تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٣

المولى علي الروزدري

تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٣

المؤلف:

المولى علي الروزدري


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-54-X
ISBN الدورة:

الصفحات: ٣٨٢

لا يكون وجوب قبله أصلا ، فإنّه ممّا لا يعقل النزاع في إمكانه ، بل في وقوع نظيره ، بل مثله في الشريعة ، كما يظهر للمتتبّع في أبواب الفقه ، فإنّ كفّارات الحج وإفطار صوم رمضان من هذا القبيل هذا غاية ما يتخيّل مانعا في المقام.

لكنّ الّذي يقتضيه دقيق النّظر اختصاص المنع بما إذا كان الأمران المتعلقان بالضدّين أو الأمر والنهي المتعلّقين بشيء واحد في مرتبة واحد ، [ لا ](١) مع اختلاف مرتبتي الأمر والنهي مع كون كليهما نفسيّين ، وأمّا إذا كان الأمران المتعلّقان بالضدّين في مرتبتين ـ بأن يكون أحدهما معلّقا على عصيان الآخر سواء كانا غيريّين أو نفسيّين أو مختلفين أو كان أحد من الأمر والنهي غيريّا ، مع اختلاف مرتبتهما على الوجه المذكور ، مع كون المعلّق منهما هو النفسيّ ـ فلا.

وتوضيح ذلك يقتضي التكلّم في موضعين :

أحدهما : في تحقيق الحال في الأمر بالضدّين.

وثانيهما : في تعلّق الأمر والنهي بشيء واحد.

فنقول : أمّا الأوّل منهما فتوضيح المقال فيه أنّ الممنوع منه الملازم للمحاذير المتقدّمة إنّما هو الأمر بالضدّين على الإطلاق بأن يقول افعله وافعل ضدّه ـ على نحو الإطلاق ، وأمّا إذا علّق أحدهما على عصيان الآخر ـ بأن يقول : افعله وافعل ضدّه إذا عزمت على ترك ذلك ، ولو خالفت ذلك الضدّ وتركته مع تركك للأوّل وعصيانه أعاقبك عليه أيضا ، ولست معذورا في مخالفته على تقدير عصيانك الأوّل ـ فلا.

أمّا أوّلا ـ فلما نشاهد في طريقة العقلاء من أنّه لو أمر مولى عبده على هذا الوجه لم يقدم أحد على تقبيحه ، بل يجوّزون منه ذلك ، ويجوّزون منه مؤاخذة العبد على عصيان ذلك الضدّ المأمور به على وجه المعلّق إذا عصاه مع عصيانه

__________________

(١) وفي الأصل : إذ ..

١٢١

للضدّ الآخر الأهمّ ، فهذا يكشف إجمالا عن جواز ذلك عقلا وعن أنّ الشبهة فيه شبهة في مقابلة البديهة.

وأمّا ثانيا : فلأنّ ما نجد من عقولنا مع قطع النّظر عن ملاحظة طريقة العقلاء ـ أيضا ـ أنّ الممتنع إنّما هو التكليف بالضدّين في آن واحد في مرتبة واحدة ، بأن يكون كلّ منهما منجّزا على كلّ تقدير من غير تعليق أحدهما على الآخر ، وأمّا مع تعليق أحدهما على عصيان الآخر فلم نجد منافاة ما بينهما بوجه ، لا من حيث لوازمهما ، ولا من حيث مقتضاهما ، وهو الامتثال.

والسرّ فيه : أنّ اللوازم لكل منهما إنّما يتبع ملزومها ، فإن كان هو على الإطلاق فهي كذلك ، أو على تقدير فعلى تقدير ، وكذلك الحال في مقتضاهما ، ومن المعلوم أنّه إذا فرض تعليق تنجّز أحدهما على عصيان الآخر لا مطلقا ، بحيث لو ترك المكلّف امتثاله بفعل الآخر الأهمّ ليس عليه شيء ، وإنّما يستحقّ المؤاخذة لو تركه مع ترك الآخر ، فلا يلزم منه التكليف بغير المقدور أصلا ، ولا اجتماع الضدّين جدّاً ، فإنّ لوازم الطلب التعليقي كنفسه ـ أيضا ـ تعليقيّة ، لأنّها تابعة له لكونها ناشئة منه ، ولمّا كان المفروض اختلاف مرتبة ملزومها مع مرتبة ملزوم اللوازم الاخر المضادّة لها فلا يلزم اجتماعها مع تلك ، ولمّا كان النهي المقدّمي الناشئ من الأمر المتعلّق بالآخر ـ بناء على اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه ـ مانعا لما ينشأ منه ويلزمه ، فالحال فيه ـ أيضا ـ إنّما هو الحال في ملزومه ، فإذا جاز نفس الملزوم على وجه التعليق فلازمه أيضا كذلك ، فلا يلزم اجتماع الأمر والنهي الممنوع ، وسيجيء لذلك مزيد توضيح في الموضع الثاني ، لكونه داخلا فيه ، فانتظر.

والحاصل : أنّه إن فرض ورود الأمر بالضدّين على الإطلاق فيمتنع الجمع بينهما بجميع لوازمهما ومقتضاهما ، كما مرّ في تقرير وجه المنع ، وأمّا إذا كان أحدهما

١٢٢

في غير مرتبة الآخر فيجوز الجمع بينهما بجميع لوازمهما ومقتضاهما ، فكما أنّ التعليق مصحّح لهما من حيث مقتضاهما فكذلك مصحّح لهما من حيث لوازمهما المضادّة أيضا فلا منافاة بين إرادة أحد الضدّين والحب له وحسنه والنهي عن ضدّه على الإطلاق وبين إرادة الضدّ الآخر والحبّ له وحسنه على تقدير عصيان الآخر.

