دروس في مسائل علم الأصول - ج ٥

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٥

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8438-09-3
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤١٦

وفيه : إن قضية عدم اعتباره لإلغائه أو لعدم الدليل على اعتباره لا يكاد يكون إلّا عدم إثبات مظنونه به تعبّدا ، ليترتّب عليه آثاره شرعا ، لا ترتيب آثار الشك مع عدمه ، بل لا بد حينئذ في تعيين أن الوظيفة أيّ أصل من الأصول العملية من الدليل ، فلو فرض عدم دلالة الاخبار معه على اعتبار الاستصحاب فلا بد من الانتهاء إلى سائر الأصول بلا شبهة ولا ارتياب ، ولعلّه أشير إليه بالأمر بالتأمل ، فتأمل جيدا.

______________________________________________________

بعدم الانتقاض من غير تقييد بصورة عدم الظن بالنوم مع أن الظن به أمر عادي في مثل الفرض مقتضاه جريان الاستصحاب مع عدم العلم بالانتقاض ، وثانيتهما : أنه جعل الغاية في الحكم ببقاء الوضوء بقوله عليه‌السلام : «حتى يستيقن أنه قد نام» وهذا وإن كان واردا في الوضوء إلّا أن تطبيق الإمام قدس‌سره بعد ذلك وتعليل حكمه بالكبرى الكلية بقوله : «وإن لم يجئ أمر بيّن فإنه على يقين من وضوئه ولا تنقض اليقين بالشك» مقتضاه كون المراد من الشك في أخبار النهي عن نقض اليقين بالشك هو خلاف العلم.

جريان الاستصحاب في موارد الظن غير المعتبر

وقد ذكر الشيخ قدس‌سره في وجه جريان الاستصحاب مع الظن غير المعتبر أمرين آخرين :

الأول ـ الإجماع من القائلين باعتبار الاستصحاب من باب الأخبار ، وقد أورد عليه الماتن قدس‌سره بأن الإجماع منهم على تقديره مدركي ، وأنهم التزموا بذلك لكون ظاهر الشك الوارد في أخبار الاستصحاب خلاف العلم واليقين.

والثاني ـ هو أن الظن غير المعتبر إن كان كالظن القياسي في قيام الدليل على عدم اعتباره فمقتضى ذلك الدليل أن ذلك الظن كعدمه وأن كلّما يترتب على عدمه يترتب مع وجوده أيضا وإن كان عدم اعتباره لعدم الدليل على اعتباره يكون رفع اليد عن العلم بالحالة السابقة بالشك لا مع اليقين ، وأورد الماتن على ذلك بأن عدم اعتبار

٣٨١

تتمة : لا يذهب عليك أنه لا بد في الاستصحاب من بقاء الموضوع وعدم أمارة معتبرة هناك ولو على وفاقه فهاهنا مقامان :

المقام الأول ـ أنه لا إشكال في اعتبار بقاء الموضوع بمعنى اتحاد القضية المشكوكة مع المتيقنة موضوعا كاتحادهما حكما ، ضرورة أنه بدونه لا يكون الشك في البقاء بل في الحدوث ، ولا رفع اليد عن اليقين في محل الشك نقض

______________________________________________________

الظن لقيام الدليل على عدم اعتباره أو لعدم الدليل على اعتباره مقتضاه عدم ثبوت المتعلق بذلك الظن لا أنه يترتب على ذلك الظن ما يترتب على الشك في ذلك المتعلق بأن ينزل الظن منزلة الشك مع فرض أن ما دل على اعتبار الاستصحاب ليس فيه إطلاق بحيث لا يعم إلّا صورة الاحتمال المساوي للاحتمال الآخر فيكون المتعين في تعيين الحكم الظاهري في صورة الظن غير المعتبر سائر القواعد التي لم يؤخذ في موضوعاتها عنوان الشك بل عنوان الجهل وعدم العلم كما هو مفاد قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «رفع عن امتي ما لا يعلمون» (١).

أقول : أضف إلى ذلك أن المعنى الظاهر من النهي عن نقض اليقين بالشك أن يكون رفع اليد عن اليقين بشيء مع الشك في ذلك الشيء نفسه لا مع الشك في شيء آخر ومع الشك في اعتبار ظن لا يكون نقض اليقين الشيء بالشك في نفس ذلك الشيء ولا يخفى أن الكلام في المقام في عموم مدلول أخبار الاستصحاب بحيث يعم الموارد التي يكون الظن بالارتفاع أو البقاء مع عدم اعتبار ذلك الظن ، وأما موارد الظن فلا مورد للاستصحاب فيها بناء على أن اعتبار الأمارة أو الظن معناه اعتبارهما علما وأما بناء على مسلك جعل الحجية أو جعل مدلول الأمارة حكما

__________________

(١) وسائل الشيعة ١١ : ٢٩٥ ، الباب ٥٦ من أبواب جهاد النفس ، الحديث الأول.

٣٨٢

اليقين بالشك ، فاعتبار البقاء بهذا المعنى لا يحتاج إلى زيادة بيان وإقامة برهان ، والاستدلال عليه باستحالة انتقال العرض إلى موضوع آخر لتقوّمه بالموضوع وتشخصه به غريب ، بداهة أن استحالته حقيقة غير مستلزم لاستحالته تعبّدا ، والالتزام بآثاره شرعا [١].

______________________________________________________

طريقيا فسيأتي البحث في ذلك في بحث تعارض الأمارات مع الاستصحاب.

