تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٣

المولى علي الروزدري

تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٣

المؤلف:

المولى علي الروزدري


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-54-X
ISBN الدورة:

الصفحات: ٣٨٢

المحكيّ عنهما قد أنكرا تلك الملازمة ، محتجّين بأنّ الفساد عبارة عن سلب الأحكام ، ولا ملازمة بينه وبين النهي ، وهذا منهما بزعم أنّ الفساد في العبادات من الأحكام الوضعيّة كما في المعاملات وقد عرفت ما فيه آنفا.

وكيف كان ، فلمّا كانت النواهي اللفظيّة المتعلّقة بالعبادات ظاهرة في مبغوضية ذوات متعلّقاتها فلازمها الفساد.

نعم لما كان الملزوم قد ثبت بمقتضى تلك الظواهر الظنيّة يكون (١) الفساد ظنّيا ، لا قطعيّا ، إلاّ أنّه قائم مقامه بمقتضى أدلّة اعتبار تلك الظواهر.

وأمّا النواهي الثابتة بالإجماع ونحوه من الأدلّة اللبيّة المجملة ، فلا ملازمة بينها وبين الفساد ، لتطرّق الاحتمال المتقدّم فيها الّذي لا يلازم الفساد ، وفي الحقيقة هذه خارجة عن محلّ النزاع في المقام ، لما قد عرفت من أنّ النزاع في النهي بالقول ، فيختصّ بالقسم الثاني ، فيكون ما اخترناه قولا باقتضاء النهي للفساد عقلا مطلقا في العبادات في محلّ النزاع لا تفصيلا ، هذا خلاصة الكلام في العبادات.

وأمّا المعاملات ، فالنهي المتعلّق بها إمّا بأن يكون متعلّقا بها بعنوان كونها فعلا من الأفعال ، بحيث يكون عناوينها الخاصّة ملغاة في النهي وغير منظور إليها بوجه ، وإمّا أن يكون متعلّقا بها بعناوينها الخاصّة ، بحيث لا يحرم الإتيان بها مطلقا ، بل إنّما يحرم إيجادها بعناوينها الخاصّة ، كإيجاد الإيجاب والقبول بعنوان كونهما بيعا أو صلحا أو إجارة وهكذا ، وإيجاد لفظ الطلاق ـ مثلا ـ بعنوان كونه طلاقا.

وهذا يتصوّر على وجوه ، فإنّ النهي عن تلك العناوين الخاصّة إمّا لأجل

__________________

(١) في الأصل : فيكون ..

١٠١

مبغوضيّة نفسها بحيث لا بغض لمسبّباتها ، وهي الآثار المقصودة منها ، ولا لترتيب (١) تلك المسبّبات عليها ، وإما لأجل مبغوضية ذوات تلك المسببات مع عدم مبغوضيّة الأسباب ، وترتيب المسبّبات عليها ، وإن كان تصوّر مبغوضية ذوات المسبّبات من دون مبغوضيّة ترتيبها على الأسباب دونه خرط القتاد ، بل الظاهر استلزام الأوّل للثاني ، كما لا يخفى على المتأمّل ، وأمّا لأجل مبغوضيّة ترتيب تلك المسبّبات مع عدم البغض لغيره من ذوات الأسباب أو المسبّبات.

والنهي على الوجه الأوّل وأوّل الوجوه الثلاثة في الوجه الثاني نفسيّ ، وعلى الأخيرين من الثلاثة يتصوّر على وجوه :

أحدها : أن يكون نفسيّا ، وهذا يتصوّر بوجهين :

الأوّل : أن يتصرّف في المادّة المعروضة لهيئة النهي بإرادة المسبّب منها مجازا ، بأن يراد من البيع ـ في قوله : لا تبع ـ تبادل المبيع (٢) وترتيب آثار الملكية عليه.

الثاني : أن يقال : إنّ البيع ـ مثلا ـ حقيقة عرفا في التمليك العرفي ، وهو عبارة عن ترتيب آثار الملكية على العوضين.

وثانيها : أن يكون غيريّا بإرادة نفس السبب وهو العقد من مادّة النهي ، فيستكشف منه نهي آخر نفسيّ متعلّق بالمسبّبات أو ترتيبها على السبب ، ويكون هذا من باب الكناية ، إذ الغرض منه حينئذ الانتقال إلى ذلك النهي النفسيّ.

وثالثها : أن يكون عرضيّا بأن يؤخذ (٣) متعلّقه السبب المقيّد بترتيب الآثار عليه إذا كان المبغوض حقيقة هو ترتيب الآثار أو المجموع من السبب والمسبّب إذا كان المبغوض ذات المسبّب ، أو حرمة ترتيبه على السبب.

__________________

(١) في النسخة المستنسخة : لا يقتضي بمسبّباتها ... ولا يترتب. والصحيح ما أثبتناه.

(٢) في النسخة المستنسخة : ... لا بيع تبادل عن المبيع ..

(٣) كذا ولعله من سهو من القلم في كتابة يؤخذ بدل يوجد.

١٠٢

رابعها : أن يكون غيريّا إرشاديّا ، لا شرعيّا ، ويكون هذا ـ أيضا ـ من باب الكناية ، إذ الغرض منه التنبيه على حرمة شيء آخر بالحرمة النفسيّة الشرعيّة.

والحاصل : أنّه إذا فرض أنّ منشأ النهي عن السبب إنّما هو مبغوضيّة مسبّبه [ أو ] ترتيب ذلك المسبّب عليه ، يكون (١) الحرام النفسيّ الشرعيّ حقيقة هو ذلك المسبّب أو ترتيبه على السبب ، فأوجب (٢) ذلك النهي ـ المتعلّق بالسبب ظاهرا ـ [ نهيا ] نفسيّا ، فهما منهيّ عنهما بنهي آخر غير ذلك النهي قد كشف الشارع عنه بذلك النهي ، والمراد بالمسبّب (٣) إنّما هو ما كان من فعل المكلّف من تناول أخذ العوضين في العقود وترتيب آثار الملك عليه بالمعنى الأخصّ التي [ هي ] بمعنى العلقة الحاصلة بين أحد المتبايعين وأحد العوضين ، أو من الأحكام الوضعيّة على اختلاف القولين فيها ، وعلى التقديرين لا يصحّ إيراد النهي عليها :

أمّا على كونها من أحكام الوضع فلأنّه من فعل الشارع ، ولا يعقل إيراد النهي على فعله.

