تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٣

المولى علي الروزدري

تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٣

المؤلف:

المولى علي الروزدري


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-54-X
ISBN الدورة:

الصفحات: ٣٨٢

بل المراد به إنّما هو عدم بيان المشكوك مع كون المقام مقام بيان تمام مقصوده وبيان المشكوك أيضا على تقدير اعتباره منه بل اقتصر على بيان غيره في ذلك المقام.

وبعبارة أخرى : المراد به عدم بيان آخر مع بيان ما بيّنه من وجوب العبادة وبعض ما يعتبر فيها مع كونه في مقام بيان تمام مقصوده وغرضه ، وكان بيان اعتبار معرفة الواجب على تقدير اعتبارها منه ومن شأنه ، لعدم طريق إليه عدا بيانه ، والإطلاق بهذا المعنى على تقدير تحققه في مورد بان يحرز فيه تلك المقدمات الثلاث ، أعني كون المتكلم في مقام بيان تمام غرضه فيه مع عدم بيانه لما شك في لاعتباره فيه وكون بيان ذلك المشكوك على تقديره من شأنه لا ينبغي الارتياب في ظهوره في عدم اعتبار المتكلم لذلك المشكوك في غرضه أصلا ، لأنّ اعتباره فيه مع كونه في مقام بيان تمام ما له مدخلية في غرضه نقض لغرضه وهو قصده وبيان مقصوده بجميع ما له مدخلية فيه وهو ممتنع الصدور من الحكيم على الإطلاق تعالى شأنه العزيز لكونه قبيحا أشد القبح ولا يختص قبحه بما إذا كان المشكوك مما يجب بيانه عقلا على تقدير إرادته واقعا بحيث يقبح عدم بيانه في حدّ نفسه مع قطع النّظر عن كونه في مقام البيان أيضا كما إذا كان تكليفا فإنّه قبيح عقلا بلا بيان له ، بل يعمّ غير ذلك المورد مما لا يجب بيانه في حدّ نفسه أيضا ، لأنّ القبح المذكور إنّما هو من جهة نقض الغرض وهو قصد بيان تمام مقصوده فيدور تحققه مدار تحقق موضوعه وهو نقض الغرض وتحققه لا يختص بمورد بل يتحقق في كل مورد يكون المتكلم في صدد بيان تمام مقصوده مع إخلاله ببيان بعضه.

فظهر أنّ مدرك الإطلاق المذكور ليس هو مدرك أصالة البراءة بل يعم غير مورد البراءة أيضا كما إذا كان المتكلم في صدد بيان جميع المباحات عنده وأخلّ ببيان بعضها فإن ذلك على تقديره نقض للغرض وقبيح مع أنّ بيان المباح لا يجب في نفسه عقلا ، فلا يقبح تركه في حد نفسه.

٣٤١

وبالجملة الإطلاق بهذا المعنى على تقدير تحققه في مورد من الظهورات الحالية وهي معتبرة عند العرف كالظهورات اللفظية فيكون حجة على مؤدّاه فإذا تحقق في خطاب بعض العبادات بالنسبة إلى معرفة الواجب تفصيلا بأن علمنا أنّ الشارع في ذلك الخطاب في صدد بيان تمام مقصوده بجميع ما له دخل فيه ولم يتبين اعتبار معرفة الواجب كذلك ، فيكون ذلك الخطاب ظاهرا في عدم اعتبارها في تلك العبادة لذلك وحجة على عدم اعتبارها فيها فإذن ثبت بذلك عدم اعتبارها في سائر العبادات بضميمة عدم القول بالفصل بينهما وبين سائر العبادات.

هذا لكنّ الإنصاف عدم تحققه في شيء من خطابات العبادات ، إذ الظّاهر أنّ كلا منها إنّما هو في مقام بيان أصل تشريع العبادة في الجملة ، ولم يعلم كون واحد منها في مقام بيان تمام الغرض ، مع أنّه على تقدير تحققه في بعضها إنما ينتفع في مورده فقط ، وأما في سائر العبادات فلا ، إذ لم يعلم عدم المفصل المذكور حتى يتم به المطلوب ، بل التفصيل تصريح بعض به : حيث صرّح بكفاية مجرد نية القربة في الصوم من غير اعتبار معرفة واجبات التروك تفصيلا مع تصريحه باعتبار معرفة الواجب كذلك في غيره من العبادات فراجع.

وثالثها أن يدّعى القطع بعدم مدخلية المعرفة التفصيلية في العبادات الشرعية أيضا بتقريب :

أنّ منشأ احتمال مدخليّتها فيها إنّما هو الاتفاق المحكي عن المتكلمين على اعتبارها ونحن نعلم أنّ اتفاقهم على ذلك إنّما هو لأجل بعض الاعتبارات العقلية التي لا يصلح لإحداث الشك في أنفسها في اعتبارها فكيف بإيجابها للقطع به.

وبتقريب أوضح : أنّه قد يكون حكم المسألة عند أحد معلوما فيريد من الأدلة التي أقامها على مطلوبه توجيه ما اتّضح عنده من الحكم فيكون غرضه

٣٤٢

حينئذ تطبيق المدّعى على الدليل.

وقد يكون حكمها عنده مشكوكا ثم يلاحظ بعض الأدلة ، فيقطع بها أو يظن بذلك الحكم ، فيكون غرضه من ذكر تلك الأدلة التنبيه على مدرك ما اختاره من حكم المسألة.

