دروس في مسائل علم الأصول - ج ٥

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٥

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8438-09-3
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤١٦

التنبيه على حجية الاستصحاب ، وأنه كان هناك استصحاب مع وضوح استلزام ذلك لأن يكون المجدي بعد الانكشاف ، هو ذاك الاستصحاب لا الطهارة ، وإلّا لما كانت الإعادة نقضا ، كما عرفت في الإشكال.

ثم إنه لا يكاد يصح التعليل ، لو قيل باقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء ، كما قيل ، ضرورة أن العلة عليه إنما هو اقتضاء ذاك الخطاب الظاهري حال الصلاة للإجزاء

______________________________________________________

الانكشاف في بيان الفرق بين المورد الثاني الذي حكم فيه بلزوم الإعادة وبين المورد الثالث الذي حكم فيه بالإجزاء ، وأما المورد الأول وهو الإتيان بالصلاة في الثوب المنسي نجاسته فالنسيان فيه وإن كان عذرا إلّا أن مورد نسيانها خارج عن حديث «لا تعاد» بالتخصيص في المستثنى كمورد نسيان تكبيرة الإحرام.

لا يقال : على ذلك فلو التفت إلى نجاسة ثوبه أثناء الصلاة وعلم أن نجاسته كانت من قبل كما إذا كانت نجاسته يابسة فلا يجزي إلقاء الثوب أو غسله أثناء الصلاة كما هو ظاهر قوله عليه‌السلام : «لأنك لا تدري لعله شيء أوقع عليك» مع أن الثوب المزبور إلى حين العلم بنجاسته كان محكوما بالطهارة فتعليل عدم الإعادة في صورة رؤيته رطبا بالاستصحاب أثناء الصلاة لا يناسب لزوم الإعادة في صورة رؤيته يابسا فإن الإخلال بالطهارة لعذر يجري في كلتا الصورتين.

أقول : يستفاد من التعليل الوارد في الصحيحة أن النجاسة الواقعية في الثوب والبدن مع انكشافها أثناء الصلاة موجبة لبطلانها ، ولكن حدوث نجاسته أثناء الصلاة مع إزالتها والإتيان ببقية الصلاة لا تضر نظير دم الرعاف الحادث أثناء الصلاة وفيما إذا رأى المكلف النجاسة رطبة بحيث يحتمل إصابته حين الرؤية يكون مقتضى الاستصحاب الإتيان بالأجزاء السابقة مع الطهارة المستصحبة والمفروض أنه يأتي ببقية الأجزاء بالطهارة الواقعية فلا علم له بالإتيان بشيء من أجزاء الصلاة مع

١٦١

وعدم إعادتها ، لا لزوم النقض من الإعادة كما لا يخفى ، اللهمّ إلّا أن يقال : إن التعليل به إنما هو بملاحظة ضميمة اقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء ، بتقريب أن الإعادة لو قيل بوجوبها كانت موجبة لنقض اليقين بالشك في الطهارة قبل الانكشاف وعدم حرمته شرعا ، وإلّا للزم عدم اقتضاء ذاك الأمر له ، كما لا يخفى ، مع اقتضائه شرعا أو عقلا ، فتأمل.

ولعل ذلك مراد من قال بدلالة الرواية على إجزاء الأمر الظاهري. هذا غاية ما يمكن أن يقال في توجيه التعليل ، مع أنه لا يكاد يوجب الإشكال فيه ـ والعجز عن التفصي عنه ـ إشكالا في دلالة الرواية على الاستصحاب ، فإن لازم على كل حال ، كان مفاده قاعدته أو قاعدة اليقين ، مع بداهة عدم خروجه منهما ، فتأمل جيدا.

ومنها صحيحة ثالثة لزرارة [١] (وإذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع ، وقد

______________________________________________________

النجاسة الواقعية فيحكم بصحة الصلاة بخلاف ما إذا رأى النجاسة يابسة فإنه عند رؤيتها يعلم بوقوع الأجزاء السابقة مع النجاسة فيكون تعليل الإمام عليه‌السلام عدم لزوم الإعادة في فرض رؤية النجاسة رطبة أمرا صحيحا حيث إن الاستصحاب الجاري بضم الطهارة الواقعية بالإضافة إلى الأجزاء الباقية ينفي النجاسة المانعة عن صحة الصلاة ويثبت بهما موضوع العفو كما لا يخفى. نعم ، في هذا الفرض يلزم التخصيص في حديث : «لا تعاد» بالإضافة إلى صورة رؤية النجاسة يابسة.

عدم دلالة الصحيحة الثالثة على اعتبار الاستصحاب

[١] وقد استدل باعتبار الاستصحاب بما رواه الكليني (١) والشيخ (٢) بسند

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٥٣ ، باب السهو في الثلاث والأربع ، الحديث ٣.

(٢) تهذيب الأحكام ٢ : ١٧٤ ، باب أحكام السهو في الصلاة ، الحديث ٤١.

١٦٢

.................................................................................................