وأمّا على القول الآخر فلأنّها من الأوصاف المقابلة للأفعال ، وموضوع التكليف لا بدّ أن يكون من فعل المكلّف بلا واسطة أو معها.

نعم هي ملازمة شرعا لذلك المسبّب نفيا وإثباتا ، فإذا أثّر العقد فيه أثّر فيها ، وإذا لم يؤثّر فيه لم يؤثّر فيها أيضا ، والغرض الأصلي من المعاملات إنّما هو ترتيب تلك المسبّبات بالمعنى الّذي عرفت ، فالصحيح منها ما يجوز ترتيبها عليه ، والفاسدة ما لا يجوز فيها ذلك.

__________________

(١) في النسخة المستنسخة : فيكون.

(٢) في النسخة المستنسخة : فأوجد ، والصحيح ما أثبتناه.

(٣) في النسخة المستنسخة : بالسبب ..

١٠٣

ثمّ الظاهر من النواهي المتعلّقة بالعناوين (١) الخاصّة من المعاملات ـ كالبيع والصلح والطلاق والعتق والظهار وأمثالها ـ إنّما هو حرمة تلك العناوين بما هي تلك العناوين ، لا بعنوان كونها فعلا ، فإنّ أسبابها ـ التي هي معروضة لهيئة أخرى ـ ظاهرة في ذلك جدّاً.

ثمّ الظاهر منها ابتداء إنّما هو حرمة تلك العناوين لذاتها ، لأنّ النهي عن كلّ شيء ظاهر في مبغوضيّة ذات ذلك الشيء دون شيء آخر يرتبط [ به ](٢).

إلاّ أنّ الّذي يقتضيه النّظر في النواهي الشرعيّة المتعلّقة بتلك العناوين إنّما هو ظهورها في حرمة تلك العناوين لترتيب مسبّباتها عليها ، فموضوع الحرمة هو إيجاد تلك العناوين لترتيب تلك المسبّبات عليها ، ومنشأ المعهوديّة إنّما هو أنّ أهل العرف والعادة يقصدون بفعل تلك العناوين دائما أو غالبا ترتيب تلك الآثار عليها والتوصّل بها إليه ، وغرضهم الأهمّ من فعلها إنّما هو هذا لا غير ، فهذا صار موجبا لمعهودية ما ذكر من بين وجوه وقوع تلك العناوين في الخارج ، فيحمل عليه النواهي الشرعيّة ، ولمّا كان الغالب في تلك النّواهي أنّ علّة النهي إنّما هي مبغوضية ترتيب تلك الآثار ـ دون مبغوضيّة ذوات الأسباب ، بل لم نجد منها ما كان على غير هذا الوجه ـ يكون (٣) تلك النواهي عرفية كاشفة عن ترتيب (٤) تلك الآثار شرعا ونفسا أيضا.

ثمّ إنّها لمّا كانت في مقام إمضاء المعاملات العرفيّة المتعارفة بينهم وردّها ـ من غير سبق ردّ أو إمضاء من الشارع فيها ـ تكون (٥) مقتضية لفساد متعلّقاتها ،

__________________

(١) في النسخة المستنسخة : المتعلّقة على العناوين ..

(٢) في النسخة المستنسخة : يرتبط إليه ..

(٣) في النسخة المستنسخة : فيكون ..

(٤) كذا في النسخة المستنسخة ، والصحيح : كاشفة عن مبغوضية ترتيب ..

(٥) في النسخة المستنسخة : فيكون.

١٠٤

ضرورة أنّ الصحّة فيها إنّما تتحقّق بإمضاء الشارع ، فإذا فرض عدمه ـ بل ردّه ـ لا يعقل (١) معه الصحّة ، فإنّ تلك النواهي المتعلّقة بترتيب تلك الآثار عين رفع تلك الآثار وسلبها ، وهل هذا إلاّ الفساد؟!

والحاصل : أنّه بعد إحراز تعلّق النهي بترتيب تلك الآثار مع عدم سبق إمضاء من الشارع لها ، فيكون هذا ملازما للفساد ، بل عينه ـ كما عرفت ـ ولا يتوقّف اقتضاء النهي للفساد حينئذ على كون المبغوض هو نفس الآثار أو ترتيبها ، بل إذا كان متعلّقا بترتيب تلك الآثار مطلقا ـ أصالة أو تبعا ـ فهو موجب لرفع تلك الآثار ، بل عينه ، ومعه لا يعقل الصحّة.

نعم كون المبغوض غير ذوات تلك الأسباب إنّما يوجب كون النهي المتعلّق بها مقيّدا بترتيب الآثار أو منضمّا إلى نفس تلك الآثار عرضيّا ، فإنّ حرمة المركّب مطلقا ـ عقليّا كان كما هو الحال في صورة التقييد ، أو خارجيّا كما هو الحال في صورة الضمّ ـ عرضيّة إذا كان المبغوض حقيقة هو التقيّد أو الجزء الخارجي.

والحاصل : أنّه بعد إحراز مقدّمتين ـ وهما تعلّق النهي بترتيب الآثار ولو في ضمن مركّب عقلي أو خارجي ، وكون تلك النواهي في مقام الردّ أو الإمضاء ـ فلا بدّ من الفساد.

مع أنّا قد استظهرنا أنّ الحرام حقيقة إنّما هو ترتيب الآثار دون غيره ـ كما عرفت ـ فيكون هو جزء بالاستقلال وإن كان ظاهر الخطاب مع قطع النّظر عن الخارج حرمة المقيّد به ، وهو إيجاد السبب لترتيب تلك الآثار عليه والتوصّل به إليها.

وبالجملة : لازم المقدّمتين المذكورتين عقلا إنّما هو الفساد ، فما يرى في

__________________

(١) في النسخة المستنسخة : فلا يعقل ..