اعتبار بقاء الموضوع في جريان الاستصحاب وبيان المراد من بقائه

[١] قالوا يعتبر في جريان الاستصحاب بقاء الموضوع وعدم قيام أمارة معتبرة في مورده ولو على وفق الحالة السابقة ، ويقع الكلام في مقامين الأول اعتبار بقاء الموضوع وقد فسر الماتن قدس‌سره بقاءه باتحاد القضيتين المشكوكة والمتيقنة بحسب الموضوع والمحمول بأن يكون الموضوع في القضية المشكوكة هو الموضوع في القضية المتيقنة ، والمحمول فيها نفس المحمول فيها والوجه في اعتبار ذلك أنه مع اختلاف القضيتين لا يتعلق الشك ببقاء الحالة السابقة ولا يكون عدم ترتيب الأثر على القضية المشكوكة على طبق القضية المتيقنة من نقض اليقين بالشك كما إذا علم بحياة زيد وشك في حياة عمرو أو في عدالة زيد ولكن لا يخفى أن التعبير عن اعتبار اتحاد القضيتين ببقاء الموضوع غير صحيح فإن المعتبر في الاستصحاب تعلق الشك ببقاء الحالة السابقة ولا يكون الشك في بقائها إلّا مع اتحاد القضيتين لا ببقاء الموضوع خاصة ولا بالاتحاد في ناحيته خاصة ، ولعل التعبير المذكور وقع تبعا للشيخ قدس‌سره حيث ذكر أن المعتبر في جريان الاستصحاب في ناحية المحمول بقاء الموضوع على النحو الذي فرض سابقا فإن كان المستصحب محمولا أوليا فيعتبر تقرر الموضوع ذهنا كما في استصحاب وجود الشيء الذي هو مفاد (كان) التامة ، وإن كان من المحمولات الثانوية فيعتبر وجوده خارجا كما في الاستصحاب في ناحية

٣٨٣

وأما بمعنى إحراز وجود الموضوع خارجا ، فلا يعتبر قطعا في جريانه لتحقق أركانه بدونه ، نعم ربما يكون مما لا بد منه في ترتيب بعض الآثار ، ففي استصحاب عدالة زيد لا يحتاج إلى إحراز حياته لجواز تقليده ، وإن كان محتاجا إليه في جواز الاقتداء به أو وجوب إكرامه أو الإنفاق عليه.

______________________________________________________

قيام زيد أو عدالته حيث إن المعروض للقيام أو العدالة زيد بوجوده الخارجي واستدل على اعتبار بقاء الموضوع كذلك بأنه مع عدم بقائه إن اريد إثبات المحمول بلا موضوع فهو ممتنع ؛ لأن العرض لا يقوم إلّا بالمعروض وإن اريد إثبات قيامه لموضوع آخر فلازمه انتقال عرض من معروض إلى آخر وهو مستحيل.

ـ ولكن لا يخفى ما فيه فإنه ربما لا يكون المستصحب من العرض بالإضافة إلى المعروض كما في الاستصحاب في ناحية وجود الشيء الذي من قبيل الجوهر أو ملكية شيء أو نجاسته ونحوهما من الامور الاعتبارية التي لا تدخل في عنوان العرض من الوضع والتكليف كما أن المستصحب قد يكون من الامور العدمية فإن شيئا من ذلك لا يكون من العرض هذا أولا.

ـ وثانيا : ما ذكره الماتن قدس‌سره أن الممتنع هو قيام العرض بلا موضوع قياما خارجيا أو انتقاله إلى غير معروضه كذلك لا قيامه تعبدا أو انتقاله كذلك فإن مرجع التعبد إلى الاعتبار القائم بنفس المولى كما إذا ورد الحكم بعدالة عمرو عند الشك في بقاء عدالة زيد ثمّ إنه يقال بظهور الثمرة بين بقاء الموضوع على ما ذكره الشيخ وبين القول بأن المعتبر في جريان الاستصحاب اتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة من حيث الموضوع والمحمول فيما إذا شك في عدالة زيد مثلا مع الشك في حياته فإنه يجري الاستصحاب في ناحيته على عدالته لاتحاد القضيتين في الموضوع والمحمول والمفروض احتمال بقاء تلك القضية المتيقنة ولكن لا يجري

٣٨٤

وإنما الإشكال كله في أن هذا الاتحاد هل هو بنظر العرف؟ أو بحسب دليل الحكم؟ أو بنظر العقل؟ فلو كان مناط الاتحاد هو نظر العقل فلا مجال للاستصحاب في الأحكام ، لقيام احتمال تغيّر الموضوع في كل مقام شك في الحكم بزوال بعض خصوصيات موضوعه ، لاحتمال دخله فيه ، ويختص بالموضوعات ، بداهة أنه إذا شك في حياة زيد شك في نفس ما كان على يقين

______________________________________________________

الاستصحاب في بقائه على عدالته على مسلك بقاء الموضوع لعدم إحراز حياة زيد ويترتب على استصحاب القضية المتيقنة جواز تقليده مثلا. نعم ، لو كان ترتب الأثر موقوفا على إحراز ذلك الموضوع في القضية المتيقنة عينا كما في استحباب إكرامه والإنفاق عليه فيحتاج إلى ذلك الإحراز.

وقد يقال : بعدم الفرق بين المسلكين في اعتبار بقاء الموضوع وذلك فإن الشك في عدالة زيد أو غيرها من أوصافه على أنحاء :

الأول ـ أن يكون الشك في عدالته أو غيرها من أوصافه ناشئا من الشك في بقائه بحيث لو أحرز حياته يعلم عدالته أو غيرها من أوصافه.

الثاني ـ أن يكون الشك في عدالته أو غيرها متحققا حتى مع إحراز بقاء حياته بأن يكون بقاؤه على حياته كعدالته مشكوكا غاية الأمر الشك في عدالته أو غيرها من وصفه في طول الشك في حياته.

الثالث ـ أن تكون حياته محرزة وإنما الشك في بقاء عدالته أو سائر وصفه وعرضه ولا ينبغي التأمل في جريان الاستصحاب في ناحية عدالته أو سائر وصفه وعرضه في الصورة الثالثة سواء قلنا بأن المعتبر في جريان الاستصحاب بقاء الموضوع خارجا أو اتحاد القضيتين ، وأما في الصورة الثانية فلا بأس بالاستصحاب في ناحية حياته وعدالته بناء على اعتبار اتحاد القضيتين بأن يقال كان زيد حيا

٣٨٥

منه حقيقة بخلاف ما لو كان بنظر العرف أو بحسب لسان الدليل ، ضرورة أن انتفاء بعض الخصوصيّات وإن كان موجبا للشك في بقاء الحكم لاحتمال دخله في موضوعه ، إلّا أنه ربما لا يكون بنظر العرف ولا في لسان الدليل من مقوّماته [١].

