تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٣

المولى علي الروزدري

تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٣

المؤلف:

المولى علي الروزدري


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-54-X
ISBN الدورة:

الصفحات: ٣٨٢

الا ترى أنه لو عصى العبد سيده عصيانا حقيقيا يذمّ ويستحقّ العقاب ولو مع كون ما نهى عنه السيد أمرا حسنا في نفسه أو كون ما أمر به أمرا قبيحا كذلك كأن أمر بالظلم مثلا غاية ما هناك حينئذ أنّه يذمّ المولى أيضا من جهة نهيه عن الحسن وأمره بالقبح وهو لا ينافي ذم العبد وقبح ما ارتكبه من هتك حرمته.

والحاصل : أنّ التقبيح والذم قد يكون على الفعل في نفسه ، فيدوران مدار قبحه كذلك ، وقد يكون عليه من جهة اتّحاده مع عنوان هتك حرمة من يجب على ذلك الشخص طاعته عند العقلاء وحفظ حرمته فلا يختصان بموارد عدم حسن ما ارتكبه في نفسه ، بل يدوران مدار اتحاده مع ذلك العنوان نفيا وإثباتا.

ومن هنا ظهر ما في التفصيل الآتي ممّن سبقه أي المصنّف إلى تحرير المسألة من تخصيصه قبح التجري بما إذا لم يصادف عنوانا ذا مصلحة خصوصا مع اعترافه بعد اتصاف ذلك العنوان بالحسن وعدم وقوعه موردا للمدح عليه للجهل بعنوانه حيث اعترف بمعذورية الفاعل في تركه ذلك العنوان بسبب عمله بقطعه.

وتوضيح فساده أنّه بعد الاعتراف بكون التجرّي مقتضيا للتقبيح والذمّ لا بدّ من أن يكون المانع ـ من تأثيره فيهما فعلا في بعض الموارد ـ ما ينافيهما ، ومن المعلوم أنّ مجرّد كون الفعل المتجري به في الواقع أمرا ذا مصلحة لا ينافيه ، فلا يعقل تأثيره في منع اقتضائه لما كان يقتضي بدونه ، وإنما المنافي لهما إنما هو التحسين والمدح.

وقد اعترف أنّ الفعل المذكور لا يكون موردا لهما ، لعدم كونه واقعا عن اختياره لمكان الجهل بعنوانه وهما مختصان بالأفعال الاختيارية كاختصاص التقبيح والذم بها أيضا.

هذا إنّما هو من باب المماشاة والتنزّل وإلاّ فيمكن أن يقال بعدم كونهما

٢٨١

متنافيين لهما أيضا مع تعدد الجهة فتأمل.

ثمّ إنّ الأولى وإن لم يكن متعيّنا أنّ يجعل النّزاع في استحقاق العقاب على التجري وكونه سببا له من غير النّظر إلى كونه منهيّا عنه وعدم كونه كذلك لإمكان القول به على تقدير كونه منهيا عنه وعدم كونه كذلك أيضا ، فإنّ استحقاق العقاب من المولى لا يدور مدار نهيه لتحقّقه بدونه فيما إذا علم العبد بكون شيء مبغوضا لسيّده أو محبوبا ضمنيا له ففعله أو تركه حينئذ مع عدم إظهار من المولى بعد أصلا (١) ، إذ لا ريب أنّ العبد لو اعتذر حينئذ بعد إظهار السيد له ما في ضميره بعد الاعتراف بعلمه بما فيه لم يسمع منه العقلاء ويذمّونه ويجوّزون عقابه ، وبعد جعل النزاع في ذلك فليس إتيانه ممتنعا أو صعبا (٢) كإثبات النهي عنه ، لأنه يدور مدار استقلال العقل بقبحه في نفسه أو بالنظر إلى كونه ملازما لبعض العناوين القبيحة.

ودعوى ذلك أمر غير منكر لسهولته وقربه من الاعتبار إن لم يكن واضحا كوضوح الملازمة بين القبح واستحقاق العقاب.

تتميم مقال : إذا كان المقصود إثبات سببية التجري مطلقا أو المحض منه لاستحقاق العقاب ـ بعد فرض انحصار طريقه في العقل ـ فكيفية استفادة ذلك منه أن يرجع إليه فإن استقل بقبح مطلق التجري أو المحض منه وصحّة العقاب عليه (٣) ـ من غير حاجة إلى اتحاد التجري مع بعض العناوين الأخر ، بأن يحكم بأنّه من حيث هو قبيح يستحقّ العقاب والذم عليه ـ فهو ، وإلاّ فيمكن استفادته منه بوجه آخر وهو أن يلاحظ المعصية الحقيقية بالعناوين الموجودة فيها ،

__________________

(١) في نسخة ( ب ) : مع عدم إظهاره له أصلا.

(٢) ( أو صعبا ) في النسختين غير واضحة ، والمثبت استظهار منا.

(٣) في النسختين ( عليها ) والصحيح ما في المتن.

٢٨٢

فيلاحظ بطريق الترديد والدّوران أنّ أيّا من تلك العناوين سبب لاستحقاق العقاب ، فإذا اتضح (١) مناطه على ذلك الوجه مع وجوده في التجري بأن يكون هو نفس التجري أو عنوانا ملازما معه فيستكشف من ذلك استحقاق العقاب على التجري مع عدم مصادفته للمعصية الحقيقية أيضا.

والعناوين الموجودة في المعصية أمور.

أحدهما : ارتكاب ما ينهى عنه المولى واقعا.

وثانيها : ارتكاب ما هو مبغوض.