وقد يكون هو بحيث يقطع بحكم في مسألة مع عدم التفاته إلى بعض الوجوه ، ثم يلتفت إلى بعض الوجوه ، فيوجب ذلك ظنه أو قطعه بخلاف ما قطع به أوّلا وكان حاله بحيث لو علم بفساد تلك الوجوه لقطع بكون الحكم الواقعي هو ما قطع به أوّلا ، فيكون ذكره لما عنده من الوجوه الموجبة للظن أو القطع بخلاف ما قطع به أوّلا لأجل تطبيق الدليل على المدّعى كما في القسم الثاني أيضا.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ وضوح فساد دليل الحكم في القسم الأول والثاني لا يكشف عن فساد المدعي واقعا ، بل يكون المسألة معه كالخالية عن الدليل رأسا فيعمل فيها بقواعد الشك ، وأما القسم الثالث فهو يكشف قطعا عن فساد المدّعى.

نعم إذا لم يعلم أنّ المورد من أيّ تلك الأقسام الثلاثة فحكمه حكم القسمين الأوّلين من حيث عدم كشف وضوح فساد الدليل فيه عن فساد المدّعي لكن بعد القطع بأنّه من القسم فذلك كاشف قطعي عن فساد المدّعى أيضا ونحن نعلم أنّ من احتمل اعتبار المعرفة التفصيلية في العبادة إنّما هو لأجل التفاته إلى المحكي عن المتكلمين من الاتّفاق المذكور بحيث لو علم بفساد مدرك المتكلمين قطع بعدم اعتبارها جدّاً فيكون المقام من القسم الثالث من تلك الأقسام وكذا المجمعون من المتكلمين على اعتبارها لو اتّضح لهم فسادها عندهم من الاعتبارات لقطعوا بعدم اعتبارها أيضا ، ونحن لمّا علمنا بفساد تلك الاعتبارات نقطع بعدم اعتبارها.

٣٤٣

والإنصاف أنّ هذا الوجه ينبغي للاعتماد [ عليه ] بتقريب (١) أنّ المجمعين ـ من المتكلمين ـ على اعتبارها لم بخصوصها بالعبادات الشرعية ، بل ادّعوا أنّ الإطاعة مطلقا لا تتحقق إلاّ بها ، فهم يعترفون بأنّه لو تحققت الإطاعة في مورد ولو في الأوامر العرفية بدونها لتحققت بدونها مطلقا وأنت تعلم بعدم توقفها في الأوامر العرفية عليها كما مر التنبيه عليه في أوّل المسألة.

والحاصل أنّهم ذهبوا إلى ما ذهبوا لأجل شبهة حصلت لهم عامّة لجميع الموارد حتى الأوامر العرفية ، فإذا علمنا نحن بفساد تلك الشبهة في الأوامر العرفية نعلم بفسادها مطلقا ، وحيث إنّه لا منشأ لاحتمال اعتبار المعرفة التفصيلية إلاّ تلك الشبهة ، فبعد العلم بفسادها مطلقا فقطع بعدم اعتبارها مطلقا.

ومن هنا يتضح الطريق إلى وجه آخر للمطلوب : وهو أنّه إذا كان منشأ احتمال اعتبار معرفة الواجب تفصيلا هو ما عند القائلين باعتبار مع اعترافهم بأنّه على تقدير فساده لا يتوقف عليها الطاعة واقعا بعد ما علمنا يمكن دعوى الإجماع من الكل حتى من القائلين باعتبارها على عدم اعتبارها واقعا بعد ما علمنا بفساد مدرك اعتبارها ، فإنّ هؤلاء مطبقون على عدم اعتبارها على تقدير فساد المدرك واقعا فإذا أحرزنا نحو ذلك التقدير فقد أحرزنا معقد اتفاقهم على عدم اعتبارهم ، ويقال بمثل هذا الإجماع الإجماع التقديري على ألسنة المتأخرين من الأصوليين وهو على تقدير ثبوته ـ كما في المقام ـ كاشف قطعي عن رأي المعصوم عليه السلام وعن رضاه بلا شبهة تعتريه.

ومما ذكرنا ـ من أنّ العلم بفساد مدركهم بالنسبة إلى الأوامر العرفية مستلزم له بالنسبة إلى الأوامر الشرعية أيضا ويتم هذا المطلوب بالتقريب المذكور ـ يصح التمسك بما ذكرنا في أول المسألة من تحقق الطاعة بمجرد

__________________

(١) في النسختين : ( ينبغي لاعتماده ويقرب ) والأنسب ما أثبتناه.

٣٤٤

الإتيان بالمأمور به بداعي الأمر غاية الأمر أنّه بنفسه غير واف بالمطلوب إلاّ أنّه بضميمة ما عرفت يتم به المطلوب هذا ما أفاده دام ظله العالي.

أقول : ويمكن تقريب المدّعى بوجه آخر ، لعلّه أحسن ممّا مرّ وهو أنّا نعلم بالضرورة أنّ الشارع لم يتعلّق غرضه في العبادات بأزيد من إيقاعها على وجه التعبّد وأنّ كلّ ما كان عنده فيها من الأغراض يحصل بمجرد إيقاعها كذلك ، والقائلون باعتبار معرفة الواجب تفصيلا أيضا معترفون بذلك ، فإنّ اعتبارهم إيّاها إنّما هو لزعمهم أنّ موضوع العبادة لا يتحقق إلاّ بها ، وقولهم إنّ الطاعة متوقفة عليها يعنون به أنّ الطاعة اللازمة التي يتوقف عليها فراغ الذّمّة متوقفة على الإتيان بالواجب على وجه يحصل غرض المولى ، وغرض الشارع في العبادات متوقف على وقوعها عبادة ، وهو متوقف على معرفة وجه المأتي به تفصيلا ، فيجب الإتيان بها كذلك ، تحصيلا للفراغ اليقيني مع اعترافهم بأنها لو تحققت وانعقدت عبادة بدونها لكفت في تحصيل الفراغ ، فيكون اعتبارهم للمعرفة التفصيلية بالأخرة راجعا إلى اعتبارها في موضوع العبادة كما يظهر للمتأمل في كلماتهم ، ونحن نقطع بانعقاد الفعل عبادة بمجرد الإتيان به بداعي الأمر ، ومعه لا يبقى شك في [ عدم ] مدخلية المعرفة التفصيلية في الإطاعة بوجه في العبادات الشرعية أيضا ، بل قد حققنا في مطاوي بعض المباحث عدم توقف العبادة على الأمر أيضا.

