دروس في مسائل علم الأصول - ج ٥

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٥

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8438-09-3
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤١٦

في صحتها ، وإن لم يكن مؤديا إلى المخالفة ، مع احتماله ، لأجل التجري وعدم المبالاة بها.

نعم يشكل في الواجب المشروط والمؤقت ، ولو أدى تركهما قبل الشرط والوقت إلى المخالفة بعدهما ، فضلا عما إذا لم يؤد إليها [١].

______________________________________________________

استصحاب عدم الابتلاء موضوع ، لما ذكر أن خروج موارد إحراز عدم الابتلاء ليس تقييدا فيما دل على وجوب التعلم ، بل لعدم إمكان جعل الحكم الطريقي في تلك الموارد ، والاستصحاب في عدم الابتلاء لا يثبت امتناع جعل الحكم الطريقي في مورده.

[١] لا ينبغي التأمل في استحقاق المكلّف على مخالفة تكليف فعلي إذا أدى ترك الفحص والتعلم إلى مخالفته حتى فيما إذا كان عند مخالفته غافلا عن كون عمله مخالفة للتكليف ، إلّا أنه حيث كانت مخالفته مستندة إلى ترك تعلمه فيستحق العقاب عليه ، ولكن ربما يستشكل في وجوب التعلم واستحقاق العقاب فيما إذا كان الواجب مشروطا بشرط أو كون وجوبه مؤقتا بوقت ، ويكون المكلف غير متمكن من الإتيان به بعد حصول الشرط أو دخول الوقت بترك التعلم من قبل ، ووجه الإشكال أنه قبل حصول الشرط أو قبل حصول الوقت لم يكن وجوب الفعل في حق المكلف حتى يجب تعلمه ، وبعد حصولهما لا يكون أيضا في حقه تكليف لعدم تمكنه من إتيان الواجب أو غفلته عنه ، والتزم الماتن في حل الإشكال بما ذكره المحقق الأردبيلي من الالتزام بكون وجوب التعلم نفسيا تهيئيا ، فيكون العقاب على ترك التعلم لا على مخالفة الواجب في وقته وحصول شرطه بترك التعلم ، وذكر أيضا وجها آخر في حل الإشكال وهو الالتزام بكون الواجب قبل الشرط وقبل الوقت من الواجب التعليقي لا من قبيل الواجب المشروط ، غاية الأمر قد أخذ سائر مقدماته

٦١

حيث لا يكون حينئذ تكليف فعلي أصلا ، لا قبلهما وهو واضح ، ولا بعدهما وهو كذلك ، لعدم التمكن منه بسبب الغفلة ، ولذا التجأ المحقق الأردبيلي وصاحب المدارك (قدس‌سرهما) إلى الالتزام بوجوب التفقه والتعلم نفسيا تهيئيا ، فتكون العقوبة على ترك التعلم نفسه لا على ما أدى إليه من المخالفة.

______________________________________________________

بنحو لا يكاد يسرى إليها الوجوب الغيري قبل حصول الشرط أو دخول الوقت ، وعليه فلا يكون العقاب على ترك التعلم ، فإن التعلم من مقدماته الوجودية في الفرض ، ولكن حيث يسري إليه الوجوب الغيري فيوجب استحقاق العقاب على ترك الواجب بعد حصول الشرط أو دخول الوقت إذا كان تركه مستندا إلى ترك التعلم والفحص.

أقول : ظاهر ما ورد في ترك التعلم العقاب على ترك العمل لا على ترك التعلم فالتخلص عن الإشكال المتقدم بالالتزام بالعقاب على ترك التعلم طرح لظهوره ، فلا يمكن الالتزام به في الواجبات المشروطة والمؤقتة قبل حصول شرطها أو وقتها فضلا عن الالتزام به في غيرهما أيضا ، بدعوى استحقاق العقاب على ترك التعلم إذا لم تصدق كفاية الانتهاء إلى الاختيار في استحقاق العقاب على مخالفة تكليف معقول عنه بترك التعلم ، كما لا يمكن الالتزام بالواجب التعليقي الذي ذكره ، حيث إن الالتزام بأن التكاليف في الوقائع بنحو الواجب المعلق خلاف ظاهر الخطابات كما اعترف بذلك في بحث الواجب المطلق والمشروط ، وكيف كان فيرد عليه بأنه بعد الالتزام بكون وجوب التعلم نفسيا تهيئيا توجب مخالفته العقاب ، فيلزم عليه قدس‌سره الالتزام بعقابين في الواجبات والمحرمات المطلقين إذا أوجب ترك التعلم مخالفتهما ، حيث إنه قدس‌سره يصدق كفاية الانتهاء إلى الاختيار في استحقاق العقاب على المخالفة ، ولو كان مغفولا عنه حين المخالفة ، والصحيح في الجواب أن يقال : إن

٦٢

فلا إشكال حينئذ في المشروط والمؤقت ، ويسهل بذلك الأمر في غيرهما لو صعب على أحد ، ولم تصدق كفاية الانتهاء إلى الاختيار في استحقاق العقوبة على ما كان فعلا مغفولا عنه وليس بالاختيار ، ولا يخفى أنه لا يكاد ينحل هذا الإشكال إلّا بذلك ، أو الالتزام بكون المشروط أو المؤقت مطلقا معلقا ، لكنه قد اعتبر على نحو لا تتصف مقدماته الوجودية عقلا بالوجوب قبل الشرط أو الوقت غير التعلم ،

______________________________________________________

تفويت الغرض الملزم في الموارد التي تكون القدرة بالفعل شرطا لاستيفائه لا دخيلا في كون الفعل ذا ملاك غير جائز ، وحيث إن ما ورد في وجوب التعلم يعم جميع موارد احتمال الابتلاء على ما تقدم حتى الواجبات المشروطة والمؤقتة قبل حصول الشرط ودخول الوقت ، فيعلم بأن الملاك حتى في تلك الواجبات من ناحية التعلم ملزم ، وأن القدرة بها من ناحية تعلمها ولو قبل الشرط والوقت شرط الاستيفاء ، بخلاف العجز الناشئ من ناحية سائر المقدمات ، وكذا لا يجب تحصيل القدرة عليها بتحصيلها قبل الوقت أو قبل حصول شرط التكليف.

