تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٣

المولى علي الروزدري

تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٣

المؤلف:

المولى علي الروزدري


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-54-X
ISBN الدورة:

الصفحات: ٣٨٢

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيّبين الطاهرين ، ولعنه الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

[ في القطع ](١)

في المراد من المكلف في عبارة الشيخ (ره)

قول المصنّف ـ قدّس سرّه ـ : ( فاعلم أنّ المكلّف إذا التفت إلى حكم شرعي ) (٢).

مراده ـ قدّس سرّه ـ من المكلّف ليس الّذي تنجّز عليه الخطاب كما هو الظاهر ، ـ لامتناع كونه مقسما بين الملتفت وغيره ، إذ لا بدّ في تنجّز الخطاب من الالتفات لا محالة ، فهو لا يكون إلاّ الملتفت ، فيمتنع انقسامه إليه وإلى غيره بل إنّما هو الجامع لشرائط الخطاب الّذي هو المقسم بينهما ، لأنّ ظاهر قوله : ( إذا التفت. ). هو تقسيمه إليهما الظاهر في كونه قيدا احترازيا ، لا توضيحيا محقّقا لموضوع المكلّف ، كما قد يتوهّم وهو أنّ يناسب ذلك (٣). نعم هو محقّق لموضوع القاطع والظانّ والشاكّ ، إذ لا يتحقّق تلك العناوين إلاّ به ، فهو من قبيل : ( إذا رزقت ولدا فاختنه ) من حيث كونه محقّقا لنفس الجزاء.

هذا ، مضافا إلى تصريحه ـ قدّس سرّه ـ بذلك منذ قرأنا عليه هذا الموضوع من الرسالة.

وأيضا يدفع احتمال كونه توضيحيّا وإرادة الّذي تنجّز عليه الخطاب : أنه ـ قدّس سرّه ـ أراد جميع أصناف الملتفت : من القاطع ، والظانّ ، والشاكّ ، سواء

__________________

(١) نظرا إلى سقوط بحثي القطع والظنّ من النسخة الأصليّة ، ولم نجدهما إلاّ في نسختين مستنسختين عنها ، لذا اعتمدنا في تحقيق هذين البحثين عليهما ورمزنا لهما ب : ( أ ، ب ).

(٢) فرائد الأصول ـ طبعة جماعة المدرّسين ١ : ٢.

(٣) كذا ، ولكن ربما صحيح العبارة هكذا : ( كما قد يتوهّم ، وهو لا يناسب ذلك ).

٢٢١

كان في التكليف ، أو في المكلّف به ، مع أنّ الملتفت الشاكّ في التكليف معذور عقلا ونقلا ـ كما اختاره (قدّس سرّه) في مسألة البراءة والاحتياط ـ فلا يصحّ إدخاله في المكلّف إلاّ بإرادة ما ذكرناه فيه.

وأمّا لفظ الحكم : فالمراد به إنّما هو الحكم الشرعي الكلّي كما صرّح به ـ قدّس سرّه ـ حين قرأنا عليه ، فما يتعرّض [ له ] في مطاوي مسألة البراءة والاحتياط من حكم الشبهات الموضوعية إنّما هو من باب التطفّل والاستطراد.

وهل المراد به خصوص ما كان أحد الأحكام الخمسة التكليفية أو ما يعمّ الوضعيّة أيضا؟

قد صرّح المصنّف ـ قدّس سرّه ـ بالأوّل ، فتعرّضه في بعض المواضع لحكم الشكّ في الأحكام الوضعيّة خارج عن وضع الرسالة ، وإنّما هو من باب التطفّل.

وهل يمكن تقسيم مجاري الأصول إليها وإن لم يكن مرادا ، أو يمتنع؟

قال ـ دام ظلّه ـ : يمكن بتقريب أنه إذا كان الشكّ في شيء منها ، فإن لوحظ الحالة السابقة عليه فهو مورد الاستصحاب ، وإن لم يلحظ فيه ذلك فلما لم يكن قاعدة أخرى غير الاستصحاب مثبتة للحكم الوضعي أو نافية له في مورد الشكّ فيه والمفروض عدم جريانه في المورد ، فإنّ غيره من الأصول الثلاثة إنّما هو مثبت أو منفي (١) التكليف لا غير ، فينظر إلى الحكم التكليفي في ذلك المورد : فإن كان هو مشكوكا من أصله فيكون المورد مجرى البراءة لكونه شكّا في التكليف ، وإن علم في الجملة وشكّ في متعلّقه فيكون مورد الاحتياط مع إمكانه ، ومع امتناعه يكون موردا للتخيير ، فالمورد المشكوك في حكمه الوضعي كونه مجرى للأصول الأربعة المذكورة بهذا الاعتبار.

أقول : الاعتبار المذكور لا يصحّح ذلك بالنظر إلى الشكّ في الحكم

__________________

(١) كذا ، والصحيح : ناف.

٢٢٢

الوضعي من حيث كونه شكّا في الحكم الوضعي ، كما لا يخفى ، بل غاية ما يصحّحه جريان الأصول الثلاثة الاخر ـ غير الاستصحاب في مورده ـ بملاحظة حيثية أخرى ، وهي حيثية الشكّ في التكليف أو في المكلّف به ، بل المصحّح لجريانها حقيقة إنّما هو تلك الثلاثة لا غير ، فالذي يصحّ جريانه في مورد الشكّ في الحكم الوضعي من غير توقّف على ملاحظة حيثية أخرى إنّما هو الاستصحاب ، وأمّا غيره فلا ، فإنّ أصالة البراءة ـ سواء أخذت من العقل أو الشرع ـ إنّما هي نافية للمؤاخذة والتكليف على ما لم يقم حجّة عليه ، وأصالة الاحتياط إنما هي حكم إرشادي لأجل تحصيل الأمن من تبعة ما قام حجّة عليه ، وكذلك التخيير إنما هو حكم عقلي للمتخيّر في مقام الامتثال من غير معيّن ومرجّح ، وكلّها مختصّة بالشكّ في الحكم التكليفي ، فلا تغفل.

