تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٣

المولى علي الروزدري

تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٣

المؤلف:

المولى علي الروزدري


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-54-X
ISBN الدورة:

الصفحات: ٣٨٢

فيختلف بسببه اعتباره الأمور المحصّلة لها قلّة وكثرة ، فيكون المطلوب فيها هو الإتيان بداعي الأمر على وجه يحصل معه الغرض ، وهذا مفهوم مبين ، فلو شك في اعتبار شيء في حصوله فهو راجع إلى الشكّ فيما يتحقق به المطلوب دون نفسه ، ومن المقرر في محلّه أنّه إذا كان المطلوب أمرا مبيّنا يجب تحصيله قطعا حتى فيما إذا تردد ما يتحقق هو به بين الأقل والأكثر كما هو الحال في المقام ، فإنّ التردد إنّما هو في محقّقه وهو مردّد بين الأقل والأكثر.

وخلاصة المناقشة المذكورة أنّ المعتبر في الأوامر العرفية تعبّدية كانت أو توصّلية إنّما هي الإطاعة المقابلة للعصيان الرافعة له وهي الإتيان بالمأمور به على وجه يحصل غرض الآمر وهي تختلف في الموارد باختلاف الأغراض الموجب لاختلاف الأسباب المحصلة لها من حيث القلة والكثرة ، ومحققها في كل مورد إنّما هو الإتيان بالمأمور به بجميع ما له مدخلية في تحصيل الغرض المقصود في ذلك المورد ، ومن المعلوم أنّ نفس المأمور به لو فرض كونه مبيّنا ، لأنّ الكلام في المقام بعد الفراغ عن تشخيصه وما اعتبر معه وهو كون الإتيان به على وجه يحصل به الغرض أيضا مبيّن ، فيكون تمام المكلف به مبيّنا ، فيكون الشك في اعتبار شيء في تحصيل الغرض بعد الفراغ عن تشخيص المأمور به راجعا إلى الشك فيما يحقّق المكلف به ، فيجب الاحتياط بالإتيان بالمأمور به مشتملا عليه.

والواجبات التوصلية مطلقا لما علم عدم توقف حصول الغرض منها على أزيد من إيجاد فرد منها فيكتفى فيها بمجرد (١) الإتيان بها كيف ما اتفق.

وأما الواجبات التعبدية العرفية وإن علم اعتبار كون الداعي للإتيان بها هو الأمر في حصول الغرض منها ، لكن علم عدم توقف الغرض منها على أزيد من ذلك أيضا ، للقطع بأنّ غرضهم فيها إنّما يتعلق باستعلام حال العبد أو إظهار

__________________

(١) في نسخة ( ب ) : فيكفى فيها مجرّد.

٣٢١

حاله للغير من حيث عدم كونه بالنسبة إلى مولاه في مقام التمرّد والعصيان وعدم كونه تابعا لهواه في شهوة نفسه ، ومن المعلوم أنّ هذا الغرض يحصل بمجرد الإتيان بها مع عدم كون الدّاعي للإتيان هو الأمر ، فلذلك تراهم يكتفون بمجرد ذلك.

وأما العبادات الشرعية فلما لم يكن الغرض منها ذلك ، بل الغرض منها إنّما هو تكميل العبد وتقربه إلى حضرة الملك الجليل ، فلا يعلم حصول ذلك الغرض بمجرد الإتيان بها بداعي الأمر ، لإمكان توقّفه على أزيد من ذلك فيحتمل ومعه لا يحكم العرف بتحقق الطاعة المعتبرة لما عرفت من أنّها إنّما يكون مع الإتيان بالمأمور به على وجه يحصل به الغرض ، وهم لا سبيل لهم إلى أنّ غرض الشارع يحصل بمجرد الإتيان بها بداعي الأمر ، كما أنّه لا سبيل لهم إلى أغراضه أيضا ، لو لا ورود الأدلة الشرعية المبينة لها في الجملة فيجب الاحتياط بالإتيان به مشتملا على ذلك المحتمل الاعتبار أيضا.

والحاصل : أنّ الإطاعة بمعنى الإتيان بالمأمور به على وجه يحصّل الغرض لازمة بحكم العقل ، وكلّ آمر بشيء يطلب الإتيان به على ذلك الوجه تحصيلا لغرضه المقصود من الأمر ، سواء كان هو الشّارع أو غيره ، وسواء كان ما يطلبه ويأمر به من التعبّديات أو التوصليات ، غاية الأمر أنّه إذا كان غرضه في بعض الموارد متوقفا على أمر لا يمكن اعتباره في الأوامر الابتدائي يطلبه بأمر آخر.

وكيف كان فمطلوبه في كلّ مورد إنّما هو إيجاد المأمور به على وجه يقوم بغرضه وهذا مفهوم مبيّن لا شك فيه بوجه والشّك في اعتبار شيء في حصول غرضه بعد فرض تشخيص المأمور به إنّما يرجع إلى الشكّ فيما يتحقق به المطلوب ، فيجب الاحتياط بإتيان المشكوك أيضا من غير فرق في ذلك بين الأوامر الشرعية والعرفية ، فإنّهم أيضا لو فرض حصول الشك لهم في بعض الموارد في ذلك يحكمون بالاحتياط ولا يعذرون التّارك له على تقدير مخالفة

٣٢٢

الواقع.

هذا تمام الكلام في بيان المناقشة المذكورة.

ويتجه : عليها أنّه على تقدير تسليم أنّ الطاعة المعتبرة عند العقلاء وأهل العرف حتى في واجباتهم التعبدية إنّما هو الإتيان بالمأمور به على وجه يحصّل غرض الآمر نمنع من كون مورد البحث من موارد تبيّن مفهوم المطلوب ورجوع الشك إلى ما يتحقق به.

وتوضيحه : أنّ الّذي يعتبره الآمر في مطلوبه ليس هو عنوان المحصّل لغرضه ، بل إنّما هي العناوين الخاصة المحصّلة له ، فعلى تقدير توقّف غرضه على كون الدّاعي للإتيان هو الأمر أو هو معرفة الواجب تفصيلا [ لا بد من ](١) أن يقصد خصوص عنوان الإتيان به بداعي الأمر مع معرفته تفصيلا ، وعنوان المحصّل إنّما هو عنوان منتزع من تلك الأمور باعتبار توقف الغرض عليها.