ثم إن استحقاق العقاب في صورة أداء ترك التعلم إلى مخالفة التكليف الواقعي أو تفويت الغرض والملاك الملزم ، بحيث لو تعلم أو فحص يصل إلى الحجة بالتكليف أو الملاك الملزم ظاهر ، وأما مع عدم أدائه إلى ذلك بحيث لو فحص أيضا لم يظفر بالحجة على ذلك التكليف أو الملاك ، فهل يستحق العقاب على مخالفته أيضا لعدم المعذّر له حين الارتكاب أو لا يستحق العقاب إلّا على هذا التجري بناء على كونه موجبا لاستحقاقه ، فقد يقال : بالأول لحكم العقل باستحقاق العبد العقاب على مخالفة التكليف الواقعي مع عدم المؤمن له عقلا أو شرعا ، والمفروض في المقام عدمه لعدم حكم العقاب بقبح العقاب قبل الفحص واليأس عن الظفر بالحجة ، وكذلك البراءة الشرعية كما هو المفروض في الشبهة الحكمية ، وقد يقال

٦٣

فيكون الإيجاب حاليا ، وإن كان الواجب استقباليا قد أخذ على نحو لا يكاد يتصف بالوجوب شرطه ، ولا غير التعلم من مقدماته قبل شرطه أو وقته.

وأما لو قيل بعدم الإيجاب إلّا بعد الشرط والوقت ، كما هو ظاهر الأدلة وفتاوى المشهور ، فلا محيص عن الالتزام يكون وجوب التعلم نفسيا ، لتكون

______________________________________________________

بالثاني فإن عقاب الشارع على مخالفة تكليف أو فوات ملاك ملزم لم يصل بيانه إلى المكلف قبيح ، والمفروض عدم البيان بالإضافة إلى التكليف أو الملاك في الواقعة ، ولكن لا يخفى أن المراد من البيان في قاعدة قبح العقاب بلا بيان هو المصحح للعقاب على المخالفة وإذا لم يكن احتمال التكليف في الواقعة موردا للبراءة الشرعية والعقلية قبل الفحص يكون نفس احتماله بيانا ، ولذا يحكم العقل في الواقعة بالتخيير بين التعلم والفحص وبين الأخذ بالاحتياط ، فما يظهر من الماتن قدس‌سره أن العقاب في هذه الصورة أيضا لأجل التجري كما في صورة عدم التكليف في الواقعة واقعا لا يمكن المساعدة عليه.

لا يقال المقدار الذي يرفع اليد فيه عن عموم «رفع عن امتي ما لا يعلمون» هو عدم العلم في مورد لو فحص المكلف فيه لظفر بالحجة على التكليف على تقدير وجوده واقعا ، فإنه يجب في هذه الموارد قبل الفحص التخيير بين التعلم والاحتياط ، وأما المورد الذي لا يظفر فيه بالحجة حتى على تقديره واقعا فلم تخرج عن عموم رفع ما لا يعلمون ولذا لا يجب فيه الفحص ، وإذا احتمل المكلف أن الواقعة من القسم الأول أو الثاني ، فالاستصحاب في عدم علمه بالتكليف ولو بعد الفحص بعدم الظفر بالحجة يدرجها في القسم الثاني ، فلا يجب فيها الفحص فإنه يقال قد تقدم أن اختصاص لزوم الفحص بالقسم الأول ؛ لأنّ الوجوب النفسي التعييني على المكلف الذي هو طريقي في القسم الثاني من اللغو المحض ، فامتناع الطلب لغوا من الحكيم

٦٤

العقوبة ـ لو قيل بها ـ على تركه لا على ما أدى إليه من المخالفة ، ولا بأس به كما لا يخفى ، ولا ينافيه ما يظهر من الأخبار من كون وجوب التعلم إنما هو لغيره لا لنفسه ، حيث إنّ وجوبه لغيره لا يوجب كونه واجبا غيريا يترشح وجوبه من وجوب غيره فيكون مقدميّا ، بل للتهيّؤ لإيجابه ، فافهم.

وأما الأحكام فلا إشكال في وجوب الإعادة في صورة المخالفة ، بل في صورة الموافقة أيضا في العبادة ، فيما لا يتأتى منه قصد القربة [١].

______________________________________________________

أوجب هذا الاختصاص في أدلة وجوب التعلم والاستصحاب في عدم الظفر بالحجة بعد الفحص أيضا لا يثبت امتناع طلب الفحص في الواقعة وكونه لغوا ليوجب رفع اليد عن إطلاق أدلة وجوب الطلب والسؤال ، نظير ما أجبنا به عن الاستصحاب في عدم ابتلاء المكلف بواقعة يحتمل وجدانا الابتلاء بها مستقبلا.

[١] فصل فيما إذا عمل المكلف بلا فحص لازم عليه من تقليد أو اجتهاد ، فنقول : إذا أخذ العامي بالعمل بلا تقليد معتبر ومن غير احتياط ففيه صور :

الاولى : أن ينكشف مخالفة عمله للواقع بحسب فتوى من يجب عليه تقليده حين العمل ، وبفتوى من يجب عليه تقليده فعلا ، فإنه في هذه الصورة يحكم ببطلان عمله أي بعدم إجزائه لعدم مطابقته للواقع بحسب الحجة السابقة والحجة الفعلية.

الثانية : أن ينكشف مطابقة عمله للواقع بحسب الحجة حال عمله والحجة الفعلية ، ولا ينبغي التأمل في الحكم بإجزاء عمله السابق ولو كانت عبادة حيث إن التقرب المعتبر فيها يحصل بالإتيان بها لاحتمال أنها الواقع.