وكيف كان فلا ينبغي الارتياب في عدم توقفها على معرفة وجه الفعل تفصيلا في العرف والعادة فإذا ثبت عدم توقفها عليها في العادة ثبت في العبادات الشرعية أيضا ، للقطع بعدم إحداث الشارع معنى آخر للعبادات وراء ما عندهم وإنّما أحدث مصاديق لها لم يكن معهودة عندهم ، هذا.

ثم إنّه بعد ما أثبتنا عدم اعتبار معرفة الوجه تفصيلا على سبيل العلم ظهر عدم اعتبارها ظنا بطريق أولى ، فيجوز ترك الموافقة التفصيلية الظنية مطلقا

٣٤٥

إلى الموافقة العلمية الإجمالية بطريق أولى.

هذا خلاصة الكلام في المقام.

وينبغي التنبيه على شيء وهو أنّه بناء على تقديم الموافقة التفصيلية الظنية على الاحتياط بالتكرار إذا أراد المكلف الجمع بينهما بأن يأتي بما ظنه الواقع بنية الوجوب وبالمحتمل الآخر أيضا لاحتمال كونه هو الواقع ـ كما إذا علم إجمالا بأن عليه صلاة وشك في أنّها هي المقصورة الثنائية أو الكاملة الرباعية مع اقتضاء ما عنده من الأدلة الظنية كونها هي المقصورة مثلا فأراد أن يأتي بها على أنها هي الواقع وبالكاملة من باب الاحتياط ـ فهل له الجمع بينهما حينئذ كيف شاء أو يتعين تقديم ما ظنّ أنّها هي الواقع؟

ظاهر المصنف [ ره ] هو الثاني حيث قال في مطاوي كلامه في هذا المقام : إنّه يأتي أوّلا بمقتضى ظنه لكن لم يذكر له وجها.

واختاره دام ظلّه محتجا عليه بأنّه إذا قدّم ما ظن أنّه الواقع فقد قصد كونه هو المبرئ الواجب عليه في مرحلة الظاهر فيكون طرف الآخر الّذي هو خلاف ظنه ممحّضا (١) للاحتياط فلا يدور الأمر فيه بين الامتثال التفصيليّ وبين الإجمالي لعدم إمكان وقوع شيء (٢) منهما.

أمّا الأوّل : فلتوقفه على معرفة وجهه والمفروض الجهل به مطلقا فإنّ وجوبه غير معلوم ولا مظنون لا ظاهرا ولا واقعا.

وأمّا الثاني فإنّه إنّما يحصل بكلا الطرفين حينئذ معا ، لا به وحده فيكون هو وحده امتثالا احتماليا للواقع.

نعم بضمّه إلى الأوّل يحصل العلم إجمالا بامتثال الواقع أيضا ، فإذا لم يكن

__________________

(١) في نسخة ( ب ) : محضا.

(٢) في النسختين ( وقوعه شيئا ) والصحيح ما أثبتناه.

٣٤٦

الأمر فيه دائرا بين الأمرين فلا يعتبر فيه قصد الوجه ومعرفته لأنّ القائلين باعتبارها إنّما يعتبرونها في مقام إمكانها والمفروض امتناعها فيه.

والحاصل أنّه إذا فعل كذلك فيقع الأوّل ـ وهو مؤدى ظنه ـ صحيحا وطاعة لفرض قصد وجهه ومعرفته وجعله (١) هو المبرئ لذمته في مرحلة الظاهر والإتيان به بداعي الأمر به مطلوب (٢) فيكون الحال في الطرف الآخر كما في الشبهات البدوية من حيث كونه احتياطا لاحتمال كونه مطلوبا في الواقع وليس الإتيان به حينئذ مقدمة لتحصيل الواقع المردد مع قصد كون المبرئ هو ذلك الواقع حتى يكون بعضا من الاحتياط بالتكرار ، هذا بخلاف صورة العكس بأن أخر ما ظنه الواقع فإنّه قد قصد بالجمع مبرئ لا المظنون وحده ، بل إنّما هو آت به احتياطا لدرك الواقع به وبغير المظنون فلا يقع شيء منهما صحيحا لكونهما معا احتياطا بالتكرار مع التمكن من الامتثال التفصيليّ. انتهى ما أفاده دام ظله.

أقول : المفروض أنّ المكلف آت بما ظنه الواقع بنية الوجوب وجعله هو المبرئ له في مرحلة الظاهر على كل من التقديرين ، فليس إتيانه به لتحقق الاحتياط بالتكرار وتحصيله كذلك ـ مظنة حصول (٣) يقينا بضم الطرف الآخر إليه ـ إنّما هو لازم قهري للإتيان بطرفي المعلوم بالإجمال (٤) من غير توقفه على قصد كونه هو المبرئ ، إذ إتيانه بالمظنون بنيّة الوجوب ظاهرا امتثال ظني تفصيلي مطلقا ، لأنّ الدّاعي للاحتياط إنّما هو إدراك الواقع المشتبه ، فلا يكون فعل احتياطا إلاّ إذا وقع كذلك ، والمفروض أنّ الداعي للمظنون إنّما هو وجوبه ظاهرا

__________________

(١) في نسخة ( أ ) ومعرفته وجهله ، والصحيح ما أثبتناه.