١٠٥

بعض الموارد من ثبوت الصحّة مع النهي ، كما في الظهار ، حيث إنّه منهيّ عنه وان كان قد ثبت العفو عنه ، مع أنّه إذا وقع يترتّب عليه أثره وهو حرمة الوطء ما دام لم يكفّر ، فلا بدّ من التزام انتفاء إحدى المقدّمتين فيه بقرينة قيام الإجماع على صحّته ، فنلتزم في مثل الظهار : إمّا بأنّ الحرام إنّما هو إيجاد نفس السبب دون ترتيب سببه ، وإمّا بسبق إمضاء من الشارع فيه.

أقول : بعد ما ثبت حرمة ترتيب الأثر على السبب فهي بنفسها كافية في تحقّق العبادة وملازمة له (١) عقلا من حينها إلى [ ما ] بعدها إلى أن ورد من الشارع إمضاء له فيما بعد ، لما عرفت من أنّها إمّا ملازمة لسلب (٢) أحكام المسبّب ، أو عينه ، وعلى التقديرين يلزمها الفساد من حينها إلى ما بعدها إلى الغاية المذكورة ، إذ الفساد في المعاملات ليس إلاّ سلب أحكام المسبّب ، فلا دخل لورود النهي في مقام الردّ والإمضاء الغير المسبوقين بردّ أو إمضاء آخرين بوجه ، فإن كان المورد ممّا لم يصل فيه قبل النهي إمضاء له فهو فاسد أزلا وأبدا ، أو ممّا وصل فيه قبله فمن حينه ، ويكون النهي حينئذ إبطالا للإمضاء السابق وفسخا له من حينه ، فالنهي عن الطهارة وإن كان مساقه مساق سائر النواهي من حيث ظهوره في حرمة ترتيب الأثر ، وهو فيه ترك الوطء ، ولازمها الفساد ، إلاّ أنّه بعد قيام الإجماع على صحّته لا بدّ من صرفه إلى أنّ الحرام إنّما هو إيجاد نفس السبب.

نعم ذلك الأثر وترتيبه ظاهر [ في ] مبغوضيّتها (٣) ذاتا ، لكنّا قد استكشفنا من الإجماع على الصحّة أنّ حكمة دعت إلى إمضاء الشارع للظهار والرضا بترتيب ذلك الأثر المبغوض ذاتا ، كما وقع نظيره في مواضع كثيرة من الموارد

__________________

(١) في النسخة المستنسخة : وملازمة معه ..

(٢) في النسخة المستنسخة : ملازمة مع سلب ..

(٣) في النسخة المستنسخة : الظاهر مبغوضيّتها ..

١٠٦

الشرعية.

هذا ، ثمّ إنّ الّذي ذكرنا لا يفرّق فيه بين العقود والإيقاعات وبين سائر الأمور المعاملية ، كغسل الثوب لأجل تحصيل الطهارة وأمثاله من الأمور المقصود منها أثر شرعي ، كما لا يخفى على المتأمّل ، فإنّ صحّتها أيضا إنّما هو بحكم الشارع بترتيب تلك الآثار المقصودة عليها ، ومع نهيه عن ترتيبها لا يعقل جواز ترتيب تلك الآثار [ عليها ](١) ، فافهم.

ثمّ إنّك قد عرفت أنّ الفساد إنّما هو لازم تعلّق النهي بترتيب الآثار مستقلا فيكون هو خارجا عن محلّ النزاع في المسألة ، إذ قد عرفت أنّ النزاع في النهي المتعلّق بالعبادة أو المعاملة إنّما هو فيما تعلّق بأنفسهما حقيقة.

نعم يكون داخلا فيه بحسب ظاهر الدليل مع قطع النّظر عن الخارج ، لكن لا ينفع بعد خروجه عنه حقيقة ، بل الظاهر خروجه عنه على تقدير إرجاعه إلى المقيّد بترتيب الآثار أيضا ، إذ الظاهر أنّ النزاع إنّما هو في النهي المتعلّق بالعبادة أو المعاملة مستقلا ، لا بهما مقيّدين بقيد آخر.

ثمّ إنّه لا بأس بالتعرّض لحكم (٢) سائر الوجوه المتصوّرة للنهي المتعلّق بالمعاملات المتقدّم ذكرها ، فنقول :

أمّا صورة تعلّقه بذاتها بعنوان كونها فعلا من الأفعال ـ كما لعلّه الحال في مثل النهي عن البيع وقت النداء ، إذ لا يبعد أن يكون المراد النهي عن الاشتغال بشيء اخر غير الصلاة ـ فهي في الحقيقة خارجة عن محلّ النزاع في مسألة النهي عن المعاملات ، إذ الظاهر أنّ النزاع فيها إنّما هو في النهي المتعلّق بها بعناوينها الخاصّة مع أنّه لا ملازمة بين النهي فيه وبين الفساد ، لإمكان حرمة

__________________

(١) في النسخة المستنسخة : ( .. ترتيب تلك الآثار من الفساد ). ، والصحيح ما أثبتناه.

(٢) في النسخة المستنسخة : يتعرّض حكم ..

١٠٧

شيء وجواز ترتيب أمور اخر عليه ، كما لا يخفى.

وأمّا صورة تعلّقه بذاتها بعناوينها الخاصّة مع عدم مبغوضيّة آثارها أو (١) ترتيب تلك الآثار ، فهي وإن كانت داخلة فيه إلاّ أنّه لا ملازمة بين النهي فيه وبين الفساد.

وأمّا صورة تعلّق النهي حقيقة بذوات المسبّبات ، فهي خارجة عن محلّ النزاع ، وأمّا حكمها فحكم (٢) صورة تعلّق النهي بترتيب المسبّبات ، لأنّ النهي عن تناولها ملازم لسلبها ، بل عينه ، فتكون المعاملة المنهيّ عنها على ذلك الوجه فاسدة لذلك.