الثالثة : مطابقة عمله لفتوى من يجب عليه تقليده فعلا ومخالفته لفتوى من كان يجب عليه تقليده حال العمل ، وفي هذه الصورة أيضا لا يجب عليه تدارك العمل السابق بالإعادة أو القضاء ، فإن الإجزاء مقتضى الحجة الفعلية التي يجب عليه

٦٥

وذلك لعدم الإتيان بالمأمور به مع عدم دليل على الصحة والإجزاء ، إلّا في الإتمام في موضع القصر أو الإجهار أو الإخفات في موضع الآخر ، فورد في الصحيح ـ وقد أفتى به المشهور ـ صحة الصلاة وتماميتها في الموضعين مع الجهل مطلقا ، ولو كان عن تقصير موجب لاستحقاق العقوبة على ترك الصلاة المأمور

______________________________________________________

اتباعها ، ولكن عدم استحقاق العقاب على عدم تدارك الواقع إذا اتفق كون الواقع على خلاف الحجة الفعلية في هذه الصورة ، وعلى خلاف الحجة السابقة أيضا في الصورة السابقة لا يوجب عدم استحقاقه العقاب على مخالفة الواقع في الوقت ، حيث إن تلك المخالفة في وقت العمل لم تكن عن عذر وبالاستناد إلى الحجة ، كما إذا أتى يوم الجمعة سابقا بصلاة الظهر في أيام الجمعة وكان الواجب الواقعي في علم الله وجوب صلاة الجمعة تعيينا ، فإنه بما أنه لم يستند حين العمل بالفتوى يكون مستحقا للعقاب على ترك صلاة الجمعة يوم الجمعة حتى مع فتوى المجتهد الفعلي والمجتهد السابق بوجوب صلاة الظهر.

الصورة الرابعة : ما إذا كان عمله مطابقا لفتوى من يجب عليه تقليده حين العمل ، ويخالف فتوى من يجب عليه الرجوع إليه فعلا ، وفي هذه الصورة يجب عليه تدارك عمله السابق بحسب فتوى المجتهد الفعلي بالإعادة أو القضاء حتى فيما لو كان ذلك العمل بتقليد من المجتهد السابق لم يجب عليه تداركه ، كمن ترك السورة في صلاته مدة من الزمان ثم قلد مجتهدا يرى وجوب السورة بعد الحمد في الفريضة ، فإنه يجب عليه قضاء تلك الصلوات حتى فيما لو كان حال العمل يفتي من كان يجب الرجوع إليه بعدم وجوب السورة بعد الحمد ، والوجه في لزوم القضاء أن المكلف المزبور لو كان مقلدا لذلك المجتهد حال العمل كان بنظر المجتهد اللاحق الذي يرى وجوب السورة قاصرا يعمّه حديث «لا تعاد» ، بخلاف فرض عدم تقليده

٦٦

بها ، لان ما أتى بها وإن صحت وتمت إلّا أنها ليست بمأمور بها.

إن قلت : كيف يحكم بصحتها مع عدم الأمر بها؟ وكيف يصح الحكم باستحقاق العقوبة على ترك الصلاة التي أمر بها ، حتى فيما إذا تمكن مما أمر بها؟ كما هو ظاهر إطلاقاتهم ، بأن علم بوجوب القصر أو الجهر بعد الإتمام والإخفات وقد بقي من الوقت مقدار إعادتها قصرا أو جهرا ، ضرورة أنه لا تقصير هاهنا يوجب استحقاق العقوبة ، وبالجملة كيف يحكم بالصحة بدون الأمر؟ وكيف يحكم

______________________________________________________

فإنه بترك الاحتياط وترك التقليد كان مقصرا ، فلا يعمه الحديث مع تردده في إجزاء عمله حال العمل ، كما أن الفرض خارج عن مورد الإجماع على إجزاء العمل السابق على طبق التقليد السابق ، ومما ذكرنا يظهر الحال في العمل السابق الصادر عن غير العامي بلا اجتهاد ومن غير احتياط في الواقعة ، كما ظهر أن الجاهل فيما إذا أتى بعمل ثم ظهر أنه لم يكن مطابقا للوظيفة الواقعية لزم تداركه بالإعادة أو القضاء فيما كان لفائته قضاء ، ولكن ذكروا من غير خلاف أن المسافر الجاهل بوجوب القصر إن صلى تماما فلا يجب عليه إعادتها ولا قضاؤها حتى فيما لو علم في الوقت بوجوب القصر على المسافر ، والمستند في ذلك الروايات ، والمنسوب إلى المشهور كما يظهر من الماتن أيضا أنه مع عدم وجوب الإعادة والقضاء يكون مستحقا للعقاب على ترك القصر ، وكذا الحال فيمن جهر في موضع الإخفات أو بالعكس جهلا بالحكم ويشكل بأنه كيف يحكم بصحة العمل مع عدم الأمر به ، وكيف يستحق المكلف العقاب على ترك ما تعلق به الأمر مع تمكنه من الإتيان به في وقته ولا يجب عليه الإعادة مع تمكنه منها ، فالحكم بعدم لزوم الإعادة مع الاستحقاق للعقاب على ترك الواجب متهافتان ، كما إذا علم المكلف بوجوب القصر عليه قبل خروج الوقت مع الإتيان بالصلاة إتماما ، وكذا الحال في مورد الإخفات في موضع الجهر أو

٦٧

باستحقاق العقوبة مع التمكن من الإعادة؟ لو لا الحكم شرعا بسقوطها وصحة ما أتى بها.

قلت : إنما حكم بالصحة لأجل اشتمالها على مصلحة تامة لازمة الاستيفاء في نفسها مهمة في حد ذاتها ، وإن كانت دون مصلحة الجهر والقصر ، وإنما لم يؤمر بها لأجل أنه أمر بما كانت واجدة لتلك المصلحة على النحو الأكمل والأتم.