______________________________________________________

صحيح عن زرارة عن أحدهما عليهما‌السلام حيث ورد فيها قال : «إذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث قام فأضاف إليها اخرى ولا شيء عليه ولا ينقض اليقين بالشك ولا يدخل الشك في اليقين ولا يخلط أحدهما بالآخر ولكنه ينقض الشك باليقين ويتم على اليقين فيبني عليه ولا يعتد بالشك في حال من الحالات» وذكر الشيخ قدس‌سره أنه إن كان المراد من قوله عليه‌السلام : «قام فأضاف إليها اخرى» الإتيان بالركعة المضافة متصلة كما هو مقتضى الاستصحاب يكون ذلك خلاف المذهب من لزوم الإتيان بالركعة المشكوكة منفصلة فيلزم حمل الجواب على التقية حيث إن الإتيان بالمشكوكة متصلة مذهب العامة وحملها عليها ينافي ما في صدر الرواية قال زرارة : «قلت له : من لم يدر في أربع هو أم في اثنين وقد أحرز الثنتين قال : يركع ركعتين وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب» حيث إن قوله عليه‌السلام : «وهو قائم بفاتحة الكتابة» ظاهره تعين ذلك الملازم للإتيان بهما مفصولتين وإن كان المراد القيام إلى ركعة مفصولة يكون المراد من قوله عليه‌السلام : «ولا ينقض اليقين بالشك» القاعدة المشروعة في الشك في الركعات المعبر عنها باليقين في قوله عليه‌السلام : «إذا شككت فابن على اليقين ، قلت : هذا أصل قال : نعم» والمفسرة في بعض الروايات بقوله عليه‌السلام : «ألا اعلمك شيئا إن زدت أو نقصت فلا شيء عليك إذا شككت فابن على الأكثر» وهذه القاعدة لا ترتبط بالاستصحاب أصلا. ومما ذكر يظهر أنه لا مجال لدعوى أن قوله عليه‌السلام : «لا ينقض اليقين بالشك» مفاده الاستصحاب غاية الأمر يكون تطبيق الاستصحاب على المورد لرعاية التقية فالتقية في التطبيق على المورد لا في أصل الكبرى نظير ما ورد في كون الإفطار والصوم يوم الشك إلى السلطان ، فإن الكبرى وهي تعيين الوظيفة يوم الشك إلى السلطان أي سلطان المسلمين صحيحة ، ولكن تطبيقها على

١٦٣

أحرز الثلاث ، قام فأضاف إليها أخرى ولا شيء عليه ، ولا ينقض اليقين بالشك ، ولا يدخل الشك في اليقين ، ولا يخلط أحدهما بالآخر ، ولكنه ينقض الشك باليقين ، ويتم على اليقين فيبنى عليه ، ولا يعتدّ بالشك في حال من الحالات).

والاستدلال بها على الاستصحاب مبني على إرادة اليقين بعدم الاتيان بالركعة الرابعة سابقا والشك في إتيانها.

______________________________________________________

المتصدي في زمانه عليه‌السلام لرعاية التقية ، والوجه في عدم المجال لها أن التطبيق كما ذكر وإن كان ممكنا إلّا أنه خلاف الظاهر ولا يحمل عليها إلّا بقيام القرينة كما في مسألة الصوم والإفطار بخلاف مورد الصحيحة ؛ فإنه قد ورد في صدرها قرينة على عدم التقية فحملها عليه يخالف الظهور من جهتين.

وذكر الماتن ما حاصله أنه يمكن الأخذ بظاهر قوله عليه‌السلام : «ولا ينقض اليقين بالشك» حيث إن ظهوره في اليقين الموجود من المصلي الشاك فعلا غير قابل للإنكار ، وهذا اليقين متعلق بعدم الإتيان بالركعة الرابعة سابقا ، ومقتضى عدم نقض المصلي يقينه هذا بالشك هو الاستصحاب المقتضي بالإتيان بالركعة الرابعة ، وأما الإتيان بها متصلة وهو مقتضى إطلاق التعبد بعدم الإتيان بتلك الركعة ويرفع اليد عنه بما دل على تعين الإتيان بصلاة الاحتياط أي بالركعة المشكوك نقصها منفصلة بل قيل باستفادة الإتيان بها منفصلة من هذه الصحيحة حيث ذكر عليه‌السلام : «ولا يخلط أحدهما بالآخر» بناء على أن المراد الإتيان بالمشكوكة منفصلة لا متصلة ، ولكن ظاهر الفقرات هو التأكيد لما ذكر أوّلا من النهي عن نقض اليقين بالشك.

ثمّ قال الماتن : إن كان المراد بها في الصحيحة من النهي عن نقض اليقين بالشك هو الاستصحاب في عدم الإتيان بالركعة الرابعة فلا تدلّ على اعتبار الاستصحاب في سائر الموارد ؛ لأن ظهور الفقرات في كون الأفعال الواردة فيها مبنية

١٦٤

.................................................................................................

______________________________________________________

على الفاعل ، والفاعل فيها ضمير يرجع إلى المصلي ، ولا يخفى أنه ليس مقتضى الاستصحاب إلّا الإتيان بالركعة الرابعة متصلة ؛ لأن من صلى من صلاته الظهر ثلاث ركعات فعليه الإتيان بالرابعة متصلة حيث إن مسلك الماتن في جريان الاستصحاب في ناحية الموضوع جعل حكمه وحكم من لم يصلّ من صلاته الركعة الرابعة الإتيان بها متصلة ، وما دل على لزوم الإتيان بالمشكوكة بصلاة الاحتياط إلغاء للاستصحاب في الشك في الركعات لا تقييد لحكم ظاهري على ما يأتي ، والمفروض أن هذا قد احرز بالاستصحاب ، وعلى الجملة الاستصحاب في عدم الإتيان بالركعة الرابعة لا يقتضي أمرين : بأن يدلّ على الإتيان بالركعة الرابعة بدلالة وضعية ، وأن يدلّ على الإتيان بها متصلة بالإطلاق ليقال : يرفع اليد عن إطلاقه بالدليل الوارد على التقييد ، بل مدلوله إحراز المكلف بأنه لم يأت بالركعة الرابعة والمكلف بصلاة الظهر مثلا يجب عليه أربع ركعات بعنوان الظهر متصلة ، وقد يورد على الاستصحاب بأمر آخر أيضا وهو أن الاستصحاب الجاري في عدم الإتيان بالركعة الرابعة لا يثبت كون الركعة المأتي بها بعد ذلك ركعة رابعة ليترتب عليها التشهد والتسليم بعدها ؛ ولذا يعلم أن الاستصحاب في موارد الشك في ركعات الصلاة ملغى رأسا ، وأنه يتعين في مورد الشكوك الصحيحة بقاعدة اليقين المشار إليها في بعض الأخبار من قوله عليه‌السلام : «ألّا اعلمك شيئا إن زدت أو نقصت فلا شيء عليك ...» وفي غير موارد الشكوك الصحيحة يحكم على الصلاة بالبطلان ، وفيه أن لزوم التشهد والتسليم لما دل على أنهما آخر أجزاء الصلاة يؤتى بهما بعد تمام الركعات ما لم يتخلل بينهما وبين الركعات المنافي ، وإتمام الركعات محرز بالوجدان ، وعدم الفصل المنافي أي الإتيان بالركعة الخامسة بالأصل هذا أولا.

