تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٣

المولى علي الروزدري

تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٣

المؤلف:

المولى علي الروزدري


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-54-X
ISBN الدورة:

الصفحات: ٣٨٢

ومنهم : من حرّره بأنّ التعليق [ على ] الشرط (١) هل يقتضي الانتفاء عند انتفائه؟

ومنهم : من حرّره بأن التقييد (٢) بالشرط هل يقتضي الانتفاء عند انتفائه؟ لكنّ المراد من الكلّ واحد ، وهو أنّ تعليق الحكم مطلقا ـ أمرا كان أو نهيا أو غيرهما ـ على شرط هل يقتضي انتفاءه عند انتفاء ذلك الشرط ، أو لا؟ وذلك لأنّ تخصيص الأمر بالذكر في الأوّل إنّما هو من باب المثال ، لا من جهة تخصيص النزاع به ، والنكتة في تمثيله به أنّ الّذي قرّره هكذا إنّما أورد البحث عن مفهوم الشرط في باب الأوامر.

لا يتوهّم : أنّ غاية ما ذكرت إرجاع الأوّل إلى الثاني ، لكنه مع ذلك لا يوافق الأخيرين ، كعدم مطابقة الثاني لهما أيضا ، فإنّ صريح الأخيرين أنّ النزاع إنّما هو في اقتضاء التعليق [ على ] الشرط (٣) للانتفاء عند انتفائه وعدمه ، وظاهر الأوّلين أنّ النزاع إنّما هو في مجرّد إثبات انتفاء الحكم عن غير مورد الشرط ، ولو لدليل آخر غير اقتضاء التعليق له.

لاندفاعه : بأنّ الظاهر من الأوّلين ـ أيضا ـ إنّما هو إثبات الانتفاء عند انتفاء الشرط بالنظر إلى التقييد بالشرط ، ـ كما لا يخفى على المتأمّل ـ لا مطلقا.

هذا مضافا إلى أنّ النزاع في باب المفاهيم ـ كما مرّت الإشارة إليه ـ في إثبات دلالة اللفظ على الانتفاء عند الانتفاء ، إذ المراد بالمفهوم المتنازع فيه في الباب ، إنّما هو هذا ، لا غير ، فبملاحظة ذلك لا مجال لتوهّم خلاف المقصود من الأوّلين ، ضرورة أنّهما تقريران للنزاع المعهود بينهم ، لا لنزاع آخر.

__________________

(١) في النسخة المستنسخة : التعليق بالشرط ..

(٢) في النسخة المستنسخة : التقيّد ..

(٣) في النسخة المستنسخة : التعليق بالشرط ..

١٤١

ثمّ إنّ الظاهر من إسناد الاقتضاء إلى التعليق والتقييد أنّ المراد به الاستلزام عقلا ، فمقتضاه كون المسألة عقليّة ، لكن بملاحظة ما تقدّم من العلم بأنّ النزاع في المقام إنّما هو في إثبات الدلالة للّفظ على الانتفاء عند الانتفاء يعلم أنّ المراد [ به ] أنّ أدوات الشرط هل هي تدلّ على تعليق التالي على المقدّم على وجه يلزمه الانتفاء عند الانتفاء ، فتكون دالّة عليه بالاستلزام البيّن ، أو لا؟ وكان الأليق بمقصودهم تحرير الخلاف بهذه العبارة.

والمراد بالشرط هنا إنّما هو الشرط النحوي المعبّر [ عنه ] في اصطلاح أهل الميزان بالمقدّم ، وهو الجملة التالية لكلمة ( إن ) وأخواتها من أدوات الشرط ، لا ما هو المصطلح عليه عند أهل المعقول وعند الأصوليين ـ أيضا ـ وهو ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده الوجود ، ضرورة أنّ التعليق عليه ملازم عقلا للانتفاء عند الانتفاء ، فلا يعقل كونه محلا للنزاع بعد الفراغ عن كون الشرط هكذا ، لرجوعه إلى التناقض ، ولا الشرط اللغويّ ـ أيضا ـ لعدم ارتباطه بالمقام بوجه ، كما لا يخفى ، ولا الّذي بمعنى السبب حيث إنّه قد يطلق عليه ، ضرورة أنّ مجرّد التعليق على سبب لا يستلزم انتفاء المسبّب عند انتفائه ، لجواز قيام سبب آخر مقامه ، فلا يعقل النزاع فيه أيضا ، فإنّ ذلك إنّما هو لازم السبب المنحصر.

وكيف كان ، فتوهّم خلاف المقصود في موضع الخلاف أو الشكّ فيه يدفعه ما علم من الخارج ، من أنّ الكلام إنّما هو في دلالة أدوات الشرط على الانتفاء عند الانتفاء ، لا إثباته ولو بالبرهان العقلي.

ويعضدنا ما حكي (١) عن جماعة من تحريرهم لموضع الخلاف بالتعليق

__________________

(١) قال المحقّق التقيّ ـ قدّس سرّه ـ في هدايته : ( وقد يوهم بعض تعبيراتهم في المقام اختصاص الحكم بالتعليق بكلمة « إن » بخصوصها : حيث قرّروا المسألة في خصوص التعليق بها ، كما في المحصول وفي التهذيب والزبدة وغيرها ، وليس كذلك ، بل إنّما عبّروا بذلك على سبيل التمثيل ). الهداية : ٣٨٧.

١٤٢

[ على ] كلمة (١) ( إن ).

وقد ظهر ممّا ذكرنا ـ من أنّ النزاع في إثبات دلالة أدوات الشرط على الانتفاء عند الانتفاء ـ أنّ محطّ النّظر في المقام ـ كسائر مقامات باب المفاهيم ـ إنّما هو الدلالة على الانتفاء عند الانتفاء فحسب ، وأمّا تعليق الوجود على الوجود فليس من محلّ النزاع هنا في شيء.

نعم المثبت للمفهوم لا بدّ له من إثبات ذلك أيضا ، لتوقّف ثبوت مدّعاه عليه ، والنافي له قد ينفيه بمنع إفادة أدوات الشرط لتعليق التالي على المقدّم أيضا ، بدعوى أنّها لا تفيد إلاّ عدم الانفكاك بين الوجودين.