وأما الحكم باستحقاق العقوبة مع التمكن من الإعادة فإنها بلا فائدة ، إذ مع استيفاء تلك المصلحة لا يبقى مجال لاستيفاء المصلحة التي كانت في المأمور بها ، ولذا لو أتى بها في موضع الآخر جهلا ـ مع تمكنه من التعلم ـ فقد قصر ، ولو علم بعده وقد وسع الوقت.

فانقدح أنه لا يتمكن من صلاة القصر صحيحة بعد فعل صلاة الإتمام ، ولا من

______________________________________________________

بالعكس ، وأجاب الماتن قدس‌سره عن كلتا الجهتين بأن صحة العمل عبادة لا تتوقف على تعلق الأمر به فعلا ، بل لو كان فيه ملاك المحبوبيّة وأتى المكلف به على نحو قربي يحكم بصحته ، كما ذكر ذلك في مزاحمة التكليف بالصلاة في أول وقتها مع التكليف بالأهم ، كالأمر بالإزالة.

والحاصل أن الصلاة تماما جهلا بوجوب القصر مشتملة لمقدار من المصلحة تكون ملزمة في نفسها ، وإنما لم يؤمر بها لكون الصلاة قصرا ملاكها أكثر بمقدار لازم ، وهذه المصلحة الأهم لا يمكن استيفاؤها بعد الصلاة تماما ، وهكذا الأمر في الجهر من الجاهل بوجوب الإخفات وبالعكس ، ولذا يستحق المكلف العقاب على مخالفة التكليف بالقصر أو بالإخفات أو الجهر الذي فوته المكلف على نفسه بترك تعلمه حيث لا يمكن له بعد الإتيان بصلاته تماما مع الجهل الإتيان بها قصرا ، بحيث يتدارك ويستوفي ملاكه الملزم الأتم وكذا الحال في الجاهل بوجوب الجهر والإخفات.

٦٨

الجهر كذلك بعد فعل صلاة الإخفات ، وإن كان الوقت باقيا.

إن قلت : على هذا يكون كل منهما في موضع الآخر سببا لتفويت الواجب فعلا ، وما هو سبب لتفويت الواجب كذلك حرام [١].

______________________________________________________

[١] حاصله كيف يمكن الحكم بصحة الصلاة تماما من الجاهل بوجوب القصر عليه مع كونها سببا لفوات الصلاة قصرا والإتيان بما هو سبب لفوت الواجب غير جائز ، والحرمة في العبادة موجبة لفسادها ، وأجاب قدس‌سره بأن المتضادين في نفسهما أو بملاكهما يكون من قبيل المتلازمين في مرتبة واحدة ولا يكون الإتيان بأحدهما سببا لترك الآخر كما بين في بحث الضد الخاص للمأمور به ، ولذا لا يكون الأمر بالشيء مقتضيا للنهي عن ضده الخاص ، نعم اشتمال الصلاة تماما لملاك ملزم في نفسه ، وكذا الصلاة جهرا في موضع الإخفات أو بالعكس يختص بصورة جهل المكلف بالتكليف الأولى ، فبطلان الصلاة تماما من العالم بوجوب القصر أو بطلانها جهرا من العالم والملتفت بوجوب الإخفات وبالعكس لا يكون منافيا لما ذكره في صورة الجهل.

أقول : الصحيح في الجواب هو القول بأن المسافر مع جهله بوجوب القصر عليه ، له أن يأتي بصلاته تماما ، بمعنى أن مع جهله يتخير بين القصر والتمام ، ولذا لو أتى بالقصر اتفاقا يحكم بصحة صلاته ، كما إذا اعتقد أنه في الركعة الرابعة وسلم فتذكر بعد السلام أنه سلم في الركعتين ، وكذا الحال في وجوب الصلاة جهرا أو إخفاتا ، فإن الجاهل مخير وليس المراد من التخيير الوجوب التخييري المعروف وتوجيه خطاب إلى الجاهل بالأمر بإحدى الصلاتين ، فإن تخصيص وجوب القصر تعيينا بالعالم به غير ممكن ، بل المراد كما تقدم في نسيان الجزئية والشرطية جعل الفاقد مسقطا لما تعلق به الوجوب التعييني ، وعلى ذلك فلا يكون ما ورد في وجوب

٦٩

وحرمة العبادة موجبة لفسادها بلا كلام.

قلت : ليس سببا لذلك ، غايته أنه يكون مضادا له ، وقد حققنا في محله أن الضد وعدم ضده متلازمان ليس بينهما توقف أصلا.

لا يقال : على هذا فلو صلى تماما أو صلى إخفاتا ـ في موضع القصر والجهر مع العلم بوجوبهما في موضعهما ـ لكانت صلاته صحيحة ، وإن عوقب على مخالفة الأمر بالقصر أو الجهر.

فإنه يقال : لا بأس بالقول به لو دل دليل على أنها تكون مشتملة على المصلحة ولو مع العلم ، لاحتمال اختصاص أن يكون كذلك في صورة الجهل ، ولا بعد أصلا

______________________________________________________

التعلم موجبا لاستحقاقه العقاب على ترك القصر لسقوط التكليف الواقعي امتثالا بالإتيان بالبدل في الامتثال ، وكذا في الجهر موضع الإخفات وبالعكس ، وما ذكر الماتن قدس‌سره من كون الإتمام واجد لملاك ملزم في نفسه في حق المسافر الجاهل ، ولكن معه لا يمكن استيفاء المصلحة الأتم والأكمل في القصر ، ولذا لا يؤمر المسافر إلّا بالقصر ، وبعد الإتيان بالتمام لا يبقى مجال للإعادة قصرا فيعاقب على تفويته المقدار من المصلحة الأتم لا يمكن المساعدة عليه ، فإن تصويره وإن كان ممكنا إلّا أن التضاد في الاستيفاء كما ذكر لا يساعد ما ورد في الرواية من أنه تمت صلاته ولا إعادة عليه ، ويمكن أن يورد عليه بأن لازم ما ذكره تعدد العقاب عند ترك الجاهل بوجوب الصلاة رأسا ، أحدهما على ترك الواجب يعني القصر ، والآخر العقاب على عدم استيفائه الملاك اللازم في نفسه مع تركه القصر على ما هو المقرر في باب التزاحم بين الواجبين ، نعم لا يتعدد العقاب ممن ترك الصلاة رأسا مع العلم بوجوب القصر ؛ لأن المفروض عدم مصلحة ملزمة في نفسها في الصلاة تماما عند العلم بوجوب القصر ، وهكذا الحال في الجهر موضع الإخفات وبالعكس.

