دروس في مسائل علم الأصول - ج ٥

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٥

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8438-09-3
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤١٦

فصل

في الاستصحاب وفي حجيته إثباتا ونفيا أقوال للأصحاب ولا يخفى أنّ عباراتهم في تعريفه وإن كانت شتى إلّا أنها تشير إلى مفهوم واحد ومعنى فارد ، وهو الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شك في بقائه : [١]

إما من جهة بناء العقلاء على ذلك في أحكامهم العرفية مطلقا ، أو في الجملة تعبدا ، أو للظن به الناشئ عن ملاحظة ثبوته سابقا.

______________________________________________________

[١] ذكر الماتن قدس‌سره في تعريف الاستصحاب الذي وقع الخلاف في إثباته ونفيه مطلقا أو في الجملة هو الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شك في بقائه ، والسند للحكم بالبقاء إما بناء العقلاء على ذلك في أحكامهم العرفية مطلقا أو في الجملة تعبدا أو من جهة الظن بالبقاء الناشي من ملاحظة ثبوت الشيء سابقا أو من جهة قيام النص أو الإجماع عليه ، وهذا المعنى قابل ليقع الخلاف في ثبوته ونفيه مطلقا أو في الجملة ، ويقع الكلام في وجه ثبوته مطلقا أو في الجملة.

وتعريفه في بعض الكلمات بما ينطبق على وجه ثبوته وإن يوهم أن الاستصحاب غير الحكم بالبقاء عند الشك فيه كقول بعضهم أن الاستصحاب هو الظن بالبقاء أو كون موضوع أو حكم يقيني الحصول ومشكوك البقاء إلى غير ذلك ، إلّا أنه لا يقتضي كون الاستصحاب ذلك الوجه ، بل المذكور للإشارة إلى ثبوته من ذلك الوجه نظير ما يذكر في التعريف الذي من قبيل شرح الاسم كما هو الغالب على التعاريف ؛ ولذا لا مورد للمناقشة فيها بعدم الاطراد تارة ، وبعدم الانعكاس اخرى ، وبتعبير آخر لو كان الاستصحاب هو نفس الوجه للثبوت لما تقابلت فيه الأقوال ؛ لأن نفي وجه للثبوت لا ينافي ثبوت وجه آخر له كما هو ظاهر.

١٢١

وإما من جهة دلالة النص أو دعوى الإجماع عليه كذلك ، حسبما تأتي الإشارة إلى ذلك مفصلا.

______________________________________________________

وذكر الشيخ قدس‌سره (١) أن للاستصحاب في كلمات القوم تعاريف أسدّها أنه إبقاء ما كان ، كما أن هذا أخصرها ، وأزيفها ما قيل من كون حكم أو وصف يقيني الحصول في السابق مشكوك البقاء في اللاحق ، وقال في وجه كونه أسدّها وأخصرها : إن المراد من الإبقاء ليس هو الإبقاء الخارجي بل التعبدي أي الحكم بالبقاء وتوصيف ما ب (كان) مع استفادته من الإبقاء للإشعار بأن الموجب للحكم ببقاء الشيء هو أنه (كان) فيخرج عن التعريف الحكم بالبقاء لثبوت علّته في الزمان الثاني كثبوته في الزمان الأول ، أو لقيام الدليل على ثبوته في الزمان الثاني أو العلم الوجداني بثبوته فيه ، وأما كون الأخير أزيف التعاريف فإنّ كون حكم أو وصف يقيني الحصول في السابق مشكوك البقاء مورد للحكم بالبقاء لا أنه بنفسه استصحاب.

أقول : كون الاستصحاب أمارة أو أصلا مذكور في كلماتهم ولو قيل بأنه من الأمارات يتعين أن يكون الاستصحاب غير الحكم بالبقاء حيث إن الحكم نتيجة اعتبار الاستصحاب لا نفس الاستصحاب حيث إنّ الأمارة ما يكشف عن الواقع ظنا لو كان ظنا نوعيا ، وأيضا مجرد ثبوت الشيء سابقا بنفسه غير موجب للظنّ بالبقاء ولا يكون ظنا بالبقاء بل الممكن دعوى الملازمة الغالبية بين ثبوت الشيء سابقا وبقائه لا حقا ، وهذه الغلبة هي الموجبة للظن بالبقاء في موارد احتماله ، وهذا بخلاف القول بأنه أصل عملي فإنه عليه حكم ظاهري ، وهل الحكم متعلقه بقاء الشيء بنفسه أو بحكمه؟ كما عليه الماتن أو نفس اليقين بالثبوت بأن يعتبر اليقين بالثبوت

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٩ ـ ١٠.

١٢٢

ولا يخفى أن هذا المعنى هو القابل لأن يقع فيه النزاع والخلاف في نفيه وإثباته مطلقا أو في الجملة ، وفي وجه ثبوته ، على أقوال.

ضرورة أنه لو كان الاستصحاب هو نفس بناء العقلاء على البقاء أو الظن به الناشئ مع العلم بثبوته ، لما تقابل فيه الأقوال ، ولما كأن النفي والإثبات واردين على مورد واحد بل موردين ، وتعريفه بما ينطبق على بعضها ، وإن كان ربما يوهم أن لا يكون هو الحكم بالبقاء بل ذاك الوجه ، إلّا أنه حيث لم يكن بحد ولا برسم بل من قبيل شرح الإسم ، كما هو الحال في التعريفات غالبا ، لم يكن له دلالة على أنه نفس الوجه ، بل للإشارة إليه من هذا الوجه ، ولذا لا وقع للإشكال على ما ذكر في تعريفه بعدم الطرد أو العكس ، فإنه لم يكن به إذا لم يكن بالحد أو الرسم بأس.

فانقدح أن ذكر تعريفات القوم له ، وما ذكر فيها من الإشكال ، بلا حاصل وطول بلا طائل.