هذا ، مع أنّ الحبّ للضدّين وحسنهما على الإطلاق ـ أيضا ـ ممّا لا ينبغي الارتياب في جوازه ، ولم نجد فيه مخالفا ـ أيضا ـ وإنّما الخلاف في إرادتهما لذلك ، وقد عرفت امتناعها إلاّ على وجه التعليق ، وأمّا النهي المقدّمي فلا يعقل أن ينشأ منه بالنسبة إلى ذلك الضدّ الأهمّ ، فلم يبق لذلك النهي موضوع حينئذ أصلا.

وبعبارة أخرى : إنّ تقدير ترك الآخر المأخوذ في ملزومه إنّما هو تقدير عدم كون ذلك الضدّ مانعا ، فإنّ المانع إنّما هو وجوده فلا يقتضي ذلك الأمر الملزوم له النهي عن ذلك الضدّ.

فمن هنا ظهر بطلان إيراد اجتماع الأمر والنهي في كلّ من الضدّين ، بل إنّما هو مختصّ بأحدهما ، وهو الغير الأهمّ منهما ، فيكون داخلا في الموضع الثاني من اجتماع النهي الغيري المنجّز على الإطلاق مع الأمر التعليقي على مخالفته ، نظرا إلى أنّ ملزوم ذلك النهي إنّما هو الأمر بالأهمّ على وجه الإطلاق ، فإذا جاز الأمر بالضدّ الغير الأهمّ على ذلك الوجه جاز الأمر بالأهمّ على الإطلاق ، فيمكن فيه الصحّة ، لإمكان حمل الأمر به على تقدير وقوعه عليه ، فيكون هو مصحّحا له وموجبا لانعقاده عبادة.

لا يقال : إنّا لم نقل بوقوع الحرام الغيري معصية للنهي المتعلّق به ، لكنّه يقع معصية لذلك الغير ، ومعه لا يعقل وقوعه عبادة.

لأنّا نقول : إنّ إيجاد ما يوجب ترك واجب ليس عصيانا له حقيقة ، وإنّما العصيان عبارة عن تركه ، وهو ملازم لعلّة الترك ، لا مصادق معها ، حتّى يلزم نفس

١٢٣

الفعل معصية.

هذا خلاصة الكلام في الموضع الأوّل.

وأمّا الثاني : فخلاصة المقال فيه : أنّ الأمر والنهي إمّا أن يكونا نفسيّين ، أو غيريين ، أو مختلفين ، بأن يكون أحدهما نفسيّا والآخر غيريّا ، وعلى أيّ تقدير ، فإمّا أن يكون كلاهما منجّزين على الإطلاق ، أو أحدهما معلّق على عصيان الآخر.

فنقول : إنّه إذا كان كلاهما نفسيّين منجّزين على وجه الإطلاق ، فيلزم التكليف المحال ، لاستحالة إرادة النقيضين على الإطلاق ، وامتناع الحبّ والبغض بالنسبة إلى شيء واحد في مرتبة واحدة وامتناع كونه حسنا وقبيحا كذلك ، لما مرّ من استلزام الأمر لإرادة متعلّقة والحبّ له وكونه حسنا إذا كان نفسيّا لا محالة إن لم نقل باستلزام الغيري لتلك الأمور ، ومن استلزام النهي لأضداد إذا كان نفسيّا لا محالة ، إن لم نقل باستلزام الغيري لها ، فاجتماع الأمر والنهي النفسيّين المنجّزين على الإطلاق مستلزم لاجتماع تلك الأمور المضادّة ، فيمتنع ، فيكون تكليفا محالا ، بل قد يدّعى استلزامه لاجتماع الضدّين بالنسبة إلى المصلحة والمفسدة اللازمتين لهما ـ أيضا ـ كما مرّت الإشارة إليه في تقرير المنع.

والظاهر أنّه كذلك فيما [ إذا ] اتّحدت جهتا المصلحة والمفسدة ، وأمّا مع تعدّدها ـ بأن يرجع كلّ من المفسدة والمصلحة إلى إحداهما ، بأن تكون هي موردها وموضوعها حقيقة ـ فلا ، وما نحن فيه من القسم الأول ، لفرض تعلّق الأمر والنهي بشيء ، فتكون المفسدة والمصلحة اللازمتان لهما كذلك.

هذا ، وأيضا يلزم من اجتماعهما التكليف بالمحال ، لعدم قدرة المكلّف على الجمع بين امتثالهما ، لامتناع الجمع بين الفعل والترك في آن واحد.

وأمّا إذا كانا نفسيّين : أحدهما منجّزا على الإطلاق والآخر معلّقا على عصيان ذلك المنجّز على الإطلاق فيلزم اجتماع المصلحة والمفسدة في شيء واحد

١٢٤

مع اتّحاد الجهة لا محالة ، وأيضا يناقض البغض له وكراهته على الإطلاق ـ إذا كان الطلب المنجّز كذلك هو النهي ـ للحبّ وإرادته حال ذينك البغض والكراهة ولو على وجه التعليق على عصيان النهي والعزم على ارتكاب الفعل ، فإنّ الحال هنا ليس كما في الضدّين ، لاتّحاد متعلّق الأمور المتناقضة أو المتضادّة هنا ، بخلاف الضدّين ، والتعليق المذكور بالنسبة إلى تلك المتضادّة إنّما ينفع مع تعدّد المورد لا غير ، وهكذا الحال في صورة العكس ، أعني صورة كون الطلب المنجّز على الإطلاق هو الأمر.

وأيضا إيجاد الفعل في أيّ جزء من أجزاء الوقت المضروب للأمر والنهي المعلّق عليه في الصورة الأولى عصيان لذلك النهي ، ولا يعقل إرادة العصيان والحبّ له والتحريك إليه باعتبار من الاعتبارات ، لكون العصيان مبغوضا ومكروها على الإطلاق بالفرض ، وليس الحال هنا كما في الضدّين من هذه الجهة أيضا ، فإنّ فعل أحد الضدّين ـ كما عرفت ـ لا يقع معصية للتكليف المتعلّق بالطرف الآخر.

