تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٣

المولى علي الروزدري

تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٣

المؤلف:

المولى علي الروزدري


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-54-X
ISBN الدورة:

الصفحات: ٣٨٢

العقليّة أو اللفظيّة ، فإنّ غاية ما يفيده أدلّة الأسباب إنّما هي سببيّة كلّ منها لوجوب إيجاد الطبيعة المتعلّق وجوبها عليه ، وأمّا تقييد كون ذلك الإيجاد غير مقرون بإيجاد طبيعة أخرى أو بخصوصية زائدة فلا ، لكون المطلوب عند وجود كلّ منها إيجاد الطبيعة المعلّق وجوبها عليه لا بشرط ، فيجتمع مع إيجاد عنوان أو خصوصية زائدة ، فإذا فرض إتيان المكلّف بمورد الاجتماع فقد أتى بالطبيعتين الواجبتين عليه لا بشرط ، لصدق إيجادهما على ذلك الإيجاد الشخصي ، والعقل ـ أيضا ـ لا يأبى عن وقوع إيجاد كذلك امتثالا عن التكليفين ، بل يستقلّ به كاستقلاله بعدم وقوع إيجاد واحد امتثالا عنهما إذا لم يكن متعلّقاهما صادقين على ذلك الإيجاد.

ومن هنا ظهر ضعف ما زعمه بعض المحقّقين من متأخّري المتأخّرين من دخول الصورتين المذكورتين ـ بالنظر إلى تداخل المسبّبات فيهما ـ في محلّ النزاع بينهم في مسألة تداخل المسبّبات التي أفرادها بالبحث عنها ، وظاهر كلمات بعض القائلين بتداخل المسبّبات ـ كما ستعرف ـ تسليم أنّه مخالف لظواهر أدلّة الأسباب ، إلاّ أنّه يدّعيه من جهة ثبوت الصارف عنده عن تلك الظواهر.

وهذا ـ أيضا ـ أقوى شاهد على ما ذكرنا من خروج الصورتين المذكورتين عن النزاع في تداخل المسببات ، لما قد عرفت أنّ تداخلها فيها لم يكن مخالفا لشيء من الأصول والقواعد بوجه.

وقد ظهر ممّا حققنا ـ أيضا ـ خروج الأسباب للمسببات التي تشترك معروضاتها في الصورة مع تباين حقائقها كالأغسال ـ بناء على كونها حقائق متعدّدة بتعدّد الأسباب ـ لرجوعها حينئذ إلى صورة التباين التي عرفت خروجها عن محلّ النزاع بالنظر إلى كلا المقامين فيها ـ أعني تداخل الأسباب

٢٠١

والمسبّبات ـ لبداهة عدم كلّ منهما ، كما عرفت.

ثمّ إنّ هذا النزاع إنّما هو بالنظر إلى مفاد القضايا الشرطية بحسب المنطوق ، وهو سببية الشرط لحكم الجزاء ، فلا يتوقّف على ثبوت المفهوم لأدوات الشرط فيجري على القول بعدمه ـ أيضا ـ.

بل يظهر من بعض القائلين بالتداخل عدم توقّفه على ظهورها في سببية الشرط للجزاء ـ أيضا ـ حيث إنّه احتجّ عليه بمنع ذلك الظهور.

ثمّ إنّ الكلام في أصالة التداخل وعدمها ـ في المقام ـ إنّما هو بالنظر إلى مجرّد تعدّد السبب ومن حيثيته من غير نظر إلى الجهات الأخر أو الخصوصيات اللاحقة لبعض الموارد الخاصة المقتضية للتّداخل أو عدمه ، فالقائل بالتداخل ـ في المقام ـ ربما تمنعه من البناء عليه ـ في بعض الموارد ـ جهة أخرى لاحقة لذلك الموارد ، وذلك كما إذا كانت للمسببات تلك الأسباب على تقديرها تكاليف غيرية مقدميّة ، بأن يكون متعلّقها على تقدير وجوبه مقدمة لواجب آخر نفسيّ مفروغ عن وجوبه ، وكأن القائل المذكور من القائلين بالاحتياط في مسألة الشك في جزئية شيء أو شرطيّته للمأمور به من مسائل البراءة والاحتياط ، إذ يجب عليه حينئذ البناء على عدم التداخل بمقتضى قاعدة الشغل والعمل على مقتضاه ، وهو تعدّد الامتثال والإيجاد.

ثمّ إنّ الحريّ في تحرير الخلاف ـ بملاحظة وجود القول بمنع ظهور أدوات الشرط في السببية ـ عنوانه : بأنّ الأصل في الأمور المجعولة شروطا في القضايا الشرطية المستفادة من الأدلّة الشرعيّة ـ كوجوب شيء واحد بالنوع ـ هل هو التداخل أو عدمه؟ إذ التعبير عنها بالأسباب يفيد المفروغية عن ظهور تلك الأدلّة في سببيّتها ، وهو ينافي القول المذكور.

اللهمّ إلاّ أن ينزّل ذلك لشذوذه وفساده منزلة العدم ، فيجوز التعبير عنها

٢٠٢

بالأسباب بملاحظة ظهور الأدلّة في سببيتها حينئذ ، فيحرّر الخلاف حينئذ : بأنّ الأصل في الأسباب الشرعيّة بمقتضى ظواهر الأدلّة الشرعيّة هل هو التداخل أو عدمه ، بجعل قولنا : ـ بمقتضى ظواهر الأدلّة ـ قيدا للأسباب ، أي سببيّتها بمقتضى تلك الظواهر؟

فإذا عرفت ذلك كلّه فاعلم : أنّ المعنونين لهذه المسألة اختلفوا فيها على أقوال :

فمنهم : من ذهب إلى الأصل ـ وهو التداخل ـ إلى أن يقوم على عدمه دليل.