١٦٥

وقد أشكل بعدم إمكان إرادة ذلك على مذهب الخاصة ، ضرورة أن قضيّته إضافة ركعة أخرى موصولة ، والمذهب قد استقرّ على إضافة ركعة بعد التسليم مفصولة ، وعلى هذا يكون المراد باليقين اليقين بالفراغ ، بما علّمه الإمام عليه‌السلام من الاحتياط بالبناء على الأكثر ، والإتيان بالمشكوك بعد التسليم مفصولة.

______________________________________________________

وثانيا ـ لو فرض كون المعتبر من التشهد والتسليم هو ما يكون الركعة التي يتشهد ويسلم بعدها كونها ركعة رابعة فيمكن إحراز كون المكلف في الركعة الرابعة بالاستصحاب فإنه بالإتيان بالركعة الاحتياطية يعلم كونه في الركعة الرابعة إما فعلا أو قبل ذلك ، ويحتمل بقاؤه فيها إلى أن يفرغ منها نظير الاستصحاب في أول الشهر فيما كان مقتضى الاستصحاب كون الشهر السابق تاما حيث إن المكلف يعلم بعد يوم الشك أنه دخل في الشهر اللاحق إما فعلا أو من قبل فيحمل بقاء أول الشهر المتيقن إلى غروب اليوم اللاحق ليوم الشك. أضف إلى ذلك أنه قد ورد في بعض الروايات الواردة في صلاة الاحتياط في الشكوك اعتبار التشهد والتسليم بعدها.

ودعوى أن الكلام في مقتضى الاستصحاب مع قطع النظر عن الروايات الخاصة فقد تقدم أن مقتضاه الإتيان بالركعة المشكوكة متصلة لا الإتيان بها مطلقا فضلا عن كونها مفصولة فلا بد من حمل الصحيحة على قاعدة اليقين المشار إليها في الشك في ركعات الصلاة وإن كان هذا خلاف الظاهر من جهة ظهور اليقين في قوله عليه‌السلام : «لا ينقض اليقين بالشك» في اليقين الموجود لا لزوم تحصيل ذلك اليقين المطلوب في الشك في الركعات ، وقد يوجه دلالة هذه الصحيحة على الاستصحاب بأن مفاده عدم إتيان المصلي الشاك بالركعة الرابعة ، وحيث علم مما ورد من أن الشاك بين الثلاث والأربع إذا عمل بوظيفة الشاك ثمّ ظهر أن صلاته الأصلية كانت ثلاث ركعات فلا يعيد ، وأنه أتى بما هي الوظيفة في حقه يعلم أن ما دل على أن

١٦٦

ويمكن ذبه بأن الاحتياط كذلك لا يأبى عن إرادة اليقين بعدم الركعة المشكوكة ، بل كان أصل الإتيان بها باقتضائه ، غاية الأمر إتيانها مفصولة ينافي إطلاق النقض ، وقد قام الدليل على التقييد في الشك في الرابعة وغيره ، وأن المشكوكة لا بد أن يؤتى بها مفصولة ، فافهم.

وربّما أشكل أيضا ، بأنه لو سلم دلالتها على الاستصحاب كانت من الأخبار الخاصة الدالّة عليه في خصوص المورد ، لا العامة لغير مورد ، ضرورة ظهور الفقرات في كونها مبنية للفاعل ، ومرجع الضمير فيها هو المصلّي الشاك.

وإلغاء خصوصية المورد ليس بذاك الوضوح ، وإن كان يؤيده تطبيق قضية (لا تنقض اليقين) وما يقاربها على غير مورد.

______________________________________________________

صلاة الظهر أو العصر أو العشاء أربع ركعات متصلة قد ورد عليه تقييد بما إذا لم يكن شاكا بالشكوك الصحيحة ، وإلّا فمع كون صلاته ثلاث ركعات واقعا فعليه الإتيان بصلاة الاحتياط. وعلى الجملة ما دل على وجوب صلاة الاحتياط للشاك مدلوله أن الوظيفة الواقعية للشاك مع نقصان صلاته صلاة الاحتياط ؛ ولذا لو ظهر له بعد صلاة الاحتياط كون صلاته ناقصة فيجبر النقص بصلاة الاحتياط ، وعلى ذلك فإذا جرى الاستصحاب في عدم الإتيان بالركعة الرابعة في حق الشاك يتعين عليه الإتيان بصلاة الاحتياط فلا منافاة بين إرادة الاستصحاب من قوله عليه‌السلام : «ولا ينقض اليقين بالشك» وبين لزوم الإتيان بالركعة الرابعة مفصولة أو الإتيان بركعتين جلوسا.

ولكن لا يخفى أن مدلول الاستصحاب هو علم المصلي بأنه لم يأت بالركعة الرابعة ووظيفة من يعلم بأنه أتى من صلاة الظهر ثلاث ركعات الإتيان بالركعة الرابعة متصلة ، ولم يرد لما دل على أن صلاة الظهر أربع ركعات متصلة تقييد في حق العالم ، وتعين وظيفة الشاك في الإتيان بصلاة الاحتياط مقتضاه إلغاء اعتبار الاستصحاب

١٦٧

بل دعوى أن الظاهر من نفس القضية هو أن مناط حرمة النقض إنما يكون لأجل ما في اليقين والشك ، لا لما في المورد من الخصوصية ، وإن مثل اليقين لا ينقض بمثل الشك ، غير بعيدة.

ومنها قوله : «من كان على يقين فأصابه شك فليمض على يقينه فإن الشك لا ينقض اليقين [١] أو «فإن اليقين لا يدفع بالشك».