وكذلك تركه في أيّ جزء من أجزاء الوقت المذكور في الصورة الثانية معصية لذلك الأمر ، فلا يعقل الطلب له للشارع (١) باعتبار من الاعتبارات ، لعين ما مرّ في الصورة الأولى.

وأيضا طلب أحد طرفي النقيضين معلّقا على عصيان الطلب المتعلّق بالآخر ممّا لا يعقل في نفسه ، فإنّ عصيان الطلب الآخر إنّما يحصل بارتكاب ذلك الطرف المذكور ، فيئول ذلك التعليق بالأخرة إلى التعليق على حصول متعلّق ذلك الطلب التعليقي ، ويكون معناه طلبه معلّقا على تقدير حصوله ، فيكون طلبا للحاصل ، فافهم.

__________________

(١) كذا في النسخة المستنسخة ، والأسلم في العبارة هكذا : فلا يعقل طلب الشارع له ..

١٢٥

وأمّا إذا كانا مختلفين فيتصوّر منها أربع صور :

إحداها : أن يكون الأمر نفسيّا والنهي غيريّا مع كون المنجّز على الإطلاق منهما هو الأمر ، ويكون النهي معلّقا على عصيانه.

وثانيتها : الصورة بحالها إلاّ أنّ المنجّز على الإطلاق إنّما هو النهي.

وثالثتها : أن يكون النهي نفسيا والأمر غيريّا مع كون المنجّز على الإطلاق هو النهي.

ورابعتها : الصورة الثالثة بحالها إلاّ أنّ المنجّز على الإطلاق هو الأمر.

لا شبهة في عدم المانع من اجتماعهما من جهة محذور لزوم اجتماع الضدّين بالنظر إلى المصلحة والمفسدة والحبّ والبغض والحسن والقبح في جميع تلك الصور مطلقا ، ولا من جهة محذور لزوم التكليف بالمحال أيضا في جميعها إذا كان أحدها مرتّبا على الآخر :

أمّا الأوّل : فلأنّ الطلب الغيري لا يلازم وجود مصلحة في متعلّقه ، ولا الحبّ له نفسه ، ولا كونه حسنا كذلك إذا كان أمرا ، ولا أضداد تلك الأمور إذا كان نهيا فلا يلزم المحذور الأوّل ، لفرض كون أحد الطلبين في جميع الصور غيريّا.

وأمّا الثاني : فلأنّه وإن كان يلزم على تقدير كون كلا الطلبين منجّزين على الإطلاق كما لا يخفى ، إلاّ أنّه مرتفع على تقدير تعلّق أحدهما على عصيان الآخر وترتّبه عليه ، والطلب الغيري أيضا وإن كان ملازما لإرادة متعلّقه إذا كان أمرا ولكراهته إذا كان نهيا ، لكن الإرادة في كلّ طلب لمّا كانت تابعة لذلك الطلب فإذا فرض كون ذلك الطلب تعليقيا فتكون هي أيضا كذلك ، فإذا جاز الجمع بين نفس الطلبين على التعليق جاز الجمع بين تابعيهما من الإرادة والكراهة على هذا الوجه ـ أيضا ـ لاختلاف مرتبتهما ، فلا يكون الجمع بينهما كذلك اجتماعا

١٢٦

للضدّين حتّى يكون ملزوما هما (١) ـ وهما الطلبان ـ تكليفا محالا ، لاستلزامهما للمحال.

وإن أبيت إلاّ عن تسمية هذا أيضا باجتماع الضدّين فنطالبك بدليل بطلانه وامتناعه ، وأنّى ذلك؟! بل المنصف المتأمّل المراجع لوجدانه يجد من نفسه جوازه ، بل وقوعه أيضا.

نعم الطلب الغيري على وجه التعليق المذكور غير معقول في نفسه ـ سواء كان مزاحما لذلك النهي النفسيّ [ أو ] مرجوحا (٢) بالنسبة إليه على تقدير سببيّة إيجاد الفعل المتعلّق للنهي النفسيّ ـ فإنّه لا يتحقّق عصيانه إلاّ بذلك ، فيئول هذا إلى طلب الشيء على تقدير وجوده ، وهو طلب للحاصل ، وإذا كان نهيا فمعنى تعليقه على عصيان الأمر النفسيّ : إنّما هو طلب ترك الفعل المأمور به بالأمر النفسيّ مقدّمة لترك حرام نفسيّ كان مزاحما لذلك المأمور به على تقدير تركه ، فإنّه لا يتحقّق عصيانه إلاّ به ، فيكون هذا ـ أيضا ـ طلبا للحاصل.

فعلى هذا فينحصر الجائز من الطلب التعليقي في النفسيّ ـ أمرا كان أو نهيا ـ مع كون المعلّق عليه هو عصيان الغيري بالصورة الصحيحة الحاصلة من انضمام الصور الأربع المتقدّمة إلى كون الطلبين في كلّ منهما على الإطلاق وإلى كون أحدهما في كلّ منهما معلّقا [ وهي ](٣) اثنتان :

إحداهما : أن يكون الأمر نفسيّا والنهي غيريّا مع تعليق الأمر على مخالفة النهي.

وثانيتهما : أن يكون النهي نفسيّا والأمر غيريّا مع تعليق النهي على مخالفة

__________________

(١) في النسخة المستنسخة : ( ملزوماتهما ). ، وما أثبتناه هو الصحيح.

(٢) في النسخة المستنسخة : ( ومرجوحا. ). ، والصحيح ما أثبتناه.

(٣) إضافة يقتضيها السياق.

١٢٧

ذلك الأمر ، ولا محذور في شيء منهما من المحاذير المتقدّمة ولا من غيرها ممّا يتصوّر مانعا من الاجتماع.