وكيف كان ، فحاصل ترجمة عبارته ـ قدّس سرّه ـ : أنّ الجامع لشرائط الخطاب إذا خطر بباله محمول من المحمولات الشرعية بالنسبة إلى فعل عامّ من أفعال المكلّف ، فحالاته بمقتضى الحصر العقلي منحصرة في ثلاث ، فإنه حينئذ : إمّا أن يرجّح في نظره ثبوت ذلك المحمول للفعل المتصوّر ، أو انتفاؤه عنه ، أو لا يرجح شيء منهما أصلا ، والثاني هو الشك ، وعلى الأوّل : إما أن يكون الرجحان في نظره مانعا من احتمال النقيض ، أو لا يكون ، الأول هو القطع ، والثاني هو الظنّ.

ثمّ إنّ البحث عن حجية الأمارات كالبحث عن الشبهات الموضوعية ، وعلى تقديره ـ إنما هو من باب التطفّل ، إذ المقصد الأصلي ـ كما عرفت ـ إنّما هو بيان حكم القطع والظنّ والشكّ بالنظر إلى الأحكام الكلّية.

قوله ـ قدّس ـ سرّه ـ : ( وهي منحصرة في أربعة ... إلخ ) (١).

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٢.

٢٢٣

ظاهره حصر نفس الأصول العملية في الأربعة ، وظاهر ما فيه من التقسيم أيضا إنّما هو التقسيم الأصلي ، فيكون حاصل ما يستظهر منه أنّ الأصول العملية منحصرة عقلا في الأربعة ، وهو لا يستقيم ، ضرورة إمكان أزيد منها ، إذ لا امتناع عقلا أن يحكم الشارع في مورد الشكّ بملاحظة الحالة السابقة ـ مثلا ـ في مرحلة الظاهر بحكمين : أحدهما وجوب البناء على طبق الحالة السابقة ، والثاني وجوب البناء على نقيضها ، مع اختلاف مواردهما ، إلاّ أنّ الواقع إنّما هو الأوّل ، وهو لا ينافي إمكان الثاني.

فالحريّ (١) ـ مع بقاء التقسيم على ظاهره ـ إرادة حصر مجاري الأصول في الأربعة ، كما صرّح به ـ قدّس سرّه ـ في التقسيم الّذي ذكره في مسألة البراءة (٢) ، وإرادة حصر نفس الأصول بالنظر إلى الواقع ، بأن يراد من التقسيم المذكور تقسيمها من حيث الوقوع ، لكن سيأتي [ أنّه ](٣) من حيث دورانه بين النفي والإثبات ـ يأبى عن ذلك ، فإنه كالصريح ـ بل صريح ـ في إرادة تقسيم مجاريها ، فالأوفق ـ بل المتعيّن ـ حمل قوله : ( وهي منحصرة في أربعة ) على إرادة مجاريها.

ويشهد له ـ مضافا إلى عدم استقامة ظاهره الغير اللائق نسبته إلى من دونه ، وإلى بعد حمله على إرادة حصر نفس الأصول بالنظر إلى الوقوع ـ ما صرّح به في مسألة البراءة ، فإنّ الظاهر أنّ ذلك الّذي ذكره هنا إنما هو الّذي ذكره هناك.

__________________

(١) في النسخة ( أ ) : ( فالجري ) ..

(٢) فرائد الأصول ١ : ٣١٠.

(٣) إضافة اقتضاها السياق.

٢٢٤

ويرشد إليه أيضا قوله في التقسيم (١) المذكور : ( والأول (٢) مجرى الاستصحاب ، والثاني مجرى أصالة البراءة ) (٣) إلى آخر ما ذكره ـ قدّس سرّه ـ.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( إما أن يلاحظ فيه الحالة السابقة ... إلخ ) (٤).

المراد بالملاحظة إنما هو ملاحظة الحكم (٥) باعتبار الأصل العملي ، وهو العقل في الأصول العقلية العملية ، والشرع في الشرعية منها ، لا ملاحظة المكلّف ـ بالفتح ـ ، لعدم العبرة بملاحظته في شيء من الأحكام ، ومنه يعلم عدم صحّة إرادة الأعمّ أيضا.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( وبعبارة أخرى : الشكّ إما أن يلاحظ فيه الحالة السابقة ... ـ إلى قوله ـ : والثاني مجرى أصالة البراءة ... ـ إلى قوله ـ : والرابع مجرى قاعدة التخيير ) (٦).

هذا أجود من العبارة الأولى من وجوه (٧) :

أحدها : أنّ ما ذكره في الأولى من قوله : ( والثاني مجرى أصالة البراءة ... ـ إلى قوله ـ : والرابع مجرى قاعدة التخيير ) لا ينطبق على ما ذكر فيها من التقسيم إلاّ بتكلّف ، كما لا يخفى ، فالأوفق بقاعدة التقسيم من هذه الحيثية إنّما هي الثانية.

وثانيها : أنّه قد أخذ في الأولى إمكان الاحتياط في المقسم (٨) بين مجرى

__________________

(١) في النسخة ( أ ) : ( ويرشد إليه أيضا في قوله على التقسيم المذكور. ) ..

(٢) في المصدر : ( فالأوّل ) ..

(٣) فرائد الأصول ١ : ٢.

(٤) فرائد الأصول ١ : ٢.

(٥) كذا والصحيح : ( ملاحظة الحاكم ).

(٦) فرائد الأصول ١ : ٢.

(٧) في النسخة ( ب ) : ( من وجوه عديدة ) ..

(٨) في ( ب ) : التقسيم.

