دروس في مسائل علم الأصول - ج ٥

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٥

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8438-09-3
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤١٦

.................................................................................................

______________________________________________________

فالظاهر أنه لا يفيد في المقام فإن الامور الاعتبارية تعتبرها النفس إلّا أن مجرد اعتبارها لا يكفي في حصول عناوينها حتى