والّذي مرّ ـ في الأمر والنهي النفسيّين ـ من أنّ تعليق أحدهما على عصيان الآخر آئل إلى طلب الحاصل غير جار في هاتين الصورتين ، فإنّ معنى تعليق الطلب النفسيّ على عصيان الغيري إنّما هو تعليقه على عصيان ذلك الغير الّذي هو واجب نفسي أو حرام كذلك ، فإنّ عصيان الطلب الغيري إنّما هو حقيقته مخالفة ذلك الغير ، فعلى هذا يغاير ذلك الطلب النفسيّ المعلّق لمورد ما علّق هو على عصيانه ، فلا يتّحد تقدير عصيانه مع تقدير حصول متعلّق ذلك المعلّق.

فمن هنا ظهر وجه اختصاص النهي الغيريّ بالتوجيه ، لعدم اقتضائه للفساد.

ثمّ إنّ تصوير مورد هاتين الصورتين بأن يفرض واجب وحرام نفسيّان مزاحمان مع عدم قدرة المكلّف على الجمع بين امتثالهما ، ويدور أمره بين فعل الواجب أو ترك الحرام مع فرض أحدهما أهمّ من الآخر حينئذ ، فينشأ من ذلك الأهمّ طلب غيري إلى فعل الآخر إن كان ذلك الأهمّ هو الحرام ، أو إلى ترك الآخر إن كان هو الواجب ، والمنجّز على الإطلاق في الموردين هو التكليف بالأهمّ ، وأمّا غيره فتوجيه اجتماعه معه إنّما هو بالتعليق المتقدّم ذكره بأن يكون حاصل المراد منه أنه لو عصى الأهمّ ليس معذورا في عصيان غيره ، بل يلزمه على تقدير عصيان الأهمّ الإتيان بغيره ولا يجوز الإخلال به ـ أيضا ـ وهذان الطلبان متوجّهان على هذا النحو نحو المكلّف في آن واحد ، ولا مانع منه كما عرفت.

نعم قد يتأتّى فيه الإشكال من جهة تعليق الأمر بغير الأهمّ على العصيان المتأخّر عنه مع فرض وجوده قبله ، لكنّا قد بيّنّا في مطاوي مسألة مقدّمة الواجب جواز التعليق على الشرط المتأخّر ، فراجع ، إذ لا مجال لنا الآن لإعادة ما ذكرنا ثمّة.

ثمّ إنّه يظهر الحال في الأمر والنهي الغيريّين بملاحظة ما حقّقنا في الصور

١٢٨

المتقدّمة ، فلا نطيل الكلام بالتعرّض له مع عدم الحاجة إليه بوجه ، وتصوير اجتماعهما بأن يفرض كون فعل مقدّمة لواجب وعلة لارتكاب محرّم.

لكن لا يخفى عدم إمكان اجتماعهما ـ أيضا ـ كالنفسيّين فإنّ ذينك الواجب والحرام إن كانا متساويين عند التزاحم ـ بأن لا يكون امتثال أحدهما أهمّ من الآخر ـ يكون الحكم التعليقي المنجّز ، فإن اختار امتثال الواجب يكون (١) ذلك الفعل مقدّمة له لا غير ، أو امتثال الحرام يكون (٢) تركه مقدّمة له لا غير ، وليس في حقّه الآن كلا الطلبين حتّى يقتضيا وجوبه وتحريمه معا مقدّمة ، بل أحدهما مع تفويض التعيين إلى المكلّف ، بمعنى أنّ أيّهما عيّنه واختاره كان حكما فعليّا له ، فيتعيّن في حقّه ، وإن كان أحدهما أهمّ من الآخر فلا يعقل بقاء غير الأهمّ حينئذ إلاّ على وجه التعليق ، وقد عرفت أنّه لا يصلح لأن ينشأ منه طلب غيريّ إلى ما يتوقّف عليه ، لرجوعه إلى طلب الشيء على تقدير حصوله ، فافهم ، والله أعلم.

زيادة متعلّقة بمقام الفرق بين مسألة دلالة النهي على الفساد ومسألة بناء المطلق على المقيّد : وهي أنّه قد مرّ ـ في مطاوي كلماتنا المتقدّمة في وجه الفرق ـ تسليم أنّ قوله : ـ أعتق رقبة ، ولا تعتق رقبة كافرة ـ من أفراد محلّ النزاع في مسألة دلالة النهي على الفساد ، فيسأل حينئذ : ما الفرق بين قوله : ـ صلّ ولا تصلّ في المكان المغصوب ـ حيث إنّهم حكموا بصحّة الصلاة حال الغفلة عن الغصبية ، أو نسيانها ، أو الجهل بها جهلا يعذر فيه المكلّف ، وبفساد عتق الكافرة في جميع الأحوال مع أنّهما من باب واحد.

لكنّه مدفوع : بأنّ كون كلّ منهما مثالا لتلك المسألة إنّما هو بالنظر إلى ظاهر الخطاب من كون النهي متعلّقا ببعض أفراد الطبيعة المأمور بها ، وكلّ منهما

__________________

(١ و ٢) في النسخة المستنسخة : فيكون ..

١٢٩

على تقدير بقائه على ظاهره ـ بمعنى كون المراد منه ذلك ـ مساو في جميع الأحكام للآخر على تقدير بقائه على ظاهره ، فقوله : ـ صلّ ولا تصلّ في المكان المغصوب ـ إن كان المراد ظاهره من تعلّق النهي بالصلاة الواقعة في المكان المغصوب التي هي فرد من أفراد مطلق الصلاة المأمور بها فيمتنع فيه الصحّة كامتناعها في المثال الآخر إن كان الحال فيه هكذا.

لكنّهم حكموا بالصحّة فيه لقيام الإجماع فيه عليها ، فبقرينة ذلك الإجماع يستكشف عن أنّ متعلّق النهي إنما هو عنوان الغصب المتحد مع بعض أفراد الصلاة ، لا الفرد من الصلاة الواقعة في المكان المغصوب ، فحينئذ يدخل في مسألة اجتماع الأمر والنهي ، وقد عرفت فيها ثبوت الصحّة حال النسيان والغفلة والجهل الّذي لا يعذر فيه ، فالفارق بين المثالين إنّما هو ذلك الإجماع ، فإنّه لمّا منع في المثال المذكور أخرجه عن ظاهره إلى مسألة اجتماع الأمر والنهي ، بخلاف قوله : ـ أعتق ولا تعتق رقبة كافرة ـ لعدم قيام دليل عليه فيه على الصحّة ، فيستكشف منه ذلك ويخرجه عن ظاهره ، والله أعلم بحقائق الأمور.