______________________________________________________

سابقا يقينا بالبقاء لا حقا ، أو أن متعلقه العمل على وفق الحالة السابقة ومقتضاها المعبر عن ذلك بالإبقاء العملي والأمر بترتيب آثارها زمان الشك؟ نتعرض لذلك عند التعرض لمدارك اعتباره ، وظاهر كلام الماتن لا يساعد على كون الاستصحاب هو الإبقاء العملي فإن الحكم بالبقاء بجعل الحكم المماثل للسابق فيما كان المستصحب هو الحكم الشرعي أو جعل أثره الشرعي فيما كان المستصحب الموضوع من فعل الشارع ، وعبارة الشيخ قدس‌سره تساعد على الإبقاء العملي ؛ ولذا يستند الاستصحاب إلى المكلف لا إلى الشارع ، نعم حكم الشارع المستفاد من أدلة اعتبار الاستصحاب هو منشأ الإبقاء العملي عند المكلف فيكون المستفاد من أدلتها اعتبار الاستصحاب بخلاف ما إذا قيل إنه ـ يعني الحكم بالبقاء ـ هو الاستصحاب فإنه يكون من فعل الشارع.

١٢٣

ثم لا يخفى أن البحث في حجيته مسألة أصولية ، حيث يبحث فيها لتمهيد قاعدة تقع في طريق استنباط الأحكام الفرعية ، وليس مفادها حكم العمل بلا واسطة ، وإن كان ينتهي إليه ، كيف؟ وربما لا يكون مجرى الاستصحاب إلّا حكما أصوليا كالحجية مثلا ، هذا لو كان الاستصحاب عبارة عما ذكرنا. [١]

______________________________________________________

[١] لا يخفى أنه بناء على تعريفه قدس‌سره حقيقة الاستصحاب بأنه هو الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم لا يكون البحث عن حجيته بل يكون البحث عن نفس ثبوت الاستصحاب يعني الحكم وعدم ثبوته ، نعم بناء على أنه نفس الإبقاء العملي يمكن البحث عن اعتبار هذا الإبقاء أو عدمه سواء فسر الاعتبار بالحكم الوضعي أو بالحكم التكليفي ، كما أنه بناء على ما نذكره ـ من أن الاستصحاب عبارة عن كون اليقين المتعلق بالحالة السابقة يقينا بالبقاء عند الشك فيه ـ أيضا يكون البحث في الاستصحاب بحثا عن ثبوته وعدم ثبوته ، وكيف ما كان ، ذكر الماتن أن البحث عن حجية الاستصحاب من المسائل الاصولية حيث يبحث فيها لتمهيد قاعدة تقع في طريق استنباط الأحكام الفرعية ، ولكنه قدس‌سره قد ذكر في تعريف علم الاصول وبيان الميزان في مسائلها ـ في أول الكتاب ـ أنه يعرف بها القواعد التي تقع في طريق الاستنباط أو التي ينتهي إليها أمر المجتهد في مقام العمل ، وقال : إن الاصول العملية ـ ومنها الاستصحاب في الشبهات الحكمية بناء على أنه أصل عملي ـ داخلة فيما ينتهي إليه أمر المجتهد في مقام العمل ولا يستنبط منها حكم شرعي فرعي ، وما ذكر في المقام يناقض المذكور هناك ، نعم نفى في المقام أيضا كون الاستصحاب قاعدة فقهية وقال ليس مفاد قاعدة الاستصحاب حكم العمل بلا واسطة ، وإن كان ينتهي إلى حكم العمل وعلّله بأنها كيف تكون قاعدة فقهية وهي قد تجري في مسألة اصولية كما إذا شك في بقاء حجية خبر العدل أو الثقة ، إذا خرج بعد إخباره عن

١٢٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وصف العدالة أو الثقة ، والقاعدة الفقهية هي التي يكون الحكم الوارد فيها بنفسه حكما فرعيا عمليا سواء كان ذلك الحكم من سنخ التكليف كوجوب الوفاء بالنذر واليمين أو من سنخ الوضع كمسألة وجوب الوفاء بالشرط إذا كان المراد من الوجوب نفوذه ، ومسألة كل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ، وإن كانت نتيجة تطبيق القاعدة الفقهية على صغراها هي الحكم الشرعي الكلي بأن يقال بثبوت الضمان في البيع الفاسد كثبوته في صحيحه.

أقول : لا ينبغي التأمل في اعتبار الاستصحاب في الشبهات الموضوعية وأن ما دلّ على اعتبار الاستصحاب في الشبهات الحكمية بعينه يدلّ على اعتباره في الشبهات الموضوعية وإذا كان شمول خطاب لا تنقض اليقين بالشك لحكم اصولي شك في بقائه لا حقا كالحجية في المثال المتقدم شاهدا لعدم كون قاعدة الاستصحاب في الشبهة الحكمية الفرعية الكلية من القواعد الفقهية لاقتضى أن لا يكون جريانه في الشبهة الموضوعية أيضا بعدم كونها من القواعد الفقهية مع أن المتسالم عليه عند الكل أن الاستصحاب الجاري في الشبهة الموضوعية قاعدة فقهية خصوصا فيما كان المستصحب هو الحكم الجزئي ، وكما يقال في وجه ذلك إنّ مدلول أخبار «لا تنقض» (١) انحلالي وهو الحكم بالبقاء عند الشك فيه فيكون الحكم بالبقاء بالإضافة إلى الشبهات الموضوعية قاعدة فقهية كذلك يقال بأن مدلولها بالإضافة إلى استصحاب الحكم الاصولي ليس قاعدة فقهية ولكن بالإضافة إلى الشبهة الحكمية الكلية كموارد استصحاب الحرمة أو الوجوب أو الإباحة أو الوضع

__________________

(١) تهذيب الاحكام ١ : ٥٩ ، باب الأحداث الموجبة للطهارة ، الحديث ١١.

١٢٥

.................................................................................................

______________________________________________________

كالضمان والملكية ونحوها قاعدة فقهية ، والالتزام بأن الاستصحاب فيها قاعدة اصولية يحتاج إلى بيان الفارق بينه وبين القواعد الفقهية.