وثالثها : ارتكاب العناوين المركب من ذينك العنوانين.

ورابعها : ارتكاب الأول مع العلم به.

وخامسها : ارتكاب الثاني كذلك.

وسادسها : ارتكاب المركب منهما كذلك.

وسابعها : ارتكاب ما علم بكونه منهيا عنه من المولى من غير اعتبار كونه كذلك في الواقع.

وثامنها : ارتكاب ما علم أنّه مبغوض من غير اعتبار كونه كذلك في الواقع.

وتاسعها : التجري على المولى بفعل ما علم أنّه مبغوضه أو منهي عنه من غير اعتبار اتحاده مع عنوان آخر.

وعاشرها : هتك حرمة المولى الملازم مع التجري في جميع موارده.

لا سبيل إلى توهّم كون أحد الأولين وكذلك المركب منهما سببا لاستحقاق العقاب لاستقلال العقل بمعذوريّة مرتكب المنهيّ عنه والمبغوض الواقعيين للمولى مع جهل الفاعل بالحال في الجملة وقبح العقاب عليه كذلك

__________________

(١) النسختين غير واضحتين والمتن استظهار.

٢٨٣

مع أنّه لا مدخلية للنهي في استحقاق العقاب أصلا لثبوته فيما إذا علم العبد بمبغوضية شيء عند المولى مع عدم نهي المولى عنه (١) بعده فارتكبه في تلك الحال كما مرت الإشارة سابقا.

ومن هنا يعلم عدم صلاحية الرابع أيضا للسببية وكذلك السادس من حيث تركبه مع النهي ، فانحصر الاحتمال في الخمسة الأخر وسببية أيّ منها مستلزمة لسببيّة التجري للعقاب.

أمّا على تقدير كون السّبب هو عنوان التجري من حيث أنّه تجرّ فهو عينه.

وأمّا على تقدير كونه هتك حرمة المولى فهو ملازم مع التجري (٢).

وأمّا على تقدير كونه هو ارتكاب ما علم أنّه مبغوض المولى أو منهي عنه من غير اعتبار الواقعية منهما فكذلك أيضا ، لأنّ المتجرّي يعلم في جميع الموارد بكون ما ارتكبه مبغوضا ومنهيا عنه من المولى إلاّ أنّه قد لا يصادف قطعه الواقع والمفروض عدم اعتبار المصادفة في العنوانين المذكورين.

وأمّا على تقدير كونه هو الخامس من الأمور العشرة المذكورة ، أعني ارتكاب مبغوض المولى واقعا مع العلم به ، فلأنّ هتك حرمة المولى ملازم مع التجري في جميع الموارد بالضرورة ، وهو مبغوض للمولى واقعا بالبديهة ، والمتجرّي أيضا عالم بذلك ، فهو مرتكب في جميع الموارد لما هو مبغوض واقعي له عالما به.

ومن هنا يعلم أنّ المبغوض أعم من الهتك وكان السبب هو ارتكاب المبغوض الواقعي له مع العلم بكونه كذلك (٣).

__________________

(١) كذا ، والأولى : ( مع عدم نهيه عنه ).

(٢) في نسخة ( ب ) : ملازم للتجرّي.

(٣) العبارة : ومن هنا ... كذلك. ساقطة من ( ب ).

٢٨٤

وكيف كان فبعد ثبوت كون السبب أحد تلك الأمور الخمسة لا محيص عن القول باستحقاق العقاب على الفعل المتجري به.

والقوي في النّظر ذلك فمن هنا يتقوى القول بسببية التجري للعقاب مطلقا ولو من جهة اتحاده مع بعض العناوين الملازمة له في جميع موارده التي منها صورة خطأ القطع وعدم مصادفة للواقع.

وقد يظهر مما ذكرنا أيضا فساد ما قد يقال من أنّ الذمّة على التجري إنّما هو لكشف التجري غير سوء سريرته لا على الفعل المتجري به.

وتوضيح الفساد أنّ عنوان هتك حرمة المولى إنّما هو عنوان متحد مع الفعل المتجري به لا محالة ، ومن المعلوم أنّه قبيح يذم عليه عند العقلاء فيذم على الفعل المتجرّي به ولو لأجل ترتّبه على المتجري وحده.

فإذا عرفت تلك المقالة بما فيها فتقدر على تمييز ينقسم ما ذكر في المسألة من الأدلة والأجوبة من صحتها ولعلك تستغني بها غني معرفة الحال فيها ومع ذلك كله ينبغي التعرض تفصيلا لبعض ما وقع من المصنف وغيره في المسألة.

قوله : ويمكن الخدشة في الكلّ (١).

أمّا الإجماع فالمحصّل منه غير حاصل ، وقد عرفت أنّ الّذي ينفع منه إنّما هو المشتمل منه على المعصوم عليه السلام وهو غير معلوم إن لم يكن معلوم العدم ، والحدس من على تقدير حصوله غير مجد في المسألة ، لكونها إمّا عقلية محضة أو لكونها مما يدخله العقل ـ بناء على جعل النزاع فيها في حرمة التجري شرعا ـ وإليه أشار المصنف بقوله والمسألة عقلية ، يعني أنّه بعد الإغماض عن منع الإجماع المحصّل وتسليم حصوله يتّجه على الاحتجاج به أنّ المسألة عقلية لا مساس لها للإجماع الّذي هو اتفاق أهل الشريعة ، وإنّما المجدي اتفاق جميع

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٩.

٢٨٥

العقلاء الذين أهل الشرع بعضهم ، وهو معلوم العدم ، لوجود الخلاف الصريح من بعض هؤلاء (١) القادح في دعوى الإجماع أيضا.