زيادات متعلّقة بمسألة اجتماع الأمر والنهي (١) :

أولاها : أنّه قد يسأل : أنّه ما الفرق بين التخصيص في تلك المسألة ـ بناء على امتناع الاجتماع ـ وبينه في التخصيصات اللفظية والتقييدات كذلك فيما إذا كان هناك دليلان عامّان أو مطلقان يكون النسبة بينهما هي العموم من وجه ـ كقوله : أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق ـ حيث إنّه إذا بنى على إخراج مورد التعارض عن موضوع الأمر فيهما ـ وتخصيص الأمر أو تقييده بغيره ـ لا يقع ذلك المورد امتثالا بوجه وفي حال؟

هذا بخلاف التخصيص في تلك المسألة ، حيث إنّه مع التخصيص فيها

__________________

(١) راجع مسألة اجتماع الأمر والنهي : ١٦.

١٣٠

أيضا يقع المورد المستثنى امتثالا في بعض الأحوال ، كما في صورة الغفلة عن النهي أو نسيانه أو الجهل به جهلا يعذر فيه ، كما ثبت ذلك في مثل الصلاة في المكان المغصوب ، حيث إنّهم حكموا بصحّتها في الأحوال المذكورة ـ كما مرّت الإشارة إليه في ثمرات تلك المسألة ـ ولم يحكموا بها في شيء من المثالين المذكورين ، فإن كان المانع من الصحّة فيهما هو وجود النهي الواقعي الثانوي في تلك الأحوال ، فهو بعينه موجود في الصلاة في المكان المغصوب في الأحوال المذكورة ، وإن كان هو فعليّة النهي فمن المعلوم انتفاؤه في الكلّ في تلك الأحوال.

وكيف كان ، فلا يرى بين الأمثلة الثلاثة فرق أصلا ، فلم يبق وجه لاختلاف حكم بعضها مع بعض.

هذا ، مع أنّ هنا إشكالا آخر : وهو أنّ الثاني من المثالين من أفراد محلّ النزاع في تلك المسألة ، لكون متعلّقي الأمر والنهي فيه طبيعتين بينهما عموم من وجه ، كما في قوله : ( صلّ ، ولا تغصب ) مع أنّهم لم يختلفوا في ثبوت التنافي بين الأمر والنهي في ذلك المثال ، بل اتّفقوا على التنافي بينهما من غير بنائهم التنافي على امتناع اجتماع الأمر والنهي ، واختلفوا في ثبوت التنافي في مثل ( صلّ ، ولا تغصب ) ، وبنوه على تلك المسألة.

هذا مجمل تقرير الإشكالين.

والجواب عن الأوّل منهما : أنّه فرق واضح بين قوله ( أكرم العلماء ، ولا تكرم الفساق ) وبين قوله ( صلّ ولا تغصب ) ، حيث إنّ الأمر والنهي في الأوّل ، واردان على خصوص كلّ واحد من الأفراد ، لكون متعلّقهما من العمومات الاستغراقيّة ، والفرد الّذي هو مورد الاجتماع للعامّين ورد (١) النهي عنه ، فيكون المنهيّ عنه ذاته من غير اعتبار جهة فيه أصلا ، بمعنى أنّ المنهيّ عنه إنّما هو تمام

__________________

(١) في الأصل : ورود ..

١٣١

هذه الحصّة ، فتكون هذه الحصّة ـ تمامها ـ مبغوضة ذاتا ، ومع ذلك لا يعقل كونها ذات (١) مصلحة ـ أيضا ـ كما أنّه لا يعقل ورود الأمر بها ، فيكون النهي عنها مانعا عن الأمر وعن الجهة المقتضية له ، فلم يبق لها جهة موجبة لانعقاده عبادة في شيء من الأحوال حتّى في الأحوال المتقدّمة.

هذا بخلاف الصلاة في المكان المغصوب ، حيث إنّ متعلّق الأمر والنهي إنّما هما العنوانان الصادقان عليها ، لا نفسها ، فالنهي وارد على الجهة الموجودة فيها وهي جهة الغصبية ، ولازمها مبغوضية تلك الجهة وحدها ، وأمّا مبغوضيّة جهة أخرى موجودة معها في تلك الصلاة فلا.

نعم النهي عنها مانع عن اقتضاء الجهة المذكورة في ورود الأمر بناء على امتناع الاجتماع ، فيمكن حينئذ وجود الجهة المقتضية للأمر في تلك الصلاة مع ارتفاع الأمر بنفسه ، فتكون هي المصحّحة له والموجبة لانعقادها عبادة في الأحوال المذكورة ، فظهر الفرق بين المثالين.

لا يقال : إنّ مقتضى ذلك صحّة تلك الصلاة في جميع الأحوال ، حتّى في حال الالتفات والعلم بالحرمة ، لفرض وجود تلك الجهة فيها مطلقا ، وفرض كفاية الجهة في انعقاد الفعل عبادة كذلك.

لأنّا نقول : إنّ تلك الجهة ، وإن كانت موجودة فيها في جميع [ الأحوال ](٢) ، لكن ليست موجبة لانعقاد الفعل عبادة مطلقا ، بل إذا لم يكن هناك مانع آخر ، كوقوع الفعل عصيانا حيث إنّه لا يجتمع مع وقوعه عبادة ، ومن المعلوم وجوده حال العلم والالتفات ، فعدم انعقاد الصلاة المذكورة عبادة حينئذ لوجود ذلك ، لا لعدم المقتضي له.

__________________

(١) في الأصل : ذا.

(٢) إضافة يقتضيها السياق.