______________________________________________________

عند الشك في ركعات الصلاة كما تقدم. والمتحصل أنه لا يرتبط ما ورد في هذه الصحيحة على اعتبار الاستصحاب بوجه ، وعلى تقدير الإغماض فلا ينبغي التأمل في أن الضمير في كل من الفقرات الست والسبع يرجع إلى المصلي الشاك فلا تكون دليلا على اعتبار الاستصحاب في سائر الموارد ، وما عن الماتن قدس‌سره من إمكان القول بعدم خصوصية للمورد فإن تطبيق قاعدة : «لا تنقض» وما يرادفها على سائر الموارد قرينة على أن الحكم في المورد لما في اليقين والشك من الملاك لا يمكن المساعدة عليه فإنّ دعوى تمام الملاك لما في اليقين والشك لم يظهر لها وجه ؛ ولذا لا يجري الاستصحاب في الشك في الركعات في غير موارد الشكوك الصحيحة ، والنهي عن نقض اليقين بالشك لم يذكر في الصحيحة بنحو الكبرى الكلية وإن وردت في سائر الروايات وطبّقت على غير الشك في الركعات إلّا أنه يكون الدليل على اعتبار الاستصحاب هي لا هذه الصحيحة.

الاستدلال على اعتبار الاستصحاب بحديث الأربعمائة

[١] من الروايات المستدل بها على اعتبار الاستصحاب رواية الخصال المعروفة بحديث الأربعمائة عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن محمد بن عيسى اليقطيني عن القاسم بن يحيى عن جده الحسن بن راشد عن أبي بصير عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام حيث ورد فيه : «من كان على يقين فشك فليمض على

١٦٨

وهو وإن كان يحتمل قاعدة اليقين لظهوره في اختلاف زمان الوصفين ، وإنما يكون ذلك في القاعدة دون الاستصحاب ضرورة إمكان اتحاد زمانهما ، إلّا أن المتداول في التعبير عن مورده هو مثل هذه العبارة ، ولعله بملاحظة اختلاف زمان الموصوفين وسرايته إلى الوصفين ، لما بين اليقين والمتيقن من نحو من الاتّحاد ، فافهم.

______________________________________________________

يقينه فإن الشك لا ينقض اليقين» (١) وفي نسخة اخرى : «فإن اليقين لا يدفع بالشك» وفي السند القاسم بن يحيى ولم يثبت له توثيق. نعم ، ما ذكر العلّامة (٢) من تضعيفه غير معتمد فإنه أخذه من الكتاب المنسوب إلى الغضائري (أحمد بن الحسين بن عبيد الله) ولم يثبت أن الكتاب له ، ويستشكل في دلالته بأن ظاهره قاعدة اليقين لاعتبار تقدم اليقين على الشك في تلك القاعدة بخلاف الاستصحاب فإن المعتبر فيه تقدم المتيقن على المشكوك سواء حصل الوصفان أي اليقين والشك في زمان واحد أو حتى حصل الشك قبل اليقين بالحدوث ، وحيث إن ظاهره سبق اليقين وطرو الشك فيكون مفاده قاعدة اليقين ، وأجاب الماتن عن ذلك بأن التعبير بما في الحديث عن الاستصحاب أمر متعارف منشؤه نحو من الاتحاد بين المتيقن واليقين والمشكوك بالشك ، ومعه يسرى وصف المتيقن إلى اليقين ، والمشكوك إلى الشك. والحاصل التعارف المذكور يجعل اعتبار إرادة قاعدة اليقين من الحديث خلاف الظاهر.

وذكر قدس‌سره في هامش الكتاب أن الوجه في ظهوره في الاستصحاب كون الزمان في قاعدة اليقين قيدا لمتعلق اليقين والشك ، وفي مورد الاستصحاب ظرفا وبما أن ظاهر الزمان المستفاد من (كان) الظرفية ويحتاج أخذه قيدا إلى القرينة يكون مفاده

__________________

(١) الخصال ٢ : ٧٥٢ ، حديث الأربعمائة.

(٢) الخلاصة : ٣٨٩ / ٦. طبعة مؤسسة نشر الفقاهة.

١٦٩

.................................................................................................

______________________________________________________

قاعدة الاستصحاب ، وذكر قدس‌سره في آخر كلامه في الكتاب أن قوله : «فإن اليقين لا ينقض بالشك» ظاهر في أنها قضية ارتكازية واردة في سائر موارد الاستصحاب ، وفيه : أنّ «الشك لا ينقض اليقين» نسخة لم تثبت ، وأن الزمان في كل من قاعدة اليقين والاستصحاب ظرف ، وإنما الاختلاف بينهما اتحاد متعلقي اليقين والشك في القاعدة حتى من حيث الظرف أيضا ، وفي الاستصحاب اتحاد متعلقهما مع قطع النظر عن الظرف وظاهر حذف المتعلق من كل من اليقين والشك وأن يوجب اتحاد المتعلقين من جميع الجهات إلّا أن الحديث ظاهر صدره إرادة الاستصحاب حيث إنه فرق بين أن يقال : من كان على يقين فأصابه شك فلا يعتد بالشك ، وبين قوله : من كان على يقين فأصابه شك فليمض على يقينه ، فإن ظاهر الثاني وجود اليقين فعلا وهذا حاصل في موارد الاستصحاب حيث إن اليقين بالحالة السابقة يجتمع مع الشك في بقائها بخلاف مورد القاعدة فإن اليقين فيها قد زال بإصابة الشك ، وليس في نفس المكلف فعلا إلّا الشك.

ومما ذكر يظهر أن موثّقة إسحاق بن عمار قال : قال لي أبو الحسن الأول عليه‌السلام : «إذا شككت فابن على اليقين قال : قلت هذا أصل قال : نعم» (١) يمكن دعوى ظهورها في الاستصحاب لفرض اليقين عند حدوث الشك ، وليس فيها قرينة على ورودها في الشك في ركعات الصلاة ليقال : إن المراد من البناء على اليقين تحصيل اليقين بالفراغ بصلاة الاحتياط. نعم ، أخرجها في الفقيه في باب السهو في الصلاة ولكن مجرد إخراجه قدس‌سره لا يكون قرينة على اختصاصها بركعات الصلاة مع أن المعروف في

__________________

(١) وسائل الشيعة ٥ : ٣١٨ ، الباب ٨ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث ٢.