٢٢٥

أصالة البراءة والاحتياط ، ومقتضاه اختصاص أصالة البراءة بما أمكن فيه الاحتياط ، مع أنها قد تجري فيما لم يمكن فيه الاحتياط ـ أيضا ـ كما إذا دار الأمر في مورد بين الوجوب والتحريم (١) ، والإباحة ـ مثلا ـ في شيء واحد ، فإنه من مواردها على مختاره ـ قدّس سرّه ـ أيضا ، مع خروجه عمّا ذكره تعريفا لمجراها ، بل تجري فيما إذا دار الأمر بين الوجوب والتحريم في شيء واحد مع القطع بعدم الثالث ـ أيضا ـ مع عدم إمكان الاحتياط فيه بالضرورة ، فتأمّل.

والحاصل : أنّه ـ قدّس سرّه ـ في مقام ضبط مجاري الأصول ، فلا بدّ من أن يكون (٢) تعريف منها لجميع المصاديق (٣) ، فلا يكفي الصدق في الجملة ، هذا بخلاف العبارة الثانية ، لعدم أخذ إمكان الاحتياط في مجرى البراءة فيها.

ويمكن التفصّي عن الإشكال المذكور : بالنظر إلى صورة الشكّ في الوجوب والتحريم مع احتمال الإباحة ، بتكلّف أنها ـ أيضا ـ من موارد إمكان الاحتياط ، بأنّ المراد من إمكان الاحتياط إمكانه في الجملة ولو بالإضافة ، فإنّ الّذي لا يمكن فيها إنما هو الاحتياط التامّ ومن جميع الجهات ، وأما في الجملة فممكن ، فإن فعل ذلك المشكوك المحتمل للوجوب والحرمة والإباحة ، لاحتمال وجوبه ، أو تركه لا لذلك ، بل لاحتمال الإباحة ، فيكون أحوط ، فيمكن فيه هذا المقدار من الاحتياط.

وبالجملة : المكلّف في الصورة المذكورة وإن لم يكن [ ملزما ] بشيء (٤) من الفعل أو الترك إلاّ أن إقدامه على أحدهما لاحتمال الوجوب أو الحرمة أحوط

__________________

(١) في ( ب ) : الحرمة.

(٢) في ( ب ) : وأن يكون.

(٣) كذا في النسخة ( أ ) ، والصحيح في العبارة هكذا : فلا بدّ من أن يكون تعريف كلّ منها شاملا لجميع المصاديق.

(٤) في نسخة ( أ ) : وإن لم يكونا بشيء.

٢٢٦

من إقدامه عليه لاحتمال الإباحة ، فتأمّل.

وأمّا بالنظر إلى صورة دوران الأمر بين الوجوب والحرمة مع القطع بعدم الثالث ، فيمتنع كونها من موارد البراءة ، بل إنّما هي من موارد التخيير.

وثالثها : أنّ المأخوذ في مجرى التخيير بمقتضى العبارة الأولى أمران :

أحدهما : عدم ملاحظة الحالة السابقة على الشكّ.

وثانيهما : عدم إمكان الاحتياط من غير إشارة فيها إلى اعتبار أزيد منها فيه ، ولا ريب أنه بإطلاقه شامل لبعض الصور من موارد الشكّ في التكليف التي هي مجرى أصالة البراءة ، كالصورة الأولى من الصورتين المذكورتين في الوجه الثاني ، بخلاف العبارة الثانية ، فإنّ المعتبر فيها في مجرى التخيير أمور ثلاثة : ثالثها كون الشكّ في المكلّف به فلا يشملها.

اللهمّ إلاّ أن ينصف (١) في دفع هذا الإشكال ـ أيضا ـ بما ذكر ، وهو كما ترى ، فالعبارة الثانية أجود ، بل سنبيّنه (٢) بالإضافة إلى الأولى.

ثمّ إنّه ـ دام ظلّه ـ قال [ ها هنا ] مناقشتان : إحداهما مختصّة بالعبارة الأولى ، والأخرى مشتركة بينهما (٣) :

أما المختصة بالأولى : فهي أنّ المذكور فيها ضابطا لمجرى أصالة البراءة هو أن يكون الشكّ في التكليف مع إمكان الاحتياط في مورد الشكّ ـ مثلا ـ نظرا إلى ظهورها في أخذه واعتباره في المقسم بين مجرى البراءة والاحتياط ، ولمجرى أصالة التخيير أن يكون الشكّ غير ملحوظ فيه الحالة السابقة ، مع عدم إمكان الاحتياط في مورده ، من غير اعتبار كون الشكّ في المكلّف به ، كما مرّت

__________________

(١) في ( ب ) : يتعسف.

(٢) كذا في النسخة ( أ ) ، والصحيح : بل متعيّنة.

(٣) في النسخة ( أ ) : أحدها مختصّة .. وأخراها مشتركة بينها.

٢٢٧

الإشارة إليه سابقا.

ومن المعلوم أنّ صورتي دوران الأمر بين الوجوب والحرمة في شيء واحد ـ مع القطع بعدم الثالث أو مع احتماله ـ لا يشملهما (١) حدّ مجرى أصالة البراءة المذكورة في العبارة الأولى باعتبار أخذ إمكان الاحتياط فيه ولو مع إرادة النوع الخاصّ من التكليف مع أنهما من مواردها على مختار المصنّف في مسألة البراءة والاحتياط ـ كما هو المختار عندنا أيضا ـ ويشملهما حدّ (٢) مجرى التخيير المذكور فيها ، سواء أريد بالتكليف جنس الإلزام أو نوعه الخاصّ ، إذ اللازم على التقدير الثاني كون الصورتين المذكورتين كلتيهما من صور الشكّ في التكليف ، وعلى التقدير الأول كون الثانية منهما (٣) وكون الأولى من صور الشكّ في المكلّف به ، والمفروض عدم اعتبار كون الشكّ راجعا إلى المكلّف به في مجرى التخيير ، فيشملها على كلّ من التقديرين ، مع أنّها ليست من موارده ، مع أنه يشتمل الصورة الأولى على التقدير الأوّل مع اعتبار القيد المذكور أيضا ، كما سيأتي بيانه.