ثمّ إنّ النزاع لا يختصّ بكلمة ( إن ) من بين أدوات الشرط ، كما قد يوهمه المحكيّ عن الجماعة المشار إليهم ، بل يعمّ جميع الأدوات من الحروف والأسماء المتضمّنة لمعنى الشرط : كمن ، وما ، ومتى ، ومهما ، وحيثما ، وغيرها إذا تضمّنت معنى الشرط ، وهو التعليق ، ومن أدوات الشرط أيضا لفظ الكلّ المضاف إلى نكرة كقولك : ( كلّ رجل جاءك أو عالم فأكرمه ).

والّذي يدلّ على تعميم النزاع بعد القطع به أمور :

الأوّل : تصريح جماعة من المحقّقين به.

الثاني : إطلاق الشرط في تحرير كلّ من حرّر الخلاف بالتعليق على الشرط ، أو التقييد به ، فإنّ المراد ليس مادّة الشرط ـ كما عرفت سابقا ـ بل. إنّما هو مصداقه ، وإطلاقه يقتضي دخول سائر الأدوات في مورد الخلاف أيضا.

الثالث : لا شبهة أنّهم لم يتعرّضوا لدلالة سائر الأدوات على الانتفاء عند الانتفاء في موضع آخر ، ومن المقطوع [ به ] أنّهم لم يهملوها أيضا ، ولازم هاتين المقدّمتين دخولها في مورد الخلاف في المقام ، فعلى هذا فالتحرير المحكيّ المتقدّم

__________________

(١) في النسخة المستنسخة : .. بالتعليق بكلمة ( إن ).

١٤٣

محمول على التمثيل لا التخصيص ، فافهم.

وهل النزاع في دلالة تلك الأدوات على الانتفاء عند الانتفاء وضعا ، أو في الأعمّ منها (١) الشاملة لما ينشأ من القرائن العامّة؟

الظاهر هو الثاني ، فإنّ من [ المحقّقين ](٢) من يعترف بعدم وضعها لذلك ، لكنّه يدّعيه من جهة الانصراف.

ثمّ إنّ النزاع في المقام هل يختصّ بما إذا كان الجزاء من الجمل الإخبارية ، أو يعمّ ما إذا كان من الإنشائيّة؟

الظاهر ـ بل المقطوع به من إطلاق كلماتهم وأدلّتهم وعدم نقل الأوّل من أحد منهم ـ هو الثاني.

نعم قد يشكل (٣) ذلك بناء على كون الموضوع له لهيئة الأمر خاصّا ، وتقريره بتقريب وتوضيحه منّا :

أنّ المعلّق على الشرط ـ في القضايا الشرطية المتنازع فيها ـ إنّما هو ما وضعت له الجملة الخبرية ، وإذا فرض كونها إنشائيّة ـ وقلنا بوضعها لخصوصيّات الطلب ، وأشخاصه ـ يكون (٤) المراد بها حينئذ هو الطلب الخاصّ الشخصيّ ، وهو الّذي حصل بهذا الكلام ، فيكون المعلّق على الشرط ذلك الطلب الخاصّ.

ومن المعلوم أنّ من مشخّصاته وجوده معلّقا على الشرط المذكور في القضيّة ، كما أنّ منها ـ أيضا ـ كونه حاصلا بهذا الكلام ، ومن البديهيّ أنّ كلّ شيء مقيّد بخصوصيّة ينتفي عند انتفاء تلك الخصوصيّة ، إذ الموجود بدونها لا يعقل

__________________

(١) أي : أو النزاع في الأعمّ من دلالة تلك الأدوات وضعا ..

(٢) في النسخة المستنسخة : فإنّ من المتين ..

(٣) أورد الإشكال المذكور صاحب هداية المسترشدين : ٢٨١.

(٤) في النسخة المستنسخة : فيكون ..

١٤٤

كونه ذلك الشيء ، بل إنّما هو أمر مباين له بالضرورة (١) ، فانتفاء الجزاء بانتفاء الشرط على القول المذكور بديهيّ لا يتمكّن أحد من إنكاره ، فلا يعقل وقوعه محلا للنزاع ، كما أنّه لا يتمكّن من دعوى انتفاء سنخ الطلب ـ أيضا ـ بانتفاء الشرط ، إذ المعلّق عليه هو الطلب الشخصيّ بالفرض ، ومقتضى التعليق انتفاء ذلك الشخص عند انتفاء الشرط ، لا انتفاء مطلق الطلب ، فإنّ جزئيته ـ من حيث كونه معلّقا على الشرط المذكور في الكلام ، ومن حيث كونه حاصلا بذلك الكلام ـ ترفع المنافاة بين انتفائه وثبوت طلب آخر معلّق على شرط آخر ، أو حاصل لغير ذلك الكلام ، ضرورة عدم المنافاة بين السالبة والموجبة الجزئيّتين ، فلا استلزام بين انتفاء ذلك الشخص وبين انتفاء سنخ الطلب ، فلا يعقل وقوع ذلك ـ أيضا ـ إذا كان الجزاء معنى عامّا قابلا لتحقّقه في غير مورد الشرط ـ أيضا ـ كما في مفاد الجمل الإخبارية ، فيختصّ النزاع بها.

فإن قيل : إنّ ما ذكر إنّما هو إثبات الانتفاء عند الانتفاء لضرورة العقل ، والنزاع في باب المفاهيم إنّما هو في دلالة اللفظ عليه ، كما مرّت الإشارة إليه.

قلنا : بعد ما كان الانتفاء عند الانتفاء ضروريّا فإثبات دلالة اللفظ عليه خال عن الفائدة ـ كما لا يخفى ـ فيكون البحث عنه عبثا.

وبالجملة : على القول المذكور لا يقدر النافي للمفهوم على إنكار انتفاء

__________________

(١) لا يقال : إنّ الشيء وإن كان ما لم يتشخّص لم يوجد ، لكن لو فرض محالا وجوده بدون مشخص فلا يخرج هو عن كونه ذلك الشيء ، فكيف يدّعى أنّه ـ حينئذ ـ مباين له؟! لأنّا نقول : هذا إنّما هو في الطبائع ، وما ذكرنا إنّما هو في الأشخاص. ومن المعلوم أنّ المشخّص للأشخاص مقوّم لها لانتفاء المائز بين الأشخاص بدونه ، فهو بمنزلة الفصل بالنسبة إلى الطبائع ، فكلّ متشخّص متشخّص بخصوصيّة مباين للفاقد لتلك الخصوصيّة ، كما أنّ كلّ طبيعة متفصّلة بفصل مباينة للفاقدة لذلك الفصل. منه طاب ثراه.