في الفرق بين المسألة الاصولية والمسألة الفقهية

ونقول في بيان الفارق : بأن الاستصحاب بناء على كونه قاعدة مستفادة من الأخبار بحيث تجري في الشبهة الحكمية ولو في الجملة يدخل في القواعد الاصولية لا الفقهية سواء قلنا بأن ظاهر تلك الأخبار اعتبار علم المكلف بالحالة السابقة علما بالحالة اللاحقة أيضا ، أو قلنا بأن المستفاد منها الحكم ببقاء المتيقن فإنه على الأول يكون نتيجة ضمّ كبرى الاستصحاب إلى صغراها في الشبهة الحكمية العلم بالحكم الواقعي الفرعي الكلي لا نفس الحكم الفرعي الكلي ، وكون النتيجة العلم بالحكم الواقعي الفعلي من خواص المسألة الاصولية منفردة أو منضمة إلى مسألة اخرى من المسائل الاصولية ، وهذا بخلاف المسائل الفقهية فإن القياس فيها نتيجة ثبوت نفس الحكم الفرعي سواء كان الثابت جزئيا أو كليا ، وبتعبير آخر يكون المحمول في كبرى المسألة الاصولية هو العلم بالحكم بخلاف المسألة الفقهية فإن المحمول فيها نفس الحكم الشرعي العملي ، وكذا ما إذا قيل بأن المستفاد من أخبار لا تنقض الحكم ببقاء المتيقن بجعل المماثل للحكم السابق ما دام الجهل بالبقاء أو الأمر بالعمل على طبق الحالة السابقة ما دام الجهل فإن الفرق بين الاستصحاب والقواعد الفقهية التي تكون نتيجتها عند التطبيق حكما كليا أيضا هو أن الحكم المجعول في مورد الاستصحاب حكم طريقي يكون الغرض منه تنجيز الواقع أو التعذير عنه كما هو مفاد دليل اعتبار الأمارة أيضا عند الشيخ قدس‌سره وهذا بخلاف القاعدة الفقهية فإن المذكور في القاعدة الفقهية التي تكون نتيجة التطبيق الحكم

١٢٦

وأما لو كان عبارة عن بناء العقلاء على بقاء ما علم ثبوته ، أو الظن به الناشئ من ملاحظة ثبوته ، فلا إشكال في كونه مسألة أصولية.

______________________________________________________

الفرعي نفس الحكم الفرعي الكلي النفسي يعني مقابل الطريقي.

لا يقال : ما الثمرة بين كون الاستصحاب في الشبهة الحكمية مسألة اصولية وبين كون قاعدة «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» مسألة فقهية مع كون الأخذ بهما من وظيفة المجتهد فإنه يقال : الثمرة تظهر بناء على ما يأتي في مسألة جواز التقليد على العامي من اختصاص الجواز بالمسائل الفرعية فإنه إذا أفتى المجتهد بأن كل عقد لا يضمن بصحيحه لا ضمان في فاسده أيضا ، وأفتى بأن العين المستأجرة لا تدخل في ضمان المستأجر في الإجارة الصحيحة والأحوط مراعاة الضمان في الإجارة الفاسدة فإنه يكون الاحتياط استحبابيا لا محالة حيث إن الاحتياط وجوبا نقض لفتواه فيجوز للعامي عدم مراعاة الاحتياط بخلاف ما إذا بنى على اعتبار الاستصحاب في الشبهة الحكمية ، وذكر في رسالته العملية أن العصير الزبيبي وإن لم يثبت دليل على حرمته بالغليان إلّا أن الأحوط وجوبا الاجتناب عنه فإن هذا الاحتياط لا يكون نقضا للفتوى حيث إنه لم يفت في المسألة الفرعية فيتعين للعامي الاحتياط أو الرجوع إلى المجتهد الآخر الذي أفتى في تلك المسألة فتدبر.

ثمّ إن الفرق بين الاستصحاب وقاعدة اليقين هو اختلاف زمان المتيقن والمشكوك ، وسبق الأول على الثاني في الاستصحاب ، والمفروض في قاعدة اليقين اختلاف نفس زمان الشك مع زمان اليقين بأن يكون زمان اليقين سابقا وزمان الشك لا حقا مع اتحاد متعلقهما حتى من حيث الزمان ، وسنذكر عند التعرض لأخبار الاستصحاب أنها لا تعم قاعدة اليقين بل مدلولها خصوص اعتبار الاستصحاب لظهورها في فعلية وصفي اليقين والشك في ظرف التعبد ، والأمر في الاستصحاب

١٢٧

وكيف كان ، فقد ظهر مما ذكرنا في تعريفه اعتبار أمرين في مورده : القطع بثبوت شيء ، والشك في بقائه ، ولا يكاد يكون الشك في البقاء إلّا مع اتحاد القضية المشكوكة والمتيقنة بحسب الموضوع والمحمول ، وهذا مما لا غبار عليه في الموضوعات الخارجية في الجملة [١].

______________________________________________________

كذلك بخلاف قاعدة اليقين المعبّر عنها بالشك الساري فإن اليقين فيها غير فعلي في ظرف التعبد ، وحيث إن ظهور تلك الأخبار في سبق زمان المتيقن على زمان المشكوك ولو بقرينة موردها فلا مجال لدعوى شمولها لقاعدة اليقين ، ولا لما يسمى بالاستصحاب القهقري الذي يكون المشكوك فيه سابقا والمتيقن لا حقا ، وأصالة عدم النقل الجارية في اتّباع الظهورات الفعلية عند الشك في النقل لا ترتبط بذلك الاستصحاب المعدود على فرض اعتباره من الاصول العملية بل هي ببناء العقلاء في اتباع الظهورات الفعلية حتى مع احتمال النقل كسائر الظهورات التي لا احتمال للنقل فيها.