ومنهم : من اختار عكس ذلك.

ومنهم : من فصّل بين ما إذا كان الأسباب المتعدّدة من حقائق مختلفة وبين ما إذا كانت من نوع واحد ، فاختار التداخل على الثانية وعدمه في الأولى ، ونسبه ـ دام ظلّه ـ إلى ابن إدريس ـ قدّس سرّه (١) ـ.

والّذي يقتضيه دقيق النّظر في أدلّة سببيّة تلك الأسباب ، أنّها :

ان كانت مجملة (٢) في إفادة سببيّتها بالنسبة إلى صورة اجتماعها كما هي المفروضة (٣) في المقام :

إمّا من [ جهة ] عدم (٤) ظهور أدوات الشرطية بالذات في السببيّة أصلا ، أو في إطلاقها بالنسبة إلى صورة الاجتماع ، كما هو المظنون من المانع من ظهورها الّذي أشرنا إليه ، لبعد منعه من إفادتها السببية في الجملة.

وإمّا من جهة عروض الإجمال على نفس تلك الأدلّة بالنسبة إلى الصورة

__________________

(١) السرائر ٣ : ٧١ عند قوله : وإذا اجتمع عليه كفارات ..

(٢) كان في النسخة المستنسخة ( فإن كانت ) والصحيح ما أثبتناه.

(٣) الأقوم في العبارة هكذا : كما هو المفروض ..

(٤) في النسخة المستنسخة : من حمله على عدم ..

٢٠٣

المذكورة من جهة اكتنافها ببعض الأمور الموجبة له ، فمقتضى الأصل حينئذ هو التداخل ، إذ لا يثبت منها حينئذ أزيد من تكليف واحد ، فيكفى الواحد عن الجميع ، وهو المطلوب.

وفي حكم إجمالها بالنسبة إلى صورة الاجتماع اكتنافها بقرينة دالّة على عدم إرادة السببيّة مطلقا ، أو بالنسبة إلى الصورة المذكورة ، بل هذا أولى بالحكم المذكور من الإجمال ، بل التداخل حينئذ بمقتضى الدليل ، كما سيتّضح وجهه عن قريب.

وإن كانت ظاهرة في إطلاق سببيتها بالنسبة إلى الصورة المفروضة : ـ إمّا من جهة ظهور الأدوات في ذلك بالوضع ، أو بواسطة القرينة العامّة الملازمة لها التي في حكم الوضع ـ فمقتضى أصالة عدم القرينة على إرادة الخلاف إنّما هو عدم التداخل.

وتوضيحه : أنّ الظهور المذكور كسائر الظواهر اللفظية معتبر ومتّبع بمقتضى دليل اعتبار الظواهر اللفظية ـ وهو بناء العقلاء ـ إلى أن يقوم صارف عنه ، ومعنى اعتباره واتّباعه وجوب جعله طريقا في مؤدّاه مطلقا ، سواء كان مدلوله مطابقة أو تضمّنا أو التزاما ، ويترتّب جميع مداليله عليه ، كما هو الحال في سائر الظواهر ، فإذا كان المفروض كون مؤدّاه سببيّة تلك الأسباب لمسبّباتها في صورة الاجتماع فيجب الحكم بسببيّتها لها في تلك الصورة ويترتّب لوازمها عليها عقلا ، إذ بعد جعلها أسبابا ـ كما هو قضيّة ظهور الأدلّة بالفرض ـ تكون منزّلة منزلة الأسباب العقلية والمؤثّرات الحقيقية ، فإنّ هذا معنى السببية الجعلية.

ومن المعلوم لكلّ أحد : أنّ من لوازم تعدّد السبب الواقعي والمؤثّر الحقيقي تعدّد مسبّبه ـ أيضا ـ إذا كان المورد قابلا للتّعدد والتأثير ـ كما هو المفروض في المقام ـ فلازم تلك الأسباب عند اجتماعها تعدّد مسبّبها حينئذ ـ أيضا ـ وهو التكليف ، فتثبت بذلك هناك تكاليف متعدّدة بتعدّد الأسباب.

٢٠٤

ومن المعلوم ـ أيضا ـ أنّ تعدّد التكليف مستلزم لتعدّد المكلف به ، إذ بدونه لا يعقل تعدّده إلاّ على وجه التأكيد ، وهو ليس تعدّدا حقيقة ، بل في صورة التعدّد ، ولازم تعدّد المكلّف به ـ وهو الواجب ـ تعدّد امتثاله ـ أيضا ـ ما لم يثبت من الشارع الاكتفاء بالواحد (١).

فإذا ظهر أنّ لازم الظهور المذكور بالأخرة تعدّد الامتثال ما لم يثبت الاكتفاء بواحد فيما لم يقم صارف عنه ، وثبوت الاكتفاء بالواحد ليس من التداخل في شيء ، بل إنّما هو عدم إرادة امتثال بعض من الواجبات ، فعدم التداخل صادق على تقديره مع تعدّد المسبّبات ، إذ التداخل إنّما هو وقوع إيجاد واحد من الفعل امتثالا عن الجميع ، فيكون مقتضى أصالة عدم ذلك الصارف عند الشكّ فيه عدم تداخل تلك الأسباب في الخارج ، فإنّه لو كان عدم الصارف معلوما لكان عدم التداخل معه ثابتا بواسطة البرهان العقلي المتقدّم ، فإذا فرض الشكّ فيه فيحرز عدمه الّذي هو بعض مقدّمات البرهان المذكور بأصالة عدمه ، فيكون عدم التداخل حينئذ بمقتضى الأصل لاستتباع النتيجة لأخسّ المقدّمات ، فإذا ثبت أنّ الأصل على تقدير ظهور أدلّة السببية في إطلاقها بالنسبة إلى صورة اجتماع الأسباب إنّما هو التداخل فعلى المدّعي خلافه إبداء الصارف عنه ، فإنّه هو المعوّل عند الشكّ في الصارف فلا يجوز العدول عنه إلى خلافه إلاّ لشاهد قويّ من العقل أو النقل.