١٧٠

هذا مع وضوح أن قوله : (فإن الشك لا ينقض ... إلى آخره). هي القضية المرتكزة الواردة مورد الاستصحاب في غير واحد من أخبار الباب.

ومنها : خبر الصفار ، عن علي بن محمد القاساني ، قال : كتبت إليه ـ وأنا بالمدينة [١] ـ عن اليوم الذي يشك فيه من رمضان ، هل يصام أم لا؟ فكتب : اليقين

______________________________________________________

كلمات جماعة من الأعلام التعبير عنها بالموثّقة كما ذكرنا ، ولكن في كونها كذلك تأمل فإن في السند علي بن إسماعيل المعروف بابن السندي ولم يثبت له توثيق كما ذكر في محله.

[١] ومما استدل به على اعتبار الاستصحاب ما رواه الشيخ قدس‌سره : «بإسناده إلى محمد بن الحسن الصفار عن علي بن محمد القاساني قال : كتبت إليه وأنا بالمدينة أساله عن اليوم الذي يشك فيه من رمضان هل يصام أم لا؟ فكتب : اليقين لا يدخل فيه الشك صم للرؤية وافطر للرؤية» (١) وفي علي بن محمد القاساني كلام فإن النجاشي ذكره وقال أنه مكثر الرواية فاضلا غمز عليه أحمد بن محمد بن عيسى ، وأنه سمع منه مذاهب منكرة ولكن ليس في كتبه ما يدلّ عليه (٢) وذكر الشيخ قدس‌سره الرجل في أصحاب الهادي عليه‌السلام وضعفه وقال ـ بعد ذلك ـ : علي بن شيرة القاساني من أصحاب الهادي عليه‌السلام وأنه ثقة (٣) ، وظاهر ذلك تعددهما ، وأن من وثقه غير من ضعفه قبل ذلك ، وقد يقال كما عن العلامة (٤) باتحادهما ، وإن تضعيف الشيخ معارض بتوثيقه فيؤخذ بما عن النجاشي من المدح فيعد حديثه رواية حسنة ،

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٤ : ١٣٩ ، الباب ٤١ في علامة شهر رمضان ، الحديث ١٧.

(٢) رجال النجاشي : ٢٥٥ ، الرقم ٦٦٩. وفيه : علي بن محمد بن شيرة.

(٣) رجال الطوسي : ٣٨٨ ، الرقم ٥٧١١ و ٥٧١٢.

(٤) الخلاصة : ٣٦٣ / ٦.

١٧١

لا يدخل فيه الشك ، صم للرؤية وافطر للرؤية) حيث دلّ على أن اليقين ب (شعبان) لا يكون مدخولا بالشك في بقائه وزواله بدخول شهر رمضان ، ويتفرع عليه عدم وجوب الصوم إلّا بدخول شهر رمضان.

______________________________________________________

وللكلام محل آخر. وإن السند لا يخلو عن تأمل. وأما دلالتها فقال الشيخ الأنصاري قدس‌سره أنها أظهر ما في الباب في الدلالة على اعتبار الاستصحاب (١) حيث إن قوله عليه‌السلام «اليقين لا يدخل فيه الشك» قضية كلية تعم اليقين بعدم دخول شهر رمضان وغيره فيكون مقتضاها عدم وجوب الصوم إلى أن يعلم دخول شهر رمضان كما أنه لا يجوز الإفطار إلى أن يعلم دخول شهر شوال.

وقد يقال : إن مراجعة الأخبار الواردة في يوم الشك يوجب الجزم بأن الصوم بنية شهر رمضان لا بد من أن يكون مع إحراز دخول شهر رمضان ، ولا يجوز الصوم يوم الشك بنية رمضان حتى بعنوان الرجاء والاحتياط ، ومن صام كذلك فعليه قضاء ذلك الصوم مع تبين أنه كان من رمضان ، وقد جعل في الوسائل لذلك بابا ، والمكاتبة ظاهرها لا أقل من احتمال أنها من تلك الروايات ، وقد أيد هذا الاحتمال النائيني قدس‌سره وقال : ولذا لم يعبّر في هذه المكاتبة بالنقض ، وورد فيها بأن اليقين لا يدخل فيه الشك بمعنى أن يوم الشك لا يدخل في الصوم في أيام شهر رمضان بحيث يجوز صومه بنية شهر رمضان ، ولو بعنوان الرجاء والاحتياط ، ولكن لا يخفى عدم كون المكاتبة من تلك الأخبار فإنه لو كان المراد منها ما ذكر لم يكن في ذيلها «وافطر للرؤية» لأن تلك الأخبار ناظرة إلى خصوص يوم الشك المردد بين كونه آخر شعبان أو أول رمضان وما ذكر النائيني قدس‌سره من قرينية التعبير بالدخول لا يمكن المساعدة

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٧١.

١٧٢

وربما يقال : إن مراجعة الأخبار الواردة في يوم الشك يشرف القطع بأن المراد باليقين هو اليقين بدخول شهر رمضان ، وأنه لا بد في وجوب الصوم ووجوب الإفطار من اليقين بدخول شهر رمضان وخروجه ، وأين هذا من الاستصحاب؟ فراجع ما عقد في الوسائل لذلك من الباب تجده شاهدا عليه.

______________________________________________________

عليه ؛ لأن الدخول عبارة اخرى للنقض ولذا يقال دليل الخصم مدخول وكأن ما يدخل فيه يفكك أجزاءه وينقضه.

نعم ، قد يقال كما في كلام الماتن أيضا : إنّ المراد باليقين في المكاتبة خصوص اليقين بدخول الشهر بمعنى أنه يعتبر في لزوم ترتيب آثار دخول الشهر إحراز دخوله ؛ ولذا لا يجب صوم شهر رمضان إلّا بإحراز دخوله كما لا يجوز الإفطار إلّا بإحراز دخول شوال ، وهذا لا يرتبط بالاستصحاب فإن هذا الحكم ثابت ولو قيل بعدم اعتبار الاستصحاب ، ولذلك أيضا باب في الوسائل.

