثل ذلك (١) الحكم عن الحجة عليه السلام ، نظير استكشاف ذلك من الخبر المتواتر والإجماع ، فيكون العمل بالأخرة بقوله عليه السلام ، لا بالعقل ، والعمل بقوله عليه السلام واجب بضرورة المذهب ، فافهم.

وإن أراد بذلك عدم جواز الخوض في المطالب العقلية لاستنباط الأحكام الشرعية لكثرة وقوع الخطأ فيها ، فبعد تسليم كثرة الخطأ فيها له وجه ، لو لا جريان التعليل في المقدّمات الشّرعية أيضا ، فإنّ العلم الإجمالي بوقوع الخطأ ،

__________________

(١) في ( أ ) هذا ، بدل ذلك.

٣٠٥

فضلا عن العلم بكثرة وقوعه ، يوجب التحرّز عن تلك المطالب عقلا ، نظير العلم الإجمالي في الشبهة المحصورة ، إلاّ أنّ الشأن أولا إثبات كثرة الخطأ وثانيا اختصاصها بالمطالب العقلية فتأمل.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( والعجب ممّا ذكره في الترجيح عند تعارض العقل والنقل كيف يتصور الترجيح في القطعيّين. ). (١).

أقول : كيف يتصوّر أصل التّعارض بينهما فضلا عن ترجيح أحدهما على الآخر ، إذ كلّما حصل القطع بأمر يمتنع حصوله بنقيضيه ، بل يمتنع احتمال نقيضه ، فإذا حصل القطع من طريق النّقل بحكم لا يعقل احتمال العقل خلافه فضلا عن قطعه بخلافه أو العكس.

نعم يمكن التعارض بين النقليّين القطعيّين من حيث السند فقط ، كالخبرين المتواترين سندهما ، وبين نقليين ظنّيين أحدهما يفيد الظّن النّوعي والآخر يفيد الظنّ الشخصي والعقل ليس مما يتصور في حكمه القطع الشخصي والنوعيّ ، لأنّ حكمه إنّما هو استقلاله جزما (٢) إذ لو لا ذلك لما حصل الانتقال منه إلى الحكم الشرعي إلى الكلام فيما ينقل إليه من الأحكام العقلية (٣).

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( فنجزم (٤) من ذلك بأنّ ما استكشفنا بقولنا صادر عن الحجة عليه السلام ) (٥).

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٨.

(٢) المستظهر من نسخة ( أ ) استقلاله وجزمه فعلا.

(٣) قوله : ( إلى الكلام فيما ينقل. ). غير واضح إمّا من جهة احتمال السّقط في العبارة أو الاشتباه في الاستنساخ.

(٤) في النسختين ( فنجزم ) والظاهر زيادة ( الفاء ) كما في متن الفرائد.

(٥) فرائد الأصول ١ : ٢٠.

٣٠٦

أقول : هذا نظير استكشافنا ذلك عن الخبر المتواتر والإجماع ، فإذا استكشفنا من العقل ذلك فيكون الطاعة بواسطة الحجة كما مرّت الإشارة إليه.

تنبيه : حكي عن السيد نعمة الله في شرحه للتهذيب (١) أنّه يتفرع على القول بحجية العقل في غير الضّروريات طرح ما ورد من الأخبار الدالة على جواز السهو والنسيان في النبيّ صلّى الله عليه وآله وأوصيائه عليهم السلام حيث إنّ العقل يحكم بامتناعهما في حقهم وعلى القول بعدم حجيته فيها الأخذ بها والالتزام [ بها ] انتهى.

أقول : فيه أنّه كيف يتصوّر الأخذ بتلك الأخبار مع فرض القطع من جهة العقل بامتناع السهو والنسيان منهم عليهم السلام ، مع أنّ الأخذ بها في إثبات السهو والنسيان في حقّهم مستلزم للدّور كما لا يخفى ، فإنّه إذا جوّز السهو والنسيان في حقهم فيمكن صدور تلك الأخبار عنهم من باب السهو أيضا فيكون إثبات السهو بها إثباتا للسّهو بالسهو فلا تغفل.

قوله ـ قدّس سره ـ : ( وأمّا قطع من خرج قطعه عن العادة فإن أريد بعدم اعتباره عدم اعتباره في الأحكام التي يكون القطع موضوعا لها ، كقبول شهادته وفتواه ونحو ذلك فهو حق ، لأنّ أدلة اعتبار العلم في هذه المقامات لا تشمل هذا قطعا ) (٢).