وأوجه ما قيل أو يمكن أن يقال في مقام إبدائه وجوه :

الأوّل أنّه لا يعقل كون الأسباب الشرعية من العلل الحقيقية ، فإنّها إما أن تلاحظ بالنسبة إلى الطلب ـ كما هو الظاهر من أدلّته ـ أو بالنسبة إلى الفعل المطلوب ، لا سبيل إلى الالتزام بشيء منهما ، إذ العلل الحقيقية منحصرة في أربع :

__________________

(١) في النسخة المستنسخة : اكتفاء الواحد ..

٢٠٥

الفاعلية ، والغائية ، والمادّية ، والصوريّة ، ولا يعقل كون تلك الأسباب في شيء منها سببا من تلك الأربع.

أمّا الأوّل وهو الطلب ، فلأنّ علّة الفاعلية هو المكلّف الطالب ، ومن البديهي ـ أيضا ـ عدم كونها علّة المادية أو الصّورية ، أمّا علّة الغائية ، فهي أيضا تصوّر مصلحة الفعل المأمور به.

وأمّا في الثاني ، فأوضح من ذلك بحيث لا يحتاج إلى التوضيح ، فإذن لا بد من حملها على المعرّفات للحكم الشرعي ، ومعه لا يقتضي تعدّدها تعدّد الامتثال.

ويمكن الذبّ عنه : بأنّ الّذي لا يعقل فيها إنّما هو كونها إحدى تلك الأربع في شيء منها ابتداء أو بلا واسطة ، لكنّه لا يستلزم حملها على المعرّفات ، لإمكان كونها عللا غائية للطلب بواسطة ، بمعنى كونها عللا لعللها الغائية واقعا ومؤثّرة فيها حقيقة ، أو كونها عللا فاعلية للفعل جعلا ، بمعنى حكم الشارع بوجوب ترتيب الفعل عليها عند وجودها ، وعدم التفكيك بينه وبينها ، كما هو الشأن في العلل الفاعليّة الحقيقيّة ، أو كونها عللا غائيّة للفعل بواسطة.

وتوضيح كونها عللا غائيّة ـ بواسطة ـ للطلب وتصويره : أنّها في الشريعة على ضربين :

أحدهما : أن يكون سببا لحدوث حالة في المكلّف يمنعه من الدخول في عبادة كما في أسباب الأحداث.

وثانيهما : ما لا يكون كذلك ، بمعنى أنّه لا يكون محدثا لتلك الحالة.

فنقول في الأوّل : إنّه إذا صار علّة لوجود تلك الحالة المانعة يكون علّة لعلّية (١) العلّة الغائيّة لطلب الغسل أو الوضوء ، وهي رفع تلك الحالة ، فإنّه هي العلّة الغائيّة لإيجاب الغسل أو الوضوء ، ورفع تلك الحالة وإن لم يكن في نفسه معلولا

__________________

(١) في النسخة المستنسخة : فيكون علّة لعلّة العلّة الغائيّة.

٢٠٦

ومسبّبا لأسباب الأحداث ولو مع الواسطة ، نظرا إلى أنّها إنّما يحدث نفس الأحداث لا رفعها إلاّ أنّ صيرورته علّة غائيّة لإيجاب الغسل أو الوضوء مسبّبة عنها مع الواسطة ، ضرورة أنّ رفع الحدث إنّما يكون داعيا إلى طلب الوضوء أو الغسل إذا تحقّق الحدث ، وأمّا مع انتفائه فلا حدث ، حتّى يكون رفعه غاية للطلب.

وبعبارة أخرى : الغاية إنّما هي رفع الحدث الفعلي ، وهو لا يتحقّق له مورد أصلا إلاّ إذا كان هناك حدث ، فوجود الحدث الموجود بسببيّة تلك الأسباب سبب لاتّصاف رفعه بكونه علّة غائيّة ، فيكون تلك الأسباب علّة لعلّية العلّة الغائيّة للطلب.

وأمّا ثانيها : فتوضيح المقال فيه [ أنّه ] إنّما يحدث بسببيّته مصلحة في فعل الجزاء لم تكن متحقّقة فيه قبله ، فتكون المصلحة داعية وغاية لطلب الشارع ذلك الفعل من المكلّف ، مثاله في العرفيّات مجيء زيد بالنسبة إلى إكرامه ـ مثلا ـ فيقال فيه : إنّه يحدث فيه بسبب مجيئه مصلحة في إكرامه لم تكن حاصلة فيه قبل المجيء ، فإذا فرض كون المولى عالما بتلك المصلحة المسبّبة عن المجيء ، فيأمر عنده بإكرام زيد عند مجيئه ، فيكون المجيء علّة للعلّة الغائيّة لوجوب الإكرام.

وهكذا الكلام في نظيره من الأمثلة الشرعيّة.

أقول : للأسباب الشرعيّة قسم ثالث : وهو ما يكون محدثا لحالة مبغوضة [ في ] المكلّف (١) يكون رفعها غاية لطلب الشارع ما يرفعها (٢) من غير توقّف عبادة على رفعها أصلا ، وهذا كما في الكفّارات ، فإنّ الظاهر أنّ الأسباب الموجبة لها من هذا القبيل.

__________________

(١) في النسخة المستنسخة : مبغوضة على المكلّف.

(٢) في النسخة المستنسخة : يكون رفعه.

٢٠٧

والتعبير الجامع بينه وبين القسم الأوّل من القسمين المتقدّمين أن يقال : ما كان محدثا لحالة مبغوضة في المكلّف يكون رفعها غاية لطلب الشارع ما يرفعه ، فإنّ هذا أعمّ من توقّف عبادة على رفعها ، والكلام في هذا القسم هو ما مرّ في القسم الأوّل ، فلا نعيد.

