تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٣

المولى علي الروزدري

تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٣

المؤلف:

المولى علي الروزدري


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-54-X
ISBN الدورة:

الصفحات: ٣٨٢

والحاصل : أنّ الإنصاف أنّ المتبادر من النكرة المنفيّة هو المتبادر من سائر ألفاظ العموم من دون فرق أصلا ، والمراد منها عرفا هو المراد من غيرها وهي الأفراد على وجه الاستغراق ، ثمّ الظاهر منها هي السوريّة (١) كسائر أدوات العموم ، فإنّها بمنزلة ( لا ) التي لنفي الجنس مع مدخولها لعدم الفرق عرفا بين قولنا : لا شيء من الإنسان بحجر ـ مثلا ـ وقولنا : ليس أحد من الإنسان بحجر.

فمن هنا يتّجه دعوى أنّ مفهوم قوله عليه السلام : « إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء » (٢) هو عموم السلب خاصّة.

ثمّ إنّه لا بأس بالتعرّض على نحو الإجمال للحديث (٣) المذكور وتوضيح ما هو الظاهر منه.

فاعلم : أنّ المراد بالشيء الظاهر أنّه هو المقتضي للتنجيس ، لا كلّ شيء ، إذ لا معنى لتعليق عدم تنجّس (٤) الماء بملاقاة ما لا يقتضي التنجيس على بلوغه حدّ الكرّ ، فإنّ عدم تنجّسه بملاقاته ـ حينئذ ـ غير متوقّف على بلوغه حدّ الكرّ ، بل هو حاصل في نفسه من غير توقّف على سبب من الأسباب ، لكفاية عدم كون ذلك الشيء مقتضيا للتنجيس في بقاء طهارته وعدم تنجّسه به.

__________________

(١) اعلم أنّ سوريّة ألفاظ العموم لا تختصّ بالقضايا ، بل تجري في غيرها من الجمل الإنشائية ، فإنّها إنّما يؤتى بها لأجل ضبط موضوع الحكم ـ عند تنكيره ـ على وجه الاختصار تسهيلا ، سواء كان ذلك الحكم إنشاء أو إخبارا ، فلا تغفل. منه طاب ثراه

(٢) قد مرّ تخريجه قريبا.

(٣) في النسخة المستنسخة : بالحديث ..

(٤) في النسخة المستنسخة : ( عدم تنجيس ). والصحيح ما أثبتناه.

١٨١

ثمّ إنّ المراد عدم تنجّس الماء إذا بلغ قدر كرّ بملاقاته مع المقتضي للتنجيس ، بمعنى أن المعلّق على بلوغه حدّ الكرّ إنّما هو عدم تنجّسه بملاقاته مع المقتضي له ، لا عدم تنجّسه بمجرّد وجود المقتضي له ولو مع عدم الملاقاة ، ضرورة عدم توقّف التنجّس مع عدم الملاقاة على سبب.

والمراد بالماء الظاهر أنّه طبيعة الماء الغير الملحوظ فيها شيء من أفرادها أصلا ، فيكون معنى منطوق الحديث ـ على ما استظهرناه ـ أنّ طبيعة الماء إذا بلغت مقدار كرّ لم ينجّسها شيء ممّا يقتضي التنجيس عند الملاقاة ، وأمّا مفهومه فقد عرفت في الحديث الشريف على عموميّة السلب في مفهومه وهكذا في أمثاله ولو مع البناء على أنّ المفهوم هو سلب العموم إذا كان المنطوق عامّا ، وذلك لأنّه إذا يلي العامّ جملة الجزاء ـ كما في الحديث المذكور ـ فلا بدّ أن يكون الشرط سببا لعموم حكم الجزاء لا محالة ، فإنّه أوّل مرتبة سببيّته للجزاء وأوّل مرتبة تعليقه عليه ، بحيث لو لم يعلّق عليه هذا المقدار ـ أيضا ـ خرج عن كونه معلّقا عليه بالمرّة ، مع أنّ الكلام نصّ في كونه معلّقا عليه الجزاء في الجملة ، ومقتضى إطلاق تعليق عموم حكم الجزاء عليه وعدم ذكر شيء آخر معه انحصار التعليق فيه ، بمعنى كونه هو المعلّق عليه عموم الجزاء لا غير ، وهذا لا يكون إلاّ مع كون السبب للجزاء في كلّ مورد هو ذلك المذكور في الكلام لا غير ، بأن يكون المانع عن التنجيس ـ في كلّ مورد من الموارد ملاقاة الماء للمقتضى له ـ منحصرا فيه ، إذ لو كان السبب المؤثّر في الجزاء في بعض الموارد هو وغيره لزم أن لا يكون هو وحده سببا لعموم حكم الجزاء ، بل هو مع ذلك الغير ـ يعني المركّب منهما ـ وقد فرضنا أنّ الكلام بمقتضى الإطلاق ظاهر في حصر سبب العموم فيه ، فيثبت بذلك أنّ المؤثّر ـ والمعلّق عليه حكم الجزاء ـ في كلّ مورد إنّما هو ذلك الّذي ذكر في الكلام ، فلا بدّ أن يكون الرفع في جانب المفهوم بالنظر إلى كلّ مورد ـ أيضا ـ وليس هذا إلاّ عموم سلب حكم الجزاء الثابت في

١٨٢

المنطوق.