ومراده من الإجماع إنّما هو الحدسي منه لا الدخولي لما عرفت من أنّه على تقدير حصوله حجة على المسألة :

قوله : خصوصا مع مخالفة غير واحد (٢).

هذا تأكيد لمنع حصول الإجماع المذكور وقد صرّح في دعواه وكان الأنسب ذكره بعد قوله ( فالمحصّل منه غير حاصل ) ثم ذكر قوله ( والمسألة عقلية ) لأنّه على الترتيب الّذي ذكره منع للإجماع المذكور بعد التسليم وهو خارج عن طريقة المناظرة كما لا يخفى.

ثمّ إنّه كان الأنسب بجعله النزاع في حرمة التجري شرعا أن يقول بدل قوله ( والمسألة عقلية ) والمسألة مما يدخله العقل وله طريق إليها ، إذ بعد جعل النزاع فيها في حرمة التجري تكون شرعية لا عقلية.

نعم العقل أحد الطرق وهو بمجرده لا يوجب كونها عقلية.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( حيث إن هذا الفعل يكشف عن وجود صفة الشقاوة فيه إلى آخره ) (٣).

مراده بصفة الشقاوة التي يذم الفاعل عليها إنما هي عزمه على معصية مولاه الّذي هو من أفعاله العملية الاختيارية له كأفعاله الظاهرية الاختيارية له ، أو إحدى صفاته الخبيثة النفسانيّة التي حصلت له بسوء اختياره غير العزم على المعصية.

ومن هنا يندفع توهم الإشكال على المصنف بأنه كيف يصح مذمة أحد

__________________

(١) ( هؤلاء ) ساقط من ( أ ).

(٢) فرائد الأصول ١ : ٩.

(٣) فرائد الأصول ١ : ٩.

٢٨٦

على صفاته النفسانيّة الغير الاختيارية له.

نعم ظاهر العبارة يعطي إرادة الحالة السببية النفسيّة للفاعل من صفة الشقاوة التي هي من (١) الصفات الغير الاختيارية فلا تغفل.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( وأما بناء العقلاء فلو سلم إلى قوله ـ كمن انكشف لهم من حاله أنّه بحيث لو قدر على قتل سيده لقتله. ). (٢).

فيه ـ ما عرفت سابقا ـ من ثبوت المذمّة من العقلاء على الفعل المتجرّى به ، لكونه هتكا لحرمة السيد لا محالة ، ومنه يظهر فساد المقايسة المذكورة.

وتوضيح الفساد أنّا سلّمنا ذمّهم للعبد في المقيس عليه أيضا ولأنه لأجل انكشاف سوء سريرته ، لكن اختصاص الذم في المقيس بتلك الجهة ممنوع ، بل المتجري مذموم من تلك الجهة ومن جهة كون فعله هتكا لحرمة السيد أيضا ، فهو مذموم على سوء سريرته وعلى هتكه المتّحد مع الفعل المتجري به فالمذمة على الفعل والفاعل كليهما.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( وأمّا ما ذكره من الدليل العقلي فنلتزم باستحقاق من صادف قطعه الواقع ، لأنه عصى اختيارا ) (٣).

لا يخفى ما في قوله ( لأنه عصى ) من المسامحة ، لأنّ العصيان لا يقع في الخارج على قسمين ، لأنّه إنّما يتحقّق بارتكاب الحرام الواقعي اختيارا ، بمعنى كونه عالما [ به ] عازما عليه ، فالاختيار محقّق لأصل العصيان ومقوّم له ، فلا يمكن تحققه بدونه حتى يجعل قيدا ممنوعا له أو مصنّفا ، وكأنه (قدّس سرّه) أتى به للتأكيد لا الاحتراز.

__________________

(١) في النسختين كلمة ( منها ) عوض ( من ) ، والصحيح ما أثبتناه في المتن.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٩.

(٣) فرائد الأصول ١ : ٩.

٢٨٧

وكيف كان فحاصل مراده أنّ سبب استحقاق العقاب إنّما هو ارتكاب الحرام الواقعي اختيارا ـ بأنّ يقدم عليه عالما به عازما عليه ـ وهو متحقق في حق من صادف قطعه الواقع دون من لم يصادف قطعه له ، لعدم ارتكابه له اختيارا ، وكما أنه لم يصدر منه شرب الخمر الاختياري كذلك لم يصدر منه شرب الماء كذلك ، فإن المائع الّذي اعتقد كونه خمرا وإن كان ماء في الواقع لكن لم يشربه عالما به عازما عليه بعنوان كونه ماء ، فالذي قصد لم يقع والّذي وقع لم يقصد ، فلم يكن له فعل اختياريّ أصلا.

وكيف كان فلم يصدر عنه شرب الخمر الاختياري ، فلا يستحق العقاب لذلك.

وبالجملة استحقاق من صادف قطعه للواقع للعقاب ليس من جهة المقدّمات الاختيارية حتى يقال إنّها بعينها صادرة ممن لم يصادف قطعه للواقع ، بل لأجل صدور الحرام الواقعي منه اختيارا ، وهو منتف في حق من لم يصادف قطعه للواقع ، وعدم العقاب لأجل الأمر الغير الاختياري غير قبيح ، بل يقبح العقاب لأجله.

نعم الفعل الاختياري المتحقق منه إنّما هو عزمه على شرب الخمر ولا يمتنع من استحقاقه العقاب عليه كما ذهب إليه جمع من المتكلمين (١).