١٣٢

وأمّا الفرق بين قوله : ( أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق ) (١) وبين قوله ( صلّ ولا تغصب ) فبأنّ العرف يفهمون من الأوّل ورود الأمر والنهي على أفراد الطبيعتين وأشخاصهما ، وأنّ الطبيعتين فيه أحدثتا (٢) على وجه كونهما عنوانين ومرآتين لمتعلّقات الأمر والنهي ، فيكون الحال فيه ما تقدّم في قوله : ( أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق ) ، فيتّضح الفرق بينهما حينئذ.

فإن قلت : ما الفارق بينهما في نظر أهل العرف ، حيث إنّهم يفهمون ذلك في الأوّل دون الثاني؟

قلنا : أوّلا ـ ليس علينا تعيين الفارق ، بل يكفينا إحراز أنّهم يفهمون ذلك في أحدهما دون الآخر.

وثانيا ـ يبدو (٣) الفرق بينهما : أنّ مساق الأوّل من قوله : ( أكرم العلماء ، ولا تكرم الفسّاق ) من حيث اتّحاد متعلّقي الأمر والنهي فيه ، وهي طبيعة الإكرام ، وإنّما الاختلاف بين المتعلّقين باعتبار ما أضيفا إليه ، ونسبة العموم من وجه بينهما إنّما هي بهذا الاعتبار ، لا بالنظر إلى ذاتيهما ، كما هو الحال في قوله : ( أكرم العلماء ، ولا تكرم الفسّاق ) أيضا.

هذا ، بخلاف قوله : ( صل ، ولا تغصب ) لاختلاف متعلّقيهما فيه بالذات ، ضرورة كون كلّ واحد من الصلاة والغصب طبيعة مغايرة للآخر ، فمتعلّقاهما فيه عنوانان متغايران غير مندرجين تحت عنوان واحد ، ومتعلّقاهما في الأوّل مندرجان تحت عنوان واحد.

وأمّا الجواب عن ثاني الإشكالين المتقدّمين ، فقد اتّضح بما ذكرنا الآن

__________________

(١) في النسخة المستنسخة : .. ولا تكرم الفاسق.

(٢) كذا في النسخة المستنسخة ، ويحتمل : أجريتا ..

(٣) في النسخة المستنسخة : يبدأ ..

١٣٣

من الفرق بين المثالين من حيث كون متعلّقي الأمر والنهي في قوله : ( أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق ) (١) [ تحت ] عنوان واحد (٢) ، ولكون الأمر والنهي فيه واردين على طبيعة واحدة.

هذا بخلاف قوله : ( صلّ ، ولا تغصب ) ، فتوهّم دخول الأوّل في محلّ النزاع في مسألة اجتماع الأمر والنهي غلط واشتباه ، بل هو داخل في محلّ النزاع في مسألة دلالة النهي على الفساد ، وتسليم التنافي بين الأمر والنهي في الأوّل إنّما هو من جهة متعلّقي الأمر والنهي ، وهو ممّا يعترف القائل بجواز الاجتماع في تلك المسألة بامتناعه فيه ، فتوهّم ـ أنّه كان ينبغي بناء التنافي فيه على القول بالامتناع في تلك المسألة ـ بمكان من الفساد ، لخروجه عن مورد الخلاف فيها ، فافهم.

والله أعلم ، والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.

__________________

(١) في النسخة المستنسخة : أكرم العالم ولا تكرم الفاسق.

(٢) في النسخة المستنسخة : من عنوان واحد ..

١٣٤

بسم الله الرحمن الرحيم

القول في المفاهيم

وقبل الخوض فيها ينبغي التعرّض [ لتعريف ] المنطوق (١) والمفهوم على نحو الإجمال :

فاعلم أنّهم قد عرّفوا الأوّل : بأنّه ما دلّ عليه اللفظ في محلّ النطق ، والثاني بما دلّ عليه اللفظ لا في محلّ النطق.

والمراد بالموصول إنّما هو الحكم ، والظاهر أنّ قولهم : ( في محلّ النطق ) ظرف لغو (٢) متعلق بـ ( دلّ ) ، وأنّ المراد بالنطق إنّما هو النطق باللفظ أي التلفّظ به ، فالمراد أنّ المنطوق هو المفهوم من اللفظ بحسب التلفّظ به ، والمفهوم هو المنفهم منه في غيره (٣) بحسب التلفّظ ، فمنطوق قولنا : ( إن جاءك زيد فأكرمه ) ما يعبّر عنه في الفارسية بقولنا : ( اگر آمد زيد تو را گرامى بدار أو را ) ، ومفهومه ما يعبّر عنه فيها بقولنا : ( اگر نيامد تو را زيد بر تو نيست گرامى داشتن أو ) ، حيث إنّ الأوّل هو المفهوم التحت اللفظي للكلام دون الثاني.

لا حال (٤) من الضمير العائد إلى الموصول كما استظهره بعض ، ولا من

__________________

(١) في النسخة المستنسخة : ( التعرض لذي المنطوق ). ، والصحيح ما أثبتناه.

(٢) الظرف اللغو : هو ما كان العامل فيه مذكورا نحو : زيد حصل في الدار. التعريفات للشريف الجرجاني.

(٣) أي من اللفظ في غير محلّ النطق.

(٤) أي لا أنّ قولهم : ( في محلّ النطق ) حال من الضمير .. ، فقوله : ( لا حال من الضمير ). معطوف على قوله السابق : « قولهم : ( في محلّ النطق ) ظرف لغو متعلّق بـ ( دلّ ) ... ».