وربما يختفي الفرق بين الحديث الشريف ونحوه وبين سائر الأمثلة ، نظرا إلى أنّ الداعي للبناء على سلب العموم في المفهوم إذا كان المنطوق عامّا إنّما هو قيام احتمال أن يكون الشرط المذكور في الكلام هو الجزء الأخير للعلّة التامّة لعموم حكم الجزاء في المنطوق ، بأن يكون سببه في بعض الموارد غير ذلك المذكور ، ويكون ذلك سببا له في بعض آخر من الموارد ، ويجب إذا صار ذلك سببا في ذلك المورد ، ويتحقّق سبب حكم الجزاء (١) في كلّ مورد ، فيسأل حينئذ عن الفرق فيما ذكرنا وغيره من الأمثلة ، من أنّ ما ذكر في الدليل على رفع ذلك الاحتمال فيه يجري في غيره من الأمثلة ـ أيضا ـ فإذن لا بأس بالإشارة الإجمالية إلى الفارق بين المقامين إزالة للشبهة عن البين :

فاعلم أنّ المتكلّم قد يكون في مقام بيان ما تعلّق بالأمور الكلّية بحيث ليست الجزئيّات الحقيقيّة مطويّة في نظره بوجه ـ كما في الحديث المذكور وما يليه من هذه الجهة ـ وقد يكون في مقام بيان ما تعلّق بالجزئيات الحقيقية ، بحيث ليست المطويّة في نظره ، إلاّ هي ، وفي المقام الثاني يمكن وجود المقتضي للحكم فعلا في بعض الخصوصيّات حال التكلّم ، فيجعل المتكلّم الشرط المذكور في الكلام حينئذ مقتضيا له في البعض الآخر منها ، الفاقد لما يقتضيه حال التكلّم ، فيكون ذلك المذكور وحده هو الجزء الأخير للعلّة التامّة لعموم الحكم بالنسبة إلى كلّ مورد.

هذا بخلاف المقام الأوّل ، لامتناع تحقّق المقتضي له في الكلّيّات قبل وجودها في الخارج ، فضلا عن تحقّقه فيها على التدريج إلى حال التكلّم ، ضرورة

__________________

(١) في النسخة المستنسخة : سبب الحكم الجزاء ...

١٨٣

أنّ وصف الاقتضاء من عوارض المقتضي ، فيمتنع اتّصاف تلك الكليّات بكونها مقتضية فعلا قبل تحقّقها في الخارج ، فاستناد السببيّة أو المانعية إليها مؤوّل إلى القضيّة الفرضية ، فيجب على المتكلّم إذا كان في مقام البيان في ذلك المقام التنبيه على المقتضى الآخر للحكم لو لم ينحصر المقتضي في ذلك المذكور في الكلام ، خصوصا إذا كان هو الشارع الحكيم ، وخصوصا إذا كان الخطاب مرجعا للغائبين عن مجلس الخطاب ، بل للمعدومين في زمان الخطاب الذين يوجدون بعده ـ أيضا ـ فإذا لم ينبّه (١) ـ ولم يذكر سببا آخر ـ يفيد (٢) ذلك انحصار المقتضي في ذلك في كلّ مورد ، إذ لولاه لما كان هو وحده سببا لعموم الحكم ، وقد فرض أنّ ظاهر الخطاب ـ بالتقريب المذكور ـ انحصاره فيه ، فيلزمه عموم السلب في جانب المفهوم بالتقريب المتقدّم.

والحاصل : أنّ الفارق بين المقامين إنّما هو جريان قاعدة قبح الخطاب بلا بيان في أوّلهما دون الثاني ، إذ من المعلوم عدم قبح إيراد الخطاب مطلقا مع كون المراد هو المقيّد في الواقع إذا كان القيد حاصلا حال الخطاب ، فإذا فرضنا أنّ المقتضي لحكم الجزاء هي الأمور الجزئية ، مثل مجيء زيد ، وقيام عمرو ، وقدوم بكر ، وهكذا ، وفرضنا أنّ وجوب إكرام العلماء ـ مثلا ـ غير معلّق واقعا على خصوص مجيء زيد ، بل عليه وعلى قيام عمرو وقدوم بكر بحيث يكون السبب لوجوب إكرام العلماء على وجه العموم هو مجموع الثلاثة من حيث المجموع ، وفرضنا ـ أيضا ـ تحقّق الأخيرين حال التكلّم ، فيصحّ أن يقال حينئذ : ـ إن جاءك زيد فأكرم العلماء ـ من غير شائبة قبح فيه أصلا ، فلا يصحّ التمسّك حينئذ بإطلاق النسبة وتعليق (٣) عموم وجوب الإكرام على مجيء زيد على انحصار سبب عمومه

__________________

(١) في النسخة المستنسخة : لم يتنبّه ..

(٢) في النسخة المستنسخة : فيفيد ...

(٣) في النسخة المستنسخة ، وتعلّق ، والصحيح ما أثبتناه.

١٨٤

فيه ليترتّب عليه انتفاء الاحتمال المانع من المصير في المفهوم إلى عموم السلب ، فتدبّر.

إعلام : قد نقل عن بعض (١) : أنّه إن كان سور القضية الكلّيّة في المنطوق كلفظي ( كلّ ) و ( لا شيء ) فالظاهر (٢) أنّ المفهوم حينئذ سلب العموم ، فيكون في الأوّل سالبة مهملة ، وفي الثاني موجبة كذلك ، وأمّا لو كان غيرهما من ألفاظ العموم كالجمع المحلّى والنكرة المنفية وغيرهما ، فالحقّ أنّه على عموم السلب. انتهى.

وفيه : أنّه لا فرق بين المقامين بوجه ، فإنّ سائر ألفاظ العموم قائمة مقام لفظي ( كلّ ) و ( لا شيء ) فلا بدّ أن يكون المفهوم في الكلّ شيئا واحدا : إمّا سلب العموم ، أو عموم السلب. نعم القضية المصدّرة بهما في كونها موجبة كلّيّة أو سالبة كذلك أظهر منها إذا صدّرت بغيرهما من ألفاظ العموم ، فالتفاوت بينهما وبين سائر الألفاظ إنّما هو بالأظهريّة والظهور ، وكذا بين مفهوميهما لكونهما تابعين للمنطوقين الّذين أحدهما أظهر.

هذا خلاصة الكلام فيما يتعلّق بالحديث المذكور من القواعد الأصولية ، فإذن لا بأس بالإشارة الإجمالية ـ أيضا ـ إلى بعض الموارد الفقهية :

فاعلم أنّ الموارد المستدلّ عليها بذلك الحديث على ما في بالنا الآن ثلاثة مواضع ، فلنقتصر على ذكرها لعدم المعرفة الآن بغيرها من تلك الموارد.