٧٠

في اختلاف الحال فيها باختلاف حالتي العلم بوجوب شيء والجهل به ، كما لا يخفى. وقد صار بعض الفحول بصدد بيان إمكان كون المأتي في غير موضعه مأمورا به بنحو الترتب [١].

______________________________________________________

[١] المحكي عن كاشف الغطاء قدس‌سره أن التضاد بين القصر والتمام في حق المسافر والجاهل بوجوب القصر يصحح الترتب بين التكليفين ، بأن يكون المسافر الجاهل مكلفا بوجوب القصر كالعالم به ، ولكن الجاهل بوجوبه على تقدير تركه القصر حال جهله مكلف بالصلاة تماما ، وأورد عليه الماتن أن الأمر بالضدين بنحو الترتب غير ممكن كما بيناه في بحث النهي عن الضد بما لا مزيد عليه.

ولكن هذا كما ترى لا يصلح للجواب بعد إثبات إمكان الأمر بالضدين على نحو الترتب وعدم لزوم محذور منه.

ولكن أجاب عن الترتب المذكور المحقق النائيني قدس‌سره بأن المعتبر في الأمر بكل من الضدين على نحو الترتب أن يكون الموضوع للأمر بالمهم عصيان الأمر بالأهم ، وهذا العنوان غير صالح لأن يكون موضوعا في المقام ؛ لأنّ الجاهل بوجوب القصر والآتي بالتمام لا يمكن أن يلتفت إلى عصيانه في وجوب القصر عليه ، وإلا لا نقلب إلى العالم بوجوب القصر ، وأيضا العصيان لا يتحقق إلّا بانقضاء وقت الصلاة ، ومن صلى تماما ثم التفت إلى وجوب القصر عليه والوقت باق يمكن له موافقة الأمر بوجوب القصر ، أضف إلى ذلك أن الترتب يثبت في موارد قيام الدليل على كل من التكليفين ، بحيث يلزم على القادر على كل منهما الجمع بينهما في الامتثال ، ويلتزم بالترتب عند عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما لوقوع المزاحمة.

ولكن لا يخفى أن ما ذكره كاشف الغطاء ترتب في مقام الجعل وما ذكره قدس‌سره ترتب في مقام التزاحم بين التكليفين في الامتثال ، ولا يعتبر في الترتب بين التكليفين

٧١

.................................................................................................

______________________________________________________

بحسب الجعل إلّا جعلهما بحيث لا يقتضي الجمع بين الفعلين ، لا تعليق التكليف بالثاني على عنوان العصيان بالإضافة إلى التكليف الأول ، بل لا يلزم ذلك في الترتب بين التكليفين في مقام الامتثال أيضا ، كما ذكرنا في بحث الترتب ، نعم الترتب بحسب الجعل يحتاج إلى قيام دليل عليه بخلاف الترتب بين التكليفين في مقام التزاحم في الامتثال ، فإنه يكفي فيه الدليل على ثبوت كل من التكليفين في حق القادر على الإتيان بمتعلقه ، وما ورد في المقام من صحة الصلاة تماما من الجاهل بوجوب القصر لا يدل على الترتب في مقام الجعل ، بل غايته كون الإتمام من الجاهل مسقطا لما يجب على المسافر من وجوب القصر ، نعم يلزم على قول كاشف الغطاء أن يكون المسافر الجاهل بالقصر مكلفا في اليوم والليلة بأزيد من الصلوات الخمس ، بل يمكن أن يقال : إن الجاهل بوجوب القصر لا يلتفت إلى كونه جاهلا به ، ليكون إيجاب التمام على الجاهل بوجوب القصر داعيا له إلى الإتيان بالتمام.

بقي في المقام أمر وهو أنه قد تقدم عدم اعتبار الفحص في جريان البراءة في الشبهة الموضوعية ، فإن قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وإن قلنا بأنها قاصرة لا تشمل لما قبل الفحص فيها ، وإن إمكان تحصيل الحجة على التكليف الواقعي بإمكان استعلام حال المشتبه الخارجي بيان ومصحح للعقاب على مخالفته ، إلّا أن ما دل على البراءة الشرعية غير قاصر عن الشمول لما قبل الفحص فيها ، فإن الموضوع للرفع فيها عدم العلم بالتكليف ، وقد يتمسك لعدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية بما ورد في صحيحة زرارة : «من أنه ليس على المكلف عند احتمال وقوع النجاسة على ثوبه النظر» ولكن التمسك به في عدم اعتبار الفحص في الشبهات الموضوعية غير صحيح ، حيث إن النجاسة في ثوب المصلى لا تكون مانعة

٧٢

.................................................................................................

______________________________________________________

عن الصلاة إلّا مع إحرازها واعتبار الفحص المنفي في المقام في الشبهة الموضوعية فيما إذا كان الشيء بوجوده الواقعي موضوعا للتكليف أو الوضع الملازم له.