١٣٥

اللفظ كما حمله عليه بعض آخر ، لاحتياج كلّ منهما [ إلى ](١) ارتكاب أمر مخالف للأصل لا يصار إليه إلاّ بشاهد قويّ ، إذ لا بدّ في كلّ منهما من إضمار متعلّق من أفعال العموم للظرف المذكور ، كما لا يخفى ، بل يلزم على الأوّل [ من ] هذين التزام آخر مخالف للأصل ، وهو الاستخدام (٢) ، لما عرفت أنّ المراد بالموصول إنّما هو الحكم ، ومن المعلوم أنّ الّذي في محلّ النطق باللفظ إنّما هو الدلالة ، لا المدلول الّذي هو الحكم ، فلا بدّ من حمل الضمير الرابط للحال العائد إلى الموصول على الدلالة على الحكم لا نفسه ، وهل هذا إلاّ الاستخدام؟!

ثمّ إنّ مقتضى ما استظهرنا ثبوت الفرق بين المنطوق والمفهوم بكون الأوّل عبارة عن حكم مذكور ، والثاني عبارة عن حكم غير مذكور ، بل على كلّ من الاحتمالين الأخيرين أيضا كذلك ، فإنّ الفرق المذكور مبنيّ على حمل الضمير المجرور على الحكم.

وقد يفرّق بينهما : بأنّ الأوّل عبارة عمّا يكون حكما من أحكام موضوع مذكور أو حالا من أحواله ، والثاني عبارة عمّا يكون حكما من أحكام موضوع غير مذكور ، أو حالا من أحواله ، فمبنى الفرق على هذا على كون الموضوع مذكورا وعدمه ، وعليه لا بدّ من الاستخدام في الضمير المجرور بحمله على الموضوع كما لا يخفى.

__________________

(١) في الأصل : في.

(٢) الاستخدام هو أن يذكر لفظ له معنيان ، فيراد به أحدهما ثمّ يراد بالضمير الراجع إلى ذلك اللفظ معناه الآخر ، وذلك كقوله :

إذا نزل السماء بأرض قوم

رعيناه وإن كانوا غضابا

أراد بالسماء الغيث ، وبضمير ( رعيناه ) الراجع إلى ( السماء ) أراد النبت ، والسماء يطلق عليهما.

وله شقّ آخر غير محتاج إليه في المقام ، راجعه في مظانّه ، ومنها التعريفات للشريف الجرجاني : ٩.

١٣٦

ثمّ إنّه لا خفاء في عدم اطّراد حدّ المفهوم وعدم انعكاس حدّ المنطوق ـ أيضا ـ لخروج المناطيق الغير الصريحة بأسرها عن الثاني ، ودخولها كذلك في الأوّل ، حيث إنّها من المداليل الالتزامية (١) التي تفهم من اللفظ ، وينتقل منه إليها في غير محلّ النطق.

والفرق المذكور لا يجدي في إصلاحهما ، كما لا يخفى على المتأمّل ، إذ عليه ـ أيضا ـ يخرج دلالة الإشارة التي هي من أقسام المنطوق الغير الصريح عن حدّ المنطوق ، وتدخل في حدّ المفهوم ، لعدم كون الموضوع فيها مذكورا أصلا ، بل وعليه ينتقض حدّ المنطوق طردا ـ أيضا ـ بمفهوم الموافقة ، لكون الموضوع فيها مذكورا.

ولو فرّق بينهما بأنّ المفهوم ما كان مخالفا للمنطوق نفيا وإثباتا فهو تحكّم بحت ، إذ المفهوم بالطريق الأولى الّذي يعبّر عنه بمفهوم الموافقة من المفاهيم جدّاً من غير شبهة تعتريه ، مع أنّه موافق للمنطوق نفيا وإثباتا.

وكيف كان فإطالة الكلام بالنقض والإبرام في تصحيح الحدود خالية عن الطائل جدّاً بعد عدم ترتّب فائدة مهمّة عليها ، مع أنّ الأهمّ يشغلنا عنه ، فالحريّ بذل الجهد في طلب الأهمّ مستعينا بالله العظيم الأعظم والنبيّ الأكرم وآله وأوصيائه أئمّة الأمم صلواته عليه وعليهم إلى يوم يعود ما في اللوح المحفوظ مما حفظه من القلم.

فاعلم أنّ المراد بالحجّة المتنازع فيها في باب المفاهيم : إنّما هو ثبوت أصل المفهوم ، وهو الدلالة على الانتفاء عند الانتفاء ، لا اعتباره وصحّة الاعتماد عليه بعد الفراغ عن أصله.

__________________

(١) وقد ظهر ممّا ذكرنا : أنّ المفهوم والمنطوق وصفان للمدلول ، لا الدلالة كما توهمه بعضهم. منه طاب ثراه.

١٣٧

وظاهر قولهم : ـ أنّ مفهوم الشرط أو الوصف مثلا حجّة ، أو لا ـ يعطي الثاني ، وينطبق عليه ، لكنّه ليس بمقصود قطعا.

وربما يتوهّم من ظاهر القول المذكور : أنّ النزاع إنّما هو في اعتبار ذلك المقدار من إشعار اللفظ بالانتفاء عند الانتفاء في مقام تعليق الحكم على شرط أو وصف أو غيرهما ، وقد ظهر اندفاعه.

والمراد بالمفهوم ـ ، كما أشرنا إليه ـ إنّما هو دلالة اللفظ على الانتفاء عند انتفاء المعلّق عليه ـ من الشرط أو الوصف أو غيرهما ـ لا مجرّد انتفاء الحكم عند انتفاء ما علّق عليه ، فإنّه لا يقبل لوقوع النزاع فيه جدّاً ، ضرورة عدم شمول الحكم المعلّق على شيء ـ ولو كان هو الموضوع المعبّر عنه باللقب ـ لغير مورد المعلّق عليه ، بل لا بدّ من ثبوته لغير مورده من دليل آخر غير ذلك الخطاب.

ثمّ النزاع في باب المفاهيم إنّما هو في مصاديق ما اختلف في حجّيّة مفهومه لا في حجّيّة مادّته ، لعدم الخلاف من أحد في دلالة مادّة الشرط والوصف والغاية واللقب والحصر على انتفاء الحكم عن موارد انتفائها ، لعدم الخلاف في ظهور قولنا : الشرط في وجوب إكرام زيد مجيئه ، أو أنّ غاية إكرامه اليوم الفلاني ، أو أكرم زيد الموصوف بالعلم ، أو اللقب الفلاني ، أو إكرامي منحصر في زيد.