وكيف كان ، فالكلام في المناقشة في العبارة المذكورة بالنظر إلى عدم اعتبار القيد المذكور في حدّ مجرى التخيير ، وإلى اعتبار إمكان الاحتياط في مجرى البراءة ، واللازم من احتمال الأولى (٤) في الأول انتقاض طرده بالصورتين المذكورتين ، ومن اعتبار الثاني في الثاني انتقاض عكسه بهما (٥).

__________________

(١) في النسختين : فلا يشملها.

(٢) في النسختين : ويشملها أحد ..

(٣) كذا ، والصحيح : ( كون الثانية منها ). ، أي من صورة الشكّ في التكليف

(٤) كذا ، والصحيح : ( واللازم من اعتبار الأوّل في الأول ). أي اعتبار القيد الأوّل ـ وهو كون الشكّ راجعا إلى المكلّف به ـ في الأوّل ـ أي في مجرى الاحتياط ـ.

(٥) في النسختين : انتقاض عكسه بها.

٢٢٨

ولا يجري هذه المناقشة في العبارة الثانية بالنظر إلى الثانية من الصورتين مطلقا ، وإلى أولاهما (١) بناء على إرادة النوع الخاصّ من التكليف ، إذ الثانية لم يعلم فيها الإلزام مطلقا ـ لا نوعه ولا جنسه ـ فلا تكون من موارد الشكّ في المكلّف به مطلقا ، فلا يشملها حدّ مجرى التخيير المذكور في تلك العبارة ، لاعتبار رجوع الشكّ فيها إلى المكلّف به ، ويشملها حدّ مجرى أصالة البراءة المذكور فيها كذلك ، لأنها على التقديرين من موارد الشكّ في التكليف المذكور فيها حدّا لمجراها.

وأمّا أولى الصورتين فلأنّها إن تكن من صور الشكّ في التكليف ـ بناء على إرادة جنس الإلزام من التكليف المذكور في تلك العبارة ـ يتّجه (٢) المناقشة المذكورة والنقض بها على ذلك التقدير ، وأمّا بناء على تقدير إرادة النوع الخاصّ منه فلا ، كما لا يخفى.

وأمّا المناقشة المشتركة بين العبارتين : فهو أنّ المصنّف قد حدّد مجرى أصالة البراءة في أولاهما بكون الشكّ في التكليف مع إمكان الاحتياط ، فيتّجه عليه أنّ مراده بالتكليف المذكور فيهما إمّا النوع الخاصّ من الإلزام ، أو جنسه ، وعلى التقديرين لا يستقيم شيء من الحدّين المذكورين لمجرى أصالة البراءة في العبارتين :

أما على الأول : فلانتقاض طرد كلّ منهما بصورة دوران الأمر بين وجوب أحد الشيئين بالخصوص وبين حرمة الآخر كذلك ، بأن يقطع بصدور إلزام من الشارع ، ويشكّ في أنه هل هو وجوب الصلاة ـ مثلا ـ أو حرمة الخمر؟ لأنّ القدر المعلوم في تلك الصورة إنّما هو جنس الإلزام ، فيكون الشكّ فيها على التقدير

__________________

(١) في النسخة ( أ ) : وإلى أولاها ..

(٢) في النسخة ( أ ) : فلأنها أن يكون من صورة الشكّ ... فيتّجه ..

٢٢٩

المذكور راجعا إلى الشكّ في التكليف المأخوذ في مجرى أصالة البراءة في كلّ من العبارتين.

ومن المعلوم إمكان الاحتياط فيها ـ أيضا ـ بفعل ما يحتمل الوجوب وترك ما يحتمل الحرمة ، فيصدق عليها كلّ من حدّي أصالة البراءة ، مع أنها من موارد الاحتياط على مختار المصنّف في مسألة البراءة والاحتياط أيضا.

وأيضا ما يلزم على هذا التقدير انتقاض عكس حدّ مجرى الاحتياط المذكور فيها بتلك الصورة ، فإنّ المذكور في كلّ منهما ضابطا له قد أخذ فيه رجوع الشكّ إلى المكلّف به.

وأمّا على الثاني : فلانتقاض عكسها بصورة دوران الأمر بين الوجوب والحرمة في شيء واحد مع القطع بعدم الثالث ، إذ عليه تدخل تلك الصورة في صورة الشكّ في المكلّف [ به ] ، فلا يشملها الحدّان ، مع أنّها من موارد أصالة البراءة على مختاره أيضا.

أقول : ويمكن الذبّ عن المناقشة الأولى بالتكليف المقدم ، وهو دعوى إمكان الاحتياط فيما إذا دار الأمر بين الوجوب والتحريم في شيء واحد مع احتمال الثالث ، لكنّه على تقدير تماميته لا ينفع في الذبّ عنها بالنظر إلى دوران الأمر بينهما مع القطع بعدم الثالث.

ويمكن الذبّ عنها بالنسبة إليها بالتزام كونها من موارد التخيير لا البراءة ، والمصنّف اختار فيها ـ في مطاوي مسألة البراءة والاحتياط ـ القول بالتوقّف في مقام الحكم ، والتخيير في مقام العمل ، فلا يرد عليه بالنسبة إليها المناقشة المذكورة.

والّذي يوهم اختياره هناك الرجوع فيها إلى أصالة البراءة حكمه فيها بنفي الحرج عقلا من الفعل والترك ، فيحتملان ، هذا هو معنى الرجوع إلى أصالة البراءة ، وهو فاسد ، لأنّ التخيير والبراءة من حيث النتيجة ـ وهو نفي

٢٣٠

الحرج عن الفعل والترك ـ موافقان ، وإنّما يختلفان من حيث المدرك ، فإنه إمكان الحكم بنفي الحرج من جهة عدم البيان المأخوذ في دليل أصالة البراءة عقلا ونقلا أيضا ، فيكون ذلك هي أصالة البراءة ، وإن كان من جهة الاضطرار إلى أحد من الفعل والترك مع عدم مرجّح لأحدهما بالخصوص ، فيكون ذلك هو التخيير ، والمصنّف حكم هناك من الجهة الثانية بتعريف الحكم به من جهة أدلّة البراءة. فراجع.