وفي صحيحة محمد بن مسلم : «إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فافطروا وليس بالرأي ولا التظني ولكن بالرؤية» (١) والمراد بالرؤية العلم بها بقرينة مثل صحيحة علي بن جعفر عن أخيه عليه‌السلام : «عن الرجل يرى الهلال في شهر رمضان وحده لا يبصره غيره ، أله أن يصوم؟ قال : إذا لم يشك فليفطر وإلّا فليصم مع الناس» (٢) والمراد انفراد الشخص برؤية هلال شوال كما يظهر من الجواب ، ولكن فيما رواه علي بن جعفر عن أخيه عليه‌السلام : «قال سألته عمن يرى هلال شهر رمضان وحده لا يبصره غيره أله أن يصوم؟ فقال : إذا لم يشك فيه فليصم وحده ، وإلّا يصوم مع الناس إذا صاموا» (٣) والحاصل

__________________

(١) وسائل الشيعة ٧ : ١٨٢ ، الباب ٣ من أبواب أحكام شهر رمضان ، الحديث ٢.

(٢) المصدر السابق : ١٨٨ ، الباب ٤ ، الحديث الأول.

(٣) المصدر السابق : الحديث ٢.

١٧٣

ومنها : قوله عليه‌السلام : «كل شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر» [١] وقوله عليه‌السلام : (الماء كله طاهر حتى تعلم أنه نجس) وقوله عليه‌السلام : (كل شيء حلال حتى تعرف أنه حرام) وتقريب دلالة مثل هذه الأخبار على الاستصحاب أن يقال : إن الغاية فيها إنما هو

______________________________________________________

يدور الأمر في المكاتبة بين حملها على قاعدة الاستصحاب وهي النهي عن نقض اليقين بالشك ، وبين الحمل على حكم الصوم وحكم الإفطار في اليوم المردد بين آخر شعبان أو أول رمضان أو اليوم المردد بين آخر رمضان وأول شوال ، وهذه قاعدة تختص بالشهور وحكم ظاهري عند الشك فيها وليس في البين قرينة على الأول فما ذكره الشيخ قدس‌سره من كونها أظهر ما في الباب لا يمكن المساعدة عليه لعدم التفريع في المكاتبة أوّلا ، وصحة التفريع على كلا الاحتمالين ثانيا.

[١] من الروايات المستدل بها على الاستصحاب موثقة عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر» (١) وذكر الماتن في تقريب الاستدلال بها على الاستصحاب أن الصدر وهو قوله عليه‌السلام : «كل شيء نظيف» حكم لجميع الأشياء بعناوينها الواقعية وأن كلّ ما يفرض في الخارج من الأشياء كالحجر والنبات والحيوان محكوم بالطهارة بعنوانه الواقعي ، وبذيلها تدلّ على استمرار الطهارة فيه إلى أن يعلم بعروض القذارة له سواء كانت في الشبهة الحكمية كما إذا شك في أن غليان العصير يوجب نجاسته أم لا أو في الشبهة الموضوعية كما إذا شك في قذارة شيء لاحتمال إصابة البول إياه ، وهذا الحكم أي الحكم باستمرار الطهارة الثابتة له إلى أن يعلم طرو القذارة هو الاستصحاب حيث إن استمرار الطهارة الواقعية بحسب الواقع لا يدور مدار العلم بل تبقى إلى عروض القذارة سواء علم بعروضها

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢ : ١٠٥٤ ، الباب ٣٧ من أبواب النجاسات ، الحديث ٤.

١٧٤

لبيان استمرار ما حكم على الموضوع واقعا من الطهارة والحليّة ظاهرا ، ما لم يعلم بطروء ضده أو نقيضه ، لا لتحديد الموضوع ، كي يكون الحكم بهما قاعدة مضروبة لما شك في طهارته أو حلّيته ، وذلك لظهور المغيّى فيها في بيان الحكم للأشياء بعناوينها ، لا بما هي مشكوكة الحكم ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

المكلف أم لم يعلم فالاستمرار المتعبد به في ذيل الرواية حكم ظاهري كما هو مفاد الاستصحاب فيكون العلم بالقذارة قيدا وغاية لنفس الاستمرار الظاهري لا قيدا للشيء المحكوم بالطهارة في الصدر بأن يكون معنى الحديث : كل شيء إلى أن يعلم بقذارته محكوم بالطهارة ، كما هو مفاد قاعدة الطهارة فإن الغاية المفروضة لا يمكن أن تكون قيدا للموضوع وقيدا لنفس الحكم فإن لحاظها قيدا للحكم عدم لحاظها في مرتبة لحاظ الموضوع ، وكونها قيدا لحاظها قبل لحاظ الحكم ، وفيه محذور استعمال اللفظ في معنيين ، وبتعبير آخر لو كانت الغاية قيدا للموضوع في الصدر بأن يكون مفادها بهذا اللحاظ قاعدة الطهارة ، وقيدا وغاية للاستمرار حتى يستفاد اعتبار الاستصحاب لزم أن تلاحظ الغاية بلحاظين مختلفين بخلاف ما إذا جعلت غاية للحكم بالطهارة للأشياء بعناوينها ، وأن هذا الحكم مستمر إلى أن يعلم بالقذارة فيكون مفادها اعتبار الاستصحاب فقط.

في إمكان شمول الروايات لقاعدة الطهارة والحلية وبيان الحكم الواقعي للأشياء

فتحصل أنّ الأمر يدور بين أن يكون مفاد الموثقة قاعدة الطهارة فقط كما إذا كانت الغاية قيدا للموضوع المذكور في الصدر وبين أن يكون مفادها الاستصحاب كما إذا كان الصدر متكفلا للحكم الواقعي للأشياء بعنوانيها الواقعية ، والذيل دالّ على استمراره ظاهرا إلى العلم بالخلاف ، وبما أن ظهور الصدر في كونه حكما للأشياء بعناوينها الواقعية يتعين حمل الموثقة على بيان اعتبار الاستصحاب

١٧٥

.................................................................................................