______________________________________________________

وعادلا والآن كما كان ، وأما بناء على مسلك الشيخ قدس‌سره يجري الاستصحاب في ناحية حياته أولا وبعد إحراز وجود زيد ولو بالاستصحاب يجري في ناحية عدالته أو سائر وصفه ثانيا ، ولكن لا يخفى أن الاستصحاب في بقاء حياة زيد موقوف على ترتب أثر شرعي عليه لا فيما إذا فرض ترتب الأثر على عدالته فقط ، ومن هنا لا يجري الاستصحاب بناء على مسلك بقاء الموضوع في الصورة الاولى أيضا ؛ لأن الاستصحاب في بقاء زيد لا يترتب عليه تحقق عدالته ؛ لأن الترتب اتفاقي لا شرعي ولا في عدالته أو سائر وصفه لعدم إحراز الموضوع له إلّا أن يقال يجري الاستصحاب في ناحية وجود زيد المتصف بالعدالة حيث إنه كان له الوجود كذلك سابقا ويحتمل بقاؤه كذلك في الصورة الاولى والثانية ، والموضوع للوجود المتصف هو زيد بوجوده التقرري لا الخارجي.

ومما ذكرنا يظهر أنه لو شك في بقاء زيد ولكن علم أنه لو كان حيا لصار بمرتبة الاجتهاد أو صار أعلم الأحياء من دون أن يكون لاجتهاده أو أعلميته حالة سابقة فلا يفيد الاستصحاب في بقاء حياته لإثباتهما ليترتب عليه جواز تقليده أو وجوبه ؛ لأن إثبات حياته لعدم صيرورته مجتهدا أو أعلم أثر شرعي لبقاء حياته وليس لهما حالة سابقة بل الحالة السابقة عدمهما سواء قيل بأن المعتبر في الاستصحاب اتحاد القضيتين أو بقاء الموضوع بالمعنى المتقدم في كلام الشيخ قدس‌سره.

[١] بعد ما ظهر اعتبار الاتحاد بين القضية المشكوكة والمتيقنة في جريان الاستصحاب في جهتي الموضوع والمحمول يقع الكلام في النظر الذي يلاحظ

٣٨٦

كما أنه ربما لا يكون موضوع الدليل بنظر العرف بخصوصه موضوعا ، مثلا إذا ورد (العنب إذا غلى يحرم) كان العنب بحسب ما هو المفهوم عرفا هو خصوص العنب ، ولكن العرف بحسب ما يرتكز في أذهانهم ويتخيّلونه من المناسبات بين الحكم وموضوعه ، يجعلون الموضوع للحرمة ما يعم الزبيب

______________________________________________________

الاتحاد بينهما بذلك النظر ويقال لا عبرة في الاتحاد بنظر العقل بأن يعتبر الاتحاد بحسب نظره هو المعيار في جريان الاستصحاب ؛ لأن ذلك يستلزم اختصاص جريانه بالشبهات الموضوعية ولا يجري في الشبهات الحكمية وذلك فإن الشك في الشبهات الحكمية ينشأ من تخلف بعض ما كان ثبوت الحكم معه متيقنا حيث إنه لو لم يتخلف شيء مما يحتمل دخله في ثبوت الحكم كان بقاؤه محرزا وجدانا لعدم تخلف الحكم عن موضوعه إلّا بفرض النسخ كما إذا ثبت الحكم بالنجاسة للماء الكر بالتغير في أحد أوصافه بوقوع النجاسة فيه يكون زوال التغير منه من قبل نفسه موجبا للشك في بقاء نجاسته لاحتمال أن الحكم بالنجاسة موضوعه ما حصل فيه التغير وإن زال من قبل نفسه ويحتمل كون الموضوع للحكم بها الماء المتغير ما دام متغيرا فمع عدم إحراز الموضوع لا يمكن إحراز اتحاد القضيتين عقلا ، ولا يخفى أنه لا يصح أن يقال إن اعتبر الاتحاد بينهما عقلا لجرى الاستصحاب في جميع الشبهات الموضوعية ، ولا يجري في شيء من الشبهات الحكمية أصلا حيث مع لحاظ الاتحاد بنظره كان بعض الشبهات الموضوعية كالحكمية في عدم الجريان كالشك في بقاء الكرية للماء حيث لا يمكن دعوى أن المتيقن كان كرية هذا الماء الموجود فعلا وأيضا جرى الاستصحاب في بعض الشبهات الحكمية فيما إذا كان الموجب للشك في البقاء هو مضي نفس الزمان كما إذا شك في أن الخيار مع ظهور الغبن فوري أم بالتراخي وإن مبدأ خيار الحيوان من حين العقد أو من حين الافتراق فإنه يجري في

٣٨٧

ويرون العنبيّة والزبيبيّة من حالاته المتبادلة ، بحيث لو لم يكن الزبيب محكوما بما حكم به العنب ، كان عندهم من ارتفاع الحكم عن موضوعه ، ولو كان محكوما به كان من بقائه ، ولا ضير في أن يكون الدليل بحسب فهمهم على خلاف ما ارتكز في أذهانهم بسبب ما تخيّلوه من الجهات والمناسبات فيما إذا لم تكن بمثابة تصلح قرينة على صرفه عما هو ظاهر فيه.

______________________________________________________

الأول الاستصحاب في بقاء خيار الغبن ، وفي الثاني عدم حدوث خيار الحيوان إلى زمان انقضاء خيار المجلس حيث إن الاتحاد بين القضيتين حتى بنظر العقل يلاحظ مع قطع النظر عن مضي الزمان.