وكذا لا يرتبط الاستصحاب بقاعدة المقتضي وعدم المانع فإن مقتضى هذه القاعدة على تقدير اعتبارها الحكم بتحقق المقتضى بالفتح عند إحراز المقتضي له وعدم العمل بتحقق المانع الذي يمنع على تقدير حصوله عن حصول المقتضى سواء كان المقتضى بالفتح أمرا تكوينيا كوصول الماء الى بشرة العضو المتحقق بصبه على العضو إذا لم يكن مانع عن وصوله إلى البشرة أو أمرا اعتباريا لتنجس الماء الملاقي للنجس إذا لم يكن كرا.

[١] قد ذكر الماتن قدس‌سره في المقام أنه لا يكون الاستصحاب إلّا مع تحقق أمرين : أحدهما ـ العلم بثبوت شيء من الحكم أو الموضوع أو عدمهما ، وثانيهما ـ الشك في بقائه ، ولا يكون الشك في البقاء إلّا إذا كانت القضية المشكوكة بعينها القضية المتيقنة

١٢٨

وأما الأحكام الشرعية سواء كان مدركها العقل أم النقل ، فيشكل حصوله فيها ، لأنه لا يكاد يشك في بقاء الحكم إلّا من جهة الشك في بقاء موضوعه ، بسبب تغير بعض ما هو عليه مما احتمل دخله فيه حدوثا أو بقاء ، وإلّا لما تخلّف الحكم عن موضوعه إلّا بنحو البداء بالمعنى المستحيل في حقه تعالى ، ولذا كان النسخ بحسب الحقيقة دفعا لا رفعا.

______________________________________________________

بأن يكون الموضوع والمحمول في إحداهما متحدين مع الموضوع والمحمول في الاخرى ، وهذا الاتحاد حاصل في الشبهات الموضوعية غالبا كما في استصحاب عدالة زيد أو عدم ملاقاة الثوب مع النجاسة ونحو ذلك. نعم ، قد لا يحصل فيها هذا الاتحاد بين القضيتين حقيقة كما في الشك في بقاء الماء على كريته إذا نقص منه مقدار أوجب الشك في كرية الباقي فإن ما علم كريته من قبل لم يكن مجرد هذا الماء بعينه ، وعدم الاتحاد حقيقة.

في جريان الاستصحاب في الشبهة الحكمية وعدمه

مفروض في جميع الشبهات الحكمية ، مثلا إذا علم حرمة العصير العنبي بعد غليانه وشك في بقاء الحرمة بعد صيرورته دبسا قبل ذهاب ثلثيه فلا يمكن دعوى أن الاتحاد بين القضيتين حقيقي ؛ لأن المتيقن حرمة العصير الذي لم يكن دبسا ، والمشكوك حرمة ما صار دبسا بعد الغليان ، وعلى الجملة لا يحصل الاتحاد كما ذكر في الشبهات الحكمية إلّا في مورد الشك في النسخ بمعناه الحقيقي المستحيل في حقه سبحانه ؛ ولذا ذكروا أن النسخ في الشريعة دفع في الحقيقة لا رفع ، والحاصل أن الحكم لا يختلف عن موضوعه ، وإذا شك في بقاء الحكم في الشبهة الحكمية فلا بد من فرض تخلف أمر يحتمل دخله في موضوع الحكم قيدا له فلا يكون حينئذ شك في البقاء حقيقة ، وهذا محصل ما يقال من أن الاستصحاب على النحو المذكور من

١٢٩

ويندفع هذا الإشكال ، بأن الاتحاد في القضيتين بحسبهما ، وإن كان مما لا محيص عنه في جريانه ، إلّا أنه لما كان الاتحاد بحسب نظر العرف كافيا في تحققه وفي صدق الحكم ببقاء ما شك في بقائه ، وكان بعض ما عليه الموضوع من الخصوصيات التي يقطع معها بثبوت الحكم له ، مما يعد بالنظر العرفي من حالاته ـ وإن كان واقعا من قيوده ومقوماته ـ كان جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعيّة

______________________________________________________

اعتبار الاتحاد لا يتحقق في الشبهات الحكمية ، وما يسمى بالاستصحاب فيها في الحقيقة قياس بمعنى إسراء حكم من موضوع إلى موضوع آخر.

أقول : تقرير الإشكال في الشبهة الحكمية بما تقدم لا يخلو عن الإشكال فإنه قدس‌سره جعل في المقام العلم بالحالة السابقة كالشك في البقاء ركنا مع أنه يأتي منه قدس‌سره أن المعتبر في الاستصحاب هو الأمر الثاني فقط ، وأما العلم بالحالة السابقة فلا يكون ركنا للاستصحاب ، وأن مفاد أدلة الاستصحاب جعل الملازمة الظاهرية بين ثبوت الحالة السابقة وبقائها عند الشك في البقاء ، وبهذا صحح جريان الاستصحاب في موارد إحراز الحالة السابقة بقيام الأمارة أو بالإطلاق أو العموم ، وأيضا فاتحاد القضيتين في صدق الشك في البقاء وإن كان لازما إلّا أن هذا الاتحاد لا بد أن يكون من غير جهة الزمان كما تقدم في بيان الفرق بين قاعدة الاستصحاب وقاعدة الشك الساري ، وإذا اعتبر الاتحاد بينهما من غير جهة الزمان فربما تكون القضية المشكوكة متحدة مع المحرزة حقيقة كما في مورد الشك في نسخ حكم الشريعة بمعناه الممكن ، وكما إذا علم بثبوت خيار الغبن أو غيره على الفور أو على نحو التراخي ، وعلى الجملة اعتبار الاتحاد كما ذكر لا يوجب اختصاص جريان الاستصحاب بالشبهة الموضوعية بل يجري في الشبهة الحكمية أيضا في كل مورد يحتمل اختصاص الحكم بالحالة السابقة التي تخلف الأمر المفروض فيها وأوجب ذلك

١٣٠

الثابتة لموضوعاتها عند الشك فيها ـ لأجل طروء انتفاء بعض ما احتمل دخله فيها ، مما عد من حالاتها لا من مقوّماتها ، بمكان من الإمكان ، ضرورة صحة إمكان دعوى بناء العقلاء على البقاء تعبدا ، أو لكونه مظنونا ولو نوعا ، أو دعوى دلالة النص أو قيام الإجماع عليه قطعا ، بلا تفاوت في ذلك بين كون دليل الحكم نقلا أو عقلا.