وأمّا تصوير كونها عللا غائيّة للفعل (١) المأمور به بواسطة فهو مبنيّ على مذهب العدليّة من تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد الكامنتين في الأفعال قبل ورودها ، فيقال حينئذ : إذا أمر الشارع بفعل ـ بعد حدوث أمر وتحقّقه ـ فلا بدّ حينئذ من ارتباط واقعا بين وجود ذلك الأمر وبين الفعل المأمور به قبل أمر الشارع بحيث يكون الأمر كاشفا عنه ، بأن يكون ثابتا في الواقع قبل الأمر على وجه لو اطّلع عليه العقل قبله لحمل المكلّف على الفعل لذلك ، وهو لا يكون إلاّ بكون الأمر المذكور محدثا لمصلحة بعد حدوث الفعل (٢) المأمور به بحيث لو فرض اطّلاع العقل عليها (٣) لحمل المكلّف على الفعل تحصيلا لها ، فيكون أمر الشارع بذلك الفعل كاشفا عن تلك المصلحة ، وانكشافها ـ بعد العلم بها من أمر الشارع ـ يكون هو علّة غائيّة للفعل داعية للفاعل نحو الفعل ، فيكون الأسباب الشرعيّة عللا للعلّة الغائيّة للفعل المأمور به بمقتضى هذا البيان.

وأمّا تصوير كونها عللا فاعليّة بمقتضى جعل الشارع فقد عرفت ، فلا داعي لإعادة الكلام فيه.

إذا عرفت ذلك فيقال : إنّه إذا أمكن حمل الأسباب الشرعيّة على واحد من الوجوه الثلاثة المذكورة ـ بعد قيام القرينة على عدم كونها أسبابا بلا واسطة ،

__________________

(١) كذا ، والصحيح : كونها عللا للعلل الغائيّة للفعل ..

(٢) في النسخة المستنسخة : بعد حدوث في الفعل ..

(٣) في النسخة المستنسخة : اطّلاع العقل لها ..

٢٠٨

كما هو ظاهر أدلّتها ـ فلا داعي إلى حملها على المعرّفات ، بل المتعيّن حملها على أحد تلك الوجوه ، فإنّها أقرب إلى حقيقة الأسباب (١) بعد صرفها عن ظاهرها من الحمل على المعرّف ، كما لا يخفى على المتأمّل ، فيجب حينئذ حمل أدلّة تلك الأسباب على إرادة أحد تلك الوجوه.

ولا يخفى أنّه على تقدير إرادة أيّ منها يتمّ المطلوب من بقائها على ظاهرها وهو أصالة عدم التداخل ، فإنّ تعدّد علّة الغائيّة للطلب أو للفعل يقتضي تعدّد العلّة الغائيّة لأحدهما عقلا ، وتعدّد العلّة الغائيّة للطلب يقتضي تعدّد الطلب كذلك ، وتعدّده يقتضي تعدّد الواجب كذلك ، وتعدّد الواجب يقتضي تعدّد الامتثال ، وكذا تعدّد العلّة الغائيّة للفعل يقتضي تعدّده بلا توسّط شيء آخر ، فيكون الأصل على إرادة أيّ من الاحتمالات المتقدّمة هو عدم التداخل ، وهو المطلوب.

أقول : أقربيّة تلك الاحتمالات ـ بالنسبة إلى ظاهر القضيّة الشرطيّة ـ إنّما توجب حملها عليها عند قيام صارف عن ذلك الظهور بناء على كون ذلك من باب الوضع ـ بمعنى إفادتها لسببية الشرط للجزاء بلا واسطة من باب الوضع ، كما هو الظاهر.

وأمّا بناء على إفادتها إيّاها من باب الانصراف ، بل إفادتها أصل السببيّة لذلك ـ كما عرفته من بعض من المتأخّرين في المسألة المتقدّمة في مقام بيان الطرق لإثبات المفهوم لأدوات الشرط ـ فمشكل غاية الإشكال ، لأنّ سبب الانصراف حينئذ إنّما هو متحقّق بالنسبة إلى السببيّة الخاصّة فلا يوجب انصراف اللفظ إلى غيرها عند قيام صارف عنها ، فحينئذ لا بدّ من سبب آخر موجب لانصرافه إلى غيرها ، ودون دعوى ثبوته خرط القتاد ، فلا تغفل.

__________________

(١) في النسخة المستنسخة : ( حقيقة الآداب ) ، والصحيح ما أثبتناه.

٢٠٩

ثمّ إنّ شيخنا الأستاذ ـ قدّس سرّه ـ قد تصدّى لتصحيح أصالة عدم التداخل على تقدير كون الأسباب الشرعيّة معرّفات : بأنّ الأدلّة حينئذ قاضية بسببيّة كلّ منها للعلم بالطلب على نحو الاستقلال ، ولازم تعدّد سبب العلم تعدّد العلم على وجه يكون هناك علوم متعدّدة يمتاز كلّ منها عن الآخر ، حيث إنّه معلول بالفرض ، وتعدّد العلّة مستلزم لتعدّد المعلول كذلك ، وتعدّد العلم مستلزم لتعدّد المعلوم ، وهو الطلب ، وقد مرّ أن تعدّده مستلزم لتعدّد الامتثال ، فيكون الأصل على هذا التقدير ـ أيضا ـ عدم التداخل ، وهو المطلوب.

لكنّه مشكل من وجهين :

أحدهما : أنّ استلزام تعدّد العلّة لتعدّد المعلول ليس على كلّيّته ، بل إنّما هو فيما إذا كان المعلول من غير الكيفيّات القابلة للشدّة والضعف ، وأما إذا كان منها فلا ، ألا ترى أنّ تعدّد أسباب الألوان أو الأمراض لا يوجب تعدّد اللون والمرض.