قال في التجريد نية المعصية معصية يعني العزم عليها. ومثله المنقول عن الصدوق (قدّس سرّه) في اعتقاداته.

هذا توضيح مراد المصنف كما أفاده حين قرأنا عليه هذا الموضع.

__________________

(١) هذه من الموارد التي تدلّ على أن المقرّر كان من تلامذة الشيخ أيضا ، كما يدل عليه عبارته في المصلحة السلوكية في التعادل والتراجيح.

٢٨٨

والأجود أن يقرّر الجواب عن الدّليل المذكور على نحو ما قرّره ( دام ظلّه ) وهو أنّ المصادفة وعدمها قد يلاحظان بالنسبة إلى القطع فمعنى مصادفته مطابقته للواقع ، وقد يلاحظان بالنسبة إلى المائع المقطوع بخمريته فمعنى مصادفته للواقع كونه خمرا في الواقع ، وقد يلاحظان بالنسبة إلى فعل القاطع وهو شربه للمائع المقطوع بخمريته فمعنى مصادفته له كونه شربا للخمر لا شربا للماء أو الخل وعدم المصادفة في كل من تلك الملاحظات نقيضها.

فنقول حينئذ ما المراد بالمصادفة وعدمها في الدليل المذكور؟

فإن كان المراد بهما بإحدى الملاحظتين الأولتين فكونهما أمرين غير اختياريين مسلم لكن إناطة استحقاق العقاب وعدمه بهما ممنوع وإن كان المراد بهما بالملاحظة الأخيرة فإناطتهما بها حينئذ مسلّمة ، لكن كون المصادفة بهذا الاعتبار أم غير اختياري ممنوع ، إذ هي بهذا الاعتبار عنوان منتزع من صدور شرب القاطع للمائع المقطوع بخمريّته عند شربه (١) للخمر حقيقة ، ومن المعلوم أنّ شربه له شرب للخمر اختيارا إذ الفعل الاختياري ليس إلاّ ما فعله الفاعل عامدا عالما بعنوانه مع كونه مصداقا لذلك العنوان في الواقع.

والمصادفة بالملاحظتين الأوّلتين من مقدمات الفعل الاختياري ، ولا منافاة بين كونها مقدمة كذلك وبين عدم كونها اختيارية ، لأنّ وجود الفاعل من مقدّمات الفعل الاختياري مع أنّه في نفسه أمر خارج عن اختيار الفاعل ، ولو بنى على اعتبار الاختيار في جميع المقدمات لزم انتفاء الفعل الاختياري رأسا.

نعم عدم المصادفة بهذا الاعتبار أمر غير اختياري لمن لم يصادف قطعه للواقع ، فإنّ عدم شربه للخمر ـ الّذي هو محل انتزاعه ـ لم يتحقق منه باختياره

__________________

(١) في نسخة ( أ ) : ( عنه شربا ) ، وفي نسخة ( ب ) : ( عند شربا ) ، أو ( عنه شربا ) ، والصحيح ما أثبتناه في المتن.

٢٨٩

وذلك غير مضر ، لأنّ عدم استحقاق العقاب على [ عدم ](١) شرب الخمر كما قد يتحقق في ضمن عدم شربها اختيارا كذلك يتحقق في ضمن عدم شربها اضطرارا.

والحاصل أنّه إذا جعلنا المناط في استحقاق العقاب هو شرب الخمر اختيارا فالفارق إنّما هو تحققه في حق من صادف قطعه للواقع وانتفائه في حق من لم يصادف قطعه له.

وهذا الّذي ذكرنا إنّما هو مناقشة في دليل المستدل المذكور وإلاّ فنحن قد قوينا المدّعي بالوجوه المتقدمة (٢).

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( كما يشهد به بعض الأخبار ) (٣).

أي بالتفاوت في الثواب والعقاب لأمر غير اختياري ، إذ ليس غرضه تطبيق تلك الأخبار على محلّ الكلام ، بل إنّ غرضه الاستشهاد بها ، لمجرّد إثبات أنّ الثواب والعقاب يتفاوتان بتفاوت العمل من جهة كونه اختيارا وعدم كونه كذلك ، لرفع الاستبعاد المدّعي في الدّليل المذكور.

بيان ما لعله يحتاج إلى البيان في تلك الأخبار.

فاعلم أنّه قد يتوهّم أنّ عدم استحقاق من قد كثر العامل بسنته السيئة أو الحسنة للمقدار الزائد من الثواب أو العقاب مسلّم لأن الاستحقاق له كاستحقاق أصل الثواب والعقاب لا بدّ له من سبب اختياري له ، فإذا ليس فليس ، لكن استحقاق من كثر العامل بسيئته له (٤) غير معقول بعد مساواته للأول في الفعل الاختياري وهو إحداث السيئة والعمل الزائد لسيئته بالنسبة إلى العمل بسيئة الآخر أمر خارج عن اختياره لفرض كونه من فعل الغير ، فلا

__________________

(١) أثبتناها لضرورة السياق.

(٢) انظر الصفحات السابقة رقم ٤٥.

(٣) فرائد الأصول ١ : ٩ ، إلاّ أنّه لا يوجد فيها كلمة ( بعض ).

(٤) في نسخة ( ب ) : ( فيجب ).

٢٩٠

يعقل كونه سببا لاستحقاقه أو دخيلا في السببية.