أما الأول فواضح ، وأما الثاني ، فلأن الحكم الشرعي المستكشف به عند طروء انتفاء ما احتمل دخله في موضوعه ، مما لا يرى مقوما له ، كان مشكوك البقاء عرفا ، لاحتمال عدم دخله فيه واقعا ، وإن كان لا حكم للعقل بدونه قطعا.

______________________________________________________

الشك في البقاء.

وأجاب الماتن عن الإشكال بأن الاتحاد بين القضية المتيقنة والقضية المشكوكة مما لا بد منه إلّا أن المعتبر الاتحاد بنظر العرف حيث إن الاتحاد بينهما بنظره كاف في صدق الشك في البقاء ، وفي شمول عموم أخبار اعتبار الاستصحاب مع تحقق هذا الاتحاد ، وبيانه أن الشك في بقاء الحكم الكلي بعد تخلف أمر كان الحكم عند ثبوته متيقنا وأن ينشأ من تخلف ذلك الأمر إلّا أن ذلك الأمر كثيرا ما يعد بنظر العرف حالة للموضوع لا قيدا مقوما له بحسب الحدوث والبقاء كما في استصحاب نجاسة الماء الكر بعد زوال تغيره فإن التغيّر يعد من حالات الماء والموضوع هو الذي يعد من المعروض عرفا نفس الماء ؛ ولذا يقال : تنجس الماء بتغيّره ، بلا فرق بين كون الحالة السابقة مستفادة من الخطابات المعدة من الأدلة اللفظية أو من دليل غير لفظي من إجماع أو حتى بالملازمة بين حكم العقل بالحسن أو القبح وبين الحكم الشرعي فإنه وإن يقطع مع تخلف القيد المحتمل بانتفاء الإجماع أو حكم العقل حيث لا يتصور الإهمال في موضوع حكم العقل ولا إجماع مع الخلاف إلّا أن الحكم الشرعي المستفاد منه قد يشك فيه بأن يحتمل بقاؤه لبقاء

١٣١

إن قلت : كيف هذا؟ مع الملازمة بين الحكمين.

قلت : ذلك لأن الملازمة إنما تكون في مقام الاثبات والاستكشاف لا في مقام الثبوت ، فعدم استقلال العقل إلّا في حال غير ملازم لعدم حكم الشرع في غير تلك الحال ، وذلك لاحتمال أن يكون ما هو ملاك حكم الشرع من المصلحة أو المفسدة التي هي ملاك حكم العقل ، كان على حاله في كلتا الحالتين ، وإن لم يدركه إلّا في إحداهما ، لاحتمال عدم دخل تلك الحالة فيه ، أو احتمال أن يكون معه ملاك آخر بلا دخل لها فيه أصلا ، وإن كان لها دخل فيما اطلع عليه من الملاك.

______________________________________________________

ملاكه ، ولا يلزم أن يكون الحكم الشرعي تابعا في التوسعة والضيق لملاك حكم العقل بالحسن أو القبح ، بل يمكن كون الملاك للحكم الشرعي أوسع ثبوتا من ملاك حكم العقل فيبقى الحكم الشرعي ببقائه ، والحاصل أن الموضوع للحكم أو المتعلق في مثل هذه الموارد نفس الشيء أو الفعل في الحالة الاولى لا المقيد بالحالة الاولى حتى فيما ذكرت في لسان الدليل بصورة القيد ألا ترى أنه إذا قال البائع : بعت هذا العبد بكذا ، فظهر المبيع حيوانا يحكم بانتفاء البيع وفساده لانتفاء المبيع ، وأما إذا قال : بعت هذا العبد الكاتب ، فظهر أنه غير كاتب يحكم بحصول البيع ويثبت الخيار بتخلف الشرط ، ونظير ذلك ما إذا ورد في الخطاب : الماء لا يتنجس إذا كان كرا ، وأما إذا قال : الماء الكر لا يتنجس ، فإن المحكوم بالنجاسة نفس الماء ، وبلوغه كرا من حالاته فكل ما يكون الأمر المتخلف الذي كان الحكم معه محرزا بنظر العرف من حالات الموضوع لا يمنع تخلفه كتخلف نفس الزمان عن جريان الاستصحاب.

والحاصل أن الموارد التي يكون الأمر المتخلف الموجب لاحتمال ارتفاع الحكم السابق ظرفا له دخيلا في حدوث الحكم أو جهة تعد بنظر أهل العرف من قبيل الواسطة في الثبوت كذلك فلا يمنع تخلفه عن جريان الاستصحاب في الشبهة

١٣٢

وبالجملة : حكم الشرع إنما يتبع ما هو ملاك حكم العقل واقعا ، لا ما هو مناط حكمه فعلا ، وموضوع حكمه كذلك مما لا يكاد يتطرق إليه الإهمال والإجمال ، مع تطرقه إلى ما هو موضوع حكمه شأنا ، وهو ما قام به ملاك حكمه واقعا ، فربّ خصوصية لها دخل في استقلاله مع احتمال عدم دخله ، فبدونها لا استقلال له بشيء قطعا ، مع احتمال بقاء ملاكه واقعا. ومعه يحتمل بقاء حكم الشرع جدا لدورانه معه وجودا وعدما ، فافهم وتأمّل جيّدا.