والحاصل : أنّ التخيير ـ قد يكون بين الحكمين ، وقد يكون بين الفعلين ، وقد يكون بين الفعل والترك ـ واحد (١) ، ومدركه في الكلّ الاضطرار إلى الإقدام إلى أحد الأمرين مع العجز عن الجمع بينهما مع عدم مرجّح لخصوص أحدهما ومعيّن له على المكلّف ، سواء كان الاضطرار والعجز كلاهما عقليين كما في الصورة المذكورة ، أو شرعيين كما إذا وجب شرعا شرب أحد من الفقّاع أو الخمر ـ مثلا ـ دواء عن مرض يخاف منه على نفسه ، فإنّ اضطراره إلى أحدهما شرعي ، وكذا العجز عن الجمع بينهما ، أو مختلفين كما في المتزاحمين المتساويين عن المكلّف ، فهو لا ينحصر فيها إذا كان طرفاه فعلين أو حكمين ، بل يجري في فعل شيء واحد.

وقوله : ويغاير أصالة البراءة من أنه مبنيّ على المقدّمات الثلاث المذكورة ، وأصالة البراءة مبناها عدم البيان.

وممّا ذكرنا ـ أنّ النّظر في التخيير إنّما هو إلى المقدّمات الثلاث المذكورة التي ليس شيء منها الجهل ـ أنه حقيقة (٢) خارج عن القواعد المقررة للشكّ ، بل إنما هو من الأصول العقلية المقررة للمضطرّ العاجز الّذي لا ترجيح له لأحد

__________________

(١) كذا ، والأصحّ : وهو في الجميع واحد ..

(٢) كذا في النسخة ( أ ) ، والصحيح : ظهر أنه حقيقة ..

٢٣١

الطرفين ، ولذا يجري في المتزاحمين المتساويين مع عدم الشكّ في حكم كلّ منهما في نفسه ، وكذا في حكمها (١) عند التزاحم.

نعم قد يتحقّق مقدّماته في مورد الشكّ ، فيجري فيه لذلك ، فمدركه فيه بعينه هو الّذي في المتزاحمين ، فلا يخفى ما في عدّه من الأصول المقرّرة للشكّ من المسامحة.

وأما المناقشة الثانية : فيمكن الذبّ عنها باختيار الشقّ الثاني من الشّقّين المذكورين في أولاهما ـ وهو إرادة جنس الإلزام من التكليف ـ وضع (٢) اللازم ـ وهو انتقاض عكس الحدّين المذكورين بصورة دوران الأمر بين الوجوب والحرمة في شيء واحد مع القطع بعدم الثالث ـ بما مرّ في توضيح الجواب عن المناقشة الأولى بالنظر إلى تلك الصورة من أنه اختار فيها التخيير ، فلا (٣) هي على مختاره من موارد أصالة البراءة ، بل هذا هو الّذي ينبغي اختياره على القول بالبراءة فيها ، وقد صرّح المصنّف بإرادة جنس الإلزام من التكليف حين قرأنا عليه هذا الموضع من الرسالة.

نعم هو ـ قدّس سرّه ـ قد صرّح في التقسيم الّذي ذكره لمجاري الأصول في أوّل المسألة : بأنّ المراد بالتكليف النوع الخاصّ منه ، وهو ينافي ما اختاره هنا.

وتصريحه به هناك يوهم إرادة النوع الخاصّ منه هنا أيضا ، فيرد عليه انتقاض طرد الحدّين المذكورين.

ثمّ إنه بقي أمران ينبغي التنبيه عليهما :

الأوّل : أنّ مراد المصنّف من المجرى يحتمل أمورا :

__________________

(١) كذا في النسخة ( أ ) ، والصحيح ـ ظاهرا ـ : في حكمهما.

(٢) كذا في النسخة ( أ ) ، والصحيح : « ومنع .. » كما في نسخة ( ب ).

(٣) كذا في النسختين ، والصحيح : فليست.

٢٣٢

أحدها : ما يمكن أن يجري فيه أحد الأصول الأربعة ، فيجري أصالة البراءة ـ مثلا ـ أو ما يمكن جريانها فيه ولو لم يجر فيه فعلا ، إما لقاعدة حاكمة عليها ، أو معارضة لها ، أو لعدم قيام دليل على اعتبارها فيه في نفسها.

وثانيها : ما يكون حكمه الظاهري فعلا أحد تلك الأصول ، فمجرى أصالة البراءة معناه ما يكون حكمه الفعلي من البراءة (١).

وثالثها : ما يكون محلا لجريان واحد مخصوص منها على تقدير قيام دليل على اعتباره ، بمعنى أنه على تقدير اعتباره إنّما يجري فيه لا غيره (٢) ، فلا ينافي ذلك كالأول ، [ أي ] عدم قيام دليل على اعتبار الأصل ، بل يجامع (٣) مع امتناع اعتباره أيضا.

لا سبيل إلى شيء من الأوّلين :

أما أوّلهما : فلاستلزامه عدم انضباط مجاري الأصول لإمكان جريان كلّ منها في مورد الآخر ، ضرورة إمكان جريان الاحتياط في موارد الشكّ في التكليف التي هي مجرى لأصالة البراءة ، وكذا جريان أصالة البراءة في موارد الشكّ في المكلّف به ولو بحكم الشارع ، غاية الأمر ـ أيضا ـ لم يقعا ، وعدم الوقوع لا ينافي الإمكان.

وأما ثانيهما (٤) : فإنّ تلك الأصول إنما تكون أحكاما فعلية لمجاريها إذا لم تعارضها قاعدة أخرى أو تحكم عليها ، مع أنّ كلّ قاعدة جارية في مورد إذا حكمت عليها قاعدة أخرى أو عارضتها لا يخرج ـ بذلك ـ ذلك المورد من كونه مجرى لها ، فأصالة البراءة ـ مثلا ـ إذا عارضتها قاعدة أخرى في مورد أو حكمت

__________________

(١) وفي نسخة ( ب ) : حكمه الفعلي هو البراءة.