والشاهد على ذلك هو الوجدان ، فإنّا في مقام طلبنا شيئا لغرض إنّما نطلب ذلك الشيء بعنوانه الخاصّ إلاّ أنّ الدّاعي إلى طلبه هو كونه محصّلا لغرضنا المقصود ، فإذا كان المعتبر هي العناوين الخاصّة فالشّك في اعتبار شيء منها في المطلوب يوجب إجماله وحيث أنّه في مورد البحث مردّد بين الأقل والأكثر يكون المرجع فيه هي أصالة البراءة.

ولو كان العبرة في أحكام الشّك بالمفاهيم المنتزعة لما صحّ الرجوع إليها في مقام الشك في جزئية شيء أو شرطيته للمأمور به لإمكان انتزاع مفهوم مبيّن هناك أيضا ولو كان هو عنوان المطلوب ، فيقال إنّا قد علمنا باشتغال ذمتنا بالمطلوب من الشارع والشّك في جزئية شيء أو شرطيته راجع إلى ما يتحقق به المطلوب فيجب الاحتياط وهو كما ترى.

__________________

(١) زيادة تقتضيها السياق.

٣٢٣

وبالجملة العبرة إنّما هي بتبيّن نفس ما اعتبر في مقام التكليف والطلب لا بتبيّن المفاهيم المنتزعة منه.

والحاصل : أنّه بعد تسليم إمكان أخذ الإطاعة وما يرجع إليها في المطلوب ولو بأمر آخر غير الأمر بسائر الأجزاء والشّرائط لا محيص عن التزام رجوع الشك في اعتبار أصل الطاعة أو خصوصيّة فيها بعد ثبوت اعتبار أصلها في الجملة إلى الشك في المكلف به وإجماله فلا بدّ معه من إعمال قواعد إجماله ومن المقرّر في محلّه أنّ مع تردده بين الأقل والأكثر يكون المرجع في الزائد المشكوك هي أصالة البراءة لا الاحتياط كما في مقام الشك في جزئية شيء أو شرطيته للمأمور به بالأمر الابتدائي إلاّ أنّ العقل لا يفرّق بينه وبين ما كان على تقدير اعتباره معتبرا بأمر آخر غير ذلك الأمر ، إذ العبرة في نظره إنّما هو بقبح المؤاخذة والتكليف من غير بيان له من غير فرق بين أن يكون التكليف على تقديره بأمر واحد أو بأمرين.

والإطاعة بمعنى الإتيان بالمأمور به على وجه يحصل به الغرض إنّما نسلّم وجوبها فيما إذا تمت الحجة من المولى فيما يحصّل الغرض ، لعدم دلالة شرعية على وجوب تحصيل الغرض فضلا عن دلالته على وجوبه مطلقا.

وغاية ما يحكم به العقل إنّما هو تحصيل الأمن من العقاب على مخالفة التكليف المجمل وبعد فرض استقلاله بقبح التكليف بلا بيان لا يبقى احتمال العقاب حتى يجب الاحتياط تحصيلا للأمن منه.

هذا بالنظر إلى حكم العقل بالبراءة.

وأمّا بالنظر إلى الأدلة فالأمر واضح لوضوح عدم الفرق في أدلة البراءة بين المقامين بوجه ، فلو فرض توقّف العقل في اتّحادهما في الحكم يكفي في تحصيل الأمن من العقاب ظهور إطلاق تلك الأدلة في الاتّحاد ، فاللاّزم بحكم العقل إنّما هو الإتيان بمطلوب الشارع على تقدير تماميّة الحجة منه عليه دون تحصيل

٣٢٤

غرضه.

نعم لو فرض كون الأغراض عناوين للأوامر الشرعية في الحقيقة لا الغايات ، بأن يكون تلك الأوامر المتعلقة بما يحصلها غيرية ، فلا بدّ حينئذ من رعاية قواعد الشك بالنسبة إلى تلك الأغراض وحيث إنّ الغرض في كلّ واجب معنى بسيط لا يجري فيه قواعد الأقل والأكثر بل لا بدّ من الاحتياط بالإتيان بجميع ما يحتمل مدخليته فيه سواء كان ذلك المعنى معلوما أو مشكوكا مرددا بين أمرين ، إذ على الثاني يكون المورد من موارد تردّد المطلوب بين المتباينين ، وعلى الأول يكون من موارد تبين نفس المكلف به مع الشك فيما يحققه وعلى كل حال لا سبيل للمصير إلى أصالة البراءة.

لكن التحقيق خلافه ، لأنّ الأوامر المتعلقة بنفس الواجبات المحصّلة لها ظاهرة في كونها متعلقة بها مطلوبة نفسا وليس وراؤها أوامر أخر متعلقة بالأغراض حتى ينكشف بها كون تلك الأوامر غيرية بالنسبة إليها.

هذا كله بناء على إمكان أخذ الإطاعة وما يرجع إليها في المطلوب النفسيّ الشرعي ولو بأمر آخر كما هو المفروض في المناقشة المتقدمة.

لكن الظاهر امتناع أخذها فيه مطلقا :

أمّا بأمر واحد فقد عرفت الإشارة إلى وجه الامتناع فيه.

وأمّا بأمرين ، فلأنّ الأمر الثاني على تقديره يكون هو الأمر النفسيّ الشرعي حقيقة ، ويكون الأمر الأول المتعلق بسائر الأجزاء والشرائط غيريا ومن المقدمات الوجودية لمتعلّق الأمر الثاني ، لأنّ متعلقه إنّما هو إطاعة الأمر الأول في متعلقه ، ومن المعلوم أنّه يتوقف إطاعة متعلق الأمر الأول على الأمر به ، وبدونه يمتنع إطاعته ، فأمر الشارع أولا بسائر الأجزاء والشرائط توطئة للأمر الثاني ومحقّق لموضوعه وإعطاء للقدرة والتمكن للمكلف في امتثال الأمر الثاني.