______________________________________________________

الحكمية ، بخلاف ما إذا كان من القيد المقوم لموضوع الحكم فإنه لا سبيل للاستصحاب بعد انتفاء ذلك القيد ، ويختلف ذلك باختلاف الموارد بحسب مناسبة الحكم والموضوع ، ولكن الاستصحاب في موارد الشبهة الحكمية فيما كان التخلف من قبيل الواسطة في الثبوت وإن كان جاريا في نفسه ، وكذا في موارد الظرفية للحكم الثابت إلّا أنه مبتلى بالمعارض نوعا ، والمعارض هو الاستصحاب في عدم جعل الحكم الوسيع بحيث يعم الحالة اللاحقة بل لا يبعد حكومة استصحاب عدم جعله كذلك وجريانه بلا أن يعارض بالاستصحاب في عدم جعل الحكم الضيق ؛ لأنه لا أثر له مع اليقين بثبوت الحكم قبل التخلف والاستصحاب في عدم جعله لا يثبت جعل الحكم الوسيع.

وبتعبير آخر بما أن الحكم في نفس سعته وضيقه أمر اعتباري يكون ثبوته في الحالة اللاحقة بجعله وسيعا يكون الأصل عدم جعله كذلك ففي الحقيقة لا تصل النوبة إلى دعوى وقوع المعارضة بين استصحاب الحكم الفعلي وبين استصحاب عدم جعله بحيث يعم الحالة السابقة ثبوتا ، بل يكون الاستصحاب في الثاني حاكما على الاستصحاب في الحكم الفعلي السابق نظير ما إذا تردد في زوجية امرأة بين الانقطاع والدوام مع اتفاق الزوجين في المهر فإنه قد ذكرنا في بحث القضاء أن

١٣٣

ثم إنه لا يخفى اختلاف آراء الأصحاب في حجّية الاستصحاب مطلقا ، وعدم حجيته كذلك ، والتفصيل [١]

______________________________________________________

الاستصحاب في عدم حدوث عقد الدوام يجري وينفي الزوجية بعد انقضاء تلك المدة فيكلف المدعي للعقد الدائم بالإثبات ، وإلّا يحلف منكره.

نعم ، إذا كان الحكم الثابت في الحالة اللاحقة حكما مجعولا على خلاف الحالة السابقة فلا بأس بالاستصحاب في عدم جعله ، وقد ذكرنا سابقا أنه إذا لم يكن الحكم المخالف من نحو الإلزام أو الوضع الملازم للإلزام فلا بأس بجريان الاستصحاب في عدم جعل كل منه ومن الحكم الوسيع ؛ لعدم لزوم الترخيص في المخالفة العملية للتكليف المحرز المعلوم بالإجمال. نعم ، مع لزومه عن جريانهما يسقطان ، ويرجع إلى الأصل الآخر من قاعدة الاشتغال ، ولا يخفى أن المراد بقولنا حكومة الاستصحاب في عدم الجعل على استصحاب الحكم المجعول مجرد تعبير ، وإلّا فإن الاستصحاب في عدم الجعل عين الاستصحاب في عدم المجعول ، ويعبر عنه قبل فعلية الموضوع بالجعل ، وبعد فعلية الموضوع له يقال له الحكم المجعول الفعلي.

[١] قد تعرض الشيخ قدس‌سره للأقوال في اعتبار الاستصحاب وما قيل أو يمكن أن يقال في وجه كل من الأقوال ونقده من التفصيل في جريانه بين الموضوعات والأحكام وجريانه بين الأحكام التكليفية والوضعية ، وكون المستصحب حكما جزئيا أو كليا أو كون الحالة السابقة أمرا وجوديا أو عدميا إلى غير ذلك ، وحيث إن التعرض لكل من الأقوال كذلك والتعرض لما قيل في وجهها وردها تطويل بلا طائل.

شرع الماتن قدس‌سره في المقام في التكلم عن الوجوه المذكورة في اعتبار الاستصحاب ، وذكر أن عمدتها الأخبار لأن ما قيل في وجه اعتباره من غيرها من

١٣٤

بين الموضوعات والأحكام ، أو بين ما كان الشك في الرافع وما كان في المقتضي ، إلى غير ذلك من التفاصيل الكثيرة ، على أقوال شتى لا يهمنا نقلها ونقل ما ذكر من الاستدلال عليها ، وإنما المهم الاستدلال على ما هو المختار منها ، وهو الحجية مطلقا ، على نحو يظهر بطلان سائرها ، فقد استدل عليه بوجوه :

الوجه الأول : استقرار بناء العقلاء من الانسان بل ذوي الشعور من كافة أنواع الحيوان على العمل على طبق الحالة السابقة ، وحيث لم يردع عنه الشارع كان ماضيا.

______________________________________________________

سيرة العقلاء وبنائهم على العمل بالحالة السابقة مع عدم العلم بارتفاعها ، وأن الثبوت سابقا يوجب الظن بالبقاء أو دعوى الإجماع على العمل على طبق الحالة السابقة عند الشك في البقاء غير مفيد ، وذلك حيث إن السيرة على العمل بالحالة السابقة تختلف فيكون للرجاء والاحتياط أو للاطمئنان أو الظن بالبقاء وللعادة أي الالفة على الحالة السابقة مع الغفلة عن الزوال كما في الإنسان في بعض الأحيان ، وفي الحيوان دائما ، ولو فرض تمامية السيرة العقلائية على العمل على وفق الحالة السابقة فمجرد ذلك لا يكفي في الاعتماد عليها بل لا بد من إحراز رضاء الشارع بها وإمضائها ، وهذا غير ممكن لاحتمال الردع ، ويكفي في الردع عنه ما دل من الكتاب والسنة على عدم جواز الاعتماد والعمل بغير العلم ، وما دل على البراءة في الشبهات البدوية وعلى الاحتياط في غيرها ، وعلى الجملة فلا بد في جواز الاعتماد على الاستصحاب والبناء على العمل بالحالة السابقة من قيام الدليل على إمضاء السيرة.