ثمّ إن الشيخ قدس‌سره قد التزم بأنه لو اقتصر بالنظر العقلي في بقاء الموضوع لاختص جريان الاستصحاب بموارد الشك في الرافع ، ويورد عليه :

أولا ـ بأن مقتضى الاقتصار عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية مطلقا ولو كان الشك في الرافع ؛ لأن الموضوع للحكم في موارد الشك في الرافع أيضا غير محرز حيث يحتمل أنّ لعدم ما يطلق عليه الرافع دخلا في ثبوت الحكم سابقا.

ثانيا ـ بأن اختصاص جريانه بموارد الشك في الرافع لا يوجب محذورا وقد التزم قدس‌سره بعدم جريانه في موارد الشك في المقتضي حتى وإن لم يلتزم بأن المعيار في بقاء الموضوع لحاظ نظر العقل.

وقد وجه المحقق النائيني قدس‌سره كلام الشيخ ما حاصله أن الرافع يطلق على أمرين :

أولهما ـ يراد به مقابل المانع حيث إن المانع يمنع عن تأثير المقتضي ؛ لأن يحدث مقتضاه والرافع ما يقلع الشيء عن صفحة الوجود بعد وجوده وحدوثه.

والثاني ـ هو أن يراد بالرافع مقابل المقتضي والمراد من الشك في المقتضي أنه لو حصل مقتضاه في زمان ولم يتغير شيء مما كان عند وجود المقتضى بالفتح من

٣٨٨

ولا يخفى أن النقض وعدمه حقيقة يختلف بحسب الملحوظ من الموضوع ، فيكون نقضا بلحاظ موضوع ، ولا يكون بلحاظ موضوع آخر ، فلا بد في تعيين أن المناط في الاتحاد هو الموضوع العرفي أو غيره ، من بيان أن خطاب (لا تنقض) قد سيق بأيّ لحاظ؟.

فالتحقيق أن يقال : إن قضية إطلاق خطاب (لا تنقض) هو أن يكون بلحاظ الموضوع العرفي ، لأنه المنساق من الإطلاق في المحاورات العرفية ومنها الخطابات الشرعية ، فما لم يكن هناك دلالة على أن النهي فيه بنظر آخر غير ما هو

______________________________________________________

انعدام شيء موجود في ذلك الزمان أو وجود شيء كان معدوما في ذلك الزمان شك في بقاء ذلك المقتضي بمرور نفس الزمان كما إذا شك في أن خيار الغبن عند ظهور الغبن فوري أو أنه على التراخي بخلاف موارد الشك في الرافع فإنه إذا حصل المقتضى بالفتح في زمان ولم يتغير شيء مما كان عند وجوده من انقلاب شيء موجود إلى العدم أو انقلاب المعدوم إلى الوجود يبقى ذلك المقتضي إلى الأبد وما التزم الشيخ قدس‌سره في الرسائل من التفصيل من اعتبار الاستصحاب في موارد الشك في الرافع وعدم اعتباره في موارد الشك في المقتضي مراده من الرافع هذا المعنى الثاني فإنه إذا شك في نجاسة الماء الكر بعد زوال تغيره يكون المورد من موارد الشك في الرافع ؛ لأنه لو لم يتبدل التغير إلى العدم كان بقاء نجاسة الماء محرزا بالوجدان ، وما ذكره من أن كون المعيار في بقاء الموضوع هو نظر العقل يستلزم اختصاص الاستصحاب بموارد الشك في الرافع مراده بالرافع المعنى الأول : لأن الرافع أي قالع شيء عن صفحة الوجود لا يكون عدما بل لا بد من أن يكون أمرا وجوديا بخلاف الرافع بالمعنى الثاني حيث يمكن كونه عدما كانعدام التغير عن الماء الكر فإنكار الشيخ قدس‌سره بكون الاعتبار بنظر العقل في بقاء الموضوع لاستلزام ذلك اختصاصه

٣٨٩

الملحوظ في محاوراتهم ، لا محيص عن الحمل على أنه بذاك اللحاظ ، فيكون المناط في بقاء الموضوع هو الاتحاد بحسب نظر العرف ، وإن لم يحرز بحسب العقل أو لم يساعده النقل ، فيستصحب مثلا ما يثبت بالدليل للعنب إذا صار زبيبا ، لبقاء الموضوع واتحاد القضيتين عرفا ، ولا يستصحب فيما لا اتحاد كذلك وإن كان هناك اتحاد عقلا ، كما مرّت الإشارة إليه في القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي ، فراجع [١].

______________________________________________________

بموارد الشك في الرافع مراده من الرافع بالمعنى الأول وما التزم به قدس‌سره هو اختصاص جريانه بموارد الشك في الرافع هو بالمعنى الثاني فلا منافاة ولكن لا يخفى أنه لو اعتبر في جريان الاستصحاب بقاء الموضوع بالدقة العقلية لما جرى الاستصحاب في الأحكام الشرعية من غير فرق بين موارد الشك في المقتضي وموارد الشك في الرافع الذي التزم الشيخ قدس‌سره بجريانه فيها فإن الحكم على كل حال من الامور الاعتبارية ، والموضوع للأمر الاعتباري إذا كان باقيا يبقى الحكم ببقائه والشك في بقاء الحكم في الشبهات الحكمية لا بد من أن يستند إلى احتمال ما تخلف في موضوع الحكم ثبوتا سواء كان التخلف لانتفاء أمر وجودي كزوال التغير عن الماء الكر وكذهاب ثلثي العصير المغلي بالهواء حيث يحتمل انعدام الثلثين بالهواء حيث يحتمل أن عدم ذهابه سابقا كان دخيلا في حرمته أو لتبدل أمر عدمي إلى الوجودي كالذي سافر إلى أربعة فراسخ بقصد الرجوع بعد أيام إلى غير ذلك فقالع الحكم عن الوجود لا يجري في الاستصحاب في الأحكام الشرعية حتى في موارد الشك في النسخ حيث إن النسخ فيها عبارة عن انتهاء أمد الحكم فالمتحصل أنه لا قالع للوجود عند الشك في بقاء الحكم الشرعي ليقال بأنه لو كان المعتبر في بقاء الموضوع الدقة العقلية لاختص جريانه بموارد الشك في الرافع بمعنى قالع الوجود.