نعم يوجب تأكّدهما بمعنى أنّ الحاصل منهما بواسطة الأسباب المتعدّدة آكد وأشد مما يحصل من واحد من تلك الأسباب (١).

ومن المعلوم أنّ الفرد الشديد ليس فردين وموجودين يمتاز كلّ منهما عن الآخر ، فإنّ الضعيف الممتاز عنه إنّما هو الّذي لم يكن في ضمنه.

__________________

(١) لا يقال : إنّ على تقدير كون تلك الأسباب معرّفات إنّما يلزم ما ذكر من عدم استلزامها حينئذ لتعدّد المعلوم لجواز التأكيد في مسبّباتها ـ وهي العلم ـ بناء على ثبوت معرّفها بدليل قطعي ، وأمّا إذا ثبت ذلك بطريق ظنّيّ فلا يتمّ ذلك ، لعدم إفادتها حينئذ العلم ، حتّى بتداخل العلم الحاصل من بعض مع الحاصل من الآخر.

لأنّا نقول : إذا ثبت ذلك بطريق ظنّي يكون (أ) كلّ واحد من تلك الأسباب سببا للعلم بالحكم الظاهري مع الحاصل من الآخر. منه طاب ثراه ، وجعل الجنة مثواه.

__________________

(أ) في النسخة المستنسخة : فيكون.

٢١٠

ومن المعلوم أنّ العلم من مقولة الكيفيّات فيمكن فيه ما يمكن في غيره ، بل المتأمّل في نفسه يجد فيها وقوعه ، فحينئذ لا يثبت من الأسباب المتعدّدة للعلم أزيد من معلوم واحد وهو الطلب ، فيكفي الامتثال مرّة.

وثانيهما : أنّ القائل ـ بكون تلك الأسباب معرّفات ـ الظاهر أنّه لا يريد كون الجزاء في أدلّتها هو العلم كما هو مبنى ما ذكره ـ قدّس سرّه ـ بأن يكون المراد من قوله : « إن نمت فتوضأ » (١) أنّه إن نمت فاعلم أنّه يجب عليك الوضوء ، بل الظاهر أنّه أراد أنّ القضايا الشرطية في تلك الأدلّة إنّما استعملت في مجرّد التلازم بين الشرط والجزاء ، وأنّ الجزاء هو المذكور في القضيّة.

وبعبارة أخرى : إن سيقت لمجرّد بيان ربط اللزوم بين الشرط ونفس الجزاء واستفيد سببيّة الشرط للعلم بالجزاء استلزاما ، إذ كلّ من المتلازمين كاشف عن الآخر وموجب للعلم به ، فحينئذ لا يقتضي تعدّد الأسباب المذكورة تعدّد الطلب المجعول جزاء في كلّ من أدلّة تلك الأسباب ، إذ يصير كلّ منها لازما للطلب لا مؤثّرا فيه ، ومن المعلوم أنّ تعدّد اللوازم لا يقتضي بتعدّد الملزوم ، لإمكان أن يكون لشيء واحد ألف لازم ، فتدبّر.

أقول : ما ذكرت سابقا ـ من الإشكال في كون أقربيّة الاحتمالات الثلاثة المتقدّمة إلى مدلول أدوات الشرط من احتمال المعرّفيّة موجبة لحملها على أحد تلك الاحتمالات بناء على عدم إفادتها للسببيّة المطلقة بالنسبة إلى صورة اجتماع الأسباب وضعا مع إفادتها لأجل السببيّة من باب الوضع ـ يندفع بذلك البيان ، إذ قد عرفت أنّ مبنى حمل الأسباب على المعرّفات على حمل الأدلّة على مجرّد بيان ربط اللزوم بين الشرط والجزاء ، ومن المعلوم أنّه إلغاء

__________________

(١) هذا مضمون أحاديث منها الحديث ١ من الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء من الوسائل ١ : ١٧٤ ـ ١٧٥.

٢١١

للسببيّة رأسا بخلاف حملها على أحد تلك الاحتمالات ، لكون السببيّة مأخوذة في كلّ منها في الجملة ، فيكون كلّ منها أقرب إلى حقيقة الأدوات من مجرّد التلازم ، فلا يصار إليه مع إمكان الحمل على أحدها ، بل كلّ واحد منها عين حقيقة الأدوات على ذلك القول بناء على خروج عدم التوسّط من حقيقتها حينئذ ، بأن يقال : إنّها حقيقة في سببيّة الشرط للجزاء في الجملة ، أعمّ من أن يكون الشرط سببا بلا واسطة ، لكنّها عند الإطلاق ينصرف إليه.

وكيف كان ، فلا إشكال على القول المذكور في تقديم تلك الاحتمالات على احتمال المعرفية ، فيبقى الإشكال بالنسبة إلى القول بوضعها لمجرّد التلازم بين الشرط والجزاء ، وكون أصل السببيّة مستفادا من باب الانصراف ، فافهم.