(٢) كذا في النسخة ( أ ) ، والأصح : لا في غيره ..

(٣) كذا في النسخة ( أ ) : والصحيح : ( بل يجامع امتناع ) ..

(٤) في النسخة ( أ ) : ثانيها ..

٢٣٣

عليها لا يخرج ذلك المورد بذلك عن كونه مجرى لها في الاصطلاح قطعا ، فتعيّن الثالث.

الثاني : أنّ الغرض الأصلي للمصنّف [ قدس سره ] من وضع رسالة البراءة والاستصحاب ـ المشتمل عليهما كتابه هذا ـ إنما هو بيان الأصول والقواعد العامّة الأوّلية الشرعية أو العقلية المقرّرة للشكّ المنحصرة في الأربعة المشار إليها ، فلما لم ينسب المجاري الأربعة المذكورة إلاّ إليها ، مع أنّ غيرها من الأصول ، العملية الخاصّة ببعض موارد الشكّ لا يخرج مجراها عن أحدها ـ كقاعدة الشكّ في عدد الركعات ، وهي البناء على الأكثر ، فإنّ موردها متّحد مع الاستصحاب في خصوص عدد الركعات ـ فتعرّضه لبعض تلك القواعد الخاصّة في مطاوي الرسالتين إنّما هو من باب التطفّل ، كتعرّضه لقاعدة التخيير بين (١) الخبرين المتعارضين ، فإنّ مراده بالتخيير الأوّلي العامّ المحكوم عليه بالعقل ، لا ما يعمّ ذلك التخيير الخاصّ لخصوص الخبرين المتعارضين ، وقد صرّح رحمه الله في موضع من رسالة البراءة : أنّ التخيير حكم عقلي ، ومن المعلوم أنّ التخيير بين الخبرين حكم شرعي خاص ، بمورد كذلك ، وتحديده لمجرى التخيير بما لم يمكن فيه الاحتياط شاهد على ذلك أيضا ، لجريان التخيير بين الخبرين فيما أمكن فيه الاحتياط أيضا ، فتعرّضه للتخيير بين الخبرين في موارد كون الشكّ ناشئا من تعارض النصوص إنّما هو لأجل استيفاء الحكم العقلي لتلك الموارد ، بمعنى الحكم الآخر (٢) الّذي لا يكون بعد حكم ظاهريّ معارض له أو حاكم عليه.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( وما ذكرناه هو المختار في مجاري الأصول ... إلخ ) (٣).

__________________

(١) في النسخة ( أ ) : عن.

(٢) في النسخة ( أ ) : الأخرى.

(٣) فرائد الأصول ١ : ٢ ، لكن في المصدر : وما ذكرنا ..

٢٣٤

إشارة إلى ما ذهب إليه الأخباريون : من عدم جريان أصالة البراءة في الشبهة الحكمية التحريمية ، وأنها مجرى الاحتياط ، مع أنها من الشكّ في التكليف الّذي جعله ـ قدّس سرّه ـ مجرى لأصالة البراءة.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( لا إشكال في وجوب متابعة القطع والعمل عليه ما دام موجودا ) (١).

مراده من وجوب المتابعة إنما هو وجوبها عقلا من باب الإرشاد ، لا الوجوب الشرعي ، لما سيأتي من امتناع توجّه الأمر والنهي شرعا إلى العمل بالقطع.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( لأنه بنفسه طريق إلى الواقع. ) (٢) ..

توضيحه : أنّ الحجّة المبحوث عنها في باب الأدلّة الشرعية هي ما كانت (٣) طريقا إلى الواقع ، بمعنى كونه كاشفا عن متعلّقه وعن جميع لوازمه الشرعية والعقلية ، وهذا المعنى إنّما هو من الآثار القهريّة للقطع يمتنع عقلا انفكاكه عنه ، فإنّه إذا قطع بشيء فلازمه انكشاف ذلك الشيء للقاطع وانكشاف جميع لوازمه ـ عقلية أو شرعية ـ فلا يكون قابلا للجعل ، لا نفيا لفرض امتناع (٤) نفي هذه الصفة عنه ، ولا إثباتا لكونه تحصيلا للحاصل ، وإنّما يمكن جعل شيء طريقا إذا كان نفي طريقيته باختيار الجاعل ، والمفروض امتناعه في المقام.

هذا مع أنّ ما ذكرنا ـ من أنّ لازم القطع بشيء انكشافه ـ مسامحة ، فإنّ حقيقة القطع بشيء إنما هي انكشافه للقاطع ، نعم استكشاف لوازم ذلك الشيء من لوازم انكشافه ، ولأجل أنّ القطع بشيء إنّما هو انكشافه لا يطلق عليه الحجّة

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٤.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٤.

(٣) في النسختين : هو ما كان.

(٤) في النسخة ( أ ) : لغرض الشارع .. ونسخة ( ب ) لامتناع غرض الشارع.

٢٣٥

حقيقة اصطلاحا ، فإنّها عبارة عن الوسط الّذي يكون واسطة لانكشاف ثبوت الأكبر للأصغر ، فلا يطلق على نفس الانكشاف حقيقة.