فخلاصة الكلام : أنّه إذا ثبت حرمة نفس الأسباب وهي نفس تلك العناوين الخاصّة فهو غير ملازم للفساد ، سواء كانت محرّمة بعناوينها الخاصّة أو بعنوان كونها فعلا ، وإذا حرم ذوات الأسباب أو ترتيبها على الأسباب فلازم الحرمة حينئذ الفساد ، لما عرفت ، ونحن بعد ما أحرزنا حرمة ترتيب تلك المسبّبات من النواهي الشرعيّة فهي مقتضية للفساد.

هذا ، ثمّ إنّه قد يستدلّ على اقتضاء النهي الفساد في المعاملات بأخبار واردة في موارد خاصّة :

منها : ما رواه رواه زرارة في الحسن أو الصحيح على اختلاف فيه قال : « سألته عن مملوك تزوّج بغير إذن سيّده.

فقال عليه السلام : ذاك (٣) إلى سيّده إن شاء أجازه (٤) وإن شاء فرّق

__________________

(١) في النسخة المستنسخة : ( إذ ) ، والصحيح ما أثبتناه.

(٢) في النسخة المستنسخة : وأمّا حكمها حكم ..

(٣) في النسخة المستنسخة : ذلك.

(٤) في النسخة المستنسخة : أجاز ..

١٠٨

بينهما.

فقلت (١) : أصلحك الله ، إنّ الحكم بن عيينة وإبراهيم النخعي وأصحابهما يقولون : إنّ أصل النكاح فاسد ، ولا تحلّ له إجازة السيّد.

فقال [ أبو جعفر ](٢) عليه السلام : إنّه لم يعص الله ، وإنّما عصى سيّده ، فإذا أجازه (٣) فهو له جائز. » (٤) ..

وفي روايته الأخرى بعد أن ذكر حكمه عليه السلام بصحّة النكاح مع لحوق الإجازة قال : « فقلت لأبي جعفر عليه السلام : فإنّه في أصل (٥) النكاح كان عاصيا ، فقال : [ أبو جعفر ](٦) عليه السلام : إنّما أتى شيئا حلالا ، وليس بعاص لله وإنّما عصى سيّده ، ولم يعص الله (٧) إنّ ذلك ليس كإتيان ما حرّم الله (٨) من نكاح في عدّة وأشباهه (٩)(١٠).

وتقريب الاستدلال بهاتين الروايتين على ما ذكره بعض المتأخرين أنّه قد علّل صحّة النكاح من العبد الغير المأذون مع لحوق الإجازة : بأنّه لم يعص

__________________

(١) كذا في النسخة المستنسخة وفي الرواية ( قلت ).

(٢) هذه الزيادة أثبتناها من المصدر ، ولم ترد في النسخة المستنسخة.

(٣) في النسخة المستنسخة : أجاز ..

(٤) الوسائل : ١٤ ـ ٥٢٣ ـ كتاب النكاح ـ أبواب نكاح العبيد والإماء ـ باب : ٢٤ ـ ح : ١.

(٥) في المصدر : فإن أصل.

(٦) ما بين المعكوفين أثبتناه من المصدر ، ولم يرد في النسخة المستنسخة.

(٧) في النسخة المستنسخة : الله تعالى ..

(٨) في النسخة المستنسخة : ليس كإتيانه ما حرّم الله تعالى ..

(٩) في النسخة المستنسخة : أو شبهة.

(١٠) الوسائل : ١٤ ـ ٥٢٣ ـ ٥٢٤ ـ كتاب النكاح ـ أبواب نكاح العبيد والإماء ـ باب : ٢٤ ـ ح : ٢.

١٠٩

الله ، ومقتضى مفهوم العلّة ثبوت الفساد مع تحقّق العصيان ، فيستفاد منه قاعدة كلّيّة ، وهي أنّ كلّ ما حرّم ونهي عنه شرعا على وجه يكون مخالفته عصيانا لله تعالى يكون ملازما للفساد ، وبعد ثبوت تلك الملازمة بهاتين الروايتين فيكون النواهي الشرعيّة مقتضية للفساد.

هذا ، وقد نوقش في الاحتجاج بهما بوجهين متقاربين :

أحدهما : ما ذكره المحقّق القمّي رحمه الله (١) من أنّ المراد بالمعصية فيهما إنّما هو مجرّد عدم الرخصة من الشارع ، [ وإلاّ ] فمخالفة السيّد أيضا معصية.

وتوضيح كلامه : أنّه لا يمكن حمل المعصية في قوله عليه السلام : « لم يعص الله ، أو ليس عاصيا لله » على حقيقتها ، إذ معه لا يمكن نفيها بالنسبة إلى الله تعالى وإثباتها بالنسبة إلى السيد ، فإنّ مخالفة السيّد أيضا مخالفة لله وعصيان له لوجوب متابعته على العبد شرعا ، فمع فرض ثبوت عصيان السيد يلزم ثبوت عصيان الله تعالى أيضا ، إذ معه لا يمكن نفيه بالنسبة إليه تعالى ، فلا بدّ أن يكون المراد بالمعصية غير معناها الحقيقي من المعاني المجازية ، وأقربها هو عدم الإذن والرخصة في الجملة ولو بعد إذن السيّد وإمضائه ، فيكون معنى الروايتين أنّه لم يأت بشيء لم يأذن الله له فيه ولم يرض به ، بل أتى بما أذن له فيه ورضي به ولو بضميمة إجازة السيّد ، فيكون مفهوم العلّة على هذا هو فساد ما لم يأذن الله فيه ، ومن المعلوم أنّ فساد ما لم يأذن الله فيه إنّما هو لعدم إمضائه ، لا للنهي والعصيان.

والحاصل : أنّ المراد بالمعصية إنّما هو الإتيان بما لم يرض الشارع بصحّته ومضيّه ولو بضميمة الإجازة ، لا الإتيان بما نهى الشارع عنه ، وإلاّ فهو ثابت حينئذ بمخالفة السيّد أيضا ـ كما عرفت ـ فلا يصحّ نفيه ، فيكون مفهوم العلة

__________________

(١) قوانين الأصول : ١ ـ ١٦٢.