وبالجملة : الأمر النفسيّ هو الحاوي لجميع أجزاء المطلوب ولو إجمالا ،

٣٢٥

والإطاعة على تقدير أخذها في المطلوب لا يحويها وغيرها إلاّ الأمر الثاني ، فيكون الأمر النفسيّ هو الأوّل (١) ومن المعلوم للمتأمّل عدم صلاحية الإطاعة ـ ولو كانت هي إطاعة أمر خاص ـ للأمر النفسيّ المولوي الّذي هو منشأ للثواب والعقاب.

أمّا أوّلا ، فلأنّها لو كانت مرتبة منها صالحة لعلية (٢) الأمر بها لكانت كافّة مراتبها كذلك ، لعدم مزية لمرتبة منها على أخرى ، فيجب أن يؤمر بها في كلّ مرتبة ، فإذا صلحت إطاعة الأمر بسائر الأجزاء والشّرائط في مورد البحث للأمر ، فلا شبهة في أنّ لذلك الأمر الثاني أيضا إطاعة أخرى مساوية لإطاعة الأوّل ، فيجب الأمر بها أيضا ، ثم ننقل الكلام إلى الأمر الثالث والرابع وهكذا فيتسلسل الأوامر ، واللازم باطل ، فالملزوم مثله.

ولا فرق في ذلك بين أن يكون الإطاعة بمعنى الإتيان بالمأمور به على وجه يحصل الغرض وبين أن يكون الإتيان بداعي الأمر ، إذ لكلّ (٣) أمر إتيان لمتعلقه على وجه يحصل الغرض أو بداعي الأمر بمعنى أنّه يمكن في كل مرتبة الإتيان بالمأمور به على كل من المعينين ، فكل منهما متحقق في جميع المراتب والمتحقق منهما (٤) في مرتبة مساو للمتحقق منها في سائر المراتب.

وأمّا ثانيا ، فلأنّ لازم الأمر بالإطاعة نفسا بالأمر الشرعي المولوي تعدد الثواب ، لأنّ الإطاعة من الأمور التي لازمها الثّواب عقلا ولو لم يؤمر بها أصلا ، فإنّ سائر الواجبات المشروطة بها وإن كانت تعبدية بالنسبة إليها ويتوقف الثواب عليها على الإتيان بها على وجه الطاعة لكن نفس الإطاعة لا يعتبر فيها

__________________

(١) الظاهر أن يكون بدل كلمة ( الأول ) هو ( الثاني ).

(٢) كذا ، والظاهر ( لتعلّق ).

(٣) في النسخة ( أ ) ( أو بكلّ ) وفي نسخة ( ب ) : إذ بكلّ ، والمناسب ما أثبتناه في المتن.

(٤) في النسختين : فيهما ، والصحيح ما أثبتناه في المتن.

٣٢٦

أمر آخر في صحّتها أو ترتب الثواب عليها ، بل الصحّة والثّواب فيها يدوران مدار تحقق موضوعها في الخارج فهي ـ كعنوان التقرب والخضوع لله والركوع والسجود له ـ من العناوين التوصلية الغير المعتبر فيها نيّة القربة ، والإطاعة كأنّ القربة مأخوذة في موضوعها ، والمتوقف عليها إنّما هو تحقق موضوعها في الخارج ، فإذا تحقّقت هي فيه فلا يتوقف صحتها ولا الثواب عليها على نية قربة أخرى ، فإذا كان المفروض ورود أمر شرعي بها أيضا فلا بدّ أن يكون لذلك الأمر ثواب آخر ، بمعنى استحقاق ثواب آخر على إطاعة المصادفة مع إطاعة الأمر الأوّل ، وهو كما ترى لوضوح أنّ العبادات الشرعية ليس عليها إلاّ ثواب واحد.

ولو سلمنا عدم وضوح ذلك ، فلا شبهة في بعده جدا.

هذا مع أنّ الوجه الأوّل كفى حجّة على المدّعي من غير حاجة إلى الثاني أصلا.

فإذا ثبت امتناع أخذ الإطاعة في المأمور به مطلقا ولو بأمرين ، فاعتبارها مطلقا أو على وجه خاص على تقديره لا بدّ أن يكون لأجل مدخليتها في الغرض المقصود من الأمر ، بمعنى تمامية المأمور به بدونها من حيث كونه مأمورا به.

وبعبارة أخرى : إنّها ليست كسائر الأجزاء والشرائط الداخلية للمأمور به من حيث تقوّم المأمور به بها في الذّهن ، بل هي كالمقدمات الخارجية له غير داخلة في حقيقته ويكون اعتبارها على تقديره لأجل مدخليتها في حصول الغرض منها ، لأنّ المأمور به بعد ثبوت الأمر به يتوقف إسقاطه والخروج عن العهدة على الإتيان به على وجه يحصل الغرض المقصود منه من غير فرق بين كونه واجبا تعبّديا أو توصّليا إلاّ أنّ الغرض في التوصّلي منه لمّا لم يتوقف على أزيد من ذات الفعل فيحصل الفراغ منه بمجرد الإتيان بذاته كيف ما اتّفق.

فمن هنا يشكل المصير إلى أصالة البراءة عند الشك في اعتبار الإطاعة في المأمور به مطلقا أو على وجه خاص بعد إحراز سائر الأجزاء والشرائط

٣٢٧

للمأمور به وتشخيصها من الأدلة الشرعية ـ كما هو المفروض في محل البحث ـ ، لأنّ المركّب من سائر الأجزاء والشرائط حينئذ تمام المأمور به ، والمفروض قيام الحجة عليه بإحراز الأمر به ، فيرجع الشك في اعتبار الإطاعة مطلقا أو على وجه خاص إلى الشك في إسقاطه والخروج عن عهدته بالإتيان به بدونها مطلقا أو على وجه خاص بعد قيام الحجة عليه مع تبيّنه.

فمن المعلوم أنّه بعد العلم باشتغال الذّمّة بشيء كذلك يجب تحصيل الفراغ منه على سبيل الجزم ، وهو لا يحصل إلاّ بالإتيان به على وجه يقطع بحصول الغرض المقصود من الأمر ، والقطع بكونه محصّلا له يتوقف على الإتيان به مشتملا على ما احتمل اعتباره في الغرض.