الثاني : أنّ المفروض وحدة متعلّق الطلبات المسبّبة عن الأسباب المفروضة نوعا وكونه حقيقة واحدة ، فيلزم على تقدير كون تلك الأسباب أسبابا واقعية ـ كما هو ظاهر أدلّتها ـ تعلّق أشخاص من الطلب بحقيقة واحدة ، اللازم باطل ، لكونه من اجتماع الأمثال في شيء واحد الّذي هو كاجتماع الأضداد فيه من حيث الامتناع ، إذ كما يمتنع اجتماع ضدّين أو أضداد في شيء واحد ولو بالنوع ـ إذا لم يعتبر ذلك الشيء على وجه يرجع إلى أمور متعدّدة ـ فكذلك يمتنع اجتماع مثلين أو أمثال فيه كذلك ، إذ الطبيعة الواحدة ما لم يطرأ عليها اعتبار أزيد فهي شيء واحد ، إذ هي حينئذ ليست إلاّ هي ، ومن المعلوم أنّها في حدّ نفسها لا تعدّد فيها أصلا ، بل أمر وحدانيّ كالشخص الواحد ، وتكثّرها إنّما هو باعتبار زائد على أصلها ، وهو اعتبارها بالنظر إلى وجوداتها الخارجيّة التي هي الأفراد فيما لم يطرأ عليها ذلك الاعتبار ، فلا يعقل اجتماع مثلين أو أمثال فيها كاجتماع ضدّين أو أضداد فيها ، لعدم الفرق بينها حينئذ وبين الواحد الشخصي فيما هو مناط امتناع الاجتماع ، فإنّ مناطه إنّما هو وحدة متعلّق المثلين أو الضدّين من غير مدخلية للنوعية والشخصية فيه أصلا ، فإذا بطل اللازم بطل

٢١٢

الملزوم ـ أيضا ـ فيكشف ذلك عن أنّ المراد بالأدلّة ـ خلاف ما هو الظاهر منها ـ المعرفيّة. وأمّا إرادة السببيّة للطلب المستقلّ مع قابلية المورد له ، وبعبارة أخرى : إنّه لما كان سببية تلك الأسباب للطلب على وجه الإطلاق مستلزمة لذلك المحذور ، فلا بدّ إمّا من حملها على المعرّفات للطلب ، وإمّا من حملها على السببيّة المقيّدة ، وهي سببيّتها للطلب المستقلّ مع قابلية المورد له مع إيكال فهم التقييد إلى العقل.

وعلى الثاني إذا فرض اجتماعها دفعة واحدة مع فرض وحدة متعلّق مسبّباتها ، فلازمها حينئذ طلب واحد مسبّب عن الجميع ، لامتناع اجتماع طلبات متعدّدة في واحد نوعيّ كاجتماعها في واحد شخصي ، لما مرّ ، فلا يعقل حينئذ إلاّ طلب واحد ، ولامتناع الترجيح بلا مرجح ، فلا بدّ أن يكون ذلك مستندا إلى جميع الأسباب ، فإذا فرض اجتماعها على التعاقب فلازمها حينئذ ـ أيضا ـ طلب واحد ، لما مرّ ، لكنّه مستند إلى الأسبق منها ، فإنّه عند وجوده لم يكن مانع من تأثيره في المورد أثره ، وهو الطلب ، فيكون بمجرّد وجوده مؤثّرا فيه ومحدثا للطلب ، ومعه لا يصلح الأسباب الاخر للتأثير لاستلزامه اجتماع الأمثال في مورد واحد كما مرّ ، وإذا فرض وجود واحد منها فقط في المورد فلازمه طلب واحد ، ووجهه ظاهر.

أقول : الظاهر أنّه على تقدير حملها على المعرّفات ـ أيضا ـ الحكم فيها ما عرفت بناء على حملها على السببيّة المقيّدة ، فإنّها حينئذ ـ أيضا ـ إذا اجتمعت لا تفيد إلاّ طلبا واحدا سواء اجتمعت دفعة أو متعاقبة.

نعم في صورة اجتماعها دفعة يكون وجود الحكم مستندا إلى الجميع ، وفي صورة التعاقب إلى الأسبق منها لعين ما مرّ ، ومع وجود واحد منها بدون البواقي ـ أيضا ـ يفيد ذلك طلبا واحد ، ومن المعلوم أنّ وحدة العلّة لا تستلزم أزيد من

٢١٣

معلول واحد ، وهو الطلب. هذا.

والجواب عن ذلك : أنّ المحذور المذكور ـ وهو لزوم اجتماع المثلين أو الأمثال في شيء واحد ـ لا يوجب المصير إلى خلاف ظاهر الأدلّة المذكورة مطلقا ، بل إنّما يوجبه على تقدير كون الطلبات المسببة عن تلك الأسباب ـ على تقديرها ـ متوجّهة إلى الحقيقة الواحد من حيث هي وفي حدّ نفسها ، لما قد عرفت أنّه إنّما يلزم على هذا التقدير ، فمع اعتبار التكثّر في تلك الحقيقة ـ بأن يكون متعلّق كلّ طلب وجود منها مغاير لمتعلّق الطلب الآخر ، بأن يكون موضوع كلّ طلب شخصا من أشخاصها ووجودا من وجوداتها الخارجية ـ لا مانع من تعدّد الطلب أصلا ، كما اعترف به المورد أيضا.

نعم لمّا كانت المادّة المعروضة للطلب ظاهرة في إرادة الطبيعة من حيث هي ، فظهورها ينافي تعدّد الطلب ، لما مرّ من استلزام إرادتها كذلك مع تعدّد الطلب لاجتماع الأمثال في شيء واحد ، فيقع التعارض بين ظهور المادّة وبين ظهور أدوات الشرط في الأدلّة في سببيّة كلّ من تلك الأسباب لطلب مستقلّ ، ويتوقّف رفعه على أحد أمرين على سبيل منع الخلوّ :

أحدهما : التصرّف في ظهور الأدوات في تلك الأدلّة.

وثانيهما : التصرّف في المادّة المذكورة المعروضة للطلب المجعول جزاء في كلّ من تلك القضايا بتقييدها في كلّ منها ببعض من وجوداتها غير ما قيّدت به في الأخرى ، فيقال في قولنا : ـ إن جاءك زيد فأكرمه ، وإن أضافك فأكرمه ، وإن أعانك فأكرمه ـ : إنّ المطلوب في القضيّة الأولى إنّما هو إكرام زيد عند مجيئه الّذي هو غير إكرامه عند إضافته أو إعانته ، وفي الثانية إنّما هو إكرامه الّذي هو غير إكرامه عند مجيئه أو إعانته ، وفي الثالثة إنّما هو إكرامه الّذي [ هو ] غير إكرامه عند مجيئه أو إضافته.