١٤٥

الجزاء عند انتفاء الشرط ، كما أنّه لا يقدر المثبت له على دعوى انتفاء مطلق الطلب عند انتفاء الشرط ، إذ المفروض أنّ المعلّق عليه ، إنّما هو شخص من أشخاصه ومقتضى التعليق انتفاء ذلك الشخص عند انتفائه لا انتفاء ما لم يكن معلّقا عليه أصلا ، فلا منافاة بين انتفاء ذلك الشخص عند انتفاء الشرط وبين ثبوت مطلق الطلب حينئذ في ضمن شخص آخر منه وهو الحاصل لكلام آخر.

لا يقال : هب أنّ الطلب الشخصيّ المذكور لتعلّقه بالشرط المذكور في القضيّة من مشخّصاته ، وأنّه قد وجد في الخارج على هذه الخصوصيّة ، لكن مع قطع النّظر عن تلك الخصوصيّة يمكن تحقّقه في موضع آخر.

لأنّا نقول : الجزئيّ الحقيقيّ جزئيّته مانعة عن تحقّقه في صورة انتفاء الخصوصيات الموجودة معها ولو مع قطع النّظر عن تلك الخصوصيّات ، إذ قطع النّظر عنها مع كونه من مشخّصاته واقعا لا يصيّره كلّيّا ، بل باق معه على ما كان عليه من الجزئيّة والتشخّص ، ومعه لا يعقل تحقّقه بدون مشخّصاته ، إذ الموجود بدونها مباين له لا عينه كما مرّ.

وقد مرّ أنّ من مشخّصاته كونه حاصلا بهذا الكلام ، فلا يعقل تحقّقه بكلام آخر ، كما أنّ منها تعلّقه بالشرط المذكور في القضيّة ، فلا يعقل تحقّقه بدونه.

هذا خلاصة الكلام في تقرير الإشكال ، ولا يخفى أنّه بعينه جار في سائر المقامات من تعلّق الحكم على الغاية أو الوصف أو اللقب ، كما تفطّن [ له ](١) المستشكل أيضا ، وعليه لا بدّ من تخصيص النزاع فيها أيضا بالجمل الإخبارية ، إذ على القول المذكور يكون المعلّق على الغاية أو الوصف أو اللقب هو ذلك الطلب الشخصيّ المتشخّص بما علّق عليه ، ومن المعلوم انتفاؤه بانتفاء ما فرض مشخّصا له ، من غير فرق بين كونه هو الشرط أو غيره ، بل لعلّ الحال بالنسبة

__________________

(١) في النسخة المستنسخة : تفطّن به ..

١٤٦

إلى الوصف واللقب أوضح. هذا.

والجواب عنه :

أوّلا ـ منع ابتنائه على وضع هيئة الأمر لأشخاص الطلب ، بل إنّما هو لازم لاستعمالها في الأشخاص ، وهو أعمّ من الوضع بل القائلون بوضعها لطبيعة الطلب الظاهر أنّهم معترفون بأنّها لا تستعمل إلاّ في الخصوصيّات ، فلذا أورد عليه بأنّ وضعها للطبيعة مع عدم استعمالها إلاّ في الأشخاص مستلزم للمجاز بلا حقيقة.

وثانيا ـ إنّ الّذي نجد من أنفسنا عند تعليقنا الطلب على أمر ـ من شرط ، أو وصف ، أو غاية ، أو لقب ـ أنّ النّظر في التعليق إنّما هو إلى سنخ الطلب المتعلق بمادّة مخصوصة من غير نظر إلى خصوصيّة حصوله بكلام خاصّ أو تعلّقه بشرط خاصّ أو وصف أو غاية أو لقب كذلك ، نعم تلك الخصوصيّات من لوازم وجوده في الخارج ، فالمعلّق [ على ](١) مجيء زيد في قولنا : ( إن جاءك زيد فأكرمه ) إنّما هو طلب الإكرام المطلق ، لا المقيّد بما يحصل من هذا الكلام ، أو بوصف تعلّقه بالشرط المذكور ، مع أنّه لا يعقل تعليقه بعد أخذ تعليقه [ عليه ](٢) قيدا له ، وكذلك المعلّق على الوصف أو الغاية أو اللقب في قولنا : ( أكرم العالم ، أو أكرم إلى العيد ، أو أكرم زيدا ) هو طلب الإكرام المطلق بالنسبة إلى حصوله بالكلام الخاصّ ، أو تعلّقه بأمر خاصّ من تلك الأمور الثلاثة ، فيكون المعلّق في الجزاء أمرا قابلا لتحقّقه في غير مورد ما علّق عليه ، ولحصوله لغير الكلام الّذي علّق فيه على أمر من الأمور المذكورة حينئذ ، فيكون الحال فيه نظير الحال في الجمل الإخبارية ، وهذا الّذي ذكرناه لا يتوقّف على كون المستعمل فيه لهيئة الأمر عامّا ـ وهو ما

__________________

(١) في النسخة المستنسخة : فالمعلّق في مجيء زيد ..

(٢) في النسخة المستنسخة : تعليقه به ..

١٤٧

استظهر (١) كونه هو المعلّق والمجعول جزاء ـ بل يجري على تقدير كونه هي الأشخاص أيضا ، إذ على الثاني نقول : إنّ الاستعمال وإن وقع على شخص من أشخاص ذلك الأمر العام ، لكنّ الّذي تعلّق غرض الآمر بتعليقه على الشرط أو غيره إنّما هو نفس ذلك الأمر العامّ ، ولا منافاة ، فإنّ معنى استعمال الإنشاءات في معانيها ليس إلاّ إيجاد تلك المعاني بها ، لا الحكاية عنها بها كما في الإخبارات.