[١] بعد ما تبين عدم العبرة في جريان الاستصحاب باتحاد القضيتين بنظر

٣٩٠

.................................................................................................

______________________________________________________

العقل حتى في الشبهة الموضوعية يقع الكلام في اعتبار كون اتحادهما بنظر العرف أو بحسب لسان الدليل يعني خطاب الحكم حيث إنه قد يكون ما ورد في خطاب الحكم في ناحية الموضوع عنوان لا يكون ذلك العنوان بنفسه موضوعا له بنظر العرف بل يكون الموضوع ما يعم غيره أيضا كما إذا ورد في الخطاب : العنب إذا غلى يحرم ، وعنوان العنب وإن لا يعم الزبيب بحسب الفهم العرفي ولذا يصح أن يقال جزما بأنه لا دلالة لذلك الخطاب على حكم الزبيب إذا غلى ولكن مع ذلك يرى أهل العرف العنب الذي صار زبيبا موجودا واحدا والاختلاف بينهما بالحالات بحيث لو كان الزبيب أيضا محكوما بالحرمة ثبوتا عند غليانه كان ذلك بنظر العرف بقاء للحرمة الثابتة له ثبوتا حال العنب وعدم ثبوتها زوالا عند صيرورته زبيبا.

والحاصل أن في موارد الاستصحاب يكون المستصحب هي القضية المتيقنة ثبوتا وإذا يرى أهل العرف العنوان الوارد في خطاب الحكم في ناحية الموضوع من الأحوال لموضوع الحكم ثبوتا بحيث يحتمل أن يكون الحكم المجعول لذات الموضوع ضيقا لا يعم غير ذلك الحال ويحتمل كونه وسيعا بحيث يعم الحالة الاخرى أيضا بحيث على تقدير كونه ثبوتا كذلك يعد الحكم في الحالة الاخرى ثبوتا من بقاء الحكم الأول لا حكما آخر بجعل آخر يكون المورد مجري للاستصحاب فلا فرق بين أن يرد في الخطاب : الماء المتغير في أحد أوصافه نجس ، أو يرد : الماء إذا تغير تنجس ، أو : أن العنب المغلي حرام ، أو يرد : العنب إذا غلى يحرم ، فإن معروض النجاسة والحرمة ثبوتا بحسب الفهم العرفي بمناسبة الحكم والموضوع نفس الماء وذات العنب ولكن لا ينافي ذلك عدم دلالة الخطاب في شيء من التقديرين من نجاسة الماء بعد زوال تغيره وحرمة الزبيب بعد غليانه ولو كان

٣٩١

المقام الثاني ـ أنه لا شبهة في عدم جريان الاستصحاب مع الأمارة المعتبرة

______________________________________________________

للخطاب دلالة على ثبوت الحكم في الحالة الاخرى لما كان مجال للأصل العملي فانتفاء مدلول الخطاب بالإضافة إلى الحالة الاخرى لا ينافي احتمال بقاء القضية المتيقنة ثبوتا في تلك الحالة ، وربّما يكون العنوان الوارد في الخطاب بحسب الفهم العرفي عنوانا مقوما للحكم ثبوتا أيضا ولا يرونه من الحالات بحيث لو كان الحكم ثبوتا عاما لا يعد الثاني بقاء للأول بل حكما مجعولا آخر مثل الحكم المجعول الأول كنجاسة المني فإنه لا يعم ما إذا كان المني دما والدم مضغة فإن نجاسة الدم نجاسة اخرى وليس من بقاء نجاسة المني ولا نجاسة المضغة على تقديرها نجاسة الدم ، ومما ذكر يظهر أن الحكم بنجاسة أولاد الكفّار أخذ بالاستصحاب بنجاسة المني فاسد ، وأنه لا يجري الاستصحاب في موارد الاستحالة في الأعيان النجسة والمتنجسة ؛ لعدم اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة ثبوتا.

لا يقال : عدم جريان الاستصحاب في موارد الاستحالة في الأعيان النجسة صحيح ؛ لأن العنوان في العين النجسة عنوان مقوم لموضوع النجاسة ومع الاستحالة ينتفي ما هو الموضوع ثبوتا وأما الاستحالة في الأعيان المتنجسة فلا موجب لعدم جريان الاستصحاب كما إذا شك في بقاء الخشب المتنجس فحما أو رمادا ؛ لأن الموضوع للتنجس فيها هو كون شيء جسما فإنه مقتضى قولهم كل جسم لاقى نجسا يتنجس ولذا لو قام دليل اجتهادي على نجاسة الفحم أو الرماد المذكور لا تعد نجاستهما نجاسة اخرى لعدم الموجب له غير نجاسة الخشب.

فإنه يقال : لا فرق في موارد الاستحالة بين الأعيان النجسة والمتنجسة فإن المحكوم بالنجاسة نفس الخشب الملاقي للنجاسة وبعد صيرورته رمادا لا خشبا ولو كان في البين دليل على نجاسته لكان هذا تعبدا آخر لا تعبدا ببقاء الحالة السابقة ،

٣٩٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وقولهم : كل جسم لاقى نجسا يتنجس ، ليس لبيان أن الموضوع للتنجس هي الجهة الجامعة بين الأشياء بل لبيان أن خصوصية جسم غير دخيل في تنجسه بالملاقاة مع النجس بحيث لا يحصل التنجس لجسم طاهر دون جسم آخر وبتعبير آخر انطباق عنوان الجسم الطاهر على شيء من قبيل الواسطة في الثبوت لا من قبيل الواسطة في العروض.