لكن الّذي يقتضيه الإنصاف أنّ التصرّف الثاني أهون من الأوّل ، لأن

٢١٤

الظاهر أنّ ظهور أدوات الشرط في السببيّة على الوجه المذكور أقوى من ظهور المادّة في الطبيعة من حيث هي ، فيكون حاكما على ظهور المادّة وصارفا عنه (١) ، فإذا اندفع المحذور المذكور تقضي (٢) الأدلّة بتعدّد الطلب بتعدّد الأسباب ، لعدم المانع منه حينئذ ، فيتمّ المطلوب ، وهو عدم التداخل ، لما مرّ غير مرّة من استلزام تعدّد الطلب تعدد الامتثال.

ثمّ إنّه قد حكى ـ دام ظلّه ـ عن بعض أفاضل المتأخّرين ـ وظنّي أنّه الفاضل النراقي ـ قدّس سرّه ـ في عوائده (٣) ـ : أنّه استشكل في التقييد المذكور بأنّه مستلزم لاستعمال المادّة في معنيين ، ولم ينقل ـ دام ظلّه ـ وجهه ، ولم يتعرّض لتوجيهه بوجه ، بل اكتفى بمجرّد حكاية ما ذكر ، فطفر إلى ما هو الأهمّ للمحصّلين.

أقول : كأنّ نظره ـ قدّس سرّه ـ فيما ذكره إلى أنّ الموجب لإشكاله (٤) المذكور إنّما هو لزوم اجتماع المثلين أو الأمثال في شيء واحد ، وقد عرفت أنّه يختصّ بصورة اجتماع الأسباب ، إذ مع وجود واحد منها لا يكون إلاّ طلبا واحدا ، وهو غير مستلزم له ، فلا مانع من إرادة نفس الطبيعة بالنسبة إلى حال وجود واحد منها ، ووجود المانع في غير تلك الصورة لا يوجب المنع فيها ، فلا يكون التقييد بالنسبة إلى غير تلك الصورة مستلزما له فيها ، ولازم ذلك أن يراد

__________________

(١) وإن شئت قلت : إن المستفاد من القضايا الشرطية تعدّد الطلب بتعدّد الشرط ، وتعدّد الطلب ظاهر في تعدّد المطلوب ، فيكون هذا قرينة على تقيّد المادّة في كلّ من تلك القضايا ببعض وجودات الطبيعة ، لتعدّد المطلوب ، فإنّ ظهور تعدّد الطلب في تعدّد المطلوب أقوى من ظهور المادّة في الطبيعة من حيث هي ، فيكون حاكما على ظهور المادّة وصارفا عنه. منه طاب ثراه.

(٢) في النسخة المستنسخة : ( فتقتضي .. بتعدّد ). ، فصحّحناها بما في المتن ، كما تصحّ أيضا هكذا : تقتضي .. تعدّد ..

(٣) عوائد الأيام : ١٠٣.

(٤) في النسخة المستنسخة ( لكشفه ) والصحيح ما أثبتناه.

٢١٥

بالمادّة الطبيعة من حيث هي بالنظر إلى تلك الحال ، وهي باعتبار بعض وجوداتها بالنسبة إلى غيرها (١) ، فتكون المادّة مستعملة في نفس الطبيعة من حيث هي ، وفيها باعتبار بعض وجوداتها الّذي هو فرد منها ، وما هذا إلاّ استعمالها في معنيين.

هذا ، لكن لا يخفى على المتأمّل ضعفه ، فإنّ استعمال اللفظ إن كان جائزا فلا محذور في لزومه ، وإلاّ فهو محذور آخر يوجب اعتبار التقييد المذكور بالنظر إلى حال انفراد الشروط ـ أيضا ـ بمعنى أنّ المتكلّم يريد من المادة الطبيعة المقيّدة بالنسبة إلى تلك الحال ـ أيضا ـ ولو لتوطئة الخروج عن محذور استعمالها في معنيين ، مع فرض عدم تفاوت في غرضه ومقصوده ، لكفاية المقيّد على تقدير كفاية المطلق أيضا.

الثالث : أنّ ظاهر أدوات الشرط كون الشرط في القضيّة الشرطيّة بنفسه علّة تامّة لوجود الجزاء ، لكن لا يمكن حملها على ذلك في الأدلّة الشرعيّة ، لبداهة أنّ الشروط والأسباب الشرعية على تقدير علّيّتها ليست إلاّ العلّة الغائيّة للطلب التي هي أحد أجزاء العلّة التامّة ، فيدور الأمر بين حملها على إفادة سببية تلك الأسباب للمعرّفيّة وبين تقيّد تلك الأسباب بصورة اجتماع سائر أجزاء العلّة التامّة ، وهي العلل الثلاث الاخر ـ الفاعليّة ، والمادّيّة ، والصوريّة ـ ، فحينئذ إن لم تحمل على إفادة المعرّفية فلا تحمل على إفادة سببية تلك الأسباب لنفس الطلب مع تقيدها ، فيكون الأدلّة مجملة ساقطة عن مرحلة الاستدلال لا محالة.

وفيه : منع ظهور الأدوات في ذلك ، بل الظاهر منها أنّ سائر الجهات التي لها مدخليّة في وجود الجزاء ـ وهو الطلب ـ مفروغ عنها ، وإنّه ليس لترتّبه وتحقّقه حالة منتظرة بالنسبة إلى شيء إلاّ على وجود الشرط ، بحيث إذا وجد الشرط

__________________

(١) في النسخة المستنسخة : ( إلى غيره ). ، والصحيح تأنيث الضمير ـ كما أثبتناه في المتن ـ لعوده على ( تلك الحال ).