ومن المعلوم أنّ إيجاد الطبائع من حيث هي غير مقدور ، وإنّما المقدور إيجاد أشخاصها ، فاستعمال الإنشاءات في الأشخاص مع فرض تعلّق الغرض بنفس الطبيعة المشتركة بينها من جهة اللابدّيّة والضرورة ، لعدم إمكان استعمالها في نفس تلك الطبيعة ، فيكون استعمالها في الأشخاص حينئذ من باب المقدّمة لإيجاد تلك الطبيعة المقصودة بها ، وتلك الطبيعة حال ملاحظة تعليقها على الشرط ليست إلاّ هي ، وإنّما يعرضها الخصوصيّة بعد إيجادها في الخارج.

والحاصل : أنّ المعلّق على الشرط أو غيره إنّما هو الطبيعة بخصوصيّاتها اللاحقة لها مع قطع النّظر عن الاستعمال سواء كان طلبا أو غيره من مفاد الجمل الإخباريّة ، وأمّا الخصوصيّات اللاحقة لها بنفس الاستعمال فهي غير ملحوظة في مقام التعليق بوجه.

ثمّ إنّ المستشكل ـ (٢) قدّس سرّه ـ بعد ذكره الإشكال المذكور قال : ( وحلّه : أنّ الوجوب الملحوظ في المقام الّذي وضعت الصيغة لإفادته وإنشائه هو الوجوب المطلق المتعلّق بالمادّة المعيّنة ، لا خصوص ذلك الوجوب المخصوص الحاصل بالإنشاء المفروض ، كما هو قضيّة كلام القائل بكون الموضوع [ له ](٣)

__________________

(١) في النسخة المستنسخة : وهو ما استظهره ..

(٢) وهو الشيخ محمّد تقي الأصفهاني (ره) في هدايته : ٢٨١.

(٣) أثبتنا ما بين المعقوفين من المصدر ، ولم يرد في النسخة المستنسخة.

١٤٨

في وضع الهيئات المذكورة خاصّا ، إذ قد عرفت أنّ الأوفق بالتحقيق كون كلّ من الوضع والموضوع له فيها عامّا وإن كان الحاصل من استعمالها في معانيها أمرا خاصّا ، فكما أنّ مدلول المادّة أمر كلّيّ يتشخّص بفعل المأمور (١) ، ويكون الخصوصيّات الشخصيّة خارجة عن المكلّف به ، فكذلك مدلول الهيئة هو الإيجاب المطلق المتعلّق بالمادّة المفروضة المتشخّص بفعل الآمر من جهة استعمال اللفظ فيه وإيجاده به ، وخصوصيّاته الشخصيّة خارجة عن الموضوع له ، فإذا كان مدلول الصيغة مطلق الإيجاب المتعلّق بالمادّة كان الشرط المذكور في [ الكلام ](٢) قيدا لذلك المعنى ) (٣). انتهى موضع الحاجة من كلامه ـ قدّس سرّه ـ.

وفي كلامه موضعان للمناقشة ، بل ثلاثة :

أحدها قوله : ( وحلّه ) : فإنّه ـ قدّس سرّه ـ قد أورد الإشكال على تقدير كون الموضوع له للهيئات خاصّا مع كون المستعمل فيه الهيئة هو الخاصّ ، حيث إنّه جعله لازم ذلك القول ، وأجاب عنه بدعوى كون المستعمل فيه عامّا ، وجعل ذلك حلاّ له ، وأنت ترى أنّه لا يكون حلاّ له ، بل إنّما هو التزام حقيقة ، فإنّ حلّه إنّما يكون بدفعه على تقدير كون المستعمل فيه هو الخاصّ الّذي هو منشؤه ، لا بالخروج عن تقدير لزومه إلى تقدير آخر.

ثانيها : أنّ كون المستعمل فيه خاصّا مشترك اللزوم بين القول بكون الموضوع له للهيئات خاصّا والقول بكونه عامّا ، لاتّفاق الفريقين عليه ، فإنّ القائلين بالأوّل إنّما ذهبوا إليه حذرا من لزوم المجاز بلا حقيقة كما مرّت الإشارة إليه.

__________________

(١) في النسخة المستنسخة : بفعل المأمور به.

(٢) أثبتنا ما في المتن من المصدر ، أمّا في النسخة المستنسخة فورد : المذكور في المقام ..

(٣) هداية المسترشدين : ٢٨١.

١٤٩

وثالثها : أنّ الّذي ذكره ـ حجّة على دعوى كون المستعمل فيه الهيئة هو العامّ ـ الظاهر أنّه غير مثبت لها ، فإنّ مجرّد تعلّق الغرض بإيجاد الطلب المطلق [ غير ](١) المقيّد مع فرض كون الموجود شخصا لا يوجب كون الهيئة مستعملة في ذلك الطلب المطلق ، بل ليس هذا من استعمالها فيه في شيء ، بل هذا معنى استعمالها في الخصوصيّة ، إذ استعمال الإنشاءات في معانيها ليس إلاّ إيجادها بها.

ومن المعلوم أنّ الإيجاد الأوّلي بها إنّما هو متعلّق بالأشخاص ، ويكون إيجاد الطبائع معها من باب الملازمة ، فالذي استعملت فيه الهيئة هو الأشخاص وإن كان الغرض وجود ذلك الطلب المطلق ، فالذي حقّقه وجعله حجّة على دعواه منشأ لخلاف مدّعاه.

هذا مضافا إلى أنّا لو سلّمنا كونه استعمالا في العامّ فلا يخفى أنّه لا يقع استعمال الهيئات في الخاصّ أصلا ، فإنّ استعمالها في المحاورات لا يقع إلاّ على النحو المذكور ، مع أنّك قد عرفت اتّفاق الفريقين في تلك المسألة على انّها لا تستعمل إلاّ في الخاصّ.

ومن البديهيّ أنّهم لا يتّفقون على أمر غير واقع أصلا ، فيكشف ذلك عن أنّ مرادهم من الاستعمال في الخاصّ هو استعمالها على النحو المذكور ، فيكون نزاعه ـ قدّس سرّه ـ مع هؤلاء لفظيا.