أقول : عدم اعتبار قطع القطّاع من جهة الموضوعية من الأمور الواضحة الغير القابلة للنزاع ، بحيث لو أغمضنا عما ذكره المصنف ـ من انصراف أدلّة اعتبار العلم موضوعا عنه ـ يظهر ذلك من السابقين أيضا فإنّهم وإن لم يتعرّضوا لخصوص القطّاع ، لكن يعلم حكمه من اتفاقهم على عنوانين عامين بتنقيح

__________________

(١) شرح التهذيب ، مخطوط.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٢٢.

٣٠٧

المناط ، بل بالأولوية بالنّظر إلى أحدهما (١).

وتوضيحه : أنّهم اتّفقوا على اشتراط الضّبط في الراوي ، معلّلين ذلك بعدم الوثوق والاطمئنان بخبر من لا يكون ضابطا لكثرة خطائه.

وهذا التعليل دالّ على عدم اعتبار قطع القطاع بطريق أولى ، لأنّه آكد فيه إذ الخطأ فيه أكثر منه في غير الضابط.

وأيضا اتّفقوا على عدم اعتبار قول الوسواس وإخباره والقطّاع قسم منه لعدم انحصار الوسواس في كثير الشك والظّن.

فتحقّق أنّ قطع القطّاع لا عبرة به فيما أخذ القطع موضوعا لحكم ، ولا يفرق فيه بين أحكام نفس القطّاع المعلقة على العلم وبين أحكام الغير المعلقة عليه ، إذ يجب على القطّاع أيضا عدم ترتيب ذلك الحكم على قطعه.

وهذا ليس كالقطع الّذي هو طريق محض في عدم قابليته للمنع منه كما لا يخفى.

هذا كله في قطعه من حيث الموضوعية.

وأمّا اعتباره باعتبار طريقيته إلى متعلّقه فقد عرفت غير مرة أنه لا محيص عنه ما دام قاطعا ، لعدم صلاحيته للمنع من العمل به حينئذ ، وأمّا بعد زواله :

فإن كان زواله بالقطع بالخلاف يجب عليه نقض جميع الآثار المترتبة على قطعه ، فيعيد ، أو يقتضي العبادة إذا أحدثها مع فرض قطعه بصحتها ، فإنّ نقض الآثار السابقة بعد القطع بالخلاف يجري في غير القطّاع ، فيجري فيه بطريق أولى.

وأمّا إذا كان زواله بالشّك واحتمال الخلاف ففي وجوب نقض الآثار

__________________

(١) في نسخة ( ب ) أو إحداهما ، وفي نسخة ( أ ) أخذ بها ، والأولى ما أثبتناه في المتن.

٣٠٨

السابقة وعدمه وجهان :

أحدهما : إطلاق أدلة الشك بعد الفراغ ، فإنّه يقتضي البناء على صحة ما مضى منه أيضا مع الشك في صحّته وعدم العلم بالخلاف بالفرض.

وثانيهما : دعوى انصراف تلك الأدلة ، ولعل الأول أقوى ، لأنّ الحكم بالصحّة بعد الفراغ في تلك الأدلة لم يؤخذ فيه أزيد من الشك بعد الفراغ مع عدم حدوثه حال العمل من غير أن يقيّد بالقطع بالصحّة حاله ، ولذا يعملون بها في حق غير الملتفت إلى الصحة والفساد حاله ، فلا وجه لانصرافها عن القطّاع.

وبعبارة أخرى الحكم بالصّحة في تلك الأدلة لم يقيد بالعلم بها حال العمل حتّى يقال إنّه منصرف إلى العلم المتعارف فيخرج عنه قطع القطّاع وإنّما قيد بالشك بعده مع عدمه حاله ، وهما متحققان في القطّاع.

هذا بالنسبة إلى الآثار السابقة.

وأمّا الآثار المستقبلة ، فلا يجوز ترتيبها لغير القطاع ، فلا يجوز له بطريق أولى لأنّ قاعدة الاشتغال يقتضي نقض الآثار السابقة أيضا ، إلاّ أنّها بالنسبة إلى الآثار السابقة إنّما يترك العمل بها لأجل قاعدة الشك بعد الفراغ الحاكمة عليها ، وأما الآثار اللاّحقة فهي غير داخلة في تلك القاعدة ، لكون الشك فيها على تقديره شكا قبل العمل ، فقاعدة الشغل محكّمة فيها ، لسلامتها (١) عن مزاحمة ما يعارضها أو يحكم عليها ، هذا.