والحاصل : أنه إذا كان تمام المأمور به هو المركب من سائر الأجزاء والشرائط والمفروض تشخّص تلك الأجزاء والشرائط فيكون المورد من موارد العلم بالمأمور به مع تبين مفهومه ، فيكون الشك في اعتبار الإطاعة مطلقا أو على وجه خاص راجعا إلى الشك في طريق إسقاطه ، ومن المعلوم أنّه لا مساس لأصالة البراءة بتلك الموارد فيجب الاحتياط بإتيانه مشتملا على ما شك في اعتباره تحصيلا للعلم بالسقوط والفراغ عن عهدته اللازم بحكم العقل بعد العلم باشتغال الذّمّة بواجب كذلك.

ومن هنا ظهر أنّه إذا دار الأمر في واجب بين كونه تعبديا أو توصليا ـ بعد تشخيص سائر الأجزاء والشرائط من الأدلة الشرعية والعلم بها ـ يكون مقتضى الأصل هو البناء على تعبّديته لا (١) توصليته ـ نظرا إلى أصالة البراءة ـ لأنّ اعتبار وقوعه بداعي الأمر على تقديره لا يجعله قيدا للمأمور به بل يمتنع ـ كما عرفت ـ بل لا بد أن يكون لأجل مدخليته في الغرض المقصود منه المتوقف

__________________

(١) في النسختين بدل ( لا ) حرف ( و) والصحيح ما أثبتناه.

٣٢٨

على سقوط الأمر فيكون الشك في اعتباره راجعا إلى سقوط الأمر وتحصيل الفراغ منه بعد فرض تبين المأمور به وإحراز الأمر به ، فلا معنى للرجوع فيه إلى أصالة البراءة.

وظهر أيضا اندفاع ما ربما يتوهّم من أنّ فرض كون تمام المطلوب والمأمور به هو المركب من سائر الأجزاء والشرائط المعلومة بالفرض يناقض الشك في اعتبار الإطاعة في سقوط الأمر به ، لأنّ الإتيان بتمام المأمور به يلزم عقلا سقوط الأمر عنه وقبح المؤاخذة من المولى ، لأنّها إنّما يصح منه إذا أخل المأمور بالمطلوب فيؤاخذه ويعاقبه معلّلا بعدم إتيانه بما أمر به ، وأمّا مع أدائه على وجهه فلا إشكال ، ولا يصح منه المؤاخذة والعقاب ، لعدم حجة له عليه حينئذ.

والحاصل أنّه إن احتمل مدخلية الإطاعة في سقوط الأمر فلا يعقل معه (١) العلم بكون تمام المأمور به هو المركب من سائر الأجزاء والشرائط ، لأن ، اعتبارها في سقوطه لا بد أن يرجع إلى اعتبارها في المأمور به شرطا أو شطرا فيكون [ الشك ] في اعتبارها راجعا إلى الشك في نفس المأمور به ، فيكون المورد من موارد إجمال المأمور به لا تبيّنه وإن علم أنّ المركب من سائر الأجزاء والشرائط تمام المأمور به هو (٢) ملازم للعلم بكونه مسقطا أيضا فلا معنى معه للشك في اعتبار شيء آخر في إسقاط الأمر.

وتوضيح الاندفاع أنّه لا ينحصر جهة اعتبار شيء في جزئيته للمأمور به أو شرطيته له ، بل قد يكون جهته مقدّميته لحصول الغرض المتوقف عليه سقوط الأمر بعد اشتغال الذّمّة به مع خروجه عن المأمور به رأسا ، فيكون مقولته مقولة إسقاط الأمر لأداء المأمور به ، لأنّ أدائه إنّما هو بالإتيان بنفسه وإسقاطه إنّما هو

__________________

(١) في النسختين ( منه ) والصحيح ما أثبتناه.

(٢) كذا ، ولعله ( فهو ).

٣٢٩

بالإتيان به على وجه يحصل الغرض ، فقد لا يكون أدائه مسقطا للأمر به لعدم وفائه بالغرض المقصود من الأمر وجهة اعتبار الإطاعة على تقدير اعتبارها منحصرة في الثانية ، لما عرفت من امتناع اعتبارها في المأمور به بوجه.

وبتقريب آخر أحسن أنّه لا شبهة في اعتبار الإطاعة في العبادات في الجملة بمعنى توقف سقوط الأمر بها عليها كذلك ، لأنّ إتيانها بداعي الأمر معتبر فيها لا محالة ، واعتبارها كذلك ليس أمرا مخالفا للعقل بالبديهة ، لوقوعه من الحكيم تعالى وكفى به حجة في جوازه عقلا ، ومن المعلوم مما مر امتناع أخذها بهذا المعنى في المأمور به أيضا ، فلا مناص حينئذ من التزام كون اعتبارها بهذا المعنى لأجل توقف السقوط عليها وكونه إسقاطا للأمر لا أداء للمأمور به ، فثبت أنّ الإتيان بالمأمور به لا يلازم سقوط الأمر عقلا ، فلا يناقض فرض كون تمام المطلوب هو المركب من سائر الأجزاء والشرائط الشكّ في الإطاعة مطلقا أو على وجه خاص في سقوط الأمر.

وما ذكر من عدم حجة للمولى على العبد إذا أتى العبد تمام المأمور به مدفوع : بأنّ الحجة القاطعة إنّما هو الإتيان به على ما به يحصل الغرض لا مطلقا.

ألا ترى أنّه إذا أمره المولى بشيء مع كون غرضه الإتيان بداعي الأمر يصح له المؤاخذة وعقابه إذا لم يأت به كذلك ، بل أتى بذات الشيء ، مع أنّ ما أتى به [ هو ] تمام المأمور به لا هو مع تقييده بكون الداعي للإتيان به هو الأمر ، لامتناع تقييده به كما عرفت.

ثمّ إنّه دام ظلّه قد استشهد لما مرّ ـ من كون الإطاعة على تقدير اعتبارها إسقاطا للأمر لا أداء للمأمور ومأخوذة فيه بالوجدان ـ أيضا بتقريب :

أنّا نجد من وجداننا في موارد علم اعتبارها في الجملة أنّ المأمور به هو المركب من غيرها من الأجزاء والشرائط وأنّها خارجة عنه وأنّ الاحتياج إليها إنّما هو لأجل توقف السقوط عليها ، انتهى.