ومن هنا ظهر : أنّ الّذي جعله حلاّ للإشكال حلّ له حقيقة ، موافق لما حقّقنا ، لعدم خروجه عن الفرض حقيقة ، وإنّما هو خروج عنه بمقتضى تسمية ذلك الاستعمال استعمالا في العامّ ، فافهم.

وإذا عرفت محلّ النزاع في المقام فاعلم : أنّهم اختلفوا فيه على قولين ، فالأكثر على اقتضاء أدوات الشرط لانتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط ، ونسب

__________________

(١) إضافة يقتضيها السياق.

١٥٠

إلى جماعة المنع.

ثمّ الأوّلون : منهم : من يقول بذلك وضعا من باب الاستلزام.

ومنهم : من يقول به وضعا من باب التضمّن.

ومنهم : من يقول به من باب الانصراف.

ومنهم : من يقول به من باب اقتضاء الإطلاق.

ومنهم من يقول به من جهة دليل الحكمة.

ومنهم من يقول به من جهة الأصل.

والحريّ أن نذكر جميع الطرق المنصوبة لإثبات المفهوم ممّا قيل ، أو يمكن أن يقال ، وتوضيح الحال فيها على نحو الاختصار (١) والإجمال ، ثمّ تحقيق الحقّ منها بعون الملك المتعال ، فنقول :

منها : ما نسب إلى بعض (٢) من وضع الأدوات لمجموع الأمرين : من تعليق وجود الجزاء على الشرط ، وانتفائه عند انتفائه ، فيكون دلالتها على الانتفاء عند الانتفاء تضمّنية.

ومنها : ما ادّعاه بعض (٣) من وضعها لمعنى يستلزم الانتفاء عند الانتفاء ، فيكون دلالتها على ما ذكر التزاميّة.

ومنها : ما اختاره بعض من متأخّري المتأخّرين (٤) من أنّ أدوات الشرط ظاهرة في تعليق الجزاء على الشرط على وجه التعيين ، نظرا إلى إطلاق التعليق ، بمعنى عدم ذكر بدل للشرط المذكور في القضية الشرطيّة يقوم مقامه عند انتفائه ،

__________________

(١) في النسخة المستنسخة : ( الاقتصار ). ، والظاهر أنه تصحيف.

(٢ و ٣) الفصول : ١٤٧.

(٤) ( وهو الشيخ محمّد تقي ـ قدّس سرّه ـ ) على ما جاء في هامش النسخة. راجع هداية المسترشدين : ٢٨٢ و ٢٨٤ و ٢٨٦ و ٢٨٧ و ٢٨٨ و ٢٨٩ و ٢٩٠.

١٥١

كما أنّ قول : ( هذا واجب ) ظاهر في التعييني (١) لذلك ، أي لأجل عدم ذكر بدل له ، كما هو شأن الواجبات التخييريّة.

وتوضيحه : أنّ أدوات الشرط بحسب وضعها اللغويّ لمطلق التعليق الأعمّ من التعييني الشامل له على وجه البدليّة ، بحيث لو استعملت فيه على وجه البدلية ـ كأن يقال ـ مثلا ـ : ( إن جاءك زيد أو أضافك فأكرمه ) ـ لا ينافي ذلك وضعها ، لكن إذا اقتصر في اللفظ على ذكر شرط وأحد ولم يذكر معه غيره ، فهي بملاحظة ذلك ظاهرة في التعليق التعييني ، وكون المعلّق عليه هو المذكور في القضيّة لا غير.

والسرّ في إيجاب ذلك : ظهورها فيما ذكر فإنّ إيراد الكلام على ذلك الوجه إنّما هو منطبق على كون المذكور في القضيّة معلّقا عليه على وجه التعيين ، بمعنى ان الكلام على ذلك الوجه إنّما هو قالب لهذا المعنى ، بحيث لو أريد إفادة التعليق على وجه التخيير والبدلية لا بدّ من إيراده على وجه آخر بأن يذكر فيه البدل ، ولا يجوز للمتكلّم الاكتفاء به على الوجه المذكور ، وهذا للظهورات الحاليّة الغير المتوقّفة على إحراز كون المتكلّم في مقام البيان ، كما هو الحال في المطلقات ، فتدبّر.

هذا هو السرّ في ظهور الوجوب ، وكذا ظهور الهيئة الدالّة عليه في التعييني عند عدم ذكر متعلّق آخر (٢) ، مع وضعها للأعمّ منه ، بحيث لو استعملها [ في ] التخييري لما كان مجازا جدّاً ، فإذا كانت الأدوات الشرطيّة ظاهرة

__________________

(١) في النسخة المستنسخة : ( في العيني ). ، وهو من اشتباه الناسخ ظاهرا.

(٢) وهذا هو السرّ أيضا في ظهور العقود والإيقاعات أيضا في تعيين المذكور في متعلّقاتهما فإنّ قولك : ـ بعت الفرس ، أو آجرته ، أو صالحته ـ ظاهر في كون المبيع أو متعلّق الإجارة أو الصلح هو خصوص الفرس ، وكونه تمام المبيع لا جزءه ، وكذا الحال في الإيقاعات. منه طاب ثراه.

١٥٢

في التعليق التعييني ، فيدلّ على الانتفاء عند الانتفاء التزاما ، فإنّ لازم كون المذكور في القضيّة شرطا على التعيين انتفاء ما علّق عليه عند انتفائه.

هذا خلاصة الكلام في توضيح مرامه ـ قدّس سرّه ـ وهو مبنيّ على ثبوت وضع الأدوات للتعليق ومعه يتّجه ما ذكره ـ قدّس سرّه ـ.