لا يقال : لو كانت الاستحالة موجبا لانتفاء الموضوع بحيث لم يكن معه مجال للاستصحاب فما الفارق بينه وبين الانقلاب مع أنه لا يبقى الموضوع مع الانقلاب أيضا مع أنهم ذكروا أن مطهرية الانقلاب تعبدي يقتصر في الحكم بها على قيام دليل خاص.

فإنه يقال : ـ مع الفرق بين موارد الاستحالة والانقلاب في بعض الموارد كالمتنجسات كما في انقلاب العصير دبسا حيث إن كونه عصيرا وصار دبسا من الأوصاف والحالات ـ إن في مورد الانقلاب تنجس ما فيه المائع موجب لتنجس المائع الذي انقلب إليه ؛ ولذا تكون طهارة الخل عند انقلاب الخمر إليه تخصيصا في قاعدة تنجس الملاقي للظرف النجس أو من طهارة الظرف تعبدا.

هذا كلّه في الشبهات الحكمية بناء على جريان الاستصحاب فيها وعدم معارضة الاستصحاب في ناحية الحكم الفعلي مع الاستصحاب في عدم جعل الحكم الوسيع أو عدم حكومة الاستصحاب في ناحية عدم جعله على الاستصحاب في ناحية الحكم الفعلي وأما الشبهات الموضوعية فقد تقدم أن الاستصحاب في ناحية بقاء الموضوع من الأصل السببي بالإضافة إلى الحكم الجزئي المترتب عليه فمع جريانه في ناحية الموضوع لا يبقى شك بالإضافة إلى ما يترتب عليه من الحكم

٣٩٣

في مورد ، وإنما الكلام في أنه للورود [١] أو الحكومة أو التوفيق بين دليل اعتبارها وخطابه والتحقيق أنه للورود ، فإن رفع اليد عن اليقين السابق بسبب أمارة معتبرة على خلافه ليس من نقض اليقين بالشك بل باليقين ، وعدم رفع اليد عنه مع الأمارة

______________________________________________________

ليقال : إن الاستصحاب في ناحية الجزئي أيضا حاله حال الاستصحاب في ناحية الحكم الكلي من الابتلاء بالمعارض أو حكومة الاستصحاب في عدم جعله على الاستحباب.

عدم جريان الاستصحاب في موارد الأمارات المعتبرة

[١] لا ينبغي التأمل في عدم جريان الاستصحاب في موارد قيام الأمارة المعتبرة بلا فرق بين ما كانت الأمارة موافقة للحالة السابقة أو مخالفة لها ، وإنما الكلام في وجه عدم جريان الاستصحاب فيها ، وأنه لورود دليل اعتبار الأمارة على خطابات الاستصحاب بأن لا يكون لخطاباته موضوع مع الأمارة المعتبرة أو لحكومة دليل اعتبارها على خطاباته أو أن تقديم الأمارة على الاستصحاب مقتضى الجمع العرفي بين دليل اعتبارها وخطابات الاستصحاب ذكر الماتن قدس‌سره أن الصحيح هو الأول يعني الورود فإن خطاب النهي عن نقض اليقين بالشك ظاهره أن الشك لا يصلح كونه ناقضا لليقين ولو كان مدلول الأمارة المعتبرة على خلاف الحالة السابقة يكون الناقض لليقين السابق اليقين باعتبار تلك الأمارة لا الشك في الحالة السابقة ، وإن كانت موافقة للحالة السابقة يكون ترتيب أثر الحالة السابقة من جهة لزوم العمل بالأمارة والعلم باعتبارها لا لثبوت تلك الحالة سابقا.

لا يقال : هذا فيما اخذ عند الشك في البقاء بإطلاق دليل اعتبار الأمارة فإن مع اعتبارها لا يكون نقض اليقين بالحالة السابقة بالشك بل بتلك الأمارة المعتبرة أو لدلالتها على بقاء الحالة السابقة ، ولكن لم لا يؤخذ أوّلا بإطلاق خطاب النهي عن

٣٩٤

على وفقه ليس لأجل أن لا يلزم نقضه به ، بل من جهة لزوم العمل بالحجة.

لا يقال : نعم ، هذا لو أخذ بدليل الأمارة في مورده ، ولكنه لم لا يؤخذ بدليله ويلزم الأخذ بدليلها؟

______________________________________________________

نقض اليقين بالشك ، ويقيد به إطلاق دليل اعتبار الأمارة أو يخصص به؟

فإنه يقال : ليس في الأخذ بإطلاق دليل اعتبار الأمارة محذور عند احتمال البقاء والارتفاع حيث لا يوجب الأخذ بالإطلاق مستلزما للتخصيص أو التقييد في خطاب اعتبار الاستصحاب بل يرتفع المنهي عنه في خطاباته وهو كون الشك ناقضا لليقين السابق بخلاف تقديم خطاب اعتبار الاستصحاب فإن شموله لمورد الأمارة موقوف على التخصيص والتقييد في دليل اعتبار الأمارة نظير ما تقدم في وجه تقديم الأصل السببي على المسببي ، وعلى الجملة شمول خطابات الاستصحاب لموارد الأمارة المعتبرة موقوف على التقييد في دليل اعتبار الأمارة ولو كان المقيد له هو دليل الاستصحاب يكون التقييد به دوريا لتوقف جريان الاستصحاب على تقييد دليل الأمارة وتقييده موقوف على جريان الاستصحاب.