ثم إنّه قد ظهر ممّا ذكرنا ـ من عدم اعتبار قطع القطّاع باعتبار الموضوعية لحكم أخذ في موضوعه الاعتقاد ـ أنّه إذا قطع في يوم الغيم بكون جهة خاصة قبلة ، فصلّى ، ثم ظهر خطؤه يجب عليه الإعادة والقضاء ، هذا بخلاف غير القطاع فإنّه إذا قطع بذلك وعمل به يجزيه مطلقا ، وذلك لأنّ الإجزاء في حقّ

__________________

(١) في النسختين ( سلامتها ) والصحيح ما أثبتناه.

٣٠٩

غير القطّاع إنّما ثبت بالأولوية (١) المنتفية في القطّاع ، فإنّه قد علّق الصّحة في الغيم [ في ] الأدلة الشرعية على ظن القبلة وهو منصرف إلى الظنّ المتعارف فثبت حكمه للقطع المتعارف للأولوية.

وأمّا قطع القطّاع فلا يأتي فيه تلك الأولوية فإنّه أقلّ من الظنّ المتعارف ، بل مثل الشك أو أقل منه أيضا ، إذ قد يكون قطعه حاصلا من أمور غير صالحة لإحداث الشك في المتعارف من الناس ، نعم هو ما دام قاطعا لا يجوز نهيه عن العمل بقطعه ، لأنّ الصلاة إلى الجهة المظنون كونها قبلة في الغيم رخصة لا عزيمة لجواز الصلاة إلى القبلة الواقعية لمن انكشف له ، ومن المعلوم أنّه حينئذ جازم بأنّ ما قطع كونها قبلة من الجهات هي القبلة الواقعية وإن لم يكن واقعا ، فيتحقق عنده صغرى ، وهي أنّ هذه الجهة هي القبلة الواقعية ، فيضمها إلى كبرى ، وهي أنه يجوز الصلاة إلى القبلة الواقعية ، بل يتعيّن لمن انكشف له ، فيستنتج من هاتين المقدمتين جواز الصلاة إليها بل تعيينها.

ثمّ إنّك قد عرفت أنّه لا يجوز لغير القطاع أيضا العمل بقطع القطاع فيما إذا كان القطع موضوعا لحكم الغير أيضا وبقي شيء وهو أنّه هل يجب على الغير ردعه فيما إذا كان القطع طريقا محضا.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( والعجب أنّ المعاصر مثل لذلك بما إذا قال المولى. ). (٢).

وجه الاستعجاب أنّ الّذي ذكره مثالا من أفراد المتنازع فيه ، فإنّ الكلام في أنّ من قطع بتكليف من مولاه ـ سواء كان هو الشارع أو غيره من الموالي العرفية الّذي يجب طاعته عليه عند العقلاء ـ فهل يجوز لمولاه عقلا نهيه عن

__________________

(١) في النسختين ( بغير الأولوية ) والصحيح ما أثبتناه في المتن.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٢٣.

٣١٠

العمل بقطعه مطلقا أو من سبب خاص ، سواء كان العبد قطّاعا أو غيره ، بحيث لا يقبح منه ذلك النهي عند العقلاء ، أو لا؟ فإن جاز ذلك جاز من أيّ مولى كان ، وإن لم يجز لم يجز مطلقا فليس حكم المثال المذكور مفروغا عنه حتى يحتج به على أحد طرفي المسألة فتأمّل.

تنبيه : بعد ما قيّد هذا المفصّل ـ عدم حجية قطع القطّاع بما إذا احتمل اشتراط حجية قطعه بعدم كونه قطّاعا أو علم به ـ أخذ في التوجيه فقال :

( يشترط في حجية القطع عدم منع الشارع عنه وإن كان العقل أيضا قد يقطع بعدم المنع إلاّ أنّه إذا احتمل المنع يحكم بحجية القطع ظاهرا ) (١) انتهى.

أقول : لا يخفى ما بين توجيهه الّذي عرفت وتقييده عدم حجية القطع بما إذا احتمل اشتراط عدم حجيته بعدم كونه قطّاعا من التنافي فإنّ قوله في التوجيه : ( إلاّ إنّه إذا احتمل المنع يحكم بحجية القطع ظاهرا ) اعتراف منه بحجية قطع القطّاع عند احتماله منع الشارع من العمل به مع أنّه قيّد حجيته بعدم احتماله له ونفى حجيته عند احتماله في أوّل كلامه.