______________________________________________________

لا قاعدة الطهارة ودعوى أنها متكفلة لبيان الاستصحاب والقاعدة معا فقد تقدم أن ذلك يوجب محذور اللحاظين المختلفين في الغاية.

ثمّ ذكر قدس‌سره في آخر كلامه أن ما في ذيل الموثقة من قوله عليه‌السلام : «فإذا علمت أنه قذر فقد قذر وما لم تعلم فليس عليك» يؤيد بأن مفادها الاستصحاب لا قاعدة الطهارة حيث إن ظاهر الذيل تفريع على الاستمرار المستفاد من الغاية فقط ، وأنه بيان حدّ للغاية منطوقا ومفهوما لا أنه تفريع على المغيّا مع الغاية بأن يكون تفريعا لقاعدة الطهارة المستفادة من المغيّا بالغاية وذكر قدس‌سره في هامش الكتاب إمكان استفادة قاعدة الطهارة والاستصحاب من الموثقة بدعوى أن العموم في الصدر يعم بعض الأشياء المشتبهة كالمائع المردد بين البول والماء والمردد بين الخل والخمر ، وإذا حكم على تلك الأشياء بالطهارة ، وأن الطهارة في الأشياء مستمرة إلى العلم بالقذارة يكون مفادها بالإضافة إلى بعض الأشياء قاعدة الطهارة ، وبالإضافة إلى غيرها مفاد الاستصحاب ويتم الأمر في بعض المشكوكات التي لا يعمها الصدر بعدم احتمال الفرق.

أقول : الحلية الثابتة لما هو مردد بين البول والماء لا يمكن أن تثبت له بما هو عنوانه الواقعي ، ولا بما هو مصداق الشيء بل تثبت بما هو مردد بينهما ، وظاهر الصدر ثبوت الحلية لما يصدق عليه عنوان الشيء بما هو مصداقه أو بعنوانه الواقعي بل وظاهر العموم الثاني ، وذكر المحقق النائيني قدس‌سره أنه لا يمكن أن يعم الصدر بيان الطهارة أو الحلية للأشياء بعناوينها الواقعية والطهارة والحلية بمفاد قاعدتيهما ولو بملاحظة الغاية وذلك فإن الحكم الظاهري متأخر عن الحكم الواقعي بمرتبتين فإن جعله موقوف على جعل الحكم الواقعي لموضوعه ، وفرض الشك فيه بأن يلاحظ

١٧٦

.................................................................................................

______________________________________________________

العصير العنبي بعد غليانه فيجعل له الطهارة أو النجاسة واقعا ليمكن الشك في حكمه الواقعي فيجعل له الطهارة ما دام الجهل بحكمه الواقعي وإذا كان جعل الطهارة الظاهرية بمفاد قاعدتها موقوفا على جعل الحكم الواقعي وفرض الشك فيه لكان قوله عليه‌السلام : «كل شيء طاهر» قاصرا عن بيان الحكم الظاهري مع كونه في مقام بيان الطهارة للأشياء بعناوينها الواقعية وبما أن الغاية للطهارة المجعولة في العلم بالنجاسة فلا يستفاد منهما إلّا قاعدة الطهارة وقاعدة الحلية فإن الحكم الواقعي لا يمكن أن يكون مغيّا بالعلم بالخلاف فالغاية الواردة تهدم ظهور الصدر وتقلبه إلى مفاد القاعدتين وذلك فإنه وإن أمكن أن تكون غاية الطهارة عروض النجاسة أو الحرمة بأن تكون الغاية غاية للحكم الواقعي ويكون العلم مذكورا فيها بما هو طريق محض إلى عروض النجاسة والحرمة بأن يكون مفاده كل شيء طاهر إلى عروض القذارة له ، وحلال إلى عروض الحرمة له إلّا أن هذا خلاف الظاهر في أن للعلم دخلا في انتهاء الطهارة والحلية.

وكذا حمل الغاية في تلك الروايات على كونها بمفاد مستقل بأن يكون الصدر متكفلا ببيان الطهارة والحلية للأشياء بعناوينها الواقعية والغاية متكفلة ببيان استمرارهما للأشياء إلى حصول العلم بالخلاف كما هو ظاهر كلام صاحب الكفاية خلاف الظاهر ، وذلك فإن الحكم الواقعي سنخ من الحكم يثبت للأشياء بعناوينها الواقعية ، والحكم بالاستمرار الظاهري سنخ آخر من الحكم حيث إنه حكم ظاهري يكون طريقا والموضوع له الشك في استمرار الحكم الواقعي وعدمه فيحتاج استفادة الحكم الواقعي من الصدر ، والحكم عليه بالاستمرار إلى العلم بالخلاف إلى تقدير الموضوع للحكم بالاستمرار كما لو كان الوارد في الرواية كل شيء طاهر ، وتلك

١٧٧

.................................................................................................

______________________________________________________

الطهارة تستمر فيه إلى العلم بالخلاف لأمكن استفادة الحكمين ، وهذا بخلاف ما إذا كانت الغاية بيانا للاستمرار الواقعي فإن ثبوت الحكم الواقعي واستمراره في الحقيقة حكم واحد كما إذا ورد كلّ شيء طاهر إلى أن يلاقي نجسا فلا يحتاج فيه إلى تقدير الموضوع فإن الموضوع له نفس الشيء بعنوانه الواقعي ما لم يلاق نجسا كما هو مفاد قوله : البئر طاهر إلى أن يتغير لونه أو طعمه أو ريحه (١).

أقول : ما ذكره قدس‌سره من أن حمل الغاية على بيان حكم ظاهري بمفاد الاستصحاب والالتزام بكون الصدر بيانا لحكم الأشياء بعناوينها الواقعية خلاف الظاهر حيث يحتاج ذلك إلى تقدير الموضوع للحكم الثاني المدلول عليه بالصدر خلاف الظاهر صحيح.