فالأوّل منها : مسألة اعتبار الكرّيّة في الماء الجاري كالراكد في عدم انفعاله بملاقاته للنجاسة وعدمه ، فاختلفوا فيها على قولين :

فذهب العلاّمة (٣) ـ قدّس سرّه ـ إلى اعتبار الكرّيّة فيه وجعله كالراكد ،

__________________

(١) الجواهر ١ : ١٠٧ ـ ١٠٨.

(٢) في النسخة المستنسخة : فظاهر ..

(٣) منتهى المطلب : ٦ ـ.

١٨٥

محتجّا بعموم لفظ الماء في الحديث ، فيكون مفهومه : كلّ ما لا يبلغ حدّ الكرّ ينجّسه شيء أو كلّ شيء ممّا يقتضي التنجيس ، فيشمل الجاري الغير البالغ إلى حدّ الكرّ.

وذهب الأكثرون (١) إلى عدم اعتباره فيه.

وحجّتهم على ما ذكره صاحب المدارك (٢) ـ قدّس سرّه ـ أنّه ليس في المقام ما يدلّ على العموم ، إذ المفرد المعرّف للجنس ، لا له. انتهى.

والأظهر هو الأوّل ، فإنّ المفرد المعرّف وإن لم يكن للعموم بالوضع إلاّ أنّه يفيده إذا كان المقام مقام البيان ، كما هو الظاهر في مورد الحديث.

ثمّ إنّ ذلك لا يتوقّف على كون المفهوم هو عموم السلب لكفاية الموجبة الجزئيّة للعلاّمة ـ قدّس سرّه ـ قبال الأكثرين من المدّعين للسلب الكلّي والثاني منها : مسألة تنجّس (٣) الماء القليل بمجرّد ملاقاته للنجاسة وعدمه به ـ بل يتوقّف على تغيّره به بأحد أوصافها الثلاثة ـ فالمشهور على الأوّل ، والمحكيّ عن العماني (٤) ـ قدّس سرّه ـ هو الثاني.

حجّة المشهور مفهوم الحديث مع دعوى عموم الماء ، ويكفيهم ذلك في مقابل العماني ، مع عدم عموم السلب في المفهوم ـ أيضا ـ.

وأمّا حجّة العماني فكأنّه أصالة الطهارة واستصحابها بعد منع إرادة المفهوم في الحديث لمعارضته لمنطوق أخبار كثيرة.

والثالث : مسألة نجاسة الغسالة بملاقاتها للنجاسة وعدمها ، فاختلفوا فيها على ثلاثة أقوال :

__________________

(١) الجواهر ١ : ٩٥ ـ ٩٦.

(٢) مدارك الأحكام : ٥.

(٣) في النسخة المستنسخة : مسألة تنجيس ..

(٤) مختلف الشيعة : ٢ ، والعماني هو ابن عقيل راجع الجواهر ١ : ١٠٥.

١٨٦

ثالثها : التفصيل بين ما إذا كانت النجاسة واردة على الماء فينفعل بها ، وبين العكس فلا.

وقد أجاب عنه السيد بحر العلوم ـ قدّس سرّه ـ في المفاتيح (١) على ما حكي عنه ـ بعد تسليم أنّ مفهوم الحديث المذكور هي الموجبة الجزئيّة لعموم لفظ الشيء الوارد فيه ـ بتقريب : أنّه في جانب المنطوق [ شامل ](٢) لصورتي ورود النجاسة على الماء والعكس ، فيكون المفهوم : أنّه إذا بلغ الماء قدر كرّ ينجّسه شيء (٣) من النجاسات سواء كان ذلك الشيء واردا عليه أو مورودا ، وهذا مع جزئيّته يكفي في المطلوب ، انتهى.

ويتّجه عليه : أنّ النكرة المنفيّة إنّما هي للعموم الأفرادي لا الأحوالي ، إذ ورود النفي عليها يقتضي العمومية بالنسبة إلى أفراد الطبيعة المرادة منها ، ومن المعلوم أنّ أفرادها إنّما هي ذوات النجاسات لا أحوالها.

اللهمّ إلاّ أن يدّعى عمومها بالنسبة إلى الأحوال من جهة إطلاق اللفظ وتجريده عن ذكر القيد مع كون المقام مقام البيان ، فيتّجه القول به لذلك ، كما يقول بالعموم في لفظة الماء ـ أيضا ـ لذلك ، ويقوّيه أنّ مورد السؤال في الحديث خاصّ ، حيث إنّ السائل سأله عليه السلام عن الماء الراكد المكيّف بكيفيّات مخصوصة ، فأجابه عليه السلام على وجه الإطلاق ، فإنّه لو كان في مقام بيان حكم مورد السؤال فقط لأجابه على طبقه ، فإطلاقه دالّ على عموم الحكم موضوعا ومحمولا شرطا وجزاء.

هذا ، وكيف كان ، فالاستدلال بالحديث الشريف لا يتوقّف على عموم

__________________

(١) منظومة الدرّة النجفية لبحر العلوم (ره) : ٣ كتاب الطهارة ـ المياه ـ البيت : ٣ و ٤. وراجع الجواهر ١ : ١٣١.

(٢) إضافة يقتضيها السياق.

(٣) في النسخة المستنسخة : ( لم ينجّسه شيء ). ، والصحيح ما أثبتناه.

١٨٧

السلب في مفهومه في شيء من الموارد الثلاثة ، بل يكفي سلب العموم الّذي هو في قوّة الجزئية ، مع ما ضمّوا إليه في بعض تلك الموارد ، كالأوّل والثالث منها ، وهو عموم الماء في المنطوق في الأوّل وعموم الشيء بالنسبة إلى الحالتين المذكورتين فيه في الثالث ، فافهم.