اللهم إلاّ أن يكون مراده بالحجية التي اشتراطها بعدم احتمال منع الشارع هو جواز الحكم بمؤدى القطع وأنّه حكم الله تعالى ويكون مراده بها في قوله ( إلاّ أنه إذا احتمل المنع يحكم بحجية القطع ظاهرا ) مجرد جواز العمل على طبقه وقبح المؤاخذة عليه على تقدير أدائه إلى مخالفة الواقع ، فيكون حكم العقل بذلك نظير حكمه بعدم المنع في الأصول العملية المقرّرة للشك ، وهذا وإن كان يدفع التنافي المذكور إلاّ أنّ المنع من الحكم بمؤدّى القطع وكونه هو حكم الله تعالى ولو كان هو قطع القطّاع يناقض نفس القطع ، ومعنى القطع بوجوب شيء مثلا شرعا ليس إلاّ الجزم بكون المقطوع حكم الله تعالى.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٢٣.

٣١١

[ الكلام في العلم الإجمالي ]

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( الرابع إنّ المعلوم إجمالا هل هو كالمعلوم تفصيلا في الاعتبار أم لا؟ والكلام فيه قد يقع تارة في اعتباره من حيث إثبات التكليف به ) (١).

أقول : جعله (قدّس سرّه) الكلام في اعتبار العلم الإجمالي ـ من حيث الطريقية وإثبات التكليف [ به ] ـ من تنبيهات مسألة القطع إنّما هو لكونه فردا خفيّا منها ، إذ ليس حال العلم الإجمالي كالتفصيلي في وضوح اعتباره وكونه مقتضيا للزوم العمل به.

ومن هنا ظهر عدم (٢) مناسبة الكلام في العلم الإجمالي من حيث لزوم موافقته قطعا وعدمه للمسألة ، فإنّه راجع إلى عذرية الجهل عقلا عند الشك في المكلف به وعدمه بعد الفراغ عن اقتضاء العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية أيضا ، لأنّ اقتضاءه لذلك لا ينافي عدم فعليته فيما يقتضي لمانعيّة الجهل عن اقتضائه معه فعلا : فإنّه ليس علة تامة فبعد الفراغ عن اقتضائه له يبقى مجال البحث عن مانعية الجهل التي هي موضوع مسألة البراءة والاحتياط المبحوث عنها فيها فلذا أوكل الكلام فيه من هذه الجهة إليهما ، هذا.

لكن الإنصاف عدم رجوع البحث عن لزوم الموافقة القطعية وعدمها إليهما مطلقا لكونه أعمّ فإنّ لزوم الموافقة القطعية فعلا يتوقف على ثبوت أمرين :

أحدهما : كونه مقتضيا له في حدّ ذاته.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٢٤.

(٢) والظاهر زيادة كلمة ( عدم ).

٣١٢

وثانيهما : عدم مانع عن اقتضائه في المورد ، فالبحث عن أحدهما لا يغني عنه في الآخر ، بمعنى أن المثبت لأحدهما من دون إثباته للآخر بعد لا يجوز له دعوى لزوم الموافقة القطعية نعم النافي له يكفيه نفي أحدهما ، فحينئذ :

إن كان المقصود بالبحث عن لزوم الموافقة القطعية هو إثبات لزومها فعلا بأيّ دليل كان ، فهو خارج عن مسألتي البراءة والاحتياط قطعا ، نعم هذا من المبادئ التصديقية لهذه المسألة حينئذ.

ومنه يظهر خروجه عن مسألة حجية القطع أيضا ، إذا الكلام فيها في اقتضائه للزم العمل ، فيكون هو أيضا من المبادئ التصديقية لها.

وإن كان المقصود به إثبات مجرد اقتضائه لها في نفسه فيكون داخلا في مسألة حجية القطع ، فلا ربط له بمسألتي البراءة والاحتياط أيضا ، فهو إنّما يدخل فيهما إذا كان المقصود به إثبات مانعية الجهل وعدمها كما عرفت ، وقد عرفت أنّه بعد الفراغ عن أصل اقتضاء القطع للزوم الموافقة القطعية.

فمن هنا ظهر ورود الإشكال على المصنف على جميع تلك التّقادير الثلاثة فإنّه :

إن كان نظره في إرجاع البحث عن لزوم الموافقة القطعية إلى تينك المسألتين من الجهة الأولى والثانية فيتّجه عليه أنّه من الجهة الأولى خارجة عنهما وعن مسألة حجية القطع أيضا وهكذا بالنّظر إلى الجهة الثانية.