وقد يورد عليه بأن (الباء) الداخلة على الشك في قولهم : «لا تنقض اليقين بالشك» ليست بمعنى السببية بل بمعنى المصاحبة فيكون المعنى النهي عن نقض اليقين بالشيء عند الشك فيه أو مع الشك فيه وإلّا فلا يكون لاعتبار الاستصحاب وجه فيما إذا كان رفع اليد عن الحالة السابقة بمثل القرعة والاستخارة ونحوهما مما لا يكون ناقض اليقين فيه هو الشك في البقاء بل لو قيل بأن مدلولها أن الشك لا يكون ناقضا فالمراد أن اليقين السابق لا بد من أن يكون ناقضه اليقين بالخلاف أي بارتفاع الحالة السابقة واليقين باعتبار الأمارة القائمة لا يكون يقينا بارتفاع الحالة السابقة عند مخالفة الأمارة الحالة السابقة كما لا يكون يقينا بالبقاء عند موافقتها وبتعبير آخر قد

٣٩٥

فإنه يقال : ذلك إنما هو لأجل أنه لا محذور في الأخذ بدليلها بخلاف الأخذ بدليله ، فإنه يستلزم تخصيص دليلها بلا مخصص إلّا على وجه دائر ، إذ التخصيص به يتوقف على اعتباره معها ، واعتباره كذلك يتوقف على التخصيص به ، إذ لولاه لا مورد له معها ، كما عرفت آنفا.

______________________________________________________

تقدم عن الماتن قدس‌سره أن الناقض للحالة السابقة ينحصر على اليقين بالخلاف.

ويمكن الجواب عن ذلك بأن قوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة : «لا حتى يجيء من ذلك أمر بين» ينفي كون ناقض اليقين الشك أو مثل القرعة والاستخارة وغيرهما من الأمور التي لا اعتبار بها فإن تلك الامور لا تدخل في الأمر البين بخلاف الأمارة المعتبرة فإنه على فرض شمول إطلاق دليلها لمورد الاستصحاب كما هو المفروض يكون رفع اليد عن الحالة السابقة واليقين بها بالأمر البين وتقييد دليل اعتباره بخطاب الاستصحاب لئلا تكون تلك الأمارة أمرا بينا دوري كما تقدم ، وحيث إن الاستصحاب أي الكبرى الكلية طبقت في صحيحة زرارة على مورد عدم الأمر البين فيعلم أن المراد من اليقين الناقض أعم من اليقين بالارتفاع أو اليقين باعتبار أمر يدلّ على الارتفاع وأن المراد بالشك عدم البين على الارتفاع.

وأما ما يقال : من أن مناسبة الحكم والموضوع تقتضي أن يكون المراد باليقين الحجة ومن الشك عدم الحجة أو اللاحجة ومع اعتبار الأمارة القائمة بالحالة السابقة كما يحصل الركن في الاستصحاب أي اليقين بالشيء كذلك بقيام الحجة على ارتفاعها أو بقائها يكون الحكم بالارتفاع أو البقاء بالحجة لا بلا حجة ، وفيه أن مقتضى ذلك أن تكون أصالة البراءة عن التكليف بقاء حاكمة على خطابات الاستصحاب وذلك فإنه فرض أن الحكم ببقاء الحالة السابقة معلق على عدم الحجة على الارتفاع فبشمول حديث : «رفع عن امتي ما لا يعلمون» بقاء التكليف عند الجهل به يكون

٣٩٦

.................................................................................................

______________________________________________________

رفع اليد عن الحجة بالحالة السابقة بالحجة على عدم التكليف في البقاء.

في حكومة دليل اعتبار الأمارة على خطابات الاستصحاب

وقد يقال : إن الوجه في تقديم الأمارة على الاستصحاب في مورد اجتماعهما هي حكومة الأمارة بدليل اعتبارها على الاستصحاب سواء كانت موافقة للاستصحاب أو مخالفة له ، وقد أورد الماتن على الحكومة بأن الميزان في الحكومة أن يكون أحد الخطابين بمدلوله الاستعمالي ناظرا إلى بيان المدلول للخطاب الآخر ، ومن الظاهر أن دليل اعتبار الأمارة لا نظر له إلى خطابات الاستصحاب بوجه ومجرد تنافي ثبوت مدلول أحدهما واقعا مع ثبوت المدلول للآخر كذلك لا يوجب حكومة أحدهما على الآخر وإلّا لأمكن العكس أيضا بأن يقال : خطابات الاستصحاب حاكمة على خطاب اعتبار الأمارة.

أقول : لا تنحصر الحكومة بما إذا كان أحد الدليلين بمدلوله الاستعمالي ناظرا إلى بيان المراد الاستعمالي أو الجدي للآخر ليرد عليه ما عن الماتن أن مدلول دليل اعتبار الأمارة لا نظر له إلى بيان المراد للاستعمال من خطابات لا تنقض ، ولو كان اعتبار الأمارة دالّا على إلغاء الاستصحاب ؛ لعدم إمكان اجتماعهما ثبوتا لكان خطابات الاستصحاب أيضا حاكمة على خطاب اعتبار الأمارة مع أن ما ذكر لا يوجب عدم جريان الاستصحاب مع الأمارة الموافقة للحالة السابقة بل للحكومة نحو آخر وهو ما إذا كان أحد الخطابين متكفلا للحكم لموارد تحقق عنوان بمفاد القضية الحقيقية كما في خطاب حرمة شرب الخمر ونجاسته ويكون مدلول الخطاب الآخر التعرض لثبوت ذلك العنوان وعدم ثبوته في مورد على نحو التعبد والاعتبار

٣٩٧

وأما حديث الحكومة فلا أصل له أصلا ، فإنه لا نظر لدليلها إلى مدلول دليله إثباتا وبما هو مدلول الدليل ، وإن كان دالا على إلغائه معها ثبوتا وواقعا ، لمنافاة لزوم العمل بها مع العمل به لو كان على خلافها ، كما أن قضية دليله إلغائها كذلك ،

______________________________________________________

كما إذا ورد في خطاب آخر : «الفقاع خمر» (١) وكما إذا ورد في خطاب : «إذا شككت فابن على الأكثر» (٢) وورد في خطاب آخر : «لا شك لكثير الشك» (٣) أو «لا شك للإمام إذا حفظ من خلفه» (٤) إلى غير ذلك فإن الخطاب الثاني في مثل ذلك لا يكون تخصيصا بالإضافة إلى الخطاب الأوّل حيث إن مدلول الخاص ثبوت حكم آخر لبعض ما يدخل في العنوان العام كما في قوله عليه‌السلام : «البيعان بالخيار ما لم يفترقا» (٥) بالإضافة إلى خطاب : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ).