تتميم مقال : ما ذكرنا من أنّ المفهوم إنّما هو عموم السلب إذا كان المنطوق عامّا فيما إذا كان العامّ مقدّما ـ على الشرط إذا كان موضوع الشرط عامّا ، أو على الجزاء إذا كان موضوعه كذلك أظهر منه فيما إذا كان مؤخّرا عن الشرط أو عن الجزاء ، وذلك كقولنا : كلّ عالم أو أيّ عالم إن جاءك فأكرمه ، وكقولنا : إن جاءك زيد فأيّ عالم أو كلّ عالم أكرمه ، حيث إنّ الكلام في صورة عموم موضوع الشرط كالنصّ في استقلال كلّ واحد واحد من أفراد العامّ في سببيّته لترتب الجزاء عليه ، وكذا في صورة عموم موضوع الجزاء ، فإنّه حينئذ (١) كالنصّ في أنّ المعلّق على الشرط ـ مثلا ـ إكرام كلّ واحد واحد من العلماء وكذلك بنى شيخنا الأستاذ ـ قدّس سرّه ـ على عموم السلب في صورة تقدّم العامّ ، مع بنائه على سلب العموم في صورة التأخّر ، وذلك لا يختصّ بلفظي ( كلّ وأيّ ) بل يجري في سائر ألفاظ العموم ، وفيهما ـ أيضا ـ إذا ضممنا معنى الشرط عند إضافتهما إلى النكرة ، كقولك : كلّ عالم جاءك أو أيّ عالم جاءك ، فلا تغفل.

إيقاظ : إذا قيّد متعلّق الجزاء في جانب المنطوق بقيد من القيود التي لها مفهوم إذا وردت في كلام مستقلّ كالشرط ، والغاية ، والاستثناء ، والوصف ـ على القول بإفادته للمفهوم ـ ، كما إذا قيل : إن جاءك زيد فأكرم العلماء إن كانوا عدولا ، أو فأكرمهم إلاّ عمراً ، أو فأكرم العلماء العدول ، فلا مفهوم لشيء من تلك القيود حينئذ ، إذ الغرض منها حينئذ إنّما هو مجرّد تشخيص متعلّق الجزاء

__________________

(١) في النسخة المستنسخة : حينئذ فإنّه ...

١٨٨

وموضوعه من غير نظر إلى تعليق حكم عليها في المنطوق حتى يكون مقتضى ذلك [ انتفاء ] الحكم ـ أيضا ـ في جانب المفهوم ، فإنّا إنّما نأخذ المفهوم من القضية لأجل تعليق الحكم المذكور فيها في جانب المنطوق على القيد المذكور فيها في المنطوق ، فإذا فرض اشتمالها على قيد لم يعلّق عليه الحكم المذكور فيها ولا غيره فلا يعقل المفهوم بالنسبة إلى ذلك القيد بوجه بالنسبة إلى ذلك الحكم المذكور ، ولا بالنسبة إلى غيره من الأحكام ، إذ قولنا : ـ إن جاءك زيد فأكرم العلماء إلاّ عمرا ـ لم يقصد منه تعليق وجوب إكرام غير عمرا من العلماء على مجيء زيد ، ومقتضاه انتفاء وجوب إكرام غير عمرو من العلماء بانتفاء مجيء زيد إذ عدم وجوب إكرام عمرو أو وجوبه ، لم (١) يعلّق شيء منهما على ذلك الشرط حتّى يقتضي انتفاؤه انتفاءه ، فيكون مفهومه ثبوت نقيض الحكم المعلّق عليه في جانب المنطوق.

ومن هنا ظهر اندفاع ما لعلّه يتوهّم من أنّ قولنا : ـ أكرم العلماء إلاّ عمرا ـ يفيد حكمين : أحدهما وجوب إكرام غير عمرو ، وثانيهما عدم وجوب إكرام عمرو ، فإذا علّق ذلك على شرط فقد علّق عليه هذان الحكمان المستفادان منه في غير مقام التعليق ، فيكون المعلّق على مجيء زيد في المثال المتقدّم عدم وجوب إكرام عمرو ـ أيضا ـ فيكون [ مفهوم ](٢) المثال المذكور انتفاء عدم وجوب إكرام عمرو ـ أيضا ـ فيثبت إكرامه بانتفائه ، لأنّ عدم عدم الوجوب عين الوجوب ، وهكذا الحال فيما إذا علّق على غير الشرط من سائر القيود.

وتوضيح الاندفاع : أنّه فرق بيّن بين ذكر القول المذكور مستقلا ـ بمعنى عدم تعليقه على قيد ـ وبين ذكره معلّقا على قيد ، إذ الظاهر منه في الأوّل أنّ القيد المأخوذ فيه إنّما جيء به لإخراج غير مورده عن حكم العامّ ، هذا بخلافه في

__________________

(١) كان في النسختين ( فلم ) والصحيح ما أثبتناه.

(٢) إضافة يقتضيها السياق.

١٨٩

الثاني ، فإنّه قيد ظاهر أو صريح في أنّ الغرض من القيد المأخوذ فيه إنّما هو مجرّد تشخيص موضوع الحكم المتعلّق بالعامّ وتميّزه عن غيره ، لا إخراج غير مورده عن ذلك الحكم.

نعم هذا مستلزم لإخراجه عن ذلك الحكم ـ بوصف تعليقه على الشرط المذكور ـ لا عن سنخ ذلك الحكم رأسا ، فغاية ما يستفاد من هذا الكلام أنّ وجوب إكرام عمرو على تقديره غير معلّق على ذلك الشرط ، وهو مجيء زيد ، فلا ينافي عدم وجوب إكرامه عند عدم مجيء زيد ، وقس على ذلك الكلام في سائر القيود ، لاتّحاد وجه الدفع في الكلّ ، فلا تغفل.

الثالث : إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء اتّحادا نوعيّا أو شخصيّا ، فإن كان ذلك في كلام واحد كان مقتضاه (١) سببيّة كلّ واحد من تلك الشروط المذكورة فيه للجزاء على البدل وانتفاؤه بانتفاء الجميع ، وأمّا إذا كان في خطابات متعدّدة ـ بأن علّق الجزاء في كلّ منها على شرط غير ما علّق عليه في الآخر ـ فيقع التعارض حينئذ بين مفهوم كلّ من تلك الخطابات وبين المنطوق الآخر ، إذ مقتضى كلّ منها سببيّة الشرط المذكور فيه للجزاء وترتّبه عليه إذا وجد ، وانتفاؤه بانتفاء ذلك الشرط مطلقا ، سواء (٢) وجد شيء آخر ، أو لا.