٣٣٠

أقول : تمامية هذا مع قطع النّظر عن الدليل العقلي المتقدم مشكلة ومع ملاحظته يكون الاعتناء على ذلك الدليل ، لا عليه ، فلا يكون هذا وجها آخر.

وبيانه أنّه مع الغضّ عن ذلك الدّليل يمكن الخدشة في هذا الّذي ذكره دام ظله : بأنّه قد يشتبه (١) الوجدان في قضائه بهذا من جهة أنّه يرى امتناع اعتبار الإطاعة في الأمر الابتدائي مع أنّه يرى أنّ الأمر لا يسقط بدونها ، فيتخيل من هذا أنّ تمام المأمور به هو المتعلق للأمر الأول وأنّ اعتبارها إنّما هو من جهة توقف الغرض عليها فتكون هي طريق لإسقاط الأمر ، لا أداء للمأمور به مع غفلته عن أنّ امتناع اعتبارها في الأمر الأوّل لا ينافي إمكان اعتبارها في المأمور به بأمر آخر فيتوقّف تمامية هذا الوجه على ثبوت امتناع اعتبارها فيه مطلقا فلا مناص في تتميمه من الالتجاء إلى الوجه المتقدم ومعه لا حاجة إلى هذا التطويل.

وربما يناقش في كفاية الوجه المتقدم في لزوم الاحتياط بأنّ غاية ما يترتّب عليه امتناع أخذ الإطاعة بكلا معنييها مطلقا أو على وجه خاص في المأمور به وأنّ اعتبارها على تقديره لا بدّ أنّ يكون من جهة توقف حصول الغرض عليها ، وهذا بمجرّده لا ينهض حجة على لزوم الاحتياط ، بل يحتاج إثبات لزومه إلى ثبوت مقدمة أخرى وهي لزوم تحصيل الغرض مطلقا حتى مع الجهل بما يحصله ، وهو ممنوع ، لعدم ما يدل عليه من الشرع ، والعقل أيضا لا يساعد عليه ، مع أنّ اختيار الرّجوع إلى أصالة البراءة في مسألة الشك في جزئية شيء للمأمور به أو شرطيته يناقض القول بلزوم تحصيل الغرض في محلّ الفرض ، ضرورة أنّ الجزء المشكوك أو الشرط كذلك على تقدير اعتبارهما يتوقف عليهما حصول الغرض فتجويز تركهما يناقض إيجاب حصول الغرض مطلقا.

__________________

(١) كذا ، والصحيح : ( قد يخطئ ).

٣٣١

ولو ادّعي اختصاص وجوب تحصيله ـ في صورة الشك فيها فيما يحصّله ـ بما إذا كان المشكوك على تقدير اعتباره خارجا عن المأمور به فيندفع به التناقض المذكور ليدفعه أنّ الحاكم بلزوم تحصيل الغرض مع الشك فيما يحصله على تقديره هو العقل ومن المعلوم لمن له أدنى تأمّل أنّ مجرّد الاختلاف بين المقامين ـ بكون المشكوك في أحدهما على تقدير اعتباره معتبرا في المأمور به وفي الآخر خارجا عنه معتبرا في تحصيل الغرض ـ لا يصلح فارقا عند العقل بينهما ، ولا فرق بينهما سواه ، فلا معنى لهذا التفصيل بوجه ، فلا بدّ إمّا من القول بعدم لزوم تحصيل الغرض عند الشك فيما يحصله مطلقا ، وإمّا من القول بلزوم تحصيله كذلك ، والثاني يلزم التناقض المذكور على من قال بالبراءة في تلك المسألة والأوّل يخلّ بتمامية الوجه ـ المتقدم ـ للزوم الاحتياط في المقام كما عرفت.

والجواب عن هذه المناقشة مع توقف تمامية الوجه المتقدم على المقدمة المذكورة :

توضيحه : أنّ الكلام على تقدير كون الأغراض عناوين للأوامر يكون [ في ] المطلوب النفسيّ الّذي تعلّق به التكليف الشرعي [ و ] هي الأفعال المحصّلة لها كالصلاة والصوم والحج وغيرها فلا وجوب لتحصيل تلك الأغراض شرعا بوجه ، والعقل أيضا لا يحكم بلزوم تحصيلها ابتداء بأن يكون موضوع حكمه باللزوم هو عنوان تحصيل الغرض من حيث إنّه هذا العنوان حتّى يرد على تقدير حكمه ، بلزوم (١) التناقض المذكور ، بل إنّما يحكم بلزوم إسقاط الطلب عن الذّمّة بعد ثبوت اشتغالها به ، والمقرر عند العقلاء في جميع موارد التكليف العرفية تعبدية كانت أو توصلية بعد ثبوت اشتغال الذّمّة بشيء إنّما هو أداء ذلك الشيء على وجه يحصل منه غرض المولى ـ بمعنى أنّهم لا يعذرون (٢) العبد إذا لم يؤدّه كذلك ،

__________________

(١) كذا ، ولعل الأحسن في التعبير هو : ( على تقدير حكمه بذلك لزوم ).

(٢) كان في النسختين : لا يعتذرون ، والصحيح ما أثبتناه.

٣٣٢

بل يجوزون المؤاخذة من المولى حينئذ ويذمّون العبد على ذلك بخلاف ما لم يثبت اشتغال الذّمّة به فإنّهم حينئذ لا يذمّون العبد بأصل حكم العقل فضلا عن الإتيان به على وجه يحصل معه الغرض بل يعذّرونه ويقبحون المؤاخذة على مخالفة الغرض على تقديرها.