لا يقال : لو تمت السيرة على العمل على الحالة السابقة فلا ينبغي التأمل في اعتبارها ؛ لعدم الردع عنها ، وما عن الماتن من أنه يكفي في الردع العمومات الناهية عن اتباع غير العلم ، وأدلة اعتبار البراءة الشاملة لموارد الاستصحاب لا يمكن المساعدة عليه كما ذكر في دعوى الردع عن السيرة العقلائية الجارية على اعتماد

١٣٥

وفيه : أولا منع استقرار بنائهم على ذلك تعبدا ، بل إما رجاء واحتياطا ، أو اطمئنانا بالبقاء ، أو ظنا ولو نوعا ، أو غفلة كما هو الحال في سائر الحيوانات دائما وفي الإنسان أحيانا.

وثانيا : سلمنا ذلك ، لكنه لم يعلم أن الشارع به راض وهو عنده ماض ، ويكفي في الردع عن مثله ما دل من الكتاب والسنة على النهي عن اتباع غير العلم ، وما دل على البراءة أو الاحتياط في الشبهات ، فلا وجه لاتباع هذا البناء فيما لا بد في اتباعه من الدلالة على إمضائه ، فتأمل جيدا.

الوجه الثاني : إن الثبوت في السابق موجب للظن به في اللاحق. وفيه : منع

______________________________________________________

أخبار الثقات ، والسيرة العقلائية على تقدير تماميتها في المقام تكون نظير تلك السيرة التي لا يمكن ردعها بالعمومات فإنه يقال يمكن التفرقة بين المقامين بأن خبر الثقة في نفسه كاشف عن ثبوت مضمونه في الواقع ، والسيرة العقلائية جارية على اعتبار هذا الكشف ، ومع إمضاء الشارع يكون خبر الثقة حجة على الواقع ـ على تقدير ثبوته ـ وعلما به تعبدا فيكون ردع السيرة بالعمومات دوريا ؛ لاحتمال عدم شمولها لخبر الثقة ؛ لكونه علما بالواقع تنزيلا بخلاف اعتبار الاستصحاب فإن السيرة جارية على قاعدة عملية ظاهرية عند الجهل بالواقع ، واعتبارها وعدم ردعها يوجب تخصيص النهي عن اتباع غير العلم ، ومع عدم ثبوت الدليل على التخصيص يؤخذ بعمومه كما هو الحال في عموم خطاب أصالة البراءة ، والأمر بالاحتياط في الشبهات ، وهذا كله مع قطع النظر عن الأخبار الواردة في الاستصحاب ودعوى اعتباره بالسيرة العقلائية مع قطع النظر عن سائر الوجوه.

وأما ما قيل في وجه اعتبار الاستصحاب : من أن ثبوت الحالة السابقة يوجب الظن ببقائها زمان الشك ؛ فإن اريد الظن الفعلي أي الشخصي فمن الظاهر أن مجرد

١٣٦

اقتضاء مجرد الثبوت للظن بالبقاء فعلا ولا نوعا ، فإنه لا وجه له أصلا إلّا كون الغالب فيما ثبت أن يدوم مع إمكان أن لا يدوم ، وهو غير معلوم ، ولو سلّم ، فلا دليل على اعتباره بالخصوص ، مع نهوض الحجة على عدم اعتباره بالعموم.

الوجه الثالث : دعوى الإجماع عليه ، كما عن المبادئ حيث قال : الاستصحاب حجة ، لإجماع الفقهاء على أنه متى حصل حكم ، ثم وقع الشك في أنه طرأ ما يزيله أم لا؟ وجب الحكم ببقائه على ما كان أولا ، ولو لا القول بأن الاستصحاب حجة ، لكان ترجيحا لأحد طرفي الممكن من غير مرجح ، انتهى. وقد نقل عن غيره أيضا.

وفيه : إن تحصيل الإجماع في مثل هذه المسألة مما له مبان مختلفة في غاية الإشكال ، ولو مع الاتفاق ، فضلا عما إذا لم يكن وكان مع الخلاف من المعظم ، حيث ذهبوا إلى عدم حجيته مطلقا أو في الجملة ، ونقله موهون جدا لذلك ، ولو قيل بحجيته لو لا ذلك.

______________________________________________________

الثبوت سابقا لا يوجب الظن بالبقاء دائما خصوصا في الشبهات الحكمية التي يختلف فيها أمر يحتمل دخالته في ثبوت الحكم وبقاؤه ، أضف إلى ذلك أن الاستصحاب على تقدير كون موضوع الاعتبار فيه هو الظن الشخصي نظير الظن بالقبلة وعدد الركعات فلا يمكن وقوع التعارض بين الاستصحابين أو تقديم الاستصحاب السببي على المسببي ؛ وإن اريد الظن النوعي بملاحظة أن الغالب فيما ثبت البقاء فمن الظاهر أن الأشياء تختلف في البقاء وعدمه وفي مقدار البقاء والغلبة ونحوها غير محرزة لو كان أصلها محرز ويرد أيضا أنه لو قيل بأن المعتبر هو الظن الشخصي أو النوعي الحاصل من الغلبة فلم يقم على اعتبارهما دليل بل يدخلان في غير العلم مما ورد النهي عن اتباعه.

١٣٧

الوجه الرابع : وهو العمدة في الباب ، الأخبار المستفيضة.

منها صحيحة زرارة : «قلت له الرجل ينام وهو على وضوء أيوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ قال : يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن ، وإذا نامت العين والاذن والقلب فقد وجب الوضوء ، قلت : فإن حرّك في جنبه شيء وهو لا يعلم قال : لا حتى يستيقن أنه قد نام حتى يجيء من ذلك أمر بيّن ، وإلّا فإنه على يقين من وضوئه ، ولا ينقض اليقين أبدا بالشك ، ولكنه ينقضه بيقين آخر [١]

______________________________________________________

وأما دعوى الإجماع على اعتبار الاستصحاب فهي موهونة جدا ؛ لوجود الخلاف في اعتباره وعدمه في الشبهات الحكمية بل مطلقا كما تقدم في الإشارة إلى الأقوال مع أنه على تقديره مدركي حيث تمسك القائلون باعتباره بوجوه مختلفة ، وإذا كان هذا حال الإجماع ـ على تقدير تحصيله ـ فكيف يعتبر نقله؟ والمتعين في المقام ملاحظة الأخبار فإنها العمدة في اعتباره ومقدار دلالتها عليه.