في عدم اعتبار الفحص في الشبهات الموضوعية

وأيضا قد يقال باعتبار الفحص في بعض الشبهات الموضوعية وعدم جواز الرجوع فيها إلى الأصل النافي ، وهذا في الموارد التي لا يكون إحراز الموضوع غالبا وعادة بالفحص كبلوغ السفر حد المسافة ، فإنه يجب عند الجهل السؤال من أهل الخبرة وساكني تلك المواضع ، فإن لم يحرز الحال بالفحص يرجع إلى عدم بلوغه حد المسافة في سفره ، وكبلوغ المال الزكوي حد النصاب أو كفاية ما له لمئونة الحج ، أو كون المرأة قد طهرت من حيضها ، أو كون الاستحاضة قليلة أو متوسطة أو كثيرة ، أو زيادة ربحه على مئونة سنته ، ونحو ذلك مما يوجب ترك الفحص فيها إلى مخالفة التكاليف الواقعية ، وفيه إن حصل للمكلف علم بمخالفة التكليف مع ترك الفحص في بعض الوقائع من الشبهات الموضوعية التي يبتلي بها ولو تدريجيا فهذا العلم الإجمالي الحاصل بمخالفة بعض الاصول النافية الموجب للمخالفة القطعية للتكليف في بعض تلك الوقائع مانع عن الأخذ بالاصول النافية فيها ، وفي غير ذلك لا موجب لرفع اليد عنها مع شمول إطلاق خطاباتها أو عمومها لتلك الموارد ، نعم إذا كان في مورد الشك في التكليف أصل مثبت له فلا يبقى فيه لاصالة البراءة موضوع ، كما إذا شك في امرأة كونها أجنبية أو امرأته ، فإنّ الاستصحاب في عدم زوجيتها له يدخلها فيما يحرم الاستمتاع بها ، ومن هذا القبيل الشك في صرف ربح السنة في مئونتها ، سواء قلنا بأن الخمس يتعلق بالربح إذا لم يصرف في المئونة أو أن صرفه في المئونة مسقط لوجوب الخمس فيه ، فإن الاستصحاب في عدم صرفه في المئونة محرز لوجوب

٧٣

وقد حققناه في مبحث الضد امتناع الأمر بالضدين مطلقا ، ولو بنحو الترتب ، بما لا مزيد عليه فلا نعيد.

ثم إنه ذكر لأصل البراءة شرطان آخران :

أحدهما : أن لا يكون موجبا لثبوت حكم شرعي [١] من جهة اخرى.

______________________________________________________

الخمس فيه ، بخلاف ما إذا قيل بتعلّقه بالربح الزائد على مئونته ، فإنه يكون من الشك في تحقق موضوع التكليف ، ودعوى أن أصالة البراءة أصل امتناني لا يشمل موارد خلاف الامتنان لا يمكن المساعدة عليها ، فإن الكلام في مطلق الأصل النافي ، وعن النائيني قدس‌سره عدم جريان الأصل النافي في الموارد التي يحصل للمكلف مقدمات العلم بحال الموضوع ، ويحتاج إلى مثل مجرد النظر والالتفات بدعوى أن النظر لا يصدق عليه الفحص المحكوم بعدم اعتباره في الشبهات الموضوعية في جريان الأصل ، ولكن لا يخفى أن الفحص وعدمه ليسا بالموضوع في الاصول ، بل الموضوع لها هو الجهل وعدم العلم بالواقع ولا يفرق في صدق العلم وعدمه حصول مقدمات العلم وعدمه.

شرطان آخران للبراءة

[١] ذكر الفاضل التوني لجريان أصالة البراءة أمرين آخرين غير الفحص واليأس عن الظفر بالحجة على التكليف الواقعي في الشبهة الحكمية.

الأول : أن لا يثبت بأصالة البراءة حكم شرعي من جهة أخرى ، مثل أن يقال في أحد الإناءين المشتبهين الأصل عدم وجوب الاجتناب عنه ، فإنه يوجب الحكم بوجوب الاجتناب عنه ، أو يقال بأن الأصل عدم بلوغ الماء الملاقي للنجاسة كرا ، أو أن الأصل عدم تقدم الكرّية ، حيث يعلم بملاقاته للنجاسة على ملاقاتها ، فإن إعمال الاصول يوجب الاجتناب عن الإناء الآخر أو الملاقي أو الماء ، ولا يخفى أن المثالين الأخيرين لا يرتبطان بأصالة البراءة إلّا أن يراد منها ما يعم الاستصحاب في عدم

٧٤

ثانيهما : أن لا يكون موجبا للضرر على آخر.

______________________________________________________

الشيء ، وكيف ما كان فقد ذكر الماتن في الشرط الأول ما حاصله ، أنه لو كانت الإباحة الظاهرية كما هو مفاد قاعدة الحل ، ورفع التكليف كما هو مفاد حديث الرفع موضوعا لحكم شرعي آخر أو ملازما للإباحة ورفع التكليف حتى فيما كانا ظاهريين يثبت ذلك الحكم الآخر لثبوت موضوعه أو ثبوت حكم لا ينفك عن الحكم الآخر ، ولو كان الحكم الآخر ظاهريا ، وأما إذا كان الحكم الشرعي مترتبا على نفي التكليف وعدمه واقعا أو ملازمه لعدمه كذلك فلا يثبت ذلك الحكم الآخر بأصالة البراءة ؛ لأنها لا تنفي التكليف واقعا ، ومما يمكن أن يمثل به في المقام فيما إذا لم يكن عند المكلف إلّا ماء واحد يشك في حليته وحرمته ، فإنه إذا جرت في ذلك الماء أصالة الحلية يثبت وجوب الوضوء أو الغسل لصلاته ؛ لأنّ مع حكم الشرع بجواز تصرفه فيه يكون المكلف واجدا للماء فلا تصل النوبة إلى التيمّم لصلاته ، وكذا إذا شك في ثبوت الدين عليه للناس بحيث يمنع عن استطاعته للحج فإنه بأصالة البراءة عن الدين عليه يحرز الاستطاعة الموضوع لوجوب الحج ، نعم إذا ظهر بعد العمل أنه كان مديونا فبناء على أن عدم وجوب الحج على المديون ، لعدم تحقق الاستطاعة المعتبرة في وجوب الحج عرفا ، ظهر أن حجه لم يكن حجة الإسلام ، وأما بناء على أن عدم وجوبه على المديون لكون وجوب الحج معه حرجيا ، فيحكم بتحقق حجة الإسلام ؛ لأنّ نفي التكليف عند الحرج امتناني فلا يعم الفرض ، وهذا بخلاف ما لو ظهر أن الماء كان ملك الغير وأنه لم يكن راضيا في التصرف فيه ، فإنه يحكم بصحة وضوئه وصلاته بناء على أن الموجب للتقييد في خطاب الأمر بالوضوء للصلاة في باب اجتماع الأمر والنهي هو النهي المنجز لا النهي الواقعي ، وإلّا كان كالحج كما لا يخفى ، وأما استصحاب عدم الكرّية في الماء المزبور ملاقاته مع النجاسة فلا بأس