وهذا هو الحال في الأوامر الشرعية أيضا ، لأنّ الشارع كأحد من الموالي العرفية في باب الإطاعة والمعصية ، والموظّف عنده هو الموظّف عند العرف بالضرورة ، وإذا لم يكن العبد معذورا ، وجاز عقابه عقلا ـ إذا لم يؤدّ التكليف على الوجه المذكور فيما إذا ثبت اشتغال ذمته بتكليف ـ فاللاّزم عليه بحكم العقل أن يأتي بالمكلف به في تلك الحال على الوجه المذكور في تحصيل فراغ ذمته وإسقاطه عن رقبته ، فلزوم تحصيل الغرض إنّما جاء من جهة لزوم إسقاط التكليف وتفريغ الذمّة منه لكونه مقدمة له ، ومن المعلوم أنّ لزومه من تلك الجهة في الحقيقة إنّما هو لزوم تحصيل ما يتوقف عليه وهو الإسقاط فليس هو من حيث عنوانه الخاصّ موردا لحكم العقل باللزوم ، بل إنّما موضوعه الأوّلي هو عنوان الإسقاط ، فإذا كان لزومه من جهة مقدميته للإسقاط فيدور لزومه نفيا وإثباتا ، وقد عرفت اختصاص لزوم الإسقاط بصورة ثبوت التكليف وهو بالنسبة إلى الجزء والشرط المشكوك اعتبارهما في المأمور به غير معلوم ، فلا يجب تحصيل العلم بسقوطه على تقدير ثبوته واقعا حتّى يجب الإتيان بالجزء والشرط المشكوكين مقدمة له.

وبعبارة أخرى : إنّ الجزء والشّرط المشكوك اعتبار [ هما ](١) لما كانا على تقدير اعتبارهما داخلين (٢) في المكلف به ومأخوذين فيه فالشك فيهما موجب للشك

__________________

(١) في النسختين : اعتباره ، والصحيح ما أثبتناه.

(٢) في النسختين : داخلة ، والصحيح ما أثبتناه.

٣٣٣

في التكليف (١) فليس هناك تكليف ثابت بأمر مبيّن حتى يجب الاحتياط بجميع ما يحتمل مدخليته للغرض مقدمة للعلم بسقوطه ، هذا بخلاف المقام ، فإنّ المشكوك في اعتباره (٢) هنا على تقدير اعتباره غير قابل لأخذه في المكلف به ، والمفروض تشخيص سائر ما اعتبر فيه هو تمام المكلف به وهو أمر مبيّن والتكليف به معلوم بالفرض فيجب الاحتياط به على وجه يقطع بحصول الغرض منه تحصيلا لإسقاط ذلك التكليف.

فالفارق بين المقامين إنّما هو ثبوت التكليف في أحدهما بأمر مبيّن المقتضى لتفريغ الذّمّة منه وإسقاطه وعدم ثبوته في الآخر كذلك.

نعم منشأ هذا الفرق إنّما هو كون المشكوك في أحدهما قابلا لاعتباره في المكلّف به وفي الآخر غير قابل لذلك لكن العبرة إنّما هي بنفس هذا الفرق لا بمنشئه.

والحاصل : أنّه كلما ثبت التكليف بأمر مبيّن لا يعذر المكلف في الإتيان بمتعلقه على وجه يفوت معه الغرض ، بل يصحّ عند العقلاء أن يؤاخذه المولى ويعاقبه فيما لم يأت به على وجه يحصل الغرض ، وبدونه لا يخرج عن عهده التكليف بل هو باق على حاله ، ومن المعلوم لزوم تحصيل الفراغ منه بعد ثبوته كذلك وإسقاطه على سبيل اليقين ـ المتوقف على الإتيان بمتعلقه على الوجه المذكور ـ فيجب الاحتياط فيما إذا شك في مدخلية شيء في تحصيل الغرض معه بتحصيل ذلك المشكوك أيضا ، هذا بخلاف ما إذا لم يثبت التكليف رأسا أو ثبت في الجملة وتردد متعلقه بين الأقلّ والأكثر ـ كما في تلك المسألة ـ إذ على الثاني يكون أصل التكليف بالنسبة إلى الزائد مشكوكا بدويا أيضا فلا يجب أصل

__________________

(١) في النسختين ( المكلف به ) والصحيح ما أثبتناه.

(٢) كذا ، ولعل ( في ) زائدة.

٣٣٤

الإتيان بمتعلقه فضلا عن الإتيان به على الوجه المذكور ، بل اللاّزم هناك هو الإتيان بالأقل لتماميّة الحجة عليه على تقدير كونه هو المطلوب الواقعي.

فإن قلت : إنّ التكليف بالأقل هناك معلوم متيقن وهو أمر مبيّن فيجب تحصيل الفراغ منه على الوجه المذكور ـ المقتضي للاحتياط ـ بتحصيل جميع ما يحتمل مدخليته في تحصيل الغرض ومما يحتمل مدخليته في تحصيل الغرض منه هو الجزء المشكوك أو الشرط كذلك فيجب الاحتياط بتحصيلهما أيضا.

قلنا : توقف سقوط الأمر والفراغ منه على الإتيان بمتعلقه على وجه يحصل الغرض إنّما هو فيما إذا أمكن تحصيل الغرض على سبيل اليقين وهذا هناك غير ممكن ، إذ غاية الأمر أن يأتي المكلّف بالجزء والشرط المشكوكين ، ومن المعلوم أنّه لا يحصل بمجرده العلم بحصول الغرض ، لاحتمال توقفه على معرفة الواجب تفصيلا ، والمفروض الشك فيه هناك ، ومعه لا يمكن معرفته كذلك ، فلا يمكن تحصيل الغرض قطعا ، فلا يتوقف سقوط الأمر هناك على تحصيله كذلك لاستلزام بقائه للتكليف بما لا يطاق ، هذا بخلاف المقام ، إذ المفروض فيه تشخيص الواجب من غيره ومعرفته تفصيلا فيتوقف سقوط الأمر على الإتيان به على وجه يقطع معه بحصول الغرض.

فإن قلت : قد يكون المكلف قاطعا بعدم مدخلية معرفة الواجب تفصيلا في حصول الغرض ، فيتمكن من تحصيل الغرض على سبيل القطع بإتيان الجزء المشكوك أو الشرط كذلك ، فلازم ما ذكرت لزوم الاحتياط عليه حينئذ في الجزء والشرط المشكوكين مع أنّ القائل بالبراءة في تلك لا يفرق بينه وبين من شك في اعتبارها في الرجوع إلى أصالة البراءة في الجزء والشرط المشكوك في اعتبارهما.

قلنا : نعم لا يفرق القائل بالبراءة هناك بين من احتمل اعتبارها (١) وبين

__________________

(١) في نسخة ( ب ) : مدخليّتها.