وبالجملة : إذا حصل القطع بشيء يترتّب (١) عليه بمجرّده جميع لوازمه وآثاره الشرعية والعقلية ـ أيضا ـ بعد الالتفات إلى الملازمة بينهما ، سواء كان ذلك الأمر المقطوع به موضوعا من الموضوعات أو حكما من الأحكام ، إذ ليس الترتّب إلاّ الانكشاف ، ومن البديهي أنّ انكشاف شيء ملازم عقلا لانكشاف جميع لوازمه بعد العلم والالتفات بالملازمة بينهما ، فإذا قطع بكون مائع معيّن خمرا ، ينكشف (٢) له حرمته ونجاسته اللتان هما من الآثار الشرعية للخمر بعد الالتفات إلى الملازمة ، وكذا لزوم إطاعة ذلك النهي الّذي هو من الآثار العقلية ، وكذا إذا قطع بوجوب شيء فيكشف (٣) به له بمجرّده وجوب إطاعته الّذي هو من آثاره العقلية ووجوب مقدّمته وحرمة ضدّ ذلك الشيء بعد العلم والالتفات إلى الملازمة بينه وبين تلك اللوازم من غير حالة منتظرة بعده ، ولا احتياج في ترتّبها عليه إلى قيام طريق آخر ، فإنّه بمجرّد القطع المذكور يحصل له صغرى وجدانية ، وهو قوله : هذا خمر ، وكبرى كذلك إذا كان قاطعا بلزوم تلك اللوازم ، وهو قوله : كلّ خمر يجب الاجتناب عنها ، ويحرم شربها ، أو كلّ واجب يجب مقدّمته ويحرم ضدّه.

أو مشروعيته (٤) بناء على ثبوت اللزوم عنده بدليل تعبّدي ، أو آثاره كذلك ، وبضمّ تلك [ إلى ] تينك (٥) المقدّمتين ينتج منها ثبوت تلك اللوازم للأمر المقطوع به : إمّا قطعا كما إذا قطع بالملازمة المذكورة ، أو تعبّدا كما إذا ثبت بطريق

__________________

(١) في النسختين : ( فيترتّب ) ، والصحيح ما أثبتناه.

(٢) في النسختين : فيكشف ..

(٣) كذا في النسخة ( أ ) ، والصحيح : ينكشف ..

(٤) أي ( ومشروعية شيء ) عطفا على ( وجوب شيء ) في قوله قبل أسطر : ( وكذا إذا قطع بوجوب شيء ) ..

(٥) في النسختين : ( ويضمّ تلك بذلك المقدّمتين ). ، والصحيح ما أثبتناه.

٢٣٦

تعبّدي ، نظرا إلى اتّباع النتيجة لأخسّ المقدّمات ، فلا يمكن إزالة الصفة المذكورة عن القطع ، كما يمتنع إيجادها فيه ـ أيضا ـ لكونه إيجادا للموجود ، لكونها من اللوازم القهرية له ، ولا فرق بين اللوازم التي ثبت لزومها للأمر المقطوع به بالقطع ، وبين التي ثبت لزومها له بطريق تعبّدي في ترتّب كلّ منها عليه بعد القطع به ، إذ الكلام في ترتّب اللوازم بعد الفراغ عن لزومها له ، فإذا ثبت لزوم شيء له ـ ولو تعبّدا ـ فهو يترتّب عليه بعد القطع جدّاً ، ونهي الشارع عن ترتيبه عليه ـ بعد بقاء الأمر بالسلوك على مقتضى ذلك الطريق العلمي المسبّب للأمر (١) على إطلاقه ـ ممتنع ، لرجوعه إلى التناقض.

نعم يجوز له أن يخصّص أمره بالسلوك على مقتضاه بغير ذلك المورد ، فيخرج المورد عن محلّ الفرض ، لرجوعه إلى انتفاء اللزوم وعدم ثبوته عند القاطع ، لا واقعا لفرض شكّه فيه ، ولا ظاهرا لفرض عدم اعتباره الطريق المثبت له.

وبالجملة : اللوازم ـ التي يثبت لزومها للأمر المقطوع به ـ لزومها له قطعيّ في مرحلة الظاهر ، وأنّ الشكّ في لزومها بالنظر إلى الواقع ، وهو لا يضرّ بترتيبها عليه بعد القطع ، فهي كالتي ثبت لزومها له بالقطع من حيث استلزام القطع به القطع بها بالنظر إلى الحكم الفعلي للقاطع ، مع بقاء التعبّد بطريق لزومها على حاله.

ثمّ إنّه كما لا يجوز جعل الطريق طريقا أو نفي الطريقية عنه ، كذلك لا يجوز النهي عن السلوك على مقتضاه ، بل وكذا الأمر به أيضا.

أما النهي فلكونه مناقضا في نظر القاطع لما انكشف له بالقطع ، ومع وجود

__________________

(١) في النسخة ( أ ) : ( .. للأمر ثم على إطلاقه ). و ( قم ) رمز ( ممنوع ) أو ( ممتنع ) ، ولا مناسبة له هنا ، والصحيح حذفه كما في نسخة ( ب ).

٢٣٧

قطعه ـ كما هو المفروض ـ فلا يؤثّر ذلك في حقه من شيء (١) ، فإنّ قطعه وإن أمكن كونه جهلا مركّبا ، لكنه غير محتمل له ، فمع بقائه يقطع القاطع بكذب ذلك النهي ، وأنّه مجرّد لفظ لم يرد منه ترك ما قطع بلزوم فعله ، فلا يفيد في حقّه المنع منه ، فيلغى. هذا إذا كان القاطع مطيعا.

وأما إذا كان عازما على العصيان فامتناع النهي حينئذ أظهر ، لحصول الغرض منه ، وهو ترك السلوك ، وإلاّ لو فرض كون الترك ـ على تقديره ـ تعبّديا فلا يفيد ذلك النهي في حقّه أيضا ، إذ المفروض أنّه قاطع بالخلاف ، فتحقّق الترك منه (٢) ـ حينئذ ـ لا يمكن إلاّ على وجه العصيان للأمر المقطوع به ، فالداعي إلى الترك إنما هو تشهّي نفسه ، ولا يعقل أن يكون هو النهي ، فيمتنع تحقّق الترك منه ـ حينئذ ـ على وجه التعبّد ، فيلغى النهي المذكور بالنظر إلى تلك الفائدة أيضا.

وأمّا الأمر فلأنّ فائدته إنّما هو تحريكه إلى إطاعة المقطوع به ، ومع فرض قطعه قبله يتوجّه أمر إليه بكون المحرّك له هو قطعه بذلك الأمر ، فلا يؤثّر هذا الأمر في التحريك شيئا ، فيلغى. هذا إذا كان القاطع عازما على الإطاعة.