(٢) في النسختين هكذا : ( ظاهرا ) ويحتمل أن يكون مطلوبا.

(٣) في نسخة ( ب ) حصوله ، والعبارة غير واضحة.

(٤) في النسختين ( الإجمالي ) : والصحيح ما أثبتناه.

٣٤٧

لاحتمال مطلوبيته واقعا ، فالإتيان به على الوجه المذكور لا يقع احتياطا مطلقا ، فيصح ، والطرف الآخر يبقى ممحضا للاحتياط كالشبهات البدوية ـ وليس الأمر فيه دائرا (١) بين الامتثال التفصيليّ والإجمالي ـ فيصح أيضا فتأمّل.

ولو قيل : إنّه في صورة العكس حيث إنّه قصد الجمع بين الطّرفين فيكون هذا احتياطا بالتكرار فيبطل.

لقلنا (٢) : بمثله في صورة تقديم المظنون أيضا ، فإنّ قصد الجمع بمجرّده لو أخلّ بالصحّة لأخل مطلقا.

ولو وجّه تلك الصورة : بأنّه وإن قصد الجمع لكن قصد المبرئ هو المظنون في مرحلة الظاهر ويكون إتيانه بالموهوم لاحتمال كونه هو المطلوب ، لا بجمعه مقدمة لتحصيل المبرئ وهو نفس الواقع المشتبه فالمصحّح في تلك الصورة إنّما هو قصد كون المبرئ هو المظنون فيقع هو امتثالا تفصيلا لذلك والموهوم ممحض للاحتياط فيصحّ لما مرّ.

لنوجّه (٣) صورة العكس أيضا ، فإنّ المفروض أنه فيها قد قصد كون المبرئ هو المظنون فيكون امتثالا تفصيلا لذلك ويصح الموهوم أيضا لكونه ممحضا للاحتياط في مورد احتمال المطلوبية.

والحاصل أنه إنما يتجه الحكم بالبطلان في صورة العكس إذا لم يقصد كون المظنون هو المبرئ ولم يأت به بنية الوجوب الظّاهري ، بل إنّما أتى به لإدراك الواقع به بضميمته إلى الموهوم وقصد كون المبرئ هو نفس الواقع فيكون الدّاعي لكل منهما هو احتمال كونه هو الواقع فيكون المجموع احتياطا بالتكرار مع التمكن من الامتثال الظني التفصيليّ ، فلا يصح شيء منهما ، ولا يخفى أنّه على

__________________

(١) في نسخة ( أ ) فباطل.

(٢) في النسختين ( يقينا ) والصحيح ما أثبتناه.

(٣) في النسختين ( فيوجّه ) والأنسب ما أثبتناه.

٣٤٨

تقدير الإتيان بالمظنون كذلك لا يفرق فيه بين الصورتين ، إذ على تقدير تقديم المظنون أيضا لا يصح شيء منهما إذا أتى به كذلك لعين الدليل المذكور.

وكيف كان فحيث إنّ المفروض الإتيان بالمظنون بداعي وجوبه الظاهري فالحق هو جواز الجمع كيف شاء.

٣٤٩
٣٥٠

[ في إمكان التعبد بالظن ]

قوله : ( المقصد الثاني في الظنّ ... إلى قوله : والمعروف هو إمكان ... إلى آخره ) (١).

أقول : قبل الخوض في المقام ينبغي تمهيد مقال فاعلم ان المراد بالإمكان المتنازع فيه انما هو الإمكان العام وهو المقابل للامتناع إذ النزاع انما هو مع من يدّعي الامتناع ، فالغرض إنّما هو مجرّد نفي الامتناع الأعمّ من وجوب التعبّد بالظنّ في بعض الموارد ، ومرجع القولين إلى دعوى حسن التعبّد به وقبحه ، لا إلى قدرة الشارع على التعبّد به وعدمها ، فيرجع النزاع إلى أنه هل يحسن من الشارع التعبّد به أو يقبح؟ كما يظهر من دليل مدّعي الامتناع ، والظاهر أنّه إنّما يدّعي الامتناع العرضيّ لا الذاتيّ ، كما يظهر من احتجاجه عليه بلزوم تحليل الحرام وتحريم الحلال ، فإنه ظاهر ـ بل صريح ـ في أنّ القبح التعبّد بالظنّ إنّما هو من جهة استلزامه لذلك المحذور ، لا مطلقا ، فعلى هذا لا ينفع مدّعي إمكانه إثباته بالنظر إلى ذاته ، بل عليه إمّا دفع ذلك الاستلزام ، أو منع قبح اللازم.

ثمّ المراد بالتعبّد بالظن هنا ليس اعتباره والحكم بالأخذ به من باب الموضوعيّة ، لأنه بهذا المعنى لا يرتاب أحد في إمكانه ، فإنه ـ حينئذ ـ كسائر الأوصاف المأخوذة كذلك ، وهو لا يقصر عن الشكّ من هذه الجهة ، بل إنّما هو اعتباره على وجه الطريقية لمتعلّقه ، بمعنى جعله حجّة في مؤداه كالعلم وتنزيله

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٤٠ ـ ٣٩.