والحاصل : أنّ السبب له إن كان أصل إحداث السيئة أو الحسنة فهما متساويان فيه ، فاستحقاق أحدهما له دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، وإن فرض كونه العمل بها المفروض صدوره من غيرهما أو هو منضما إلى إحداث السيئة ، فهو فرض أمر محال ، لامتناع مدخليته في الاستحقاق بوجه ، وقياسهما بالشخصين القاطعين بخمرية المائعين أحدهما خمر في الواقع والآخر غير خمر ، مع شرب كل منهما لما قطع بخمريته باطل ، للفرق بين المقامين بأنّ الّذي لم يصادف قطعه للواقع هناك غير مساو لمن صادف قطعه له في سبب استحقاق العقاب وهو الفعل الاختياري للمستحق له لتحققه من الثاني دون الأوّل أصلا ، هذا بخلاف المقام ، لفرض مساواة المحدثين للسيئة في الفعل الاختياري وعدم اختصاصه بواحد منهما فيكون تلك الأخبار مخالفة لحكم العقل ، فيلزم طرحها إن لم يكن تأويلها إلى ما لا ينافيه ولا يكاد يتصور لها تأويل ، إذ غاية ما يتصور في بادئ النّظر حمل المقدار الزائد على التفضل ، وهو باطل بالضرورة إذا كان هو العقاب إذ لا يعقل العقاب تفضّلا ، بل يقبح مع فرض عدم (١) سبب موجب له.

وأمّا بالنسبة إلى الثواب ففي غاية الإشكال أيضا ، لأنّ التفضّل ليس إعطاء خير مع عدم صدور أمر من المفضّل بالفتح أصلا ، بل معناه أن يكون العطاء زائدا على مقدار استحقاق المعطي بحسب ما صدر منه ، والمفروض أنّه لم يصدر من الّذي كثر العمل بسيئته أو حسنته أمر موجب لاستحقاقه له في الجملة غير صادر من الآخر ، فيكون تخصيص أحدهما بذلك المقدار الزائد ترجيحا بلا مرجّح ، والمقدار الزّائد من عمل الغير سيئة لا يصلح لكونه مرجّحا لخروجه عن

__________________

(١) ( عدم ) ساقطة من ( أ ) ، ثابتة في ( ب ) ، وهو الصحيح.

٢٩١

اختياره ، إذ سبب التفضّل لا بدّ أن يكون من مقولة سبب استحقاق أصل الثواب.

هذا خلاصة بيان ما ربما يتوهم في المقام.

والتحقيق : اندفاعه بالتزام [ كون ](١) عمل الغير بالسيئة فعلا اختياريا لمن سنها ، غاية الأمر أنّه لا يكون فعله على نحو المباشرة ، لكنه فعله على نحو التسبيب والتوليد كسائر الأفعال التوليدية ، ففاعله على نحو المباشرة إنّما هو الغير ، وعلى نحو التسبيب ذلك الّذي سنّ السيئة ، فالمقدار الزائد من العمل بإحدى السيّئتين فعل اختياري لمن سنّ تلك السّيئة فاختصاصه بالمقدار الزّائد عن الثواب أو العقاب في الفعل الاختياري على نحو المباشرة [ ليس بصحيح ](٢) بل هو على التسبيب أيضا سبب لاستحقاقها ، كيف لا! (٣) وكثير من العبادات في الشريعة من الثاني ، واستحقاق الثواب (٤) عليها أمر ضروري لا يعتريه الريب (٥) كبناء المسجد والمنازل والقناطير العابرين مع أنّها غالبا تقع على نحو التسبب.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( وقد اشتهر أنّ للمصيب أجرين وللمخطئ أجر واحد ) (٦).

غرضه (قدّس سرّه) من ذكره ذلك أيضا ما مرّ في الاستشهاد بتلك الأخبار ، والاستشهاد به وإن كان في محله ، بمعنى أنّه لا يخلو عن المناسبة ، لما

__________________

(١) زيادة اقتضتها السّياق.

(٢) زيادة اقتضتها السّياق.

(٣) « لا » ساقطة من ( ب ).

(٤) في النسختين : استحقاق العقاب ، وهو من سهو القلم قطعا.

(٥) في النسختين ( التركيب ) والصحيح ما أثبتناه في المتن.

(٦) فرائد الأصول ١ : ١٠.

٢٩٢

هو في صدده ولكنه ظاهر في تسليمه إيّاه وهو ينافي في منعه العقاب على التجرّي ، لأنّ صحّة ذلك الّذي اشتهر منه على كون الانقياد سببا مستقلا للثواب والأجر وراء تحصيل الواقع اختيارا حتى يقال إنّ المصيب قد حصل الواقع باختياره لأنّه استنبطه عالما عازما عامدا فله أجر من هذه الجهة وأيضا وطّن نفسه وانقاد للأمر بالاجتهاد والتفقه فله أجر آخر من تلك الجهة والمخطئ إنّما انقاد لذلك الأمر من [ دون ](١) تحصيل الواقع أصلا فله أجر واحد.

والالتزام بكون الانقياد سببا مستقلا لاستحقاق الثواب مستلزم للقول بكون التجري أيضا سببا مستقلا لاستحقاق العقاب ، لأنه في جانب العصيان كالانقياد في جانب الامتثال من غير فرق أصلا كما أنّ التزام كون تحصيل الواقع اختيارا سببا مستقلا للثواب مستلزم للقول بكون ارتكاب الحرام الواقعي كذلك أيضا سببا مستقلا للعقاب لكونه كالإطاعة الحقيقية من تلك الجهة ، فيلزمه القول بتعدد العقاب في المعصية الحقيقية لتحقق العنوان فيها وهو كما ترى.

ومن هنا ظهر ما في ذلك الّذي اشتهر فتدبر.