٧٥

ولا يخفى أن أصالة البراءة عقلا ونقلا في الشبهة البدوية بعد الفحص لا محالة تكون جارية ، وعدم استحقاق العقوبة الثابت بالبراءة العقلية والإباحة أو رفع التكليف الثابت بالبراءة النقلية ، لو كان موضوعا لحكم شرعي أو ملازما له فلا محيص عن ترتبه عليه بعد إحرازه ، فإن لم يكن مترتبا عليه بل على نفي التكليف واقعا ، فهي وإن كانت جارية إلّا أن ذاك الحكم لا يترتب ، لعدم ثبوت ما يترتب عليه بها ، وهذا ليس بالاشتراط.

وأما اعتبار أن لا يكون موجبا للضرر ، فكل مقام تعمه قاعدة نفي الضرر وإن

______________________________________________________

بجريانه وإثبات النجاسة بذلك ؛ لأنّ الموضوع لانفعال الماء هو الماء إذا لم يكن كرا ، كما هو مقتضى مفهوم قولهم عليهم‌السلام «إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شيء» (١) وكون الماء المزبور ملاقيا للنجاسة محرز بالوجدان ، وعدم كونه كرا محرز بالأصل ، فيتم موضوع الانفعال ، وأما مع إحراز كون الماء كرا وإحراز ملاقاته للنجاسة والشك في التقدم والتأخر ، فيقال بأن الاستصحاب في عدم كرية الماء إلى زمان الملاقاة معارض بالاستصحاب في عدم ملاقاته للنجاسة إلى زمان حدوث الكرّية فيتساقطان ويرجع إلى أصالة الطهارة في الماء ، هذا مع الجهل بتاريخ حدوثهما ، وأما مع العلم بتاريخ أحدهما فيجري الاستصحاب في ناحية عدم الآخر إلى زمانه فيحكم بمقتضاه ، ولكن الصحيح الحكم بنجاسة الماء في فرضي الجهل بتاريخهما أو تاريخ أحدهما لجريان الاستصحاب في عدم كرّيته عند ملاقاته النجاسة ، والاستصحاب في عدم ملاقاته إلى زمان الكرّية لا يثبت ملاقاتها المزبورة التي كانت عند الكرّية حتى لا ينفعل ، وتمام الكلام في بحث الفقه.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ : ١٥٨ ، الباب ٩ من أبواب الماء المطلق ، الأحاديث ١ و ٢ و ٥.

٧٦

لم يكن مجال فيه لأصالة البراءة [١] كما هو حالها مع سائر القواعد

______________________________________________________

[١] في كلام الفاضل التونى لجريان البراءة ، هو أن لا يتضرر مسلم بإعمالها كما لو فتح قفص طائر وطار ، أو حبس شاة فمات ولدها ، أو أمسك رجلا فشردت دابّته ، فإن البراءة عن الضمان فيها وفي مثلها يوجب الضرر على مالك الطائر والشاة والدابة وغيرها ، ويحتمل اندراج هذه الموارد في قاعدة الإتلاف وعموم قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله «لا ضرر ولا ضرار» (١) لأنّ المراد من نفي الضرر هو نفي الضرر غير المنجبر ، وإلّا فالضرر في نفسه غير منفي فلا العلم ولا الظن بأن الواقعة غير منصوصة ، فلا يتحقق شرط التمسك بالأصل من فقدان النص بل يحصل القطع بتعلق حكم شرعى بالضار ، ولكن لا يعلم أنه مجرد التعزير أو الضمان أو هما معا ، فينبغي تحصيل العلم بالبراءة ولو بالصلح ، ويرد عليه بأنه لو شملت قاعدة نفي الضرر الموارد المزبورة وثبت الضمان فيها لكون مفادها نفي الضرر غير المتدارك ، فتلك الموارد وأمثالها وإن لم تكن من موارد أصالة البراءة إلا أن عدم كونها منها من جهة عدم بقاء الموضوع لأصالة البراءة ، حيث لا موضوع للأصل العملي مع الدليل الاجتهادي ، ولذا لو قلنا بشمول قاعدة الإتلاف لتلك الموارد وقلنا بأن نفي الضمان فيها خلاف الامتنان على المالك فلا يبقى موضوع لأصالة البراءة أيضا.

وعلى الجملة عدم وجود دليل اجتهادي على الإلزام الواقعي من التكليف أو الوضع لا يكون شرطا زائدا على تحقق موضوع الأصل ، نعم إذا لم يحرز استناد التلف إلى الفاعل في تلك الموارد أو بعضها فلا باس بالرجوع إلى أصالة عدم الضمان مع ثبوت التعزير فيها ؛ لأنّ التصرف في ملك الغير بلا رضا مالكه كفتح قفصه

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ : ٣٢ ، الباب ١٧ من أبواب الخيار ، الحديث ٣.

٧٧

الثابتة بالأدلة الاجتهادية ، إلّا أنه حقيقة لا يبقى لها مورد ، بداهة أن الدليل الاجتهادي يكون بيانا وموجبا للعلم بالتكليف ولو ظاهرا ، فإن كان المراد من الاشتراط ذلك ، فلا بد من اشتراط أن لا يكون على خلافها دليل اجتهادي ، لا خصوص قاعدة الضرر ، فتدبر ، والحمد لله على كل حال.