وأيضا النزاع فيها إنّما هو مع قطع النّظر عن القرائن اللاحقة لبعض الموارد الخاصّة ، كما في الأوقاف والوصايا والأقارير وأمثالها ، حيث إنّ الظاهر من حال الواقف والموصي والمقرّ إذا علّق الحكم على شيء من شرط أو وصف أو غيرهما إرادة انتفائه عند انتفاء المعلّق عليه ، والمنكرون لمفهوم الشرط أو الوصف مسلّمون له ومعترفون به في أمثال تلك الموارد ، ولذا صرّح العلاّمة (١) ـ قدّس سرّه ـ على ما حكي عنه بأنّ الكلّ متّفقون على ثبوت المفهوم لقوله عليه السلام :

__________________

(١) المختلف : ٤ ـ كتاب الطهارة ـ المسألة الثانية من الفصل الثاني ، وكذا نسبه إليه في المدارك : ٥.

١٣٨

« إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء » (١) ، فإنّ مراده إنّما هو الإجماع على ثبوته في الحديث المذكور للقرينة ، وإليه ينظر استثناء الشهيد (٢) ـ قدّس سرّه ـ الوصايا والأوقاف ونحوهما عن محلّ النزاع في باب المفاهيم (٣).

ومن هنا يظهر دفع ما أورده البهائي (٤) ـ قدّس سرّه ـ على القوم من المنافاة بين اتّفاقهم على حمل المطلق على المقيّد وبين اختلافهم في حجّيّة مفهوم الوصف ، بل ذهب الأكثر إلى منعها.

وتوضيح الدفع : أنّ استظهار انتفاء الحكم هناك عن غير مورد القيد إنّما هو لمكان القرينة اللاحقة لخصوص المقام ، وهي فهم اتّحاد الحكمين ، لا من نفس [ القيد ](٥) حتّى يلزم التنافي المذكور.

والّذي يقتضيه النّظر في دفعه : أنّ حمل المطلق على المقيّد خارج عن دلالة القيد على انتفاء الحكم عند انتفائه التي هي المتنازع فيها في باب المفاهيم ، إذ غايته أنّ استظهار حكم المطلق متّحد مع حكم المقيّد ، وليس حكما آخر وراءه.

وأمّا استظهار انتفاء سنخ ذلك الحكم ولو بخطاب آخر خاصّ بغير مورد

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢ ـ كتاب الطهارة ـ باب الماء الّذي لا ينجّسه شيء ـ ح : ١ و ٢ ، وفيه اختلاف يسير.

(٢) وهو الشهيد الثاني في تمهيد القواعد ، القاعدة الخامسة والعشرون ، حيث قال : ( ولا إشكال في دلالتهما ـ أي الشرط والصفة على نفي الحكم عند انتفائهما ) في مثل الوقف والوصايا والنذور .. إلخ ).

(٣) قال المحقّق التقيّ ـ قدّس سرّه ـ في هدايته : ( من التأمّل فيما قرّرنا يظهر أنّ ما ذكره الشهيد الثاني في التمهيد حاكيا له عن البعض من تخصيص محلّ النزاع بما عدا مثل الأوقاف والوصايا والنذور والأيمان .. غير متجه ، إذ ليس ذلك من حجّيّة المفهوم في شيء .. إلخ ). الهداية : ٢٨١.

(٤) زبدة الأصول : ١٠٤.

(٥) إضافة يقتضيها السياق.

١٣٩

القيد الّذي هو معنى المفهوم المتنازع فيه ، بحيث لو ورد دليل خاصّ على ثبوته في غير مورد القيد لوقع التعارض بينه وبين ذلك الدليل ، فلم يبق وقع للإيراد أصلا.

وأيضا النزاع فيها إنّما هو فيما إذا كان القيد ـ وهو الشرط أو الوصف أو غيرهما ـ قيدا للحكم ، لا الموضوع ، كما ينادي به تحريرهم للخلاف فيها ، بأنّ تعليق الحكم على شرط أو وصف ـ مثلا ـ يدلّ على انتفائه عند انتفاء ذلك الشرط أو الوصف أو لا؟

هذا ، مع أنّه لا يعقل النزاع في دلالة كلّ واحد من تلك القيود على تقدير كونه قيدا للموضوع وجزء منه على انتفاء ذلك الحكم عند انتفائه عقلا ، فالنزاع في قولهم : ( صم إلى الليل ) ـ مثلا ـ في ثبوت المفهوم له وعدمه إنّما هو على تقدير تعلّق الطلب بالصوم المطلق ، وكون الغاية غاية للطلب ، لا له ، فإنّ انتفاءه عن الصوم المقيّد بكونه إلى الليل بعد ارتفاع قيده ـ وهي الغاية المذكورة ـ الموجب لارتفاع الموضوع ممّا لا يعقل المرية فيه من ذي مسكة ، إذ لا يعقل طلب الصوم المقيّد بكونه في النهار إلى أوّل الليل.

وكيف كان ، فهذا ليس من المفهوم المتنازع فيه في شيء أصلا ، إذ النزاع إنّما هو في دلالة اللفظ على انتفاء الحكم عن مورد فقد القيد مع صلاحيته بذاته لاتّصافه بذلك الحكم ، بحيث يكون انتفاؤه عنه لانتفاء علّته ، لا لانتفاء نفس ذلك المورد.

فإذا عرفت ذلك فهاهنا مقامات :

الأوّل : في مفهوم الشرط :

وقد اختلف عباراتهم في تحرير الخلاف فيه :

فمنهم : من حرّره بأنّ الأمر المقيّد بشرط هل ينتفي بانتفاء ذلك الشرط؟

ومنهم : من حرّره بأنّ الحكم المقيّد بشرط هل ينتفي بانتفائه؟

١٤٠