١١٠

حينئذ هو فساد ما لم يرض الله تعالى بمعصيته ، فإنّ مراده ـ قدّس سره ـ من عدم الرخصة هو عدم الرضاء بمقتضى العقد ، بقرينة إثباته الرخصة في نكاح العبد الغير المأذون بما دلّ على صحّة ذلك النكاح ومضيّه بعد إجازة السيّد ، فالروايتان دالّتان على فساد ما لم يمضه الشارع من غير نظر إلى النهي أصلا ، وهذا وجه ما قاله (١) ـ قدّس سرّه ـ من أنّ الرواية على خلاف المطلوب أدلّ.

ثانيهما : ما ذكره في الفصول الغرويّة (٢) من أنّ الظاهر من العصيان فيهما بقرينة المقام الإتيان بما لم يمض أو لم يرض بصحّته ، فالمعنى أنّ العبد لم يأت بنكاح لم يمضه الله تعالى أو لم يرض بصحّته على تقدير الإجارة ، وإنّما أتى بنكاح لم يضمه السيّد أو لم يرض بصحّته على تقدير عدم الإجازة ، ووجه إطلاق العصيان على ذلك وقوع التعبير عنه غالبا بالنهي.

ثمّ قال : ( ومما يدلّ على ما قرّرناه حكمه بعصيان العبد لسيّده المحمول على صورة المنع ، مع أنّ الظاهر اختصاص المنع بالنكاح الصحيح دون الفاسد ، وهو غير حاصل حال المنع ، ويؤكّده قوله عليه السلام : « فإذا أجازه فهو له جائز » (٣) فإنّ المراد إذا رضي بصحّته فهو له صحيح ). انتهى.

والظاهر أنّ مراده من قرينة المقام أنّ مورد السؤال ـ وهو نكاح العبد الغير المأذون ـ يدور صحّته مدار إمضاء الشارع ورضائه بمقتضى العقد ، لا عدم عصيان الله تعالى بل مع تحقّق الإمضاء يصحّ ولو مع تحقّق العصيان ، كما هو الحال في المثال ، لاستلزام عصيان السيّد العصيان لله تعالى ، فلا يصحّ تعليل الصحّة مع لحوق الإجازة بعدم تحقّق العصيان حقيقة لفرض ثبوته ، فلا بدّ أن

__________________

(١) صاحب القوانين ١ : ١٦٢.

(٢) الفصول : ١٤٤.

(٣) مرّ تخريجه الصفحة ١٠٩.

١١١

يكون المراد بالعصيان ما يصحّ كونه علّة للصحّة ، وهو لا يكون إلاّ بإمضاء الشارع ورضاه بمقتضى النكاح مع لحوق الإجازة ، فيخرج الروايتان عن الاحتجاج بهما على اقتضاء النهي للفساد ، إذ مفهوم العلّة حينئذ استلزام عدم الإمضاء للفساد ، وهو ليس مربوطا بالمطلوب بوجه.

قوله : ( وقوع التعبير عنه ) أي عن عدم الإذن.

قوله : ( حكمه بعصيان العبد لسيّده ) هذا شاهد آخر على إرادة عدم الإتيان بما لم يمضه الله من العصيان ، وحاصله :

أنّ العصيان إنّما يتحقّق بأمرين :

أحدهما : المنع من ارتكاب العمل.

وثانيهما : ارتكاب ذلك الفعل الممنوع منه ، وحقيقة العصيان متقوّم بهذين ، وبانتفاء أحدهما ينتفي ، وبعد التصرف في عدم الإذن ـ بحمله على المنع بقرينة قوله : « عصى سيّده » حيث إنّ العصيان في معناه المتوقّف على المنع أظهر من لفظ عدم الإذن في الأعمّ ـ من المنع ـ لا يمكن حمل العصيان في قوله : « عصى سيده » على حقيقته ، لانتفاء الأمر الآخر فيه ، وهو ارتكاب الفعل الممنوع منه ، فإنّ السيّد على تقدير منعه إنّما يمنع من النكاح الصحيح وبعد منعه من النكاح لا يمكن صدور النكاح الصحيح من العبد فيمتنع منه عصيان السيّد ، فلا يمكن حمل العصيان على حقيقته ، فيحمل على عدم الرضا بمقتضى العقد هذا.

وكيف كان ، فهذا الوجه متّحد مع الوجه السابق في المعنى ، وإنّما الاختلاف في كيفية استظهار القرينة على الدلالة عليه ، وأيضا هما متّحدان من جهة أنّه قد اعتبر في كلّ منهما من حيث القرينة امتناع حمل العصيان على حقيقته ، بل العمدة في التصرّف في كلّ منهما إنّما هو ذلك ، فافهم.

١١٢

وقد يجاب عنهما : بأنّ الموجب للتصرّف [ في ] العصيان (١) في قوله : « لم يعص الله » إلى [ آخر ](٢) ما ذكر ـ كما مرّ ـ إنّما هو استلزام عصيان السيّد المفروض ثبوته في الروايتين لعصيان الله ، لكنّه ممنوع ، لمنع اختيار السيّد على لسان العبد وتملّكه لتلفّظه شرعا ، فعلى هذا يتحقّق عصيان السيّد دون عصيان الله تعالى فيحمل العصيان على حقيقته فيتمّ الاستدلال. انتهى.

وهذا كما ترى بمكان من الضعف ، لظهور الأدلّة في تملّك السيّد للعبد بجميع ما يصدر منه من الأفعال والأقوال.

والّذي يقتضيه التأمّل في الروايتين ـ بقرينة قوله : ـ عليه السلام ـ في ذيل الثانية منهما (٣) : « إنّ ذلك ليس كإتيان ما حرّم الله (٤) عليه من نكاح في عدّة وأشباهه » (٥) ـ أنّ المراد بالعصيان من المنفي إنّما هو العصيان بالنظر إلى أهل المعاملة في حدّ نفسها مع قطع النّظر عمّا يتّحد معها من العناوين كمخالفة السيد في مورد الرواية ، فإنّ تمثيله بما يتحقّق معه العصيان بالنكاح في العدّة يفيد ذلك حيث إنّه محرّم في أصله ، والعصيان بهذا المعنى منتف في نكاح العبد الغير المأذون ، لأنّ تزويج المرأة الخالية عن الموانع ـ من كونها في عدّة أو ذات بعل ـ جائز في أصله ، فيكون نفيه في محلّه ، فالروايتان بمفهوم التعليل تدلاّن على فساد ما عصى فيه بالنظر إلى أصله من المعاملات ، وهو ليس إلاّ نهي عن نفسه ، ونحن لمّا استظهرنا من نفس النواهي تعلّقها

__________________

(١) وفي النسخة المستنسخة : لتصرّف العصيان ..