ومنها : ما اختاره أخوه (١) ـ قدّس سرّه ـ وحاصله : أنّ أدوات الشرط ظاهرة بمقتضى وضعها اللغوي في لزوم الجزاء للشرط ، فإنّ قولنا : ( إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود ) ـ مثلا ـ يفيد ـ وضعا ـ كون النهار لازما لطلوع الشمس ، واللزوم عند الإطلاق ظاهر في اللزوم المسبّبي ، أي كون اللازم هو المسبّب ، فإنّ له مزيد اختصاص به ، نظرا إلى أنّ المسبّب لا يمكن انفكاكه عن السبب بأن وجد السبب بدونه ، بل هو لازم له على الإطلاق دون العكس ، لإمكان وجود المسبّب بسبب آخر غير ذلك السبب ، فوجوده غير ملازم لوجود سبب خاصّ ، فلا يكون السبب لازما له على الإطلاق ، فمطلقه ينصرف إليه ، فبذلك ثبت كون الجزاء مسبّبا وكون الشرط سببا ، وإذا ثبت أنّ الشرط سبب فظاهر السببية عند الإطلاق هو سببيّته العينيّة المنحصرة بتقريب ما مرّ في ظهور التعليق في التعييني ، فإذا ثبت كون الشرط سببا منحصرا ، فلازمه انتفاء الجزاء عند انتفائه فثبت المطلوب.

ومنها : ما ذكره ـ دام ظلّه ـ من أنّ أدوات الشرط ظاهرة بمقتضى الوضع في التلازم بين الشرط والجزاء ، فهي بظهورها الوضعي تنفي المقارنات الاتّفاقية ، لعدم اللزوم بينها بوجه ، ولمّا كانت ظاهرة في لزوم الجزاء للشرط بمقتضى الوضع فهي بمقتضى إطلاق ما يفيده من لزوم الجزاء للشرط تنفي كونهما معلولين لثالث ،

__________________

(١) وهو صاحب الفصول راجع الكتاب : ١٤٨ و ١٤٩.

١٥٣

أو كون الشرط مسبّبا فإنّ معنى إطلاق لزومه له لزومه له عند وجوده سواء وجد معه ـ أي مع الشرط ـ شيء آخر في العالم أو لم يوجد ، ومن المعلوم أنّهما لو كانا مشتركين في العلّة أو كان الجزاء سببا للشرط لم يصدق هذه القضية ، أعني أنّه لازم للشّرط المذكور في القضية الشرطية على الإطلاق ، سواء وجد معه شيء آخر في العالم أو لم يوجد ، بل تكون كاذبة فيلزم تقييدها الّذي هو مخالف للأصل ، ولا يصار إليه إلاّ لدليل ، وذلك لأنّ كلّ أمرين متلازمين مشتركين في العلّة لو فرض محالا وجود أحدهما فلا يكون الآخر لازما له ، بل إنّما يكون ذلك إذا وجد لوجود علّته المشتركة بينه وبين ذلك الآخر ، ضرورة عدم الارتباط بين نفس المعلولين لثالث ، بل إنّما هو من جهة أنّ وجود كلّ منهما لازم لوجود علّته التي هي علّة الآخر أيضا ، ومن المعلوم أيضا أنّ المسبّب وإن كان لازما للسبب عند وجوده على الإطلاق سواء وجد مع السبب شيء آخر في العالم أولا ، لكن لا عكس كليّا لعدم استلزام مجرّد وجود المسبّب له ، بل لا بدّ في وجوده من وجود علة ، فلا يصدق أنّه لازم للمسبّب ولو لم يوجد شيء غيره في العالم ، فتعيّن أن يكون الشرط سببا والجزاء مسبّبا ، لأنّه هو الّذي لازم للشرط على الإطلاق ، فإذا ظهر أنّ الشرط سبب فظاهر السببيّة بمقتضى إطلاقها ـ بمعنى عدم ذكر بدل للمذكور في القضية ـ هو السببيّة المنحصرة بالتقريب المتقدّم ، ولازمها الانتفاء عند الانتفاء ، فثبت المطلوب ، فهنا إطلاقان :

أحدهما : إطلاق لزوم الجزاء للشرط يثبت به سببيّة الشرط للجزاء.

وثانيهما : إطلاق سببيّة الشرط يثبت به انحصار السبب فيه المستلزم للانتفاء عند الانتفاء ، فافهم.

ومنها : دليل الحكمة : الّذي يستدلّ به في مفهوم الوصف أيضا ، وتقريره :

أنّ تعليق الحكم على شيء من شرط أو وصف لا بدّ أن يكون لفائدة من

١٥٤

الفوائد وإلاّ لغا (١) ، وأظهر فوائده هو التنبيه على انتفاء الحكم عند انتفاء ما علّق عليه.

ومنها الأصل : ذكره بعض المتأخّرين تأييدا.

والّذي يمكن أن يوجّه به أن يقال : إنّ أدوات الشرط تفيد سببيّة الشرط المذكور في القضيّة للجزاء ـ إمّا وضعا ، أو من باب الانصراف ، أو الإطلاق ـ بالتقريبات المتقدّمة ، ومعنى السبب هو المؤثّر في المسبّب ، ولازم تأثيره في المسبّب كون المسبّب محتاجا إليه في الجملة ، إذ لو لم يكن محتاجا إليه في حال ، فلا بدّ أن يكون موجودا بدون شيء من الأسباب وقبل وجوده ، ولازم ذلك كون الشيء المفروض سببيّته له مؤثّرا فيه مع تحقّقه ووجوده ، وهو محال.

وبعبارة أخرى : أنّ سبب شيء إنّما هو المؤثّر في وجوده ، فلو فرض عدم احتياج ذلك الشيء إلى مؤثّر في وجوده لزم أن يكون موجودا قبل وجود المؤثّر فيه ، فيلزم أن يكون المؤثّر فيه مؤثّرا فيه على تقدير وجوده ، وهو محال ، لامتناع إيجاد الموجود ، فإذا ثبت احتياجه إلى سبب في الجملة يلزمه احتياجه إلى السبب مطلقا ، بمعنى أنّه لا يوجد بغير سبب ، بل لا بدّ له من سبب ولو غير ما ذكر في القضيّة الشرطيّة ، ولازم ذلك انتفاؤه بانتفاء جميع ما يكون سببا له في الواقع ، فإذا فرض انتفاء السبب ـ المفروض في القضيّة هو الشرط المذكور فيها ـ وشككنا في قيام سبب آخر مقامه ، يجري (٢) في نفيه الأصل ، فإذا أحرز عدمه به يثبت (٣)

__________________

(١) في النسخة المستنسخة : ( لغي ) ، ويحتمل لغي يلغى بمعنى أخطأ ، ولكن الأنسب ما أثبتناه ، لغا يلغو بمعنى بطل.