ومن المعلوم أنّ إطلاق الانتفاء عند الانتفاء في كلّ منها بالنسبة إلى صورة وجود الشرط المذكور في الآخر ينافي سببية ذلك الشرط المستفاد من منطوقه ، وأيضا يقع التعارض بينها بحسب المنطوق فيما إذ اتّحد الجزاء شخصا ، إذ مقتضى كلّ منها سببيّة الشرط المذكور فيه للجزاء فعلا ، بمعنى كونه بحيث يترتّب عليه الجزاء متى وجد ويؤثّر فيه كذلك ، ومن البديهي أنّه لا يعقل تأثير أسباب متعدّدة

__________________

(١) في النسخة المستنسخة : إنّ مقتضاه.

(٢) في النسخة المستنسخة : كان وجد ، والصحيح ما أثبتناه.

١٩٠

في واحد شخصي على نحو استقلال كلّ منها في التأثير ، فلا يجامع سببيّة كلّ واحد من الشروط المذكورة على هذا الوجه مع سببية الآخر كذلك ، فلا بدّ أن يختصّ واحد منها بالسببية ، فيقع التعارض بينها كذلك ، فالتعارض بين الخطابات المذكورة مع وحدة الجزاء شخصا من وجهين.

فلنقدّم الكلام في علاجه من الوجه الأوّل المشترك بين الصورتين ـ أعني تعارض مفهوم كلّ من الخطابات المذكورة مع منطوق الآخر ـ ويعلم علاجه من الوجه الثاني المختصّ بصورة وحدة الجزاء في ضمن ما سنذكره من العلاج في ذلك الوجه :

فاعلم أنّ المتصوّر في الجمع بين الخطابات المذكورة بالنظر إلى تعارضها من الوجه الأوّل وجوه :

أحدها : حمل كلّ منها على إفادة مجرّد سببيّة الشرط المذكور فيه لوجود الجزاء من غير إرادة انحصار السببية فيه في منطوقه الملزوم للانتفاء عند الانتفاء ، فلا مفهوم لشيء منها أصلا ـ حينئذ ـ حتّى يعارض المنطوق الآخر ، ولازم ذلك عدم المنافاة بينها وبين خطاب آخر متضمّن لسببية شرط آخر لوجود الجزاء.

وثانيها : تخصيص مفهوم كلّ منها بمنطوق الآخر ، بمعنى أنّ المراد من كلّ منها إنّما هو سببيّة الشرط المذكور فيه للجزاء وانتفاؤه بانتفائه فيما لم يخلفه الشرط المذكور في الآخر ، ولازم ذلك منافاة كلّ من تلك الخطابات لخطاب غيره متضمّن لسببيّة شيء آخر غير ما ذكر فيها للجزاء ، إذ المفروض تخصيص مفهوم كلّ منها بإخراج صورة وجود شرط آخر من الشرائط المذكورة في تلك الخطابات ، وأمّا بالنسبة إلى غير تلك الشروط فهو باق على عمومه فينافيه ، فجميع تلك الخطابات متّفقة من جهة المفهوم في نفي سببية ذلك الشيء المذكور في ذلك الخطاب المعبّر عنها.

١٩١

هذا ، لكنّ الإشكال كلّه في تصوّر التخصيص في المفهوم ، فإنّه ليس من مقولة الألفاظ حتّى يقال : إنّه لفظ عامّ فيخصّص إذا ثبت ما يوجبه ، بل إنّما هو معنى لازم لمعنى بسيط مراد من اللفظ في جانب المنطوق ، وهو مرتبة من التعليق ليس له أجزاء حتى العقلية ، فيخرج ما ذكر عن التخصيص المصطلح.

ويؤكّد خروجه أنّ المفهوم ليس مدلولا مستقلا للكلام ، بل إنّما هو من توابع ولوازم معنى أريد من تحت لفظه ، ولا يعقل التصرّف في لازم معنى مع إبقاء ذلك المعنى على ما كان عليه أولا ، بل لا بدّ من التصرّف في ذلك المعنى الملزوم بجملة على وجه لا يقتضي ذلك اللازم إلاّ فيما فرض تخصيص اللازم به ، ومعه لا حاجة إلى تخصيص المفهوم ، لحصول الاختصاص له بالمورد المذكور قهرا ، فإخراج بعض الصور عن المفهوم لم يكن تصرّفا فيه أصلا فضلا عن كونه تخصيصا فيه.

ومن هنا ظهر : أنّ فرض التعارض المذكور بين مفهوم كلّ من الخطابات ومنطوق الآخر لا يستقيم ، لأنّ التعارض حقيقة بينها بحسب المنطوق ، فإنّه إنّما نشأ لأجل ظهور كلّ منها في إرادة معنى منه في المنطوق لازمه الانتفاء عند الانتفاء على الإطلاق ، فالتعارض حقيقة وابتداء بين الملزومات ـ وهي المناطيق ـ فلا بدّ في مقام علاجه من التصرّف في المناطيق ، مع أنّ التصرّف في المفاهيم لا يعقل مع بقائها على حالها الأوّلي ـ كما عرفت ـ فالتصرّف في المناطيق لا بدّ منه على أي تقدير.

نعم قد يأتي الإشكال في تصوير التصرّف فيها على وجه يلزمها الانتفاء عند الانتفاء في غير مورد التخصيص.