٢١٦

يلزمه وجود الجزاء جدّاً ، فتكون هي مفيدة لكون الشرط هو الجزء الأخير للعلّة التامّة للجزاء.

فعلى هذا لا يلزم التقيّد في الأسباب بوجه ، حتّى يرد الأمر بينه وبين سائر التصرّفات المولّدة للأصل.

هذا خلاصة الكلام في النقض والإبرام في المقدّمة الأولى من مقدّمات دليل عدم التداخل ، وهي ظهور الأدلّة في السببية بعد تسليم الظهور.

وقد يمنع عدم التداخل بمنع أصل الظهور ـ كما مرت الإشارة إليه سابقا ـ لكنه بمكان من الضعف.

ثمّ إنّه قد يناقش في المقدّمة الثالثة من تلك المقدّمات ـ وهي استلزام تعدّد الأسباب تعدّد الواجب بعد تسليم الأولى ـ : بأنّ اقتضاء تعدّد الأسباب لتعدّد المسبّبات مسلّم لكن المسبّب للأسباب المفروضة ليس إلاّ الإيجاب ، فتعدّدها يقتضي تعدّده ، ومن المعلوم أنّ تعدّد الإيجاب غير مستلزم لتعدّد الواجب ، لانتقاض دعوى استلزامه له بموضعين :

أحدهما : موارد يراد من تعدّد الإيجاب [ فيها ] تأكيد الوجوب.

وثانيهما : ما إذا كان الفعل المأمور به مما لا يقبل التعدّد كالقتل ، مع أنّه يصحّ أن يقال : إن جاءك عمرو فاقتله ، وإن شتمك فاقتله ، وإن آذاك فاقتله.

وفيه : أنّه ناشئ عن عدم فهم الواجب المشروط وأنّ المشروط بالشرط ما ذا؟ فلنمهّد مقالا في كشف غطاء الإجمال عن وجود حاله.

فاعلم أنّ المشروط بالشرط والمعلّق عليه في الواجب المشروط إنّما هو الوجوب ، وهو اشتغال ذمّة المكلّف فعلا بالفعل المأمور به ، بحيث ليس له تأخير الامتثال عن أوّل زمن الاشتغال إن كان وجوبه فوريّا ، وعن الوقت المضروب له إن كان موقّتا بوقت موسّع ، لا الإيجاب ، وهو إنشاء الطلب باللفظ ، فإنّه مقدّم على زمن وجود الشرط ، فلا يعقل تعليقه عليه مع تحقّقه قبله.

٢١٧

وبعبارة أخرى : إنّ المعلّق على الشرط إنّما هو تنجّز المنشأ بذلك الإنشاء وصيرورته بعثا وتحريكا فعليّا ، بحيث يستتبعه استحقاق العقاب على مخالفته في الوقت المضروب لأداء متعلّقه ، فإنّ الآمر إذا التفت إلى أنّ للفعل مصلحة عند وجود أمر ، فيكون ذلك داعيا له ـ قبل تحقّق ذلك الأمر ـ إلى إنشاء طلب شأنيّ الآن معلّق بلوغه إلى مرتبة البعث والتحريك الفعلي على وجود ذلك الأمر في الخارج ، بحيث إذا وجد يكون المحرّك والباعث له نحو الفعل حينئذ هو ذلك الطلب الشأني من غير حاجة إلى طلب جديد أصلا ، فهذا الطلب والتحريك الفعلي إنّما هو ذلك الشأنيّ ، بمعنى أنّ أصله ومادّته إنّما هو ذلك ، وإنّما وجود الشرط صار سببا لنموّه وكثرته ، فمثله كمثل الزرع ، حيث إنّ أصله إنّما هو من البزر (١) الّذي ألقاه الزارع ، ونموّه من قبل المربّيات له من الماء وغيره ، ولذا لو أمر مولى عبده بشيء على هذا الوجه ، ثمّ حضر زمن وجود الشرط وكان المولى غافلا عن أنّه أمره من قبل أو عن وجود الشرط لكان (٢) ذلك الطلب محرّكا للعبد حينئذ نحو الفعل ، بحيث لو ترك الامتثال حينئذ معتذرا ـ بأنّ ذلك الطلب لم يكن منجّزا ، ولم يصدر منه طلب منجّز بعده ـ لاستحقّ الذمّ والعقاب.

والحاصل : أنّ المعلّق على الشرط إنّما هو تنجّز ذلك الطلب الشأني ، وهو ـ أي التنجّز ـ حالة بين الآمر والمأمور : إذا أضيفت إلى الآمر تسمّى بعثا وتحريكا فعليّا ، وإذا أضيفت إلى المأمور تسمّى اشتغالا فعليّا.

فإذا عرفت ذلك فقد ظهر لك فضاحة (٣) حال المناقشة المذكورة ، إذ بعد

__________________

(١) في النسخة المستنسخة الزر ، والصحيح ما أثبتناه ، والبزر مفرد ( بزور ) ، وهي الحبوب المفصولة عن الثمرة ، وكلّ حبّ يبذر ، أي يلقى في الأرض ويزرع ، كما يحتمل أن الكلمة في نسخة الأصل هي البذر مفرد ( بذور ) و ( بذار ) ، وهي الحبوب التي تزرع. اللسان مادّتا : ( بذر ) و ( بزر ).

(٢) في النسخة المستنسخة : يكون ..

(٣) فضحه فضحا وفضاحة وفضوحا وفضوحة وفضاحا : كشف مساوئه ومعايبه ، وفضحه فضحا :

٢١٨

ما تبيّن أنّ المعلّق على الشرط هو اشتغال ذمّة المكلّف ـ فعلا ـ بفعل المأمور به ، فلا محيص عن التزام اقتضاء تعدّد الأسباب الشرعيّة لتعدّد الواجب.

__________________

كشف سرّ لغزه وأظهره.

٢١٩
٢٢٠