(٢) وفي النسخة المستنسخة : إلى ما ذكر ..

(٣) الوسائل ١٤ : ٥٢٣ ـ ٥٢٤ ـ كتاب النكاح ـ أبواب نكاح العبيد والإماء ـ باب : ٢٤ ـ ح : ٢.

(٤) وفي النسخة المستنسخة : ( كإتيانه ما حرّم الله تعالى عليه ). ، وقد أثبتنا الرواية طبقا للمصدر.

(٥) في النسخة المستنسخة : وشبهة.

١١٣

بالمعاملة من حيث ترتّب مسبّباتها عليها ، فيكون هاتان الروايتان مفيدتين لما أفاده الوجه المتقدّم من اقتضاء النواهي المتعلّقة بالمعاملات من الجهة المذكورة للفساد ، فلا يتعدّى إلى غير ذلك القسم من النواهي.

والحاصل : أنّ الروايتين دلّتا على فساد ما نهي عن نفسه لا على فساد ما اتّحد مع شيء آخر منهيّ عنه من دون النهي عنه في نفسه ، والنهي محمول على المعهود المتعارف ، وهو القسم المذكور منه ، فتكونان دالّتين على تمام المدّعى والمختار ، غير مبيّنتين (١) لأزيد منه.

لا يقال : على تقدير تسليم دلالتهما فيهما إنّما تدلاّن على ذلك في خصوص النكاح ، ولا يتعدّى منه إلى غيره.

لأنّا نقول : إنّ مورد التعليل إنّما هو النكاح ، والمورد لا يصلح لتخصيص عموم العلّة ، فيؤخذ بعمومه ، فيتمّ المطلوب.

هذا مضافا إلى الإجماع على الملازمة بين النكاح وغيره في الحكم المذكور على تقدير ثبوته.

فإن قلت : إنّهما على تقدير تماميّتهما إنّما تفيدان فساد المعاملة إذا وقعت على وجه العصيان ، ومن المعلوم أنّ العصيان أخصّ موردا من الحرمة ، فلا ينهضان حجّة على تمام المدّعى ، وهو فساد المعاملة المحرّمة مطلقا.

قلنا : الظاهر من العصيان فيهما إنّما هو الثاني منه ، وهو الإتيان بما يحرم الإتيان به في أصله ، لا الفعلي منه حتّى يكون أخصّ موردا ، وذلك لأنّ الظاهر منهما أنّ الاستدلال بالنهي على الفساد كان متعارفا وشائعا عند المتشرّعين ، وأنّه عليه السلام نبّه السائل على ما هو المتعارف عندهم ، وفهّمه مقتضيات النواهي الشرعيّة ، ونحن لمّا استظهرنا أنّ مقتضاها هو فساد المعاملة مطلقا

__________________

(١) في النسخة المستنسخة : غير مبين ..

١١٤

ـ لظهورها في حرمة ترتيب الآثار ـ فهاتان الروايتان إنّما تفيدان ذلك الّذي استظهرناه ، لا [ أكثر ](١) ، فافهم.

ثم إنّ في قول صاحب الفصول ـ مع أنّ الظاهر اختصاص المنع بالنكاح الصحيح دون الفاسد وهو غير حاصل حال المنع ـ ما لا يخفى على المتأمّل ، فإنّ منعه إنّما هو يتعلّق بما لا يصلح للاتّصاف بالصحّة والفساد شرعا ، وهو نفس إيجاد العقد لا تخصيص الصحيح ، ومعه يتحقّق العصيان مع إيجاد الفاسد أيضا ، وهذا الإشكال منه نظير الإشكال الّذي أورد [ ه ] بعض في النذر والأيمان والعهود على ترك شيء من العبادات في موارد انعقادها ، من أنّ متعلّقها إنّما هو الصحيح ، ومعها يمتنع وقوع الصحيح من المكلف ، فيمتنع في حقّه الحنث بفعل ما نذر أو حلف على تركه.

والجواب عنه عرفت ـ أيضا ـ والعجب منه ـ قدّس سرّه ـ أنّه قد أجاب عن ذلك الإشكال في غير هذا الموضع ، ولم يلتفت إليه فيه.

وكيف كان ، فملخّص ما حقّقناه إلى هنا : أنّ النهي مقتض للفساد في العبادات دالّ عليه استلزاما ـ كما عرفت ـ فيصح أن يقال : إنّه دالّ عليه لغة ، حيث إنّ الفساد من لوازم مدلوله اللغوي ، وأمّا في المعاملات فلا يدلّ عليه بالدلالة الالتزامية اللغوية ، لأنّه ليس من لوازمه مطلقا بحيث يدور مداره ، وإنّما هو من لوازمه على بعض الوجوه ، وهو ما إذا تعلق بنفس الآثار كما عرفت.

وممّا حقّقنا يظهر الجواب عن سائر الأقوال ـ في المسألة ـ فلا نطيل الكلام بالتعرّض إلى أدلّتها والجواب عن كلّ منها مستقلا ، فتدبّر.

وبذلك يظهر الكلام في سائر الروايات المستدلّ [ بها ] في المقام.

__________________

(١) في النسخة المستنسخة : ( لا أنّهما ) ، والظاهر أنّه من خطأ الناسخ ، وقد صحّحنا العبارة بما في المتن.

١١٥

ثمّ إنّه قد ينسب إلى المولى البهبهاني قول آخر في المعاملات غير الأقوال المتقدّمة ، وهو أنّه إذا كان الدليل المقتضي لصحّة المعاملة مناقضا للتحريم فالنهي يقتضي فسادها ، وإن كان غير مناقض له فلا ، إذ مع مناقضته للتحريم يرتفع بورود النهي عن مورده ، فيبقى المورد بلا دليل يقتضي صحّته ، وعدم الدليل على الصحّة يكفي في الفساد. هذا.