وما ربّما يتخيّل ـ من أنّ المفهوم إنّما هو لازم انحصار السببيّة في الشرط المذكور في القضيّة المستفادة منها بحسب المنطوق ، وهو تابع لها إطلاقا وتقييدا ،

١٩٢

فيخصّص (١) انحصار السببيّة في الشرط المذكور فيها في غير صورة وجود تلك الشروط الاخر المذكورة في الخطابات الاخر المفروضة ، فتفيد القضيّة انتفاء الجزاء بانتفاء الشرط المذكور فيها في غير صورة وجود تلك الشروط ، فيختصّ المفهوم بغير تلك الصورة بالتخصيص في ملزومه الّذي هو أحد طرفي العلاقة والربط والطرف الآخر هو نفس المفهوم أيضا ـ مشكل ، لأنّ الانحصار أيضا ـ من لوازم المعنى المراد من اللفظ مطابقة ، فإنّه مرتبة بسيطة من الربط والعلاقة بين الشرط والجزاء يلزمها انحصار التعليق الّذي يلزمه الانتفاء عند الانتفاء مطلقا ، فلا بدّ من التصرّف في ذلك المعنى ، وهو غير قابل لذلك لبساطته ، فعلى هذا لا بدّ من طرحه رأسا وحمل اللفظ على معنى آخر مثله ملزوم للانحصار في غير الصورة المتقدّمة ، نظرا إلى كونه أقرب إلى مدلول اللفظ الأوّلي من سائر المعاني ، كحمل الأمر على الاستحباب بعد قيام الصارف عن الوجوب ، لأنّ الوجوب ـ أيضا ـ معنى بسيط لا تركّب فيه أصلا. نعم التعدّد إنّما هو في لوازمه المعبّر عنها بطلب الفعل والمنع من الترك ، وكذلك الاستحباب ، والاستحباب اقرب إلى الوجوب من الإباحة وغيرها ، فبعد قيام الصارف عن الوجوب يحمل الأمر عليه لذلك ، لكن بيان ذلك المعنى الآخر تفصيلا في غاية الإشكال. هكذا قال ـ دام ظلّه ـ.

أقول : لا أرى إشكالا في تصوّر ذلك المعنى بوجه ، فإنّه عبارة عن النسبة على البدل التي تراد بالنسبة إلى كلّ واحد من الشروط المتعدّدة المذكورة في خطاب واحد ، الملزومة للانتفاء عند انتفاء الشروط المذكورة ، إذ حاصل التصرّف في كلّ من الخطابات المتعدّدة حملها على وجه تفيد بأجمعها الانتفاء عند انتفاء الشروط المذكورة في جميعها ، بحيث تنافي هي بأجمعها خطابا آخر متضمن

__________________

(١) في النسخة المستنسخة : فتخصيص ..

١٩٣

لسببيّة شرط آخر غير تلك الشروط ، وهذا لا يكون إلاّ بحمل كلّ منها على إفادة كون الشرط المذكور فيه سببا للجزاء على البدل بالنسبة إلى سائر الشروط المذكورة في الخطاب الآخر دون غيره ، فافهم.

وثالثها : إبقاء كلّ من الخطابات المذكورة على ظاهره ، لكن مع التصرّف في وجه صدورها بحمل كلّ منها على التوطئة مع كون الغرض من المجموع من حيث إفادة كون كلّ واحد من الشروط المذكورة فيها سببا للجزاء على البدل على نحو دلالة الإشارة.

وبعبارة أخرى : إنّه يقال : إنّ المراد من كلّ منها ما (١) هو ظاهره ـ بمعنى استعماله فيه ـ لكن إرادته ليست على نحو الواقع ، بل من باب التوطئة وإيكال إفادة الغرض ـ وهو إفادة كون كلّ واحد من الشروط المذكورة فيها سببا على البدل ـ إلى العقل ، فإنّه بملاحظة ورود جميعها كذلك يستفيد ـ من باب الإشارة ـ هذا المعنى ـ كما قد يقال ذلك في العمومات الحقيقيّة من أنّ لفظ العامّ قد استعمل في معناه الحقيقي ـ وهو تمام الأفراد ـ من باب التوطئة مع إيكال إفادة الغرض ـ وهو كون موضوع الحكم هو الباقي بعد التخصيص ـ إلى العقل ، فإنّه بعد ملاحظة التخصيص يشخص (٢) من الخطاب هذا المعنى.

ورابعها : حمل كلّ منها على بيان جزء السبب للجزاء لا تمامه ، بأن يجعل السبب التامّ له هو المجموع المركّب منها ، ويكون الغرض من الجميع تعليق الجزاء على ذلك المجموع من حيث المجموع ، فيفيد حينئذ ـ أيضا ـ نفي سبب آخر فيقع التعارض بين مجموعها وبين دليل آخر دلّ على سببية شيء آخر للجزاء.

وخامسها : تقييد سببيّة كلّ من الشروط المذكورة فيها بكونه مع الشروط

__________________

(١) في النسخة المستنسخة : ممّا ..

(٢) في النسخة المستنسخة : يشخّصه ..

١٩٤

الاخر المذكورة في الخطابات الاخر بمعنى حمل كلّ من الخطابات على إرادة ذلك.

وهذا يتّجه في الثمرة مع الوجه الرابع ، فإنّه إنّما يفارقه من حيث إنّ الشروط الاخر قد أخذت في كلّ من الخطابات على نحو الجزئية على الوجه الرابع [ و ] على وجه القيديّة والشرطيّة [ على هذا الوجه ].

هذا خلاصة الكلام في علاج التعارض بين الخطابات المذكورة من حيث الوجه الأوّل.

لكن لا يمكن المصير إلى الأخير من تلك الوجوه ، لاستلزامه التناقض ، إذ مقتضاه كون كلّ من الشروط المذكورة مقتضيا للجزاء وشرطا للاقتضاء ـ أيضا ـ ، إذ المفروض جعل كلّ منها سببا بشرط انضمام البواقي إليه ، ومن المعلوم أنّه لا يعقل كون شيء واحد مقتضيا لشيء مع كونه شرطا للمقتضي ، إذ معنى المقتضي إنّما هو المؤثّر في ذلك الشيء ، ومعنى كونه شرطا أنّ التأثير غير مستند إليه ، بل إلى غيره إلاّ أنّ له دخلا في تأثير الغير فيه ، فينحصر الوجوه التي يمكن جعلها وجها للعلاج في الأربعة المتقدّمة ، وأقربها هو الوجه الثاني ، لكونه أقرب من غيره بالنسبة إلى ظاهر القضيّة الشرطيّة ، وبعده الثالث ، بل يمكن أن يقال بالعكس ، بمعنى أنّ الأقرب هو الثالث. لكون الغرض من كلّ واحد ما هو الغرض من الآخر ، لكن التصرّف في وجه الصدور أهون من التصرّف في الدلالة ، ولو تنزّلنا فلا أقلّ من الثاني ، وبعدهما هو الوجه الأوّل ، فإنّه أبعد منهما عن ظاهر القضيّة لطرح المفهوم فيه رأسا ، لكنّه أقرب من الوجه الرابع إليه ، فإنّ الوجه الرابع ما كان قد اعتبر معه المفهوم في الجملة مع طرحه في الأوّل رأسا إلا أنّه لمّا كانت القضيّة أقوى دلالة بالنسبة إلى السببيّة من دلالتها على المفهوم ، فيكون التصرّف فيها ـ في دلالة القضية ـ (١) أهون ، فيقدّم.