[١] أقول : هذه الصحيحة وإن ذكرت في كلمات بعض الأعلام عن زرارة عن الباقر عليه‌السلام إلّا أنه لم يثبت هذا النقل ولكن لا يضر ذلك ؛ لأن أمثال زرارة لا يسأل عن الحكم غير الإمام عليه‌السلام ثمّ ينقله بعنوان الرواية من غير التعرض وبيان أن ذلك قول غير الإمام ، وهذه الصحيحة تتضمن فقرتين :

الاولى ـ ناظرة إلى السؤال عن الشبهة الحكمية وأن الخفقة والخفقتين من نواقض الوضوء أم لا ، ولعل زرارة يحتمل كون الخفقة داخلة في النوم أو كونها من نواقض الوضوء أيضا ، وجواب الإمام عليه‌السلام ظاهره هو الأول ، وأن النوم الناقض للوضوء هو نوم العين والاذن والقلب لا ما يعم نوم العين خاصة ، وفي نسخة الوسائل التي عندنا فإذا نامت العين والاذن والقلب ، ولكن في المحكي في المتن لم يذكر القلب وكذا في سائر الكلمات ، ولو كانت النسخة الصحيحة غير مشتملة على ذكر القلب

١٣٨

.................................................................................................

______________________________________________________

فلا يضر ؛ لاحتمال التلازم بين نوم الاذن والقلب.

والفقرة الثانية ـ مشتملة على السؤال عن الشبهة الموضوعية ولا ينافي التلازم ؛ لاحتمال عدم السماع للغفلة لا لنوم الاذن ، وكيف كان فهذه الفقرة ناظرة إلى السؤال بأن عدم حسّ الشخص بما حرك في جنبه يحسب أمارة عن النوم فأجاب عليه‌السلام بالنفي ؛ لأن عدم الحس يمكن أن يكون لاشتغال القلب بشيء كما يتفق للإنسان ، وإذا شك في حصول النوم فلا يجب عليه الوضوء حتى يستيقن بالنوم ، ولا كلام في أنه يستفاد من الفقرة الثانية اعتبار الاستصحاب عند الشك في بقاء الوضوء أو حصول ناقضه ، وإنما الكلام في أنه يستفاد من الجواب في الفقرة الثانية اعتبار الاستصحاب في غير مورد الوضوء حيث التزم جماعة بأنه يستفاد منها اعتبار الاستصحاب مطلقا ؛ لأن قوله عليه‌السلام : «وإلّا فإنه على يقين من وضوئه» يتضمن القضية الشرطية وهي إن لم يجئ أمر بيّن من نومه لا يجب عليه الوضوء فإنه على يقين من وضوئه.

والجزاء في القضية الشرطية غير مذكور حيث إنه يعلم من التعليل ومما ذكر قبل ذلك من قوله عليه‌السلام : «لا حتى يستيقن أنه قد نام» وحذف الجزاء وقيام التعليل مقامه أمر متعارف في الاستعمالات نظير قوله سبحانه : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ)(١) فإن قوله سبحانه (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) لا يكون جزاء ؛ لأنّه تعالى غني عن العالمين كفروا أم لم يكفروا. وفي المقام أيضا لا يكون يقينه من وضوئه مترتبا على عدم مجيء الأمر البين فإن اليقين بالوضوء السابق موجود جاء أمر بيّن

__________________

(١) سورة آل عمران : الآية ٩٧.

١٣٩

وهذه الرواية وإن كانت مضمرة إلّا أن إضمارها لا يضر باعتبارها ، حيث كان مضمرها مثل زرارة ، وهو ممن لا يكاد يستفتي من غير الإمام عليه‌السلام لا سيما مع هذا الاهتمام.

وتقريب الاستدلال بها أنه لا ريب في ظهور قوله عليه‌السلام : (وإلّا فإنه على يقين .. إلى آخره) عرفا في النهي عن نقض اليقين بشيء بالشك فيه ، وأنه عليه‌السلام بصدد بيان ما هو علة الجزاء المستفاد من قوله عليه‌السلام : (لا) في جواب : (فإن حرك في جنبه ... إلى آخره) ، وهو اندراج اليقين والشك في مورد السؤال في القضيّة الكليّة الارتكازيّة غير المختصة بباب دون باب ، واحتمال أن يكون الجزاء هو قوله : (فإنه على يقين ...

______________________________________________________

من نومه أو لم يجئ.

ودعوى «فإنه على يقين» بنفسه جزاء وبمعنى طلب العمل على يقينه السابق ، وقوله : «لا تنقض اليقين بالشك» تأكيد للجزاء خلاف الظاهر ؛ لأنه لم يعهد مورد جعل الجملة الاسمية بمعنى طلب الفعل ، وإنما يستعمل في الطلب الجملة الفعلية. نعم ، إنشاء الأمر الاعتباري بالجملة الاسمية متعارف كقوله : هي طالق ، وأنت حر ، إلى غير ذلك ، وهذا غير طلب الفعل.

وربما يقال : اليقين في قوله عليه‌السلام : «لا ينقض اليقين بالشك أبدا» غير ظاهر في الجنس لو لم نقل بظهوره في العهد على ما ذكروا من أن سبق مدخول الألف واللام في الكلام يكون موجبا لظهور أن المراد في المدخول بعد ذلك هو المسبوق ، وبتعبير آخر لو سلم أن جزاء قوله عليه‌السلام : «وإلّا» محذوف والتقدير وإن لم يجئ من نومه أمر بيّن فلا يجب الوضوء وأن قوله عليه‌السلام : «فإنه على يقين من وضوئه» تعليل للجزاء المحذوف ، ولكن التعليل مجموع المعطوف والمعطوف عليه فيكون مفاد الشرطية إن لم يجئ أمر بيّن فلا يجب الوضوء ؛ لأن اليقين بالوضوء لا ينقض بالشك فيه في

١٤٠