ثمّ إن الخطاب الدال على عدم تحقق العنوان المحكوم بالحكم في مورد لا يكون واردا بالإضافة إلى الخطاب الدال على الحكم لذلك العنوان حيث إن الورود عبارة عن كون شمول حكم لمورد موجبا لانتفاء الموضوع لحكم آخر عن ذلك المورد حقيقة فلا بد من الالتزام بالحكومة إذا لم يكن في البين ملاك الخاص والتخصيص ولا ملاك الورود ، ولذا لا تنافي بين مدلول خطاب الحاكم ومدلول خطاب المحكوم حيث إن مدلول خطاب المحكوم ثبوت الحكم على تقدير حصول

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٢٩٢ ، الباب ٢٨ من أبواب الأشربة.

(٢) الوسائل ٥ : ٣١٨ ، الباب ٨ من أبواب الخلل في الصلاة ، الحديث ٣ ، وفيه «إذا سهوت فابن على الأكثر».

(٣) الوسائل ٥ : ٣٢٩ ، الباب ١٦ من أبواب الخلل في الصلاة.

(٤) الوسائل ٥ : ٣٤٠ ، الباب ٢٤ من أبواب الخلل في الصلاة ، الحديث ٨ ، وفيه : «وليس على الامام سهو إذا حفظ عليه من خلفه».

(٥) التهذيب ٧ : ٢٠.

٣٩٨

فإن كلا من الدليلين بصدد بيان ما هو الوظيفة للجاهل ، فيطرد كل منهما الآخر مع المخالفة ، هذا مع لزوم اعتباره معها في صورة الموافقة ، ولا أظن أن يلتزم به القائل بالحكومة ، فافهم فإن المقام لا يخلو من دقّة.

______________________________________________________

عنوان الموضوع كما هو مفاد القضية الحقيقية ، وأما تعيين حصوله أو عدم حصوله فخارج عن مدلوله وخطاب الحاكم متصد لبيان تحققه وعدم تحققه التعبد والاعتبار وهذا القسم من الحكومة مشترك مع التخصيص في موارد نفي الموضوع في النتيجة إلّا أن لسان الحاكم غير لسان الخاص ؛ ولذا لا تلاحظ النسبة بين خطابي الحاكم والمحكوم.

وعلى ذلك فقد يقال : إنه بشمول دليل اعتبار الأمارة لأمارة ولو كان اعتبارها بالسيرة العقلائية سواء أكانت على وفق الحالة السابقة أو على خلافها لا يكون في البين جهل بالإضافة إلى الحالة السابقة نفيا أو إثباتا ليتم الموضوع للنهي عن نقض اليقين بالشك الذي هو مدلول خطابات الاستصحاب بنحو القضية الحقيقية.

وقد يورد على هذا الاستدلال بأن الأمارة أيضا اعتبر في موضوع اعتبارها الجهل بالواقع حيث لا يمكن اعتبارها في حق العالم بالواقع ، وإذا كان لسان خطابات الاستصحاب اعتبار العلم بالحالة السابقة علما بالبقاء عند الجهل بالواقع فلا يكون في البين موجب لتقديم اعتبار الأمارة مع كون النسبة بين دليل اعتبار الاستصحاب ودليل اعتبار الأمارة العموم من وجه حيث إن مدلولهما متساويان في كون كل منهما الكبرى الكلية وقد وجه المحقق النائيني على ما تقدم سابقا من أن دليل اعتبار الأمارة مقتضاه كونها علما في جهة إراءة الواقع وتتميم كشفها بخلاف دليل الاستصحاب فإن مقتضاه كون اليقين السابق علما بالواقع من حيث العمل خاصة ، وذكرنا أيضا بعض المناقشة في ذلك وقلنا : إن الصحيح في الجواب أن الجهل غير

٣٩٩

وأما التوفيق ، فإن كان بما ذكرنا فنعم الاتفاق ، وإن كان بتخصيص دليله بدليلها فلا وجه له ، لما عرفت من أنه لا يكون مع الأخذ به نقض يقين بشك ، لا أنه غير منهي عنه مع كونه من نقض اليقين بالشك.

______________________________________________________

مأخوذ في موضوع دليل اعتبار الأمارة إلّا بتقييد عقلي لأجل امتناع التعبد للعالم بالواقع بخلاف الجهل بالواقع في اعتبار الاستصحاب فإنه موضوع في خطابات النهي عن نقض اليقين ومع إمكان التعبد بالأمارة في مورد قيامها لا يكون في دليل اعتبارها تقييد بالإضافة إلى ذلك المورد بشموله لها ينتفي الموضوع في خطابات النهي عن نقض اليقين مع الشك ، وهذه هي الحكومة التي ذكرناها سابقا. نعم ، هذا النحو من الحكومة إنما يتم في الأمارة التي يكون الجهل بالواقع غير مأخوذ في دليل اعتبارها إلّا من ناحية التقييد عقلا ، وأما الأمارة التي اخذ الجهل بالواقع في خطاب اعتبارها فالتقديم يحتاج إلى قيام قرينة اخرى ، ومما ذكرنا يظهر أن ما ذكر من أن الجمع بين دليل اعتبار الأمارة وخطابات الاستصحاب بتقديم الأمارة للتوفيق العرفي بين دليل اعتبارها وخطابات الاستصحاب لا وجه له ؛ لأن التوفيق العرفي إنما يتم في الموارد التي يكون الحكم في أحد الخطابين بالعنوان الأولي ، والحكم المخالف في الخطاب الآخر بالعنوان الثانوي ، ومرجع ذلك إلى تقييد الخطاب الدال على الحكم ، والحكومة التي ذكرناها لا ترتبط بهذا التوفيق ولا بالتقييد والتخصيص كما أوضحناها.

٤٠٠