وإن كان نظره في ذلك إلى الجهة الثالثة ، فيتجه عليه أنّه مبنى على إثبات أصل اقتضاء العلم الإجمالي للموافقة القطعية مع أنّه (قدّس سرّه) أهمل البحث عنه في مسألة حجية القطع لاقتصاره فيها على البحث عن اعتبار العلم التفصيليّ وعن اقتضاء العلم الإجمالي لمجرد حرمة المخالفة القطعية وعدمها من غير تعرض لاقتضائه لوجوب الموافقة القطعية أصلا.

والظاهر أنّ نظره (قدّس سرّه) إلى الجهة الثالثة.

٣١٣

ثمّ إنّ المراد بالعلم الإجمالي المبحوث عن كونه مثبتا للتكليف إنّما هو العلم الإجمالي بالخطاب لا العلم بالتكليف ، لأنّ فرض الكلام في العلم بالتكليف يناقض إنكار كونه مثبتا له صريحا فلا يعقل فيه النزاع.

مع أنّه ذهب بعضهم في المقام إلى جواز المخالفة القطعية وجعل المعلوم الإجمالي كالمشكوك رأسا كما ستعرف.

والحاصل : أنّ الكلام في العلم الإجمالي بطلب من الشارع هل هو كالعلم التفصيليّ في كونه منجّزا لمتعلقه على المكلف على وجه يستحق العقاب على مخالفته قطعا لا محالة أو أنّه كالمجهول رأسا فلا يوجب تنجزه عليه أصلا.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( وأخرى في أنّه بعد ما ثبت التكليف إلى قوله فهل يكتفي في امتثاله بالموافقة الإجمالية ) (١).

أقول : قبل الشروع في المسألة ينبغي تمهيد مقال :

فاعلم أنّ الشك في كفاية الموافقة الإجمالية قد ينشأ من الشك في اعتبار قصد وجه المأتي به ، بمعنى جعله داعيا إلى الإتيان به ، فإنّ ذلك ـ أيضا ـ لا يتحقق إلاّ بالموافقة التفصيلية ومعرفة أنّ ما يأتي به هو الواجب ، وقد ينشأ من الشّك في اعتبار كلا الأمرين معا ، وذلك لأنّه لا يعقل الشّك في كفاية الموافقة مع القطع بعدم اعتبار شيء من ذينك الأمرين ، لأنّ معنى الموافقة التفصيلية المبحوث عن لزومها وعدمه إنّما هو الإتيان بالمأمور به على وجه يمتاز المكلف به في وجوده الخارجي عن غيره بأن يعرف الفعل الشخصي الصّادر منه المنطبق على (٢) الواجب ، بأن يعلم أنّه هو فرد ذلك الواجب الكلّي ، وذلك عين معرفة وجه المأتي به تفصيلا ، فاحتمال اعتبارها يناقض القطع بعدم اعتبار معرفة الوجه

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٢٤.

(٢) كذا في النسختين ، والأصح أبدال ( على ) إلى ( عليه ).

٣١٤

تفصيلا وعدم اعتبار قصد الوجه المتوقف عليها معا ، بمعنى القطع بعدم اعتبار شيء منهما.

فظهر أنّ مرجع النّزاع في اعتبار الموافقة التفصيلية وعدمه إلى اعتبار أحدهما أو كليهما.

ومن هنا ظهر ـ أيضا ـ أنّ المدّعي لاعتبارها يكفيه إثبات اعتبار أحد الأمرين من غير توقف (١) على إثبات كليهما معا ، لأنّه إن أثبت اعتبار معرفة الوجه تفصيلا من حيث هي ، لا من جهة كونها مقدمة لقصد الوجه فقد عرفت أنّه عين المدّعي ، وإن أثبت اعتبار قصد الوجه فقد عرفت أنه مستلزم لاعتبار معرفة الوجه تفصيلا من باب المقدمة ، فاعتباره بالأخرة يرجع إلى اعتبار معرفة الموافقة التفصيلية التي هي المدّعي.

ولكن المنكر لاعتبارها لا يكفيه نفي اعتبار أحد الأمرين خاصة ، بل لا بدّ له من نفي اعتبار كليهما معا.