٣٥١

منزلته بإلغاء احتمال خلافه في جميع الآثار العقليّة الثابتة للعلم من حيث الطريقيّة.

وبعبارة أخرى جعله طريقا إلى متعلّقه كالعلم الّذي هو طريق عقليّ إلى متعلّقه ، والمعاملة معه معاملة العلم (١) الطريقيّ وترتيب آثار طريقيّته عليه من معذوريّة المكلّف معه في مخالفة التكليف الواقعيّ على تقدير اتّفاقها (٢) بسبب العمل به ، كما إذا كان مؤدّاه نفي التكليف مع ثبوته في مورده واقعا ، فلم يأت المكلّف بذلك المحتمل التكليف استنادا إليه ، ومن المعلوم معذوريّته وصحّته مؤاخذته وعقابه عليها إذا كان مؤدّاه ثبوت التكليف ، وكان الواقع ثبوته ـ أيضا ـ ولم يأت المكلّف بذلك الّذي قام هو على التكليف به ، فيكون هو على تقدير اعتباره حجّة قاطعة للعذر فيها بين الشارع والعباد على الوجه المذكور كالعلم ، ويكون الفرق بينهما بمجرّد كون حجّيّة العلم بهذا المعنى بحكم العقل ، وكون حجيته بحكم الشارع وجعله ، فيكون كالعلم قاطعا لقاعدتي الاشتغال والبراءة العقليّتين (٣) إذا قام على خلافهما ، فإنّ العقل إنّما يحكم في الأولى بلزوم الاحتياط تحصيلا للأمن من عقاب مخالفة الواقع بعد ثبوت التكليف به ، وفي الثانية بجواز تركه ، نظرا إلى قبح العقاب بلا بيان الّذي هو الواقع (٤) لاحتمال العقاب ، وكلّ واحد من حكميه ذينك تعليقيّ بالنسبة إلى جعل الشارع للظنّ المسبب (٥) المشكوك في الموردين طريقا وحجّة في إثباته إذ معه يرتفع موضوعا القاعدتين ، لأنه بعد اعتباره يكون حجّة في إثبات التكليف بمحتمله في الثانية ، وبيانا له فلا

__________________

(١) في « ب » : القطع.

(٢) أي على تقدير مصادقها للمخالفة الواقعية.

(٣) في النسختين ( العقليين ).

(٤) في النسختين ( الواقع ).

(٥) ربما الصحيح : الظن بالمسبّب ، والأصح : الظن بالتكليف.

٣٥٢

يعذر ( معه ) (١) المكلّف في مخالفته على تقديرها ، وفي كون الواقع هو خصوص مؤدّاه في الأولى ، فيعذر المكلف في مخالفته على تقدير كونه مع إتيانه بمؤدّاه فمع إتيانه بمؤدّاه ـ حينئذ (٢) ـ لا يحتمل العقاب على مخالفة الواقع ، حتى يحكم العقل بلزوم تحصيل الأمن منه.

وبالجملة : النزاع في المقام إنّما هو في إمكان التعبّد بالظنّ على ( وجه ) (٣) الطريقية بالمعنى الّذي عرفت.

ويظهر ذلك ـ أيضا ـ من احتجاج منكره باستلزامه لتحليل الحرام وتحريم الحلال ، لأنه ـ على تقدير اعتباره من باب الموضوعيّة ـ لا حرمة واقعا فيما إذا كان مؤدّاه هو الإباحة ، ولا إباحة فيه إذا كان مؤدّاه هو الحرمة ، وإنّما يبقى الواقع على حاله التي كان عليها بدونه على تقدير اعتباره من باب الطريقية المحضة.

ومن هنا ظهر : أنه لا مجال لردّ المنكر بإمكان التعبّد بالظنّ على وجه التصويب لأنه معنى اعتباره من باب الموضوعية ، ولا كلام فيه.

إذا عرفت ذلك فاعلم : أنّ المعروف هو الإمكان ، وهو الحق الّذي ينبغي المصير إليه.

لنا : عدم القبح في التعبّد بالظن على الوجه المذكور حتّى مع تمكّن المكلّف من تحصيل نفس الواقع على ما هو عليه ، لأنّ غاية ما يتصوّر منشأ للقبح أحد أمور على سبيل منع الخلوّ ، والّذي يقتضيه النّظر عدم صلاحية شيء منها لذلك.

توضيح توهّم قبح التعبّد به : أنه لا ريب في أنّ الظنّ ليس مصادفا للواقع دائما ، وإلاّ لم يكن ظنّا فحينئذ إذا تعبّدنا الشارع به والسلوك على طبقه على

__________________

(١) من نسخة « ب ».

(٢) في « ب » : على تقدير كونه مع إتيانه بمؤداه وحينئذ.

(٣) أثبتناه من نسخة « أ ».

٣٥٣

الإطلاق ـ كما هو المفروض ـ يلزم فيه فيما إذا خالف الواقع أحد أمور ثلاثة ـ لا محالة ـ إن لم يلزم كلّها :

أحدها : نقض غرضه من التكليف الواقعي الموجود في محلّه الّذي أدّى هو إلى نفيه وتفويت العمل على طبقه ، فإنّ الغرض منه : إما إيجاد خصوص الفعل ، فالمفروض تفويته بترخيصه العمل بما أدّى إلى عدمه ، وإما وصول مصلحة إلى المكلّف ، فالمفروض ـ أيضا ـ تفويتها عليه.