ويتّجه عليه : أنّ الدليل المقتضي للصحّة ـ كقوله تعالى : ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ )(١) وقوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )(٢) ونحوهما ـ إن كان متعلّقا بنفس المسبّب ، أي ذات المعاملة ، دون آثارها ، أو ترتيبها عليه ، فالنهي وإن كان يناقضه إلاّ أنّه غير مقتض للصحّة ـ كما لا يخفى ـ لعدم الملازمة بين علّيّة ذات المعاملة ووجوب الإتيان به أو استحبابه ـ مثلا ـ وبين وجوب ترتيب الآثار عليها بوجه الّذي هو معنى الصحّة ، فلا معنى لتسميته بالدليل المقتضي للصحّة ، وإن كان متعلّقا بترتيب الآثار فهو وإن كان مقتضيا لها إلاّ أنّه حينئذ كسائر الأدلّة المقتضية لها الغير المناقضة لتحريم المعاملة ، فلم يبق وجه لهذا التفصيل أصلا.

والتحقيق أن يقال : إنّ الدليل المقتضي لصحّة المعاملة إنّما هو متعلّق بترتيب آثارها عليه ، فحينئذ إن كان النهي متعلّقا بنفس المعاملة فهو غير مناقض لذلك الدليل بوجه ، لعدم المنافاة بين تحريم الإتيان بسبب وبين وجوب ترتيب الآثار عليه أو جوازه فلا يقتضي الفساد ، وإن كان متعلّقا بالآثار أو ترتيبها على المعاملة ، فهو يناقض ذلك الدليل ويقتضي فساد المعاملة ، وهذا عين ما حقّقناه سابقا ، وأقمنا الحجّة عليه ، فافهم.

__________________

(١) البقرة : ٢٧٥.

(٢) المائدة : ١.

١١٦

وينبغي التنبيه على أمور :

الأوّل : كلّما حقّقناه في مقتضى صيغة النهي ـ المتعلّقة بالعبادات أو المعاملات ـ جار في مادّة [ النهي ] المتعلّقة بواحدة منهما ، وكذا في الحرمة المتعلّقة بواحدة منهما المستفادة من غيرهما من الأدلّة اللبّيّة ، لاتّحاد المناط في الكل ، فإنّ الفساد في الكلّ إنّما هو ملازم لحرمتها ، لا لحرمتها الثابتة بالصيغة ، أو بمطلق اللفظ الشامل للمادّة ، فإذا حرمت تكون فاسدة مطلقا ، أو معاملة فكذلك إذا كانت الحرمة متعلّقة بآثارها ، أو بترتيب تلك الآثار عليها ، فتدبّر.

الثاني : كلّما ذكرنا إلى هنا إنّما هو على تقدير كون النهي نفسيا ، فهل يجري في الغيريّ أيضا ما جرى فيه؟

ألحق ، نعم :

أمّا في العبادات : فواضح ، حيث إنّ صحّتها متوقّفة على انعقادها عبادة ، وذلك يتوقّف على الأمر ، ومع وجود النهي لا يعقل بقاء الأمر واجتماعه معه ولو كان النهي غيريا ، والقائلون بجواز الاجتماع بينهما إنّما يجوّزونه فيما إذا تعدّدت جهتاهما ، وأمّا مع اتّحادها ـ كما هو الحال فيما نحن فيه ـ فهم أيضا مانعون عنه ولو كان النهي غيريّا ، فإذا انتفى الأمر ينتفي (١) الجهة المصحّحة لها ، كما في صورة تعلّق النهي النفسيّ بها.

وأمّا في المعاملات : فلأنّه إذا تعلّق بنفس الأسباب فهو لا يزيد على النفسيّ ، فلا يقتضي الفساد جدّاً ، وأمّا إذا تعلّق بالمسبّبات أو بترتيبها فهو كالنفسي مقتض له البتّة ، فإنّ ثبوت تلك المسبّبات إنّما هو بأمر الشارع وإمضائه ، ومع ردّه ولو غيريّا لا يعقل ثبوتها ، وعدمه يكفي في ثبوت الفساد. هذا.

نعم بناء على كفاية الجهة في انعقاد الفعل عبادة من دون توقّف على وجود

__________________

(١) في النسخة المستنسخة : فينتفي.

١١٧

الأمر فعلا ، كما هي ليست ببعيدة ، لا يجري في النهي الغيريّ المتعلّق بالعبادات ما جرى في النفسيّ المتعلّق بها من اقتضاء الفساد ، فإنّ الغيريّ لا يوجب مبغوضية متعلّقه ذاتا ولا صيرورته ذا مفسدة ، فيمكن في متعلّقه فرض مصلحة داعية للأمر لو لا المانع من توجّهه ، ومعها يقع الفعل عبادة ، فيكون صحيحا إذا أتى بداعيها.

لا يقال : إنّا لو بنينا على كفاية جهة الأمر ـ من دون توقّف على نفسه ـ فهو إنّما يجدي فيما إذا لم يكن هناك مانع آخر من انعقاد الفعل عبادة ، ومن المعلوم أنّ كون الفعل عصيانا مانع منه ، فإنّه يمنع اجتماعه معه ، وما نحن فيه كذلك ، فإنّ فعل المنهيّ عنه الغيريّ إن لم نقل بوقوعه معصية بالنسبة إلى النهي الغيري ، بناء على أنّه لا يتحقّق معصية ولا طاعة بالنسبة إلى التكاليف الغيرية نفسها ، لكنّه معصية لذلك التكليف الآخر النفسيّ ، فإنّ ارتكاب ما يوجب فوت واجب أو ارتكاب حرام نحو من أنحاء مخالفة ذلك الواجب أو الحرام.

لأنّا نقول : وقوعه معصية حقيقة لذلك التكليف ممنوع ، بل إنّما هو مخالفة حكميّة له ، لأنّ المخالفة حقيقة إنّما تتحقّق بترك الواجب أو فعل الحرام في وقت الفعل أو الترك ، وأمّا قبله فلا ، وإنّما هو مجرّد شيء مفض إلى المخالفة في وقتها ، فافهم.