وظهر أيضا أنّ النّزاع في المسألة غير راجع إلى شرطية الموافقة التفصيلية للمأمور به أو جزئيتها له بوجه ، لما عرفت من رجوعه إلى النّزاع في اعتبار أحد الأمرين المذكورين أو كليهما ، ومن المعلوم أنّهما على تقدير اعتبارهما لا يعقل أخذهما في المأمور به شرطا أو شطرا ، لاستلزامه الدّور كما حققنا في محله ، ووجهه واضح ، بل هما من قبيل نية القربة ، راجعان إلى كيفية الإطاعة ، الغير الصالحة لأخذها في المأمور به ، فالنّزاع في اعتبار أحدهما أو كلاهما يرجع إلى النزاع في اعتبارهما في تحقق الإطاعة المعتبرة في العبادات [ وأنّه ](٢) هل تتحقق بالموافقة الإجمالية أو تتوقف على الموافقة التفصيلية من حيث توقفها على واحد ذينك

__________________

(١) في النسختين : من غير فرق ، والأظهر ما أثبتناه في المتن.

(٢) زيادة تقتضيها السياق.

٣١٥

الأمرين أو على كليهما معا.

فمن هنا ظهر أنّ القول بالبراءة في مقام الشك في جزئية شيء للمأمور به أو شرطيته له لا يلازم القول بها في المسألة ، لعدم رجوعها إلى تلك المسألة.

ثمّ إنّ النّزاع في المسألة إنّما هو فيما إذا تمكّن المكلف من الامتثال التفصيليّ ، و (١) مع تعذره عليه يكفيه الامتثال الإجمالي اتّفاقا ، مع أنّه لا يعقل القول بعدم كفايته حينئذ لاستقلال العقل حينئذ بكفايته في تلك الحال بالبديهة وعدّه طاعة عنده بالضّرورة.

وأيضا النزاع فيها فيما إذا كان الامتثال الإجمالي لغرض عقلائي بحيث لا يعد عبثا وسفها عند العقلاء واستهزاء على المولى.

ومن هنا ظهر أنّه لا وجه للنقض على القائل بكفاية الموافقة الإجمالية بما إذا عدّت سخرية واستهزاء على المولى ، فإن عدم كفايتها حينئذ متفق عليه بين الفريقين ولا يعقل الشك في عدم انعقادها طاعة في تلك الحال.

ثمّ إنّه لمّا كان مرجع النّزاع فيها إلى النّزاع في تحقق الطاعة بالموافقة الإجمالية وعدمه فالحاسم له إنّما هو الرجوع إلى العقلاء في موارد طاعتهم ، فيستعلم منهم أنّ الموظف عندهم ـ فيما كان غرضهم هو إيقاع المأمور به على وجه الطاعة ـ ما ذا؟ لأنّا نعلم بالإجماع بل بالضرورة أنّ الشارع لم يأت بطريقة جديدة في باب الطّاعة ، بل غرضه في العبادات إنّما هو إيقاعها على الوجه المقرر عند العقلاء في موارد قصد بها الطاعة.

فإذا عرفت ذلك كله فاعلم أنّ الحق كفاية الموافقة الإجمالية في إطاعة ما قصد به الطاعة ، بمعنى تحقق الطاعة بها إذا (٢) وقعت بداعي الأمر مع كون

__________________

(١) كذا ، ولعل إبدالها إلى ( إذ ) أولى.

(٢) في نسخة ( ب ) : فيما ، وفي نسخة ( أ ) ما أثبتناه في المتن.

٣١٦

الاقتصار عليها لغرض عقلائي كما هو المفروض في محلّ البحث من غير توقف تحققها على معرفة المأمور به تفصيلا بوجه.

لنا أنّ لو أمر مولى من الموالي العرفية عبده بشيء مع كون غرضه هو إيجاده على وجه الطاعة ، فأتى به العبد بداعي أمره به في أمور لا يعلم بنفس الواجب فيما بينه وبينها وإنّما يعلم حصوله في ضمنها ، لا يتوقف أحد من العقلاء في كونه مطيعا للمولى ، ولا في خلاص ذمته عن ذلك الأمر بحيث لا أخذه المولى على ترك الموافقة التفصيلية لذمّوه ، وكفى به حجة في أمثال المقام.