وأما إذا كان عازما على العصيان فلا يفيد ذلك في حقّه بعثا وتحريكا أيضا ، فيلغى هو من جهة هذه الفائدة.

ولو كان الأمر المذكور لأجل تمامية الحجّة عليه كما في تكليف الكفّار ، فهو ـ أيضا ـ غير محتاج إليه لتماميّتها بقطعه بكونه مكلّفا.

ولو كان لأجل فائدة الإجزاء فقد حقّقنا في محلّه أنّه يدور مدار الإتيان

__________________

(١) يحتمل في النسخة ( أ ) : ( في حقّه ) كما أنّ الموجود في النسخة ( في شيء ) والصحيح ما أثبتناه.

(٢) في النسخة ( أ ) : أنّه قاطع بخلاف تحقّق الترك منه ..

٢٣٨

على ما هو عليه من غير مدخلية الأمر (١) على طبق الطريق المؤدّي

ولو كان لأجل فائدة [ تدارك ] ما يفوته من (٢) مصلحة الواقع بالعمل بقطعه ، فلا ريب أنّ لزوم التدارك حكم عقلي مبنيّ على استناد فوت المصلحة إلى أمر الشارع ، ومع قطعه بكونه هو المحرّك للعمل على طبقه ( لو كان مطيعا ) (٣) فلا يستند فوت المصلحة إلى الشارع بوجه ، فظاهر امتناع الأمر (٤) من الشارع ـ بالعمل عليه ـ كالنهي عنه أيضا.

نعم يجوز الأمر به من باب الإرشاد والموعظة فيمن لم يكن عازما على العصيان أو على الإطاعة ، بل في عازمه ـ أيضا ـ ، فإنه ربما يوجب ردعه عما عزم إليه (٥) من العصيان.

وكيف كان فصحّة الأمر به لا تضرّنا فيما نحن بصدده ، إذ الغرض الأصلي إنّما هو إتيان (٦) لزوم العمل بالقطع وعدم جواز المنع عنه ، وهما حاصلان بما غير متوقّف على امتناع المأمور (٧).

وقد ظهر بما مرّ عدم جواز التفصيل في لزوم العمل بالقطع بين أسبابه وأزمانه ومتعلّقاته لجريان الدليل المذكور في كلّ قسم على حدّ سواء.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( ومن هنا يعلم أنّ إطلاق الحجّة عليه ليس كإطلاق الحجّة على الأمارات المعتبرة شرعا. ) (٨) ..

__________________

(١) في النسخة ( أ ) : ( للأمور ). وفي نسخة ( ب ) : الأمور.

(٢) في النسخة ( أ ) : ( لأجل فائدة ما يقوّمه ). ، وفي نسخة ( ب ) لأجل تداركه ما يقوّمه .. ، والصحيح ما أثبتناه.

(٣) ما بين القوسين إضافة من نسخة ( أ ).

(٤) كذا في النسختين وسياق العبارة يقتضي هكذا : فظهر امتناع ..

(٥) كذا في النسختين ، والأنسب : عليه.

(٦) كذا في النسخة ( أ ) ، والصحيح : إثبات .. ، ولا توجد هذه الكلمة في نسخة ( ب ).

(٧) أي وهما حاصلان بدليل غير متوقّف على امتناع المأمور.

(٨) فرائد الأصول ١ : ٤.

٢٣٩

بيانه : أنّ الحجّة في المبادي المنطقية عبارة عن مطلق الوسط الّذي يحتجّ به على إثبات الأكبر للأصغر بمعنى ما يتوقف إثبات الأكبر للأصغر على توسيطه ، لا مطلق ما يصحّ توسيطه ، وفي باب الأدلة الشرعية عبارة عن الوسط المخصوص ، وهو ما كان واسطة لإثبات أحكام متعلّقه التي ثبتت لذات المتعلّق ، فلذا لا يطلق الحجّة حقيقة على العلم المأخوذ موضوعا لحكم أو جزء لموضوعه ـ في اصطلاح الأصوليين ـ وإن كان إطلاقها عليه حقيقة بالنظر إلى اصطلاح أهل الميزان.

وكيف كان ، فالاحتياج إلى التوسيط مأخوذ في معنى الحجّة في كلّ من الاصطلاحين ، ومن المعلوم أنّ القطع الّذي هو طريق إلى أحكام متعلّقه ـ لا جزء لموضوع تلك الأحكام ـ لا يتوقّف إثبات تلك الأحكام المتعلّقة (١) على توسيطه ، بأن يقال للمائع المقطوع بكونه خمرا : إنّ هذا معلوم الخمرية ، وكلّ معلوم الخمرية حرام ، بعد فرض أنّ الحرمة إنّما هي من أحكام ذات الخمر وإن جاز توسيطه كذلك لكونه صادقا ، نظرا إلى أنّ معلوم الخمرية خمر عند القاطع ، وكلّ خمر حرام ، فالمترتّب على القطع بكون مائع مخصوص خمرا ليس إلاّ انكشاف مصداق ذلك المائع لكلّيّ الخمر التي حكمها الحرمة ، والواسطة لإثبات الحرمة له إنما هو الخمر ، لفرض أنّ حرمته لكونه من أفراد الخمر ، لا القطع بكونه خمرا.

والحاصل : أنّ القطع إنّما هو طريق إلى ذات الأصغر والواسطة لإثبات الأكبر له غيره وهو العنوان العامّ الّذي ثبت له الأكبر أوّلا وبالذات.

وما ذكرنا من صحّة توسيطه أيضا محلّ تأمّل ، بل لا يبعد استهجانه في نظر العقلاء ، إذ ليس كلّ ما له دخل في حكم واقعا يصحّ توسيطه ودخله في موضوعه إذا كان صادقا.

__________________

(١) كذا في النسختين ، والصحيح : لمتعلّقه ..

٢٤٠