(٢) في النسخة المستنسخة : فيجري ..

(٣) في النسخة المستنسخة : فيثبت ..

١٥٥

عدم الجزاء حينئذ ، فإنّه لازم لانتفاء جميع الأسباب كما ذكر ، وقد أحرزنا انتفاء بعضها بالفرض وانتفاء البواقي بالأصل.

فإذا عرفت ذلك كلّه فاعلم : أنّ الحقّ ثبوت المفهوم لأداة الشرط ، لتبادره منها عرفا ، وهو الحجّة في أمثال المقام. نعم كونه من جهة الوضع ومن باب الالتزام أو من جهة أخرى غير الوضع محلّ نظر.

أمّا كونه من جهة وضعها له على وجه التضمّن فينبغي القطع بعدمه ، فإنّ لازمه دلالة الأدوات على الانتفاء عند الانتفاء في تحت اللفظ (١) ، فإنّ المعنى المطابقي إنّما يفهم منه كذلك ، فإذا كان مركّبا لا بدّ أن يكون جميع اجزائه مفهوما منه كذلك ، ومن المعلوم أنّ المتبادر عرفا خلافه.

هذا مضافا إلى أنّ إثبات ذلك ليس إثباتا للمفهوم المصطلح المتنازع فيه ، بل إنّما هو إثبات للدلالة على الانتفاء عند الانتفاء من جهة المنطوق ، فإنّ الدلالة التضمّنية من المناطيق ، فأخذ المدّعي إثبات المفهوم المتنازع فيه مع إثبات ما هو مباين له كما ترى.

وبالجملة : فأطراف التردّد منحصرة في اثنين :

أحدهما : كون ذلك التبادر من جهة وضع الأدوات لمعنى يستلزم الانتفاء عند الانتفاء.

وثانيهما : كونه من غير هذه الجهة من الجهات المتقدّمة ، بأن يكون إحدى تلك الجهات قرينة عامّة موجبة لظهورها في معنى يستلزم الانتفاء عند الانتفاء ، فإنّ المتبادر منها هو الانتفاء عند الانتفاء في غير محلّ النطق ، وهو ينافي كونه من باب التضمّن.

ثمّ الّذي يقتضيه النّظر والتأمّل في استعمال الأدوات في العرف في تعليق

__________________

(١) أي أنّ هذه الدلالة من نفس جملة الشرط ولفظها.

١٥٦

الجزاء على أمور كثيرا كثيرة غاية الكثرة على نحو الاستقلال ـ أي استقلال كلّ منهما في السببيّة ـ عدم وضعها لما يستلزم الانتفاء عند الانتفاء ، إذ من المعلوم أنّه إذا علّق الجزاء على أمور متعدّدة على وجه البدليّة لا يستلزم انتفاء واحد منها انتفاء الحكم المعلّق عليه ، وقضيّة وضعها له لا يستلزم مجازية استعمال الأدوات في أمثال تلك المقامات ، والحكم بها فيها مع كونها في غاية الكثرة دونه خرط القتاد.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ أدوات الشرط إنّما تقتضي انتفاء الجزاء بانتفاء ما علّق عليه ، فإن كان هو متّحدا فيقتضي انتفائه بانتفائه ، أو متعدّدا ـ بأن يجعل الشرط أمورا على نحو البدليّة ـ فيقتضيه بانتفاء الجميع ، إذ المعلّق عليه حينئذ إنّما هو أحد هذه الأمور لا على وجه التعيين ، وهو لا ينتفي إلاّ بانتفاء تلك الأمور جميعا.

لكن يشكل الأمر حينئذ بالنظر إلى استعمالها في العرف والشرع فيما لم يرد فيه انتفاء الحكم بانتفاء ما علّق عليه كقوله : إن بلت فتوضّأ ، وإن نمت فتوضّأ ، وأمثال ذلك ممّا يكون للجزاء أسباب متعدّدة في الواقع ، مع أنّه اقتصر في الموارد الخاصّة على ذكر واحد منها ، وعلّق الجزاء عليه ، فإنّ استعمالها على هذا الوجه أيضا بمثابة من الكثرة لا يمكن الالتزام بمجازيّته.

فإن قلت : إذا علمنا من الخارج أنّ للجزاء أسبابا متعدّدة ، فيستكشف أنّ المعلّق عليه إنّما هو كلّ واحد منها على وجه البدلية ، فيرجع الحال فيها إلى ما تقدّم.

قلنا : إنّ التعليق ليس له واقع مشكوك حتّى يستكشف أنّه وقع ممّا لم يعلم واقعه ، بل يتحقّق بمجرّد ذكر الجزاء بعد شيء وجعله جزاء له في اللفظ ، فالتعليق حقيقة في تلك الموارد وقع على خصوص الأمر المخصوص المذكور في المورد الخاصّ.

نعم التعليق قد يلاحظ بالنسبة إلى الإرادة ، فيمكن فيه الشك ، وأمّا

١٥٧

بالنسبة إلى اللفظ فلا ، وكلامنا فيه ، وهو لم يقع إلاّ على خصوص المذكور في القضيّة الشرطيّة ، لا على ما أريد تعليق الجزاء عليه في عالم الإرادة ، فورود دليل على تعليقه على أمر آخر غير ما ذكر فيها لا يوجب رجوعه إلى ما تقدّم ، فإنّه كاشف عن تعليقه عليه ـ أيضا ـ في عالم الإرادة ، وليس محقّقا للتعليق اللفظي (١).

وبالجملة : الحكم بأنّ ظهور تلك الأدوات في الانتفاء عند الانتفاء من باب الوضع مشكل غاية الإشكال ، إلاّ أنّ إثباته لا يهمّنا ، إذ لا ثمرة بينه وبين كونه من جهة أخرى من القرائن العامّة ، إذ كما أنّ مقتضى الوضع الحمل على المعنى الحقيقيّ عند عدم قرينة على الخلاف ، فكذلك مقتضى القرائن العامّة الحمل على ما تفيده عند عدم قرينة على الخلاف ، بحيث لو كان خلافه معنى حقيقيّا لا يصار معها إليه إلاّ لقرينة وإن كان استعمال اللفظ فيه حينئذ قرينة ، إذ القرينة شرط التفهيم.