وكيف كان فالتحقيق أنه على تقدير سببية التجري المحض والانقياد كذلك للعقاب والثواب لا بدّ من الالتزام بكون السبب لهما في الإطاعة والمعصية الحقيقيّين أيضا أمرا مشتركا بأن يكون السبب للثواب في الإطاعة الحكمية على تقدير استحقاق الثواب عليها بعينه هو السبب له في المعصية الحقيقية ، للإجماع على عدم تعدّد العقاب في المعصية الحقيقية فتأمّل.

وتعدد الثواب في الإطاعة الحقيقية وإن لم يكن كتعدّد العقاب في المعصية الحقيقية أمر مبيّن العدم إلاّ أنّ التحقيق عدم الفرق بينهما من تلك الجهة كما عرفت فيلزم اتحاده فيها أيضا.

__________________

(١) زيادة يقتضيها السياق.

٢٩٣

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( لأجل التشفّي المستحيل في حق الحكيم تعالى فتأمّل ) (١).

أقول كان الأمر بالتّأمل إشارة إلى أنّ تأكد الذم في المبغوضات العقلائية بالنسبة إلى من صادف قطعه الواقع لا يكون إلاّ استحقاقه العقاب ، ضرورة قبحه المانع من صدوره من العقلاء لولاه ، ومجرّد كون الغرض منه هو التشفّي غير موجب لاستحقاقه ولا مجوّز له بالضّرورة ، فإذا ثبت استحقاقه [ في ] المبغوضات العقلائية ثبت في المبغوضات الشّرعية لاتّحاد المناط في الكل ، لعدم صلاحية التشفي لكونه فارقا بين المقامين ولا فارق سواه.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( وقد يظهر من بعض المعاصرين التفصيل في صورة القطع بتحريم شيء غير محرم واقعا فرجّح استحقاق العقاب بفعله إلاّ أن يعتقد تحريم واجب غير مشروط بقصد القربة ) (٢).

أقول : حاصل حجّة المفصّل المذكور على ما صار إليه بتوضيح منّا أنّ سببية التجرّي لاستحقاق العقاب إنّما هي لقبحه ، فيدور فعلية الاستحقاق لأجل مدار فعلية قبحه ، وقبحه ليس ذاتيا حتّى يتحقق موضوعه كيف ما اتفق ، فيكون فعليا في جميع الحالات والموارد ، بل إنّما هو يختلف بالوجوه والاعتبار ، بمعنى أنّه مقتضى له لا علّة تامة ، فيمكن عدم تأثيره فعلا فيه إذا اقترن بما يمنع من اقتضائه له في مورده ، فإذا اتّحد مع عنوان ذي مصلحة في الواقع فيمكن تأثير ذلك العنوان من جهة اشتماله على المصلحة في تضعيف قبحه وتقليله أو دفعه رأسا بحسب اختلاف مراتب قوة تلك المصلحة وضعفها بالإضافة إلى مفسدة جهة التجري ومساواتها له فيقلّ قبحه فيما إذا كانت تلك المصلحة أضعف من

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٠.

(٢) فرائد الأصول ١ : ١٠.

٢٩٤

مفسدته ، فإنّ المفسدة المزاحمة بالمصلحة الضعيفة أضعف من السليمة من المزاحم جدا ، وترتفع رأسا إذا كانت تلك المصلحة مساوية أو غالبة عليها فيكون مباحا في الأول وواجبا أو مندوبا في الثاني.

ومن هنا ظهر أنّه إذا اتّحد مع عنوان خال عن المفسدة والمصلحة يكون قبحه ومفسدته أعظم منهما فيما إذا اتّحد مع عنوان ذي مصلحة ضعيفة ، وأقل منهما فيما إذا اتّحد مع عنوان مكروه ، وأنّهما في تلك الصورة أعظم منهما (١) فيما إذا اتّحد مع عنوان محرّم فيكون قبيحا وذا مفسدة في الصّورة الأخيرة من جهتين فإذا أمكن ذلك فيمكن ـ فيما إذا اعتقد تحريم واجب غير مشروط بنية القربة فتجرّى وفعله ـ أن لا يقع قبيحا لمعارضة جهة ذلك الواجب لجهة التجري ـ كما عرفت ـ فيمكن عدم استحقاق العقاب على التجري في تلك الصورة.

نعم إذا كان الواجب الّذي اعتقد تحريمه من العبادات فمجرّد كونها واجبات في الواقع لا ينفع في رفع قبح الإتيان بها بعنوان التجرّي لأنّ المزاحم لقبحه إنّما هي مصلحة الفعل المتجرّي به في حدّ نفسه ، ومن المعلوم أنّ العبادات وإن كانت مشتملة على المصلحة ومتضمنة لها إذا وقعت في الخارج ، ولكن وقوعها فيه ممتنع (٢) مع قصد المعصية الموجودة في التجري ، فضلا عن امتناعه بدون قصد القربة التي هي شرط فيها الممتنعة في التجرّي هذا خلاصة احتجاجه.

ويدفعه ما مرّ في المقالة السابقة من أنّ مجرّد المصلحة الواقعية لا يعقل تأثيرها في منع اقتضاء التجري القبح بعد الاعتراف بكونه مقتضيا له فإنّ تلك المصلحة مع الجهل بها لا يوجب المدح على الفعل كعدم إيجابها الذم بتركه فإن شئت توضيحه فراجع ثمة.

__________________

(١) في ( ب ) بدل ( منهما ) ( منها ) وكذا فيما قبله.

(٢) في نسخة ( أ ) يمتنع.