٣٣٥

من علم مدخليتها لكن نقول إنّ الغرض مما مر (١) إنما هو نفي اللزوم بتحصيل الغرض قطعا عن الشاك في اعتبارها مع شكه في شرطية شيء أو جزئية المأمور به ، لعدم تمكنه من تحصيله كذلك ، فنحن جعلنا عدم تمكنه منه علة لنفي لزوم تحصيل الغرض كذلك ، ولم نجعل تمكنه منه علة للزومه ـ بأن يكون سقوط الأمر دائرا مدار التمكن منه نفيا وإثباتا ، بأن [ يكون ] التمكن منه علة لثبوت التوقف ـ حتى يرد ما ذكر.

وقولنا : ( توقف سقوط الأمر إلى قولنا فيما إذا أمكن تحصيل الغرض ) (٢) أنّ المراد به أنّه على تقدير توقّفه على تحصيل الغرض أن يتوقف عليه في تلك الصورة لا أنه يتوقف عليه فيها مطلقا فتأمل.

والتحقيق في الجواب أنّ الشاك في جزئيته للمأمور به أو شرطيته له على تقدير كون الواجب عليه واقعا هو الأكثر المشتمل عليهما [ يكون ] معذورا فيه لمكان الجهل ، فهو غير ملزم بالأكثر لا شرعا ولا عقلا حتى يجب عليه تحصيل الفراغ منه ، بل ذمته فارغة عنه ابتداء ، ومدخلية الجزء والشرط المشكوكين في الغرض على تقديرها إنّما هي على تقدير كون الواجب واقعا هو الأكثر المشتمل عليهما ، وأمّا على تقدير كونه هو الأقل فعدم مدخليتهما فيه معلوم ، وذلك الشاك إنما هو مكلّف في مرحلة الظّاهر بالأقل ، فحسب ، فاللازم عليه الإتيان به على وجه يحصل الغرض على تقدير كونه هو الواجب واقعا لا مطلقا ومن المعلوم أنّ حصوله بدون ذينك الشرط والجزء على ذلك التقدير معلوم.

والحاصل أنّه لم يكلف في مرحلة الظاهر إلاّ بالأقل فيجب عليه الإتيان به على وجه يحصل الغرض من الأمر به على تقدير كونه هو الواجب عليه واقعا ،

__________________

(١) في نسخة ( أ ) : بما مرّ.

(٢) لاحظ الصفحة.

٣٣٦

ومن المعلوم أنّ حصوله على ذلك التقدير غير متوقف على ذينك الجزء والشرط المشكوكين فيحصل إطاعة الأقل المسقطة للأمر به على تقدير كونه هو الواجب بالإتيان بنفسه من دون ضمّه إلى الزائد المشكوك في اعتباره.

فان قلت : ما ذكرت من لزوم الإطاعة بمعنى الإتيان بالمكلف به على وجه يحصل غرض المولى ممنوع ، لأنه على تقديره مأخوذ من العقلاء كما ذكرت ، ومن المعلوم أنّهم لا يبنون على أمر من باب التعبّد الصرف فيما لم يمكن (١) من تعبدهم به ـ كما هو حالهم في باب الطاعة والمعصية في أوامرهم ـ ، بل لا بد أن يكون مبنيا على حسن الشيء أو قبحه بأن يكون ترك الإطاعة بالمعنى المذكور قبيحا عقليا عندهم ، بل مجرد التقبيح أيضا لا يكفي في استحقاق العبد العقاب من المولى ، بل لا بد أن يكون هو على تقديره من جهة كون ترك الإطاعة بالمعنى المذكور تضييعا لحق المولى اللاّزم على العبد عقلا الوفاء به ـ كما مرّ في مسألة التجرّي ـ وقبح تركها بذلك المعنى ممنوع فضلا عن كونه تضييعا لحق المولى اللازم على العبد.

قلنا : لا ينبغي الارتياب في أنّ من حقّ المولى ـ على العبد ـ اللاّزم عليه إذا أمره بشيء إطاعة أمره بالمعنى المذكور بحيث يستحق العقاب منه إذا تركها بعد اشتغال ذمّته بالأمر ، وكفى به حجّة تجويز العقلاء عقابه وذمّهم العبد إذا لم يطعه كذلك بعد الاعتراف ، فإنّ بنائهم على أمر لا بدّ أن يكون مبنيّا على الحسن والقبح ، فإن تجويزهم العقاب حينئذ كاشف قطعي عن كون الإطاعة بذلك المعنى حقا لازما على العبد.

نعم لا يلزم على العبد تحصيل غرضه إذا لم يثبت اشتغال ذمته بالفعل المحصل له إلاّ أن يكون نفس الغرض مأمورا به مبيّنة أو إجمالا (٢) إذا لم يكن مردّدا

__________________

(١) ( فيما لم يمكن من تعبدهم به ) ولعل الأولى ان تكون ( فيما يمكن تعبدهم ).

(٢) كذا والصحيح ( مبيّنا أو مجملا ).

٣٣٧

بين الأقل والأكثر والكلام في المقام كما عرفت ـ على تقدير عدم كونه هو المأمور به ، ولكنه يكون الواجب هو نفس الفعل دون تحصيل (١) الغرض إلاّ أنّه يشترط في حصول الفراغ منه بعد اشتغال ذمة العبد به.

وقد ظهر ممّا حققنا إلى هنا عدم استقامة الدليل الّذي ذكرناه أوّلا لنفي اعتبار معرفة الواجب تفصيلا ، لما أشرنا إليه من أنّ كفاية الإتيان بالواجب بدونها في الأوامر العرفية إنّما هي لأجل العلم بعدم توقف غرضهم في أوامرهم التعبدية على أزيد من الإتيان بمتعلقاتها بداعي الأمر ، لا أنّ الحق اللازم على العبد في تلك الأوامر هو مجرد ذلك ، بل اللاّزم عليه عندهم أيضا في كل أمر هو الإتيان بمتعلقه على وجه يقطع بحصول الغرض منه.