ثمّ إنّك قد عرفت أنّ اقتضاء النهي الغيري للفساد في العبادات إنّما هو لأجل منافاته للأمر وامتناعه معه ، فمع فرض ثبوته ينتفي الأمر ، فتنتفي الجهة المصحّحة للعبادة بناء على توقّفها على الأمر ، لكن هذا إنّما هو فيما إذا كان الأمر المفروض في مرتبة ذلك النهي بمعنى اتّحاد زمن امتثالهما وتنجّز كلّ منهما على نحو الإطلاق ، بأن يقول الشارع ـ مثلا ـ : ( لا تفعل ، وافعل ) ، وأمّا إذا كان مرتّبا عليه ومعلّقا على عصيانه فلا منافاة بينهما بوجه ، فيجتمع معه ، فيكون مصحّحا للعبادة ، كأن يقول : لا تفعل ذلك الشيء لأجل أدائه إلى ذلك المحرّم ، وافعله على تقدير عصيانك لذلك المحرّم.

١١٨

ونحن وإن أشبعنا الكلام في تصوير الأمر الترتّبي وتحقيق إمكانه في مسألة مقدّمة الواجب ، لكن لا بأس [ بذكره ](١) هنا ـ أيضا ـ على نحو الإجمال ، والمحتاج إليه في المقام وإن كان توضيح المقال في الأمر المرتّب على النهي الغيريّ ، لكن لا بأس بتعميم المقال إلى تعرّض الأمر المرتّب على أمر آخر متعلّق بالضدّ الأهمّ :

فاعلم أنّ الّذي يتخيّل مانعا منه أنّ الأمر بكلّ شيء إنّما يقتضي امتثاله ، ويستلزم إرادة ذلك الشيء والحبّ له وكونه ذا مصلحة داعية إليه وكونه حسنا أيضا ـ بمعنى مدح فاعله ـ ويستلزم أيضا كراهة ضدّه العامّ ـ بمعنى تركه ـ وكراهة ضدّه الخاصّ أيضا على القول بكون الأمر بالشيء مقتضيا للنهي عن ضدّه الخاصّ ، وأيضا يستلزم البغض لضدّه العامّ والخاصّ على القول المذكور ، وأنّ النهي عن كلّ شيء إنّما يقتضي ـ أيضا ـ امتثاله ، ويستلزم كراهة ذلك الشيء والبغض له وكونه ذا مفسدة داعية إليه ، وكونه قبيحا ـ بمعنى ذمّ فاعله ـ وإرادة ضدّه الخاصّ والعامّ أيضا على القول المتقدّم ، والأمر بالأوّل وبالثاني ـ أيضا ـ على القول المذكور ، فإنّ القائلين به إنّما يقولون باقتضاء النهي عن شيء الأمر بضدّه الخاصّ ، ومن المعلوم ـ أيضا ـ عدم قدرة المكلّف على الجمع بين امتثال الطلبين المتعلّقين بالضدّين أو النقيضين في آن واحد ، ومن البديهيّات الأوّلية ثبوت التضادّ بين الإرادة والكراهة ، وبين الحبّ والبغض ، وبين المصلحة والمفسدة ، وبين الحسن والقبح.

فظهر من ذلك عدم قدرة المكلّف على الجمع بين امتثالي الأمر والنهي المتعلقين بشيء واحد في آن واحد ، أو شيئين متضادّين كذلك ، وثبوت التضادّ بين لوازمهما ـ أيضا ـ ، فحينئذ لو فرض الأمر بشيء مع تعلّق النهي به حال الأمر

__________________

(١) إضافة يقتضيها السياق.

١١٩

أو بأحد الضدّين بعد فرض تعلّقه بالآخر مع [ اتّحاد ] زمني الأمرين يلزم التكليف بالمحال أو المحال في كلا الموضعين :

أمّا كونه محالا فلاستلزام الأمر حال النهي أو حال الأمر بالضدّ الآخر للمحال ، وهو اجتماع الضدّين ، ومستلزم المحال محال.

أمّا الكبرى فواضحة.

وأمّا الصغرى في الموضع الأوّل : أعني صورة تعلّق الأمر بالشيء حال النهي فكذلك ، ضرورة لزوم كون الشيء مرادا ومكروها ، ومحبوبا ومبغوضا ، وحسنا وقبيحا.

وأمّا في الموضع الثاني : فلأنّ إرادة الضدّين كنفس الضدّين ، فيمتنع حصولهما في النّفس في آن واحد ، كما أنّه يمتنع اجتماع نفس الضدّين في الخارج ، وأيضا على القول باقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه الخاصّ يلزم اجتماع الأمر والنهي في كلّ من الضدّين ، يكون الحال في كلّ منهما كما في الموضع الأوّل من حيث لزوم اجتماع الإرادة والكراهة ، والحبّ والبغض ، وغير ذلك في شيء واحد.

وأمّا كونه تكليفا بالمحال فلعدم قدرة المكلّف على الجمع بين مقتضى الأمرين ، أو الأمر والنهي ، وهو الامتثال ـ كما عرفت ـ وتعلّق الأمر المذكور على عصيان النهي أو الأمر المفروضين في الموضعين غير مجد في شيء ، إذ المفروض عدم وقوع العصيان بعد ، فالتكليف الثاني باق على تنجّزه غير مرفوع عن المكلّف بوجه ، فإنّ رفع كلّ طلب إمّا بامتثاله ، والمفروض عدمه في المقام ، وإمّا بعصيانه فكذلك ، فإنّ وقوعه فيما بعد لا يوجب سقوط التكليف قبله ، بل لا يعقل ، فيكون التكليف اللاحق حال بقاء ذلك التكليف تكليفا محالا أو بالمحال ، لفرض تنجّزه وتوجّهه نحو المكلّف حال ذلك التكليف ، فإنّ النزاع إنّما هو في جواز الأمر حال التكليف السابق مطلقا ، لا مشروطا بعصيان التكليف السابق ، بحيث

١٢٠