٢٩٥

ومنه يظهر ما في توجيه ذلك بأنّ الفعل الّذي يتحقق به التجري وإن لم يتصف بحسن ولا قبح لكنه لا يمتنع أن يؤثر في قبح ما يقتضي القبح.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( وعليه يمكن ابتناء منع الدليل العقلي السابق في قبح التجري ) (١).

يعني على منع عدم مدخلية الأمور الخارجة عن الاختيار ، وإنّما أتى بلفظ الإمكان مع أنّ الابتناء عند ذلك الوجه قطعي ، بمعنى أنّ منع الدليل السابق بزعمه يتوقف على إمكان مدخلية الأمور الاضطرارية في استحقاق المدح والذم ، لأنّ مبناه ـ وهو مدخليّة الأمور الاضطرارية ـ لما ثبت عنده على وجه الإمكان حيث إنّه ادّعى إمكانه لا وقوعه ففرّع عليه المنع كذلك.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( مضافا إلى الفرق بين ما نحن فيه وبين ما تقدّم من الدليل العقلي كما لا يخفى على المتأمل ).

المراد بالدّليل العقلي إنّما هو ما إشارة إليه المصنّف بقوله : ( وقد يقرّر دلالة العقل على ذلك بأنّا إذا فرضنا شخصين قاطعين ) إلى آخر ما ذكره.

ثمّ إنّ الفرق بين المقامين : أنّ غرض المستدل بذلك الدليل العقلي إنما هو إثبات كون التجرّي مقتضيا لاستحقاق العقاب ، ومن المعلوم أن منع أصل الاقتضاء لا يتوقف على مدخلية الأمور الغير الاختيارية في استحقاق المدح والذم بحيث لو لم يثبت هذه لم يصحّ ذلك لصحّته بوجه آخر ، وهو ما ذكرنا سابقا من أنّ (٢) سبب الاستحقاق إنّما هو الفعل الاختياري المحض لمن صادف قطعه الواقع ، لا أنه أمر اضطراري حتّى يتوقّف إثبات كونه سببا على مدخلية الأمور الغير الاختيارية في المدح والذم وسببيّته للعقاب والثواب ، بل المتعين في منعه إنما

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١١.

(٢) ( أنّ ) ساقط من ( أ ).

٢٩٦

هو ذلك الوجه كما لا يخفى على المتأمل.

هذا بخلاف ما بصدده هذا المفصّل ، فإنّه ـ بعد الاعتراف بكون التجرّي مقتضيا لاستحقاق العقاب في (١) صدد إثبات عدم اقتضائه له في بعض الموارد لمزاحمة بعض الأمور الغير الاختيارية في المدح والذم فافهم.

إيقاظ : لا يتوهم أنّ هذا المفصّل (٢) موافق مع الشهيد (٣) (قدّس سرّه) في الواجبات المشروطة بنيّة القربة المقطوع بتحريمها.

لأنّ المفصّل إنّما احتمل العقاب على أصل الفعل المتجري به والشهيد (قدّس سرّه) فيما يأتي من كلامه إنّما يحتمله على نية المعصية المقرونة بالعمل ، لا على العمل المقرون بها فهما متعاكسان فلاحظ.

تنبيه : المصنف بعد أن استشكل ـ في استحقاق العقاب على الفعل المتجرّي به في المتن ـ قال في حاشية منه على هذا الموضع :

نعم يظهر من بعض الرّوايات حرمة الفعل المتجري به بمجرّد الاعتقاد مثل موثقة سماعة (٤) عن رجلين قاما إلى الفجر ، فقال أحدهما هو هذا ، وقال الآخر لا أرى شيئا. قال عليه السلام فليأكل الّذي لم يبيّن له وحرم على الّذي زعم أنّه طلع الفجر ، إنّ الله عزّ وجل قال : ( كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى ) الآية (٥) انتهى.

أقول : بعد الإغماض عمّا ذكره في المقالة المتقدمة ـ من عدم صلاحية

__________________

(١) في ( أ ) ( على ).

(٢) الفصول الغروية : ٤٣١.

(٣) القواعد والفوائد للشهيد الأول ١ : ١٠٧ ، الفائدة الحادية والعشرون.

(٤) وسائل الشيعة ١٠ ـ ١١٩ ـ ج ١٣٠٠٤ ، الفقيه ٢ ـ ٨٢ ـ ٣٦٥ الكافي ٤ ـ ٩٧ ـ ٧ ، التهذيب ٤ ـ ٣١٧ ـ ٩٦٧.

(٥) البقرة ٢ ـ ١٨٧.

٢٩٧

المتجرّي به (١) للنّهي عنه ـ لا ظهور في الرواية بنفسها في حرمته أيضا ، فإنّ لفظ الحرام وإن كان ظاهرا في ذلك ، لكنّ الظاهر من مجموع الرواية وسياقها كون التحريم إرشاديا لا مولويا ، وذلك بقرينة استشهاد الإمام بالآية المذكورة فإنّه ظاهر في إرادته من التّحريم ما هو المراد منها والظاهر منها (٢) أنّ جعل تبين الفجر غاية لجواز الأكل إنّما هو لنكتة التنبيه على كيفية إطاعة الأمر بالصّيام وأنّ مبدأه إنّما هو نفس الفجر والعلم طريق إليه وأنّ المكلف إذا علم به لا بدّ له من الإمساك.

ولو سلّمنا عدم ظهورها في ذلك لا بدّ من حملها عليه ، للعلم من الخارج بأنّ مبدأ الصّوم هو نفس الفجر لا تبيينه فلا تغفل.