فتلخص مما حققنا أنّه إذا شك في اعتبار شيء في حصول الغرض والأمر مع كون ذلك الشيء على تقدير اعتباره غير قابل لاعتباره في المأمور به مطلقا ومع تشخيص سائر الأمور المعتبرة في المأمور به يكون مقتضى الأصل هو لزوم الاحتياط بالإتيان بالمأمور به مشتملا على ذلك الشيء المشكوك في اعتباره تحصيلا للفراغ اليقيني من الأمر المعلوم المتعلق بأمر مبيّن ، المقتضي للزوم الفراغ كذلك ، فيجب الاحتياط في مسألة اعتبار معرفة الواجب تفصيلا بالإتيان بالواجب المشكوك اعتبارها فيه مع معرفته كذلك.

فإذا كان مقتضى الأصل في هذه المسألة هو اعتبار معرفة الواجب تفصيلا فهل إلى الخروج منه من سبيل؟

الّذي يمكن الالتجاء إليه في ذلك أحد أمور على سبيل منع الخلو :

أحدها : دعوى جريان أصالة البراءة ـ في نفي اعتبار معرفة الواجب تفصيلا في الغرض ـ بدعوى وجود المناط لها في مقام الشك في أصل التكليف أو

__________________

(١) في النسخة ( أ ) : أن يحصل ، وفي نسخة ( ب ) : ( لا أن يحصل ) ، والأنسب ما أثبتناه.

٣٣٨

في جزئية شيء أو شرطيته للمكلّف به بعد ثبوت التكليف في الجملة بعينه فيما إذا كان المشكوك الاعتبار على تقدير اعتباره معتبرا في الغرض دون المأمور به بتقريب أنّ المناط في غير المقام إنّما هو قبح المؤاخذة على تفويت الواقع مع جهل المكلّف به إذا كان دفع الشبهة من شأن الشارع وهو بعينه موجود في المقام ، لأنه فيه جاهل بمدخلية المعرفة التفصيلية في الغرض المقصود له ، ودفع ذلك الجهل إنّما هو من شأن الشارع ، لعدم طريق لغيره إليه ، إذ لا طريق لأحد إلى معرفة ما يتوقف عليه أغراض غيره إلاّ بيان ذلك الغير ، فليس المقام مما يكون للعرف أو لعقولنا طريق إليه.

والحاصل : أنّ المناط هو قبح المؤاخذة على فوت الواقع بغير بيان مع كون البيان على تقديره منحصرا في بيان الشارع وهو موجود في المقام على نحو وجوده في سائر الموارد ، ولزوم الاحتياط فيما يكون طريقا للإسقاط إنّما هو فيما إذا لم يكن بيان المسقط على تقدير اعتباره منحصرا في الشارع.

وبالجملة العقل مستقلّ بقبح المؤاخذة من المولى على ما فات منه من مطلوبه أو أغراضه مع جهل العبد بالحال وعدم طريق له إلى الواقع إلا بيان المولى ، إذ الاحتياط ليس طريقا منجّزا للواقع والا لتنجز المشكوكات البدوية عليه ولا طريق له إليه سواه ، فيكون فوت الواقع على تقديره مستندا إلى المولى فهو قد أخلّ بمقصوده فليس له مؤاخذة العبد على فوته في تلك الحال.

هذا غاية ما يمكن أن يوجه به جريان البراءة في المقام.

لكن الإنصاف أنّه لا مساس لها بالمقام بوجه ، لأنّها مختصة بموارد الشك (١) في التكليف بأن يكون المشكوك على تقدير اعتباره معتبرا في المكلف به وموردا للتكليف الشرعي النفسيّ ، لأنّ مدركها إنّما هو قبح التكليف بلا بيان ،

__________________

(١) في النسختين ( البحث ) والصحيح ما أثبتناه.

٣٣٩

وقد مرّ أنّ معرفة الواجب تفصيلا على تقدير اعتبارها إنّما هي معتبرة في الطاعة وهي غير قابلة للتكليف الشرعي ، بل غاية ما يتعلق بها إنّما هو الطلب الإرشادي ، فعدم التكليف الشرعي بها معلوم لا يحتاج إلى جريان أصالة البراءة ، لكن لمّا كان التكليف الشرعي بنفس الواجب معلوما فيجب الخروج عن عهدته قطعا ، وهو لا يكون إلاّ بالاحتياط بالإتيان ممتازا عن غيره.

ومع الغض عمّا مر ـ من امتناع تعلق التكليف الشرعي بالإطاعة وتسليم إمكان تعلقه بها أيضا ـ لا يجدي أصالة البراءة في دفع الاحتياط المذكور ، لأنّ غاية ما يترتب عليها إنّما هي معذورية المكلف في معرفة الواجب تفصيلا على تقدير التكليف بها ، وأما معذوريته في مخالفة ذلك الواجب وسقوط الأمر به منه فيها من اللوازم العقلية لعدم اعتبار معرفة الواجب تفصيلا فلا يترتبان على جريان أصالة البراءة في معرفة الواجب فليست هي مؤمنة من العقاب المترتبة على عصيان ذلك الواجب فيجب الاحتياط المذكور تحصيلا للأمن منه.

وهذا نظير ما إذا علم بكون فعل واجب من الواجبات كفارة لمعصية من المعاصي لكن يشك في جزئية شيء أو شرطيته لذلك الواجب ، فإنه لا يترتب على أصالة البراءة الجارية في نفي جزئية ذلك الشيء أو شرطيته له سقوط تلك المعصية جدا ، بل لو أراد إسقاطها لا بدّ من الاحتياط في ذلك الواجب بالإتيان به بجميع ما يحتمل مدخليته فيه شرطا أو شطرا.

وثانيها إطلاق دليل بعض العبادات الواردة في مقام البيان وتتميم المطلوب في سائر العبادات بعدم القول بالفصل.

والمراد بالإطلاق هنا ليس هو المعهود في باب المطلق والمقيد وهو عدم تقييد اللفظ الموضوع للطبيعة في مقام البيان الموجب لظهوره في إرادة الطبيعة على الإطلاق ، فإنّ التمسك بذلك الإطلاق إنّما يصح في نفي ما يصلح لتقييد المطلق بالنسبة إليه ، والمشكوك في المقام غير صالح لذلك كما عرفت غير مرة ،

٣٤٠