______________________________________________________

أو إمساك دابته وكذا التصرف في بدنه إيذاء حرام موجب للتعزير ، وقد يوجه كلام الفاضل التوني بأن مراده عدم جريان أصالة البراءة لا استصحاب عدم ضمانه ، حيث إن جريانها في مثل المقام مما يوجب تضرر المالك خلاف الامتنان ، ولكن لا يخفى ما في التوجيه فإنه علل في آخر كلامه عدم جريان الأصل ، بأن البراءة تجري في موارد عدم العلم والظن بعدم النص ، وهذا لا يختص بأصالة البراءة ، بل يجري في جميع الاصول ، بل مسألة خلاف الامتنان تختص بحديث الرفع ، ولا تعم مثل : «كل شيء حلال حتى تعرف الحرام» ، وما ذكر الفاضل التوني من أنّه مع احتمال دخول المورد في النص الموجود لا يجرى الأصل يلزم عليه عدم جريان أصالة البراءة في الشبهات الموضوعية ؛ لأنّ شرط جريانها العلم أو الظن بعدم النص ، ويحتمل في الشبهات الموضوعية دخول المشكوك في خطاب التكليف لحصول موضوعه خارجا ، ولا يحتمل الفرق بينها وبين ما ذكره من الامثلة ، أنّ الشبهة فيما ذكره عن الشبهة المفهومية ، حيث لا يحرز صدق الإتلاف في تلك الامثلة وكون الشبهة فيما ذكرنا موضوعية.

٧٨

ثم إنه لا باس بصرف الكلام إلى بيان قاعدة الضرر والضرار على نحو الاقتصار [١] وتوضيح مدركها وشرح مفادها.

______________________________________________________

في قاعدة نفي الضرر

[١] يقع الكلام في قاعدة نفي الضرر في جهات ، الأولى : في الروايات التى ذكر لها مدركا ومنها موثّقة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إن سمرة بن جندب كان له عذق في حائط لرجل من الأنصار ، وكان منزل الأنصاري بباب البستان ، فكان يمر إلى نخلته ولا يستأذن ، فكلّمه الأنصاري أن يستأذن إذا جاء ، فأبى سمرة فلما تأبّى جاء الأنصاري إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فشكا إليه ، وخبّره الخبر فأرسل إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وخبّره بقول الأنصاري وما شكا ، وقال : إذا أردت الدخول فاستأذن فأبى ، فلما أبى ساومه حتى بلغ به من الثمن ما شاء الله ، فأبى أن يبيع ، فقال : لك بها عذق يمدّ لك في الجنة فأبى أن يقبل ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله للأنصاري اذهب فاقلعها وارم بها إليه ، فإنه لا ضرر ولا ضرار» (١) وفي رواية الحذاء عن أبي جعفر عليه‌السلام بعد الإباء قال صلى‌الله‌عليه‌وآله لسمرة : «ما أراك يا سمرة إلّا مضارا اذهب يا فلان فاقطعها ، فاضرب بها وجهه» (٢) ، ورواية عقبة بن خالد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بين أهل المدينة في مشارب النخل أنه لا يمنع نفع الشيء وقضى بين أهل البادية أنه لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلأ ، وقال : لا ضرر ولا ضرار» (٣) ، وبهذا السند روى عقبة ابن خالد عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن ، وقال : لا ضرر ولا ضرار ، وقال : إذا أرّفت الأرف وحددت

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٥ : ٤٢٨ ، الباب ١٢ من أبواب كتاب إحياء الموات ، الحديث ٣.

(٢) المصدر المتقدم : ٤٢٧ ـ ٤٢٨ ، الحديث الأول.

(٣) وسائل الشيعة ٢٥ : ٤٢٠ ، الباب ٧ من أبواب كتاب إحياء الموات ، الحديث ٢.

٧٩

وإيضاح نسبتها مع الأدلة المثبتة للأحكام الثابتة للموضوعات بعناوينها الأوّلية أو الثانوية ، وإن كانت أجنبية عن مقاصد الرسالة ، إجابة لالتماس بعض الأحبّة ، فأقول وبه أستعين :

إنه قد استدل عليها بأخبار كثيرة :

______________________________________________________

الحدود فلا شفعة» (١) ، والمروي في الفقيه في باب ميراث أهل الملل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» (٢) ، والثابت مما تقدم قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا ضرر ولا ضرار ، وأما زيادة : على مؤمن ، أو زيادة في الإسلام ، فلم يثبت شيء منها ، فإن رواية زرارة الواردة فيها على مؤمن (٣) ضعيفة سندا ، حيث في سندها إرسال ، وما رواه في الفقيه مرسل ولو رواه عنه «صلوات الله وسلامه عليه وآله» بالقطع.

لا يقال : العمدة في المقام من الروايات موثقة زرارة التي وردت في قضية سمرة بن جندب ، وقد وردت هذه القضية في رواية أبي عبيدة الحذاء بلا نقل جملة لا ضرر ولا ضرار ، فإنه يقال مع المناقشة في رواية الحسن بن زياد الصيقل سندا أنها لا تنافي موثّقة زرارة ؛ لأنّ اختلاف النقلين بحسب الزيادة والنقيصة بمثل ذلك لا يوجب تعارضا بل يؤخذ بالزيادة.

ثم إنه لا يبعد أن يكون قوله عليه‌السلام في روايتى عقبة بن خالد : وقال لا ضرر ولا ضرار ، من قبيل الجمع في الرواية لا في المروي بأن يكون قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا ضرر ولا ضرار ، حكم مستقل لا يرتبط بمسألتي حق الشفعة ومسألة إعطاء فضول الماء ، ولكن أبو عبد الله عليه‌السلام قد جمع في الرواية لعقبة ، ويؤيد ذلك أن الشفعة لا تثبتها

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٥ : ٣٩٩ ـ ٤٠٠ ، الباب ٥ من أبواب كتاب الشفعة ، الحديث الأول.

(٢) من لا يحضره الفقيه ٤ : ٣٣٤.

(٣) وسائل الشيعة ١٨ : ٣٢ ، الباب ٧ من أبواب الخيار ، الحديث ٥.

٨٠