__________________

(١) في النسخة المستنسخة : فيكون التصرف فيها ـ في دلالتها ـ القضيّة أهون والصحيح ما أثبتناه.

١٩٥

والحاصل : أنّه إذا دار الأمر بين طرح المفهوم رأسا مع إبقاء ظهور السببيّة على حاله وبين طرح السببيّة وإبقاء المفهوم في الجملة تكون الأوّل هو المعيّن (١) إذ ظهور القضيّة الشرطيّة في إفادة السببيّة كالنصّ ، وفي إفادة المفهوم ظاهر ، فيكون التصرّف فيها من الوجه الثاني أولى وأقدم (٢) ، فيقدّم ، ولأجل ذلك ترى أنّه لو قام قرينة على عدم إرادة الوجوب من الأمر لا يحكم بعدم إرادة مطلق الطلب بل يحملونه على الاستحباب الّذي هو أحد فرديه ويتصرّفون فيما يكون دلالة الأمر عليه أضعف من دلالته على مطلق الطلب ، وهو المنع من الترك ، فإنّ دلالته عليه أضعف من دلالته على الطلب المطلق.

هذا مجمل الكلام في الوجوه المتصوّرة لعلاج التعارض في المقام من جهة الوجه الأوّل.

وأمّا علاجه من جهة الوجه الثاني المختصّ بصورة وحدة الجزاء شخصا فينحصر في أحد أمرين :

أحدهما : الوجه الرابع المتقدم في علاجه من جهة الوجه الأوّل.

وثانيهما : حمل كلّ من الخطابات على السببيّة المقيّدة بعد قيام الشروط المذكورة في الخطاب الآخر مقام الشرط المذكور فيه ، بأن يراد من كلّ منها أنّ ذلك الشرط المذكور فيه مؤثّر في وجود الجزاء إذا لم يخلفه أحد من سائر الشروط المذكورة في الخطاب الآخر ، فتدبّر.

هذا خلاصة الكلام في المقام الأوّل من المقامات الموضوعة للمفاهيم ، وسنختمه بذكر القول في مثله بتداخل الأسباب ، فانتظر.

والله الهادي إلى سواء السبيل وله الحمد ، وعلى نبيّه صلّى الله عليه وآله الثناء الجميل وسلام الجليل.

__________________

(١) في النسخة المستنسخة : الأولى هو المعيّن.

(٢) كذا في النسخة المستنسخة ، وربّما الصحيح : وأقوم ..

١٩٦

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه ثقتي

[ في تداخل الأسباب ]

فائدة : قد عنون جماعة من متأخّري الأصوليّين أنّ الأصل في الأسباب هل هو التداخل إلى أن يقوم على عدمه دليل ، أو عدمه حتّى يقوم على ثبوته دليل؟

وقبل الخوض في المسألة لا بدّ من بيان مرادهم من تداخل الأسباب ، وأنّ المراد بالأسباب ما ذا؟

فاعلم أنّ المراد بالأسباب هنا إنّما هي الشرعيّة ، وهي المقتضيات للأحكام الشرعيّة التي بها [ تدخل ](١) تلك الأحكام في الأدلّة الشرعيّة لا العقليّة ، ولا الأعمّ ، لعدم تعلّق غرضهم بالعقليّة بوجه ، ولأنّه لا يعقل هذا النزاع بالنسبة إليها ، ضرورة امتناع تداخلها بجميع معاني التداخل المحتملة منه ، هذا بخلاف الأسباب الشرعيّة ، لأنّ سببيّتها إنّما هي بمقتضى ظواهر الأدلّة الشرعيّة ، فيمكن عدم كونها أسبابا واقعية ومؤثّرات حقيقيّة كالعقليّة ، فيمكن فيها التداخل ، فلا يكون عدم التداخل فيها بديهيّا ، حتى لا يقبل النزاع.

ثمّ الظاهر من تحرير الخلاف أنّ المراد تداخل ذوات الأسباب الشرعيّة ، وحيث إنّ عدمه ضروريّ غير قابل للإنكار ، فلا بدّ أن يكون المراد : إمّا تداخلها من حيث التأثير ، بمعنى إفادة الجميع أمرا واحدا ، فإنّ ذلك ـ أيضا ـ نوع

__________________

(١) إضافة يقتضيها السياق.

١٩٧

تداخل لها ولو بنوع من التوسّع في لفظ تداخل ، وإمّا تداخل مسبّباتها بأن يكون قضاء تلك الأسباب بتعدّد التكاليف مفروغا عنه ، ويكون النزاع في أنّ تلك التكاليف المتعدّدة المسبّبة عنها هل يحصل امتثالها بإيجاد واحد من الطبيعة المتعلّقة لها أو لا؟ فيكون المراد بالأسباب المسبّبات عنها توسّعا ، مع احتمال إضمار لفظ المسبّبات ـ أيضا ـ فلا يكون لفظ الأسباب مستعملا في المسبّبات ، أو ما يعمّ الوجهين المذكورين بأن يكون المقصود أنّ تعدّد الأسباب الشرعيّة هل يقتضي بتعدّد مسبّباتها في الخارج ـ بمعنى اقتضاء كلّ منها وجودا من الطبيعة المفروضة لمسبّباتها مغايرا لما يقتضيه الآخر من وجود تلك الطبيعية ـ أو لا؟ فيعمّ ذلك الوجهين المتقدّمين ، إذ القائل بالتداخل بهذا المعنى قد يقول به حينئذ لعدم اقتضاء نفس الأسباب المتعدّدة تعدّد المسبّبات ، وقد يقول به لعدم اقتضاء تعدّد المسبّبات تعدّدها في الخارج.