وثانيها : تفويت مصلحة الواقع على المكلّف ، كما إذا كان الفعل في الواقع واجبا أو مندوبا ، وأدّى الظنّ إلى إباحته أو كراهته أو حرمته أو إيقاعه في مفسدة الواقع ، كما إذا كان الفعل واقعا حراما ، وأدّى الطريق إلى إباحته أو وجوبه أو استحبابه ، وكلاهما خلاف اللطف ، فيكونان قبيحين ، والنسبة بينهما وبين الأمر الأوّل هو العموم من وجه ، إذ قد ( لا ) يكون الغرض خصوص إيجاد الفعل ، بل يكون الغرض إيصال المكلّف إلى مصلحته (١) أو صونه عن مفسدته.

وثالثها : التناقض : فإنه إذا كان الظنّ مخالفا للواقع فيجتمع في مورده حكمان متناقضان : أحدهما مؤدى الظن ، والآخر مؤدّى الخطاب الواقعي ، من غير فرق في ذلك بين أن يكون مؤدّى الظنّ هو الوجوب ، مع كون الحكم الواقعي هو الحرمة ، أو العكس ، وبين أن يكون مؤدّاه الإباحة أو الاستحباب ، مع كون الحكم الواقعيّ هو الحرمة ، أو العكس ، لأنّ الأحكام الخمسة بأسرها متناقضة ، يمتنع اجتماع اثنين منها في مورد واحد ولو مع تعدّد الجهة ، كما هو الحال في المقام ، نظرا إلى أنّ الحكم الظاهري في محلّ الفرض إنما جاء من جهة قيام الظنّ فيه

__________________

(١) ( إلى مصلحته ) ساقط من « أ ».

٣٥٤

عليه.

هذا ، وتوضيح الدفع : أن الّذي يتعبّده الشارع بالظنّ : إمّا ممّن انسدّ عليه باب الوصول إلى الواقع : إمّا بانسداد باب العلم عليه من أصله ، وإمّا يكون عليه جهلا مركّبا مخالفا للواقع مطلقا ، مع تمكّنه من تحصيل ذلك العلم.

وإمّا ممّن انفتح له باب الوصول إليه بالعلم في الجملة ، بمعنى أنّه يتمكّن من تحصيل العلم به مع عدم كون علمه جهلا مركّبا مطلقا في جميع الموارد ، وعلى الثاني إما أن يكون علمه الّذي تمكّن من تحصيله أغلب مطابقة للواقع على تقديره من الظنّ المفروض ، أو مساويا له في المصادفة له وعدمها ، أو أنّ الظنّ أغلب مصادفة منه.

فعلى الأول : لا يعقل منعه من العمل بالظنّ مع عدم تمكّنه من العلم أصلا ، لاستقلال العقل بحجّيته حينئذ ، لانحصار الطريق فيه ، ومع تمكّنه منه ـ أيضا ـ يجوز أمره بالعمل بالظنّ ، بل يجب ، نظرا إلى قاعدة اللطف لفرض كون علمه على تقديره مخالفا للواقع مطلقا ، بخلاف ظنّه ، فإنّه يؤدّي إليه كثيرا بالفرد ، ولا أظنّ المنكر ينكر التعبّد به في هاتين الصورتين.

وأمّا على الثاني : فجواز التعبّد به على الشّقّ الثاني منه في غاية الوضوح أيضا ، لأنّ فوت الغرض والوقوع في المفسدة أو فوت المصلحة ، كلّها لازمة على تقدير العمل بالعلم ـ أيضا ـ على مقدار صورة عمله بالظنّ ، فلا يلزم من التعبّد به أزيد ممّا يلزم منها على تقدير عدم التعبّد به.

ومنه يظهر : جوازه في الشّقّ الثالث ـ أيضا ـ بل هو فيه أولى ، كما لا يخفى ، بل لعلّ التعبّد بالظنّ فيه متعيّن ، نظرا إلى قاعدة اللطف ، لغرض إدراك الواقع فيه معه أكثر منه على تقدير العمل بالعلم ، وإن كان هو على تقدير حصوله لا يعقل المنع من العمل به ، لكن الكلام إنما هو قبل حصوله ، والظاهر أنّ المنكر غير منكر للتعبّد به في هاتين الصورتين أيضا ، وأما على الشقّ الأوّل

٣٥٥

منه كما هو الظاهر في كونه موردا للإنكار ، فإن كان التعبّد به على تقديره لمجرّد مصلحة الطريقية والوصول إلى الواقع ، فيمتنع للزم نقض الغرض وتفويت المصلحة والإيقاع في المفسدة ، فلا شيء يجبرها ، لكن يمكن أن يكون هناك مصلحة أخرى مقتضية للتعبّد به غير مصلحة الطريقية جابرة لها غير منافية لاعتبار الظنّ من باب الطريقية ، ويكفي كونها مجرّد التسهيل على ذلك المكلّف أو على نوع المكلّفين ، لكن على الثاني لا بدّ من جبر الشارع تفويت المصلحة أو الوقوع في المفسدة إذا أدّى العمل بالظن إليهما لذلك المكلّف تسهيلا (١) ، لأن وجود مصلحة التسهيل في حقّ غيره لا يصحّح تفويت مصلحة الواقع عليه ، أو إيقاعه في مفسدته ، بل هو مخالف للّطف من غير ما يقتضي جواز تركه في حقّه ، مع إمكان أن يقال بعدم وجوب تداركها في حقّه ، نظرا إلى أنّ قاعدة اللطف لا تقتضي إيصال جميع التكاليف والخطابات الواقعية إلى المكلّف بحيث لا يفوته شيء منها وإنّما يقتضي صدور الخطابات على طبق المصالح والمفاسد وإبلاغها إلى المكلّفين على مجاري العادات ، ولا يجب أن يقرعها بأسماعهم ، فإذا لم يجب إبلاغها كذلك فلا يقبح إخفاء بعضها ـ بواسطة ترخيصه العمل بالظنّ ـ على المكلّف (٢) فتأمّل.