تذكرة الثمرة المتفرعة على القول بقبح التجري وكونه عصيانا بالنسبة إلى ما يتعلق بأفعالنا الحكم بفسق المتعاطي لما يعتقد كونه محرّما في الواقع مع عدم كونه كذلك فيه.

لا يقال : إنّ الحكم بفسقه لا يختص بذلك القول ، بل يجري على القول الآخر أيضا ، فإنّ التجري يكشف عن عدم الملكة الرادعة عن المعصية في فاعله لا محالة ، ولا يختص كشفه عنه بكون نفسه معصية أيضا ، بل إنّما هو من خواص ذاته ، فلا بدّ من الحكم بفسقه على القول الآخر أيضا.

لأنّا نقول : نحن في صدد إثبات الثمرة المذكورة بينهما في الجملة الغير المتنافية لتحققها بالموجبة الجزئية ، ومن المعلوم أنّها على النحو الموجبة الجزئية ثابتة بينهما فيمن ثبت له تلك الملكة قبل التجري ، فإنّه حينئذ لا يكشف عن

__________________

(١) في النسختين ( التجرّي ) والصحيح ما أثبتناه.

(٢) في النسختين ( وأيضا منها ) والصحيح ما أثبتناه في المتن.

٢٩٨

ارتفاعها بعد ثبوتها فيتوقّف الحكم بفسقه على كون نفس التجري فسقا ومعصية ، نعم انتفائها مسلّم فيمن لم يثبت له تلك الملكة فيه فافهم.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( وقد قال بعض العامة نحكم بفسق المتعاطي ذلك ، لدلالته على عدم المبالاة بالمعاصي ويعاقب في الآخرة ما لم يثبت عقابا متوسّطا بين الصغيرة والكبيرة وكلاهما تحكم وتخرص على الغيب انتهى ) (١).

أقول : كون الثاني تخرّصا على الغيب مسلّم لأنّ المحرّمات المعلومة بالضّرورة من الدّين لا يجوز القطع بفعليّة العقاب عليها ، لأنّ فعل المحرّم مع عدم التوبة لا يكون علّة تامة له ، نعم التوبة علة لعدمه ، فكيف بالقطع بكيفية ذلك ، والبحث المتقدّم إنّما هو في كونه علة لاستحقاق العقاب فحسب.

وأمّا كون الأوّل تحكّما ففيه منع ، لما مرّ من أنّ التحقيق كون التجرّي معصية.

نعم تعليل الحكم بفسق متعاطيه ـ بكونه كاشفا عن عدم مبالاته بالمعاصي الّذي هو معنى انتفاء ملكة العدالة فيه ـ لا يتم مطلقا كما عرفت ، فالصحيح تعليله بكونه معصية ، فإنّ ذلك القائل ذاهب إلى كونه معصية بمقتضى حكمه بالعقاب عليه في الآخرة ، فإن كان مراد المصنف كونه تحكما بالنظر إلى تعليله بما ذكر فهو جيد إكمال : التجري كما يتحقق بمخالفة القطع بالحكم الواقعي كذلك يتحقق بالقطع بالحكم الظاهري كمؤدّى الأصول والطّرق الظاهرية ، والحكم في المقامين واحد لاتحاد المناط فيهما كما لا يخفى.

خاتمة : كلما ذكرنا في حكم مخالفة القطع إنّما هو بالنظر إلى اتحادها مع

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٤.

٢٩٩

عنوان التجري كما عرفت ، فهل الحكم فيها من حيث اتحادها (١) مع عنوان الإقدام على ما قطع بقبحه متحد مع حكمها من تلك الجهة أو لا (٢)؟

الحق الثاني ، لأنّ القطع بقبح شيء لا يصير بمجرده قبيحا مع عدم قبحه في نفسه ، فلا يصحّ الذم على الإقدام عليه ليكون موجبا لاستحقاقه للمؤاخذة والعقاب من المولى.

نعم يوجب الذم على الفاعل من حيث كشفه عن شقاوته فلا يكون الإقدام عليه ما لم يتحد مع عنوان التجري موجبا له ومع اتحاده معه يكون الاستحقاق مستندا إلى التجرّي لا إليه.

هذا مضافا إلى أنّ الإقدام على القبح الواقعي مع العلم بقبحه لا يصح العقاب عليه من حيث كونه إقدام عليه اختيارا وإن كان يصح الذم عليه من العقلاء ، وإنّما يصح العقاب عليه إذا كان مبغوضا للمولى مع العلم بكونه مبغوضا له.

ألا ترى أنّه لو فرض مولى لا يبغض ارتكاب القبيح مطلقا أو ارتكاب قبيح خاص فارتكبه العبد عالما بأنّه لا يبغضه ، لا يجوز للمولى المؤاخذة عليه ، بحيث لو أراد مؤاخذته يذمّه العقلاء معللين ذمه ذلك بأنّ ذلك العبد لم يفعل بالنسبة إليك شيئا نعم يذمون العبد أيضا بارتكاب القبيح.

فتلخص أنّ المناط في استحقاق العقاب إنّما هو الإقدام على مبغوض المولى اختيارا.

لا يقال : لا يجوز مؤاخذة المولى من حيث العصيان ، بمعنى أنّه لا يجوز له ذلك عند العقلاء لو علّله بالعصيان ، لعدم تحققه في الفرض المذكور ، وإنّما هي

__________________

(١) وفي نسخة ( ب ) : ( وأما حكمها بالنظر إلى اتّحادها ) بدل قوله ( فهل الحكم فيها من حيث اتحادهما ).

(٢) في نسخة ( ب ) : ( سفاهته ).

٣٠٠