نعم المانع منه لا بدّ له من دعوى الاقتضاء في المقامين والدليل عليه في كليهما ، وعلى هذا ليس لفظ الأسباب مستعملا في المسبّبات ، ولا يلزم إضمار لفظ المسبّبات ـ أيضا ـ فإنّه مبنيّ على حمل التداخل على عدم اقتضاء تعدّد المسبّبات في الخارج من غير حاجة إلى تصرّف في لفظ آخر أصلا.

والّذي يقتضيه ويشهد له أدلّة الطرفين : أنّ المراد في موضع الخلاف في المسألة إنّما هو الاحتمال الأخير لا غير ، فإنّ القائلين بالتداخل قد يدعونه بمنع اقتضاء الأسباب الشرعية المتعدّدة لتعدّد التكاليف ، وقد يدعونه بمنع اقتضاء تعدّد التكاليف الواجب في الخارج ـ كما سيأتي تفصيله إن شاء الله ـ ، [ و ] هذا أقوى شاهد على أنّ المراد بالتداخل المتنازع فيه إنّما هو هذا الاحتمال ـ لا شيء من سابقه ـ بالتخصيص (١) ، وإلاّ لاقتصر أولئك على منع الاقتضاء في أحد

__________________

(١) كذا في نسخة الأصل ، والصحيح ـ ظاهرا ـ : بالخصوص.

١٩٨

المقامين فقط.

ويقوّي ذلك ـ بل يشهد له ـ أنّ البحث عن هذه المسألة والتعرّض لها لم يكن معهودا من أحد من متقدّمي الأصوليّين وإنّما أحدث البحث عنه المتأخّرون منهم ـ كما أشرنا إليه ـ والظاهر ـ بل المعلوم ـ أنّ هؤلاء أخذوا ذلك من الفقهاء ـ رضوان الله عليهم ـ في بعض الموارد الخاصّة من الفقه كمسألة تداخل الأغسال والوضوءات ونحوهما من سائر الموارد التي اجتمعت فيها أسباب متعدّدة مع اتحاد مسبّباتها نوعا فعنونوه على نحو الكلّيّة.

ومن المعلوم للمراجع في كلمات الفقهاء في تلك الموارد أنّ مقصودهم في مسألة الأغسال مثلا أنّه إذا وجد أسباب متعدّدة لإيجاب الغسل ، كالجنابة والحيض ، ومسّ الميت ، وغيرها ، فهل يقتضي تعدّدها تعدّد الواجب ـ وهو الغسل في الخارج ـ أو لا؟ فإنّ النافين للاقتضاء ثمّة ـ أيضا ـ قد ينفونه بمنع اقتضاء تعدّد الأسباب لتعدّد التكاليف ، وقد ينفونه بمنع اقتضاء التكاليف تعدّد المكلّف به في الخارج ، وهكذا الحال في سائر الموارد الخاصّة ، فراجع وتأمّل بعين الإنصاف.

وقد حكى ـ دام ظلّه ـ عن السيد الجليل بحر العلوم ـ قدّس سرّه ـ أنّه قال : النزاع في المقام إنّما هو في تداخل المسبّبات ، والنكتة في تعبيرهم عنه بتداخل الأسباب التنبيه على مبنى المسألة. انتهى.

أقول : ما ذكره ـ قدّس سرّه ـ إنّما يتمّ لو كان عدم تداخل المسبّبات على تقدير عدم [ تداخل ](١) الأسباب متّفقا عليه بينهم ، وليس كذلك ، لما قد أشرنا إليه وستعرف تفصيلا ـ إن شاء الله ـ من أنّ القائلين بتداخل المسبّبات قد يدعونه بمنع اقتضاء تعدّدها لتعدّد الامتثال مع تسليم اقتضاء تعدّد الأسباب

__________________

(١) إضافة يقتضيها السياق.

١٩٩

لتعدّد المسبّبات ، فلا يدور تداخل المسبّبات مدار تداخل الأسباب نفيا وإثباتا ، حتّى يكون الثاني مبنى الأوّل ، ويصحّ جعل ذلك نكتة لتعبير عنه به.

فالحريّ حمل كلامهم على ما استظهرنا ، لانطباق احتجاجات الطرفين عليه تمام الانطباق دون غيره.

ويتّضح بما سنذكر فيه من الأدلّة والأجوبة حال كلّ من المقامين ـ أعني تداخل الأسباب وتداخل المسبّبات ـ من غير حاجة إلى إفراد كلّ منهما بالبحث ، كما صنعه بعض المحقّقين من متأخّري المتأخّرين (١).

ثمّ إنّ النزاع في تداخل الأسباب ـ بأيّ معنى كان من المعاني المحتملة ـ إنّما هو فيما إذا كان معروض مسبّبات تلك الأسباب ـ وهو الفعل المكلّف به ـ حقيقة واحدة.

وأمّا إذا كان معروض كلّ منها حقيقة مغايرة لمعروض مسبّب الآخر فلا ، سواء كانت النسبة بين تلك الحقائق هو التباين الكلّي ، أو العموم من وجه ، أو مطلقا :

أمّا إذا كانت النسبة بينها هو التباين الكلّي ، فلبداهة عدم التداخل في أسباب التكاليف المتعلّقة بها ، وعدم تداخل نفس تلك التكاليف ـ أيضا ـ ولم يقل أحد من القائلين بالتداخل في أحد الموضعين أو في كليهما به على شيء منهما حينئذ.

وأمّا إذا كانت النسبة هي العموم من وجه أو مطلقا فلا يعقل النزاع حينئذ في عدم تداخل نفس الأسباب ، كما أنّه لا يعقل الخلاف في جواز تداخل مسبّباتها إذا أتى المكلّف بمورد الاجتماع ، لعدم منافاة ذلك لشيء من القواعد

__________________

(١) هو صاحب هداية المسترشدين : ١٦٧.

٢٠٠