ويمكن أن تكون هي مصلحة الانقياد ، فإنّها على تقدير مخالفة الظنّ للواقع حاصلة لا محالة ، فيتدارك بها مفسدة الواقع أو فوت مصلحته ، وكلّ من هاتين ـ أعني مصلحتي التسهيل والانقياد ـ على تقديرها قائمة بنفس الأمر بالسلوك على طبق الظن ، وحاصلة بالأمر كما لا يخفى ، وليست قائمة بنفس السلوك ، فلا يرد على شيء منهما شيء من الأسئلة الآتية.

__________________

(١) في نسخة ( أ ) : ( تسهيل ) بالرفع.

(٢) في ( ب ) : على المكلّفين.

٣٥٦

ويمكن أن تكون هي مصلحة قائمة بنفس السلوك على طبقه ، بأن يكون في السلوك ـ على مقتضاه وجعل المكلّف ـ بالفتح ـ إما طريقا (١) إلى أحكامه الواقعيّة الصادرة من الشارع في حقه والتديّن بمقتضاه في مرحلة الظاهر ـ مصلحة اقتضت أمر الشارع بالعمل به والسلوك على طبقه كذلك ، كأن يكون العمل بقول العادل من جهة كونه احتراما وإعظاما له ذا مصلحة ومحبوبا للشارع اقتضت هي أمره بالعمل بالسلوك على مقتضاه ما لم ينكشف خلافه فتكون هذه المصلحة جابرة لفوت مصلحة الواقع. أو الوقوع في مفسدته على تقدير أداء العمل به إليهما.

وقد يستشكل في ذلك : بأنه مع فرض قيام المصلحة ـ المصحّحة للأمر بالسلوك على طبق الظنّ ـ بنفس السلوك لا محيص عن التزام التصويب وتبدّل الواقع إلى مؤدّى الظنّ ، فإنّ السلوك على طبقه عنوان متّحد في الخارج مع ترك الواجب أو فعل الحرام غير ممتاز عنه بوجه ، فيلزم اجتماع المصلحة والمفسدة في شيء واحد شخصيّ ، وهو موارد الاجتماع الّذي هو مورد مخالفة الظنّ للواقع ، فلا بدّ من الكسر والانكسار فيما بينهما ، فحينئذ إما أن يغلب مصلحة السلوك على تلك المفسدة أو تغلب هي عليها. لا سبيل إلى الثاني بوجه ، إذ معه يقبح الأمر بالسلوك على طبق الظنّ ، لأنّ المصلحة المعلومة غير قابلة لتدارك المفسدة الغالبة عليها ، فتعيّن الأوّل ، وعليه لا يقتضي تلك المفسدة ما كانت تقتضيه لو لا اتّحاد مورده مع عنوان السلوك ، لأنّ المفسدة المعلومة لا أثر لها فعلا ، وإنّما تؤثر مع عدم مزاحمة ما يغلب عليها.

وإن شئت قلت : إنّ المفسدة المتداركة كالمعدومة فلا تقتضي ما يقتضيه

__________________

(١) في « ب » عوض : إما طريقا ، إياه. ويمكن ان يكون صحيح العبارة هكذا : وطيّ المكلّف إياه طريقا إلى أحكامه ....

٣٥٧

[ سواها ](١) من النهي فيكون الحكم الفعلي لمورد الاجتماع واقعا هو مؤدّى الظنّ خاصّة فيكون الحرام الواقعي المتّحد معه (٢) كالكذب المتحد مع عنوان حفظ النّفس حلالا واقعا ، وهل هذا إلاّ التصويب؟! ويمكن الجواب عنه بوجهين :

أحدهما : أنّ سلوك الطريق الّذي هو المشتمل على تلك المصلحة ليست عبارة عن الحركات والسكنات بالجوارح المتّحدة مع الحرام الواقعي ، وإنّما هو عبارة عن التديّن بمؤدّاه وإيجاد مقتضاه تديّنا (٣) في مرحلة الظاهر ، وعمل الجوارح من الحركات والسكنات متأخّر عنه ويتفرّع عليه ، كما لا يخفى ، فهو عنوان مغاير لعنوان الحرام الواقعي ذهنا وخارجا ـ أيضا ـ لأنّ التديّن في الخارج إنما يحصل قبل العمل ، والعمل يحصل بعد تحقّقه ويتفرّع عليه ، فلا اتّحاد بين العنوانين أصلا ، حتى يقال : إنه يلزم التصويب.

وثانيهما : أنّا نلتزم بكون مورد تلك المصلحة هو سلوك الطريق على (٤) العمل على طبقه بالجوارح ، الّذي هو متّحد مع الحرام الواقعي ، ومع ذلك نمنع من استلزامه التصويب.

توضيحه : أنه لا شبهة في عدم المنافاة بين ذاتي المصلحة والمفسدة حتى في موارد كسر إحداهما للأخرى ، كما في الكذب النافع ، لأنّ معنى الكسر ليس هو إزالة الغالبة منهما لذات المغلوبة ، بل معناه اختصاص الغالبة منهما بمقتضاها فعلا في موارد الاجتماع وبقاء الأخرى فيه بلا أثر ، وإنّما المنافاة على

__________________

(١) في ( أ ) ( لو لا ) وفي ( ب ) : ( لولاه ) ، والصحيح ما أثبتناه في المتن.