وكيف كان ، فالمتبادر من أدوات الشرط عرفا هو انتفاء الجزاء بانتفاء الشرط المذكور في القضيّة ـ إن كان واحدا فبانتفائه ، أو متعدّدا فبانتفاء الجميع ـ وهو الحجّة ، ومجرّد ثبوت ذلك يفيد ما هو الغرض من الوضع أيضا ، فلا داعي إلى تفتيش الحال فيه ، كما أنّه لا يوجب تفتيش أنّ ذلك على فرض عدم استناده إلى الوضع مستند إلى أيّ الطرق المتقدّمة ، لكن لا بأس بالتعرّض لذلك ، وتشخيص صحيح تلك الطرق من فاسدها ، فنقول :

__________________

(١) وبعبارة أخرى : إنّ المدّعى أنّ أدوات الشرط ظاهرة في تعليق الجزاء على خصوص ما ذكر من الشرط في القضيّة الشرطيّة وهو ينافي تعليقه على الأعمّ منه ، فلو كان ذلك من باب الوضع فيستلزم المجازيّة فيما إذا ورد دليل على تعليقه على أمر آخر أيضا لم يذكر هو في القضيّة الشرطيّة ، لكنّه لا ينافي جعل الشرط المذكور فيها أمورا متعدّدة ، فافهم. منه طاب ثراه ، وجعل الجنّة مثواه.

١٥٨

الكلام يقع فيها من جهتين :

إحداهما : أنّها على فرض تسليم صحّتها (١) هل تفيد المطلوب ـ وهو ثبوت المفهوم للأدوات ـ أو لا؟

وثانيهما : أنّه ـ مع الإغماض عن الجهة الأولى ـ هل تصحّ هي في أنفسها ، أو لا؟ فلنقدّم الكلام في الجهة الأولى وإن كان النظم الطبيعي يقتضي العكس.

فاعلم أنّ الصحيح من تلك الطرق الّذي يفيد المطلوب ـ على تقدير تمامية مبنى (٢) أولاها ـ ثالث الطرق السبعة المتقدّمة لإثبات المفهوم الّذي حكيناه عن بعض المحقّقين من متأخّري المتأخّرين (٣) ، إذ بعد ثبوت وضع الأدوات لمطلق إرادة تعليق الجزاء على خصوص الشرط المذكور في القضية الشرطية بالتقريب المتقدّم ، ومن المعلوم أنّ لازم ذلك بيّنا انتفاء ما علّق على الشرط بانتفائه ، ومن المعلوم أنّ لوازم الماهيّة (٤) لمعنى مراد من لفظ تكون (٥) مرادة من ذلك اللفظ أيضا ومقصودة منه ، ويكون هو دالاّ عليها بالالتزام ، فيكون الأدوات دالّة على الانتفاء عند الانتفاء بالاستلزام (٦) الّذي هو من الدلالات المقصودة ، وهو المطلوب ، إذ ليس المطلوب إلاّ إثبات دلالتها على ما ذكر على نحو الالتزام البيّن.

والظاهر أنّ مراد من ذهب إلى وضع الأدوات لمعنى يستلزم الانتفاء عند الانتفاء أنّها موضوعة لتعليق الجزاء على خصوص الشرط المذكور في القضيّة ،

__________________

(١) هذه الكلمة غير واضحة في النسخة المستنسخة ، وقد أثبتناها استظهارا.

(٢) في النسخة : مباينة. والظاهر ما أثبتناه في المتن.

(٣) في النسخة : مباينة. والظاهر ما أثبتناه في المتن.

(٤) في النسخة المستنسخة : اللوازم الماهيّة ..

(٥) في النسخة المستنسخة : أن يكون ..

(٦) في النسخة المستنسخة : لا بالاستلزام ..

١٥٩

فإنّ هذا هو الّذي يستلزم ذلك ، مع احتمال أن يكون مراده وضعها للسببيّة المنحصرة ، بزعم أنّها أيضا مستلزمة له ، كما زعمه جماعة وهم أصحاب الطرق المتأخّرة عن الطريق المذكور غير ما قبل الأخير منها ، لما عرفت من أنّهم فرّعوا الانتفاء عند الانتفاء على ما أثبتوا من انحصار السبب في الشرط المذكور في القضيّة وإن كان وقع الاختلاف بينهم على طريق إثبات السببيّة المنحصرة ، لكن ستعرف أنّها غير مستلزمة له.

وبالجملة : معنى تعليق شيء على شيء خاصّ معناه أنّه محتاج في تحقّقه إلى ذلك الشيء الخاصّ في جميع الموارد ، ولازمه بيّنا انتفاؤه بدونه.

لا يقال : إنّ البناء على هذا وإن كان مبيّنا للمفهوم ، لكنّه يجري [ في ] المنطوق (١) ، فإنّ المعنى الملزوم للانتفاء عند الانتفاء إنّما هو المنطوق ، فإذا جعلتموه عبارة عن التعليق ، فأين دلالة الأدوات على سببية الشرط للجزاء التي يعرّفون بها ، إذ مجرّد تعليق شيء على خصوص شيء ليس عين جعل ذلك الشيء سببا تامّا لوجوده ، أو مستلزما له ، إذ غاية ما يفيده أن لذلك الشيء مدخليّة في وجوده ، وأمّا أنّه سبب تامّ له إذا وجد فكلاّ.

لأنا نقول : ليس الغرض دعوى إفادة الأدوات لمجرّد تعليق الجزاء على خصوص الشرط المذكور في القضيّة ، بل المراد منها ما يفيد ذلك مع سببيّة الشرط للجزاء ، وإنّما تعرّضنا لذلك وحده لكونه هي الجهة الملزومة للانتفاء عند الانتفاء ، وعليه يحمل كلام المحقّق المشار إليه أيضا.

فإن قيل : إنّ تعليق (٢) شيء على شيء معناه انتفاؤه بدون ذلك الشيء ،

__________________

(١) في النسخة المستنسخة : ( يجري للمنطوق ). ، ويحتمل أنها في نسخة الأصل : ( يجزّي المنطوق ). ، فتأمّل.

(٢) في النسخة المستنسخة : تحقق ..

١٦٠