وأما ما ذكره رحمه‌الله من أنّ عدم تكفل الصدر للحكم الواقعي الثابت للأشياء بعناوينها الواقعية وللحكم الظاهري لها بمفاد قاعدة الطهارة أو الحلية مستحيل للوجه الذي ذكره لا يمكن المساعدة عليه فإنه يمكن تقريب تكفل خطاب واحد للطهارة الواقعية لجملة من الأشياء والطهارة الظاهرية لما يشك في نجاسته بشبهة مفهومية أو مصداقية بأن اعتبر الشارع النجاسة لبعض الأشياء بعناوينها الواقعية من قبل كالخمر والخنزير والميتة وغير ذلك ، ثمّ لاحظ الأشياء التي لا تدخل في تلك العناوين التي جعل لها النجاسة من قبل مع ملاحظة الأشياء المحتمل دخولها في تلك العناوين بشبهة مفهومية أو موضوعية عند المكلف ويجعل الطهارة لكل منها بحيث تكون الطهارة المجعولة بالإضافة إلى غير الداخلة في العناوين المجعولة لها

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ : ١٢٦ ، الباب ١٤ من أبواب الماء المطلق ، الحديثان ٦ و ٧.

١٧٨

.................................................................................................

______________________________________________________

النجاسة طهارة واقعية ، وبالإضافة إلى ما يحتمل دخوله فيها لشبهة مفهومية أو موضوعية طهارة ظاهرية كما إذا قال : كل شيء طاهر حتى يلاقي نجسا أو يعلم نجاسته.

وبتعبير آخر : لا يلزم في جعل الطهارة الظاهرية للمشكوكات جعل الطهارة لها من قبل بعناوينها الواقعية ليدعي لزوم المحذور المذكور بل يكفي في جعلها لحاظ احتمال المكلف ثبوت النجاسة لاحتمال كونه داخلا في العنوان المحكوم عليه بالنجاسة بل احتمال ثبوت كون الشيء منها. ولا يخفى أن المدعى إمكان تكفل خطاب واحد للحكم الواقعي بالطهارة أو بالحلية لجملة من الأشياء واعتبار الطهارة أو الحلية الظاهرية لجملة اخرى. وأما وقوع ذلك في الروايات المتقدمة فلا ندّعيه فإن الغاية المذكورة في تلك الرواية أمر واحد ، وظاهره أنه قيد لنفس الحكم المذكور فيها بصورة واحدة لا لبعض الأحكام الانحلالية فيتعين أن يكون مفادها الحكم الظاهري فقط ؛ لأن الغاية قيد للموضوع لا محالة ، والحكم الواقعي يثبت للشيء بعنوانه لا يعتبر فيه عدم العلم بنجاسته أو بحليته. نعم ، إذا كانت الغاية متعددة كما في المثال تكون قرينة على أن كلا منهما غاية لبعض الأحكام الانحلالية ولا محذور فيه ، وإذا قام دليل على نجاسة شيء بعنوانه كالدم من الإنسان أو الحيوان ذي النفس يعلم أنه غير داخل في مدلول قوله : كل شيء طاهر إلى أن يلاقي نجسا أو يعلم نجاسته ، وإذا شك في نجاسة شيء بالشبهة المفهومية أو المصداقية يصح التمسك بقوله : كل شيء طاهر إلى أن يلاقي نجسا أو يعلم قذارته ، من غير أن يكون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

وقد يجاب عن امتناع تكفل الصدر لكل من الطهارة للأشياء بعناوينها الواقعية

١٧٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وللأشياء المشكوكة طهارتها بشبهة خارجية أو حكمية بأن ما ذكر من تأخر رتبة الحكم الظاهري عن الواقعي بمرتبتين إنما يوجب امتناع الجمع بينهما في الإنشاء لو قيل بأن الأمر الإنشائي ومنه الحكم ـ طهارة كانت أو غيرها ـ توجد باستعمال اللفظ فإنه على هذا المسلك لا طهارة للأشياء بعناوينها الأولية يعني الواقعية ليمكن لحاظ الشك فيها لبعض الأشياء ليجعل لها الطهارة الظاهرية أيضا وأما إذا قلنا بما هو الصحيح من أن الأمر الإنشائي لا يوجد باللفظ بل بمجرد الاعتبار الذي هو فعل النفس ، وإنما يكون اللفظ مبرزا لتحققه الذي يكون بالنفس فلا محذور حيث يمكن اعتبار الطهارة للأشياء بعناوينها الواقعية ثمّ اعتبار الطهارة للأشياء بلحاظ الشك في الاعتبار الأول فيها وإبراز كلا الاعتبارين بمبرز واحد مثل قوله عليه‌السلام : «كل شيء طاهر» أو «حلال».

أقول : الظاهر أن الوجه الذي ذكره المحقق النائيني قدس‌سره غير صحيح حتى على القول بأن الأمر الإنشائي يوجد باللفظ حتى مع الغمض عن الجواب السابق الذي ذكرناه ، وذلك لما تقدم في بحث إمكان قصد التقرب في متعلق الأمر من أن المتأخر عن الحكم بمرتبة أو مرتبتين لا يمكن أن يلاحظ قبل الحكم بشخصه تفصيلا إلّا أنه يمكن لحاظه بالعنوان المشير إليه المتحقق في ظرفه ، وعليه فما يتوقف عليه جعل الطهارة الظاهرية لبعض الأشياء لحاظ الشك في طهارتها الواقعية المتحقق في ظرفها ولو بعد ذلك ومع لحاظ الأشياء بعناوينها الواقعية ولحاظ المشكوك في طهارتها في موطنها بالعنوان المشير إليها يمكن جعل الطهارة لكل منها فتكون الطهارة واقعية لما جعل له بعنوانه الواقعي ، وظاهرية بالإضافة إلى ما جعل له بذلك العنوان المشير.

وأما ما ذكر في الجواب من التفصيل بين الالتزام بأن الإنشاء إبراز أو إيجاد

١٨٠