وربما يناقش في ذلك بأنّ تحقّق الطاعة ـ في الأوامر العرفية حتى في التعبدية فيها بمجرد الإتيان بالمأمور به بداعي الأمر ـ ليس لأجل أنّها عندهم (١) عبارة عن الإتيان بالمأمور به على وجه تحصل بمجرد الإتيان به (٢) بداعي الأمر فلذا تحققنا (٣) الإطاعة بها بمجرده ، ولو فرض كون الغرض في واجب من واجباتهم ـ على وجه يتوقف الإتيان به بداعي الأمر مع معرفته تفصيلا ـ لما يحكمون الطّاعة وفراغ ذمة العبد بمجرّد الإتيان به بداعي الأمر ، والإطاعة بهذا المعنى لا يختص لزومها بالعبادات ، بل يعم التوصليات أيضا ، لأنّها لو لم يؤت بها على وجه يحصل بها الغرض لم يسقط معه الأمر بها أيضا ، إلاّ أنّ الغرض منها لمّا كان على وجه يحصل بمجرد الإتيان بذات الفعل من غير توقّف على كون الدّاعي للإتيان هو الأمر ، فضلا عن توقفه على معرفتها تفصيلا فتحقق الطاعة فيها بمجرد الإتيان بذواتها كيف ما اتفق إنّما هو لذلك.

وإن شئت توضيح ذلك فنقول : إنّ الإطاعة (٤) في العرف وكذا في ألسنة

__________________

(١) عندهم : ساقطة من ( ب ).

(٢) في النسختين ( بها ).

(٣) كذا والظاهر ( تتحقّق ).

(٤) في نسخة ( أ ) : ( العلماء أيضا ) ، وفي ( ب ) : ( أنّ الطاعة ).

٣١٧

الفقهاء (١) قد يطلق على عدم العصيان ، وقد يطلق على الإتيان بالمأمور به بداعي الأمر ، وامتياز العبادات عن (٢) غيرها إنّما هو باختصاصها بذلك ، بمعنى اعتبار كون الدّاعي إلى الإتيان بها هو الأمر.

والإطاعة بالمعنى الأول إنّما يحصل بالإتيان بالمأمور به على وجه يحصل غرض الآمر ولازمه عقلا فراغ الذّمّة وسقوط الأمر.

وأمّا كونه منشأ للثواب أيضا ، فإنّما هو فيما إذا كان الدّاعي للإتيان هو الأمر ، كما أنّ أصل تحققه يتوقف على ذلك في العبادات ، فإنّ الإتيان بها لا يكون محصّلا للغرض منها إلاّ مع كون الدّاعي له هو الأمر.

والظاهر (٣) أنّ إطلاق الإطاعة على المعنى الثاني ـ أعني الإتيان بالمأمور به بداعي الأمر ـ إنّما هو [ فيما ] إذا حصل معه فراغ الذّمّة للمأمور ، فعلى هذا ليكون (٤) الإطاعة بالمعنى الثاني أخص منها بالمعنى الأوّل ، أعني يقابل العصيان مطلقا ، وحيث اعتبر فيها على المعنى الثاني تحقق الفراغ معها تكون (٥) هي بذلك المعنى ملزومة للثواب وسقوط العقاب أيضا بخلاف الإطاعة بالمعنى الأوّل حيث إنّها ملزومة للثاني وأمّا الأول فإنّما هو يلزمها فيما إذا اتّحدت مع الإطاعة بالمعنى الثاني.

فإذا عرفت ذلك فاعلم أنّ اللاّزم بحكم العقل ـ في كلّ واحد على كلّ أحد مع كون الآمر ممن يجب أتباعه على المأمور ـ إنّما هو الإطاعة بالمعنى الأوّل ، فإنّ الّذي يلزم به المأمور إنّما هو تحصيل الأمن من العقاب الناشئ من العصيان ، وأما الثواب فلا يحكم بلزوم تحصيله عليه وإن كان يحكم بحسنه ، فلا

__________________

(١) في نسخة ( أ ) ( العلماء أيضا ).

(٢) في نسخة ( أ ) ( من ).

(٣) في نسخة ( ب ) ( وأيضا ).

(٤) في النسختين : ( فيكون ).

(٥) في النسختين : ( فيكون ).

٣١٨

يحكم بلزوم الإطاعة بالمعنى الثاني إلاّ إذا توقّفت هي بالمعنى الأوّل عليها بذلك المعنى ، فإنّه حينئذ يستقل بلزومها حينئذ مقدّمة (١) لتحصيلها بالمعنى الأول ، وكلّ آمر يأمر بشيء إنّما يقصد الإطاعة بهذا المعنى فيطلب ما يحصّلها تحصيلا لغرضه المقصود منها من الأمر ولو بأمر آخر غير الأمر بالأجزاء والشرائط المعهودة.