(٢) يلاحظ كلامه قده في التعادل والترجيح في مقام دفع التنافي بين الحكم الواقعي والظاهري في ج ٤.

(٣) في نسخة « ا » دينا.

(٤) لعل الصحيح أبدال « على » : بمعنى.

٣٥٨

تقديرها إنما هي بين (١) مقتضاهما وآثارهما ، فلا بدّ ـ حينئذ ـ من ملاحظة أنّ بين مقتضاهما تناف ، حتّى يختصّ إحداهما بمقتضاها ، أو لا ، فيترتب على كليهما مقتضاهما ، فنقول : إنّ مقتضاهما في مورد البحث إنّما هو الطلب ، فإنّ مقتضى المفسدة إنّما هو طلب الترك ، ومقتضى المصلحة هو طلب الفعل ، وهما أعني الأمر والنهي إنّما يتنافيان (٢) ويمنع اجتماعهما في مورد واحد إذا كان موضوع كلّ منهما في عرض موضوع الآخر وفي مرتبته ، فهناك إنّما هو مورد كسر مقتضى أحدهما لمقتضى الآخر ، كما في الكذب النافع ، وأمّا إذا كان موضوع أحدهما في طول موضوع الآخر فلا ، ولو منع فرض اتّحاد الموضوعين في الخارج ، وما نحن فيه من قبيل القسم الثاني ، لأنّ مقتضى مصلحة سلوك الطريق هو الأمر بسلوك الطريق والعمل بمؤدّاه على أنه ( هو ) (٣) الواقع ، لا على أنه حكم آخر وراء الواقع ومن المعلوم أنّ الأخذ بمؤدّاه والعمل به كذلك إنّما هو بعد الفراغ عن الحكم الواقعيّ الّذي هو مقتضى المفسدة المفروضة.

وبعبارة أخرى : إنّ الكلام في نصب الشارع للطريق الظنّي طريقا إلى أحكامه الصادرة منه ، وفي أمره بتشخيص تلك الأحكام منه بعد فراغه عن جعل تلك الأحكام وتوجيه الخطابات بحسب ما يقتضيها من المصالح والمفاسد ، فعالم أمره بسلوك الطريق مغاير لعالم الخطابات الواقعيّة ، ومتأخّر عنه بحسب الجعل ، بل موضوعه لا يتحقّق إلاّ بفرض صدور تلك الخطابات قبله ، لأنّ موضوعه هو العمل بالظنّ بعنوان كونه طريقا إلى واقع مجعول مشترك بين العالم والجاهل ، فيتوقّف تحقّقه على صدور حكم مشترك كذلك قبله.

والحاصل : أنّ الكسر والانكسار بين المصلحة والمفسدة المجتمعين في مورد

__________________

(١) أثبتنا كلمة ( بين ) من نسخة « ب ».

(٢) في النسختين : ينافيان.

(٣) هو : ساقطة من « أ ».

٣٥٩

واحد مختصّان بما إذا تنافي مقتضاهما وتناقضا ، وأمّا فيما لا يتناقضان فلا مانع من تأثير كلّ منهما على مقتضاه ، ومورد التنافي بين مقتضاهما إنّما هو ما إذا كان مقتضى كلّ منهما في مرتبة الآخر ، وأمّا كون أحدهما متفرّعا على الآخر ومتأخّرا عنه فلا ، كما هو الحال في المقام ، إذا المفروض كون المصلحة على نحو يقتضي وجوب العمل على طبق الظنّ بعنوان أنّ مؤدّاه هو الواقع وحاك عنه ، لا وجوب العمل على طبقه بعنوان آخر في عرض الواقع غير ناظر إليه بوجه ، فهي غير منافية للمفسدة المفروضة في المورد الثابتة للفعل بعنوانه الخاصّ ، لا بذاتها ولا بمقتضاها.

وسيأتي تمام الكلام في دفع التنافي بين مقتضاهما في دفع إشكال التناقض الّذي هو أحد الأمور التي يتوهّم كونها مانعة من اعتبار الظنّ والتعبّد به.

وإن شئت قلت : إنا فرضنا وجود مصلحة في نفس السلوك على طبق الظنّ لا ينافي طريقيته اقتضت هي الأمر به ، فحينئذ دعوى منافاتها للمفسدة الواقعيّة التي أدّى الظنّ إلى خلاف مقتضاها [ غير تامّة ] ، لأن منافاتها لها راجعة إلى موضوعية الظنّ كما لا يخفى.

فالأوفق بقاعدة المناظرة : إنما هو دعوى امتناع مثل هذه المصلحة ، وعلى تقديرها نطالب مدّعيها بدليل الامتناع وانى له ذلك.

وكيف كان ، فالأوجه هو الوجه الأخير ، أعني كون الداعي للأمر بسلوك الظنّ هي المصلحة القائمة بنفس السلوك ، بل هذا هو المتعيّن ، لأنه على تقدير كونها قائمة بالأمر دون نفسه ، يكون ذلك الأمر نظير الأوامر الابتدائيّة طلبا صوريا ، فلا يفيد للعالم بكونه كذلك شيئا ، بل يكون وجوده كعدمه من حيث كونه قاطعا لقاعدتي البراءة والاشتغال في مواردهما ، بل العبرة في مواردهما عليها مع قيام الظنّ المأمور بسلوكه كذلك على خلافهما ـ أيضا ـ لأنّ المعذورية على مخالفة الواقع في مورد الاشتغال وعدمها فيها في مورد البراءة ، إنّما يلزمان الطلب

٣٦٠