والمعتبر في تحقق الإطاعة بالمعنى الأوّل والمحصّل لها ـ على ما هو المقرّر عند العقلاء وأهل العرف في أوامرهم ـ إنّما هو الإتيان بالمأمور به على وجه يحصّل غرض الآمر كما أشرنا إليه.

ومعيّن ثبوت الموافقة بين الشّرع والعرف في باب الإطاعة إنّما هو لزوم الإتيان بالواجبات الشرعية أيضا على ذلك الوجه ، فإن علم كفاية الإتيان بذواتها كيف ما اتّفق في تحصيل الغرض منها ـ كما هو الحال في التوصّلية منها ـ فتحقق إطاعتها المفرّغة للذمة عنها بمجرد الإتيان بها كيف ما اتفق ، وإلاّ علم عدم كفاية الإتيان بها كذلك إذا احتمل ، فيجب إيقاعها على وجه يقطع معه بحصول الغرض بأن يأتي بها مشتملة على جميع ما علم أو احتمل مدخليته في حصوله ، لأنّ محتمل المدخلية على تقدير اعتباره واقعا يتوقف عليه حصوله ، فالإتيان بها لا معه يمنع من القطع بالإطاعة اللازم بعد اشتغال الذّمّة بالتكليف.

والّذي علم اعتباره في العبادات الشّرعية إنّما هو كون الدّاعي إلى الإتيان بها هو الأمر كما علم ذلك في العبادات العرفية أيضا ، لكن يحتمل في العبادات الشرعية اعتبار أمر زائد يتوقف عليه حصول الغرض منها وإن لم يحتمل في العبادات العرفية وهو معرفتها تفصيلا فيجب الإتيان بها مشتملة عليها أيضا تحصيلا للفراغ اليقيني المتوقف على الإتيان بها على وجه يقطع معه بحصول الغرض بعد ثبوت الاشتغال اليقيني.

__________________

(١) كانت في نسخة ( أ ) : منضمّة ، وفي نسخة ( ب ) : متضمّنة ، والمناسب ما أثبتناه.

٣١٩

لا يقال : المتيقن من الاشتغال إنّما هو بالنسبة إلى القدر المعلوم ، وأمّا المحتمل اعتباره فيها فهو بالنسبة إليه غير متيقّن ، فيكون المورد من موارد إجمال المكلّف به وتردّده (١) بين الأقل والأكثر ، فيعمل فيه بقواعده المقرّرة له ، وحيث إنّ المختار في محلّه الرّجوع فيه إلى أصالة البراءة فيكون المرجع هنا أيضا هي البراءة (٢).

فإنّ الّذي شكّ في اعتباره في المقام وهو معرفة الواجب تفصيلا وإن لم يكن قابلا لاعتباره في الأمر الابتدائي بالعبادة. لكونه من مقولة الطاعة الممتنع اعتبارها فيه ـ كما مرّت الإشارة إليه ـ إلاّ أنّه يمكن طلبه بأمر آخر يؤخذ في موضوعه ذلك الأمر فهو على تقدير اعتباره شرط في المطلوب ، والمناط في الرجوع إلى أصالة البراءة إنّما هو قبح التكليف بلا بيان من غير فرق بين أن يكون التكليف مما يمكن بيانه بأمر واحد أو يتوقف على أمرين.

وبالجملة المعهود من الجزء والشرط المبحوث عنهما ـ في مسألة الشك في جزئية شيء أو شرطيته للواجب ـ وإن كان هو القسم الأول منهما لكن المناط فيه بعينه موجود في القسم الثاني منهما أيضا.

لأنّا نقول : الكلام في المقام بعد الفراغ عن إحراز سائر أجزاء المطلوب وشرائطه وتشخيصها من الأدلة وبعد الفراغ عن اعتبار كون الدّاعي للإتيان في العبادات الشرعية هو الأمر. وأما معرفتها تفصيلا فاعتبارها على تقديره إنّما هو بعنوان كونها محصّلة للغرض بمعنى أنّ المعتبر في جميع العبادات شرعية كانت أو عرفية إنّما هو كون الدّاعي إلى الإتيان بها هو الأمر مع كون الإتيان بها على وجه يحصل معه الغرض إلاّ أنّ الأغراض يختلف بحسب العرف والشرع ،

__________________

(١) في نسخة ( ب ) : ودورانه.

(٢) في النسختين : ( الاحتياط ) والصحيح ما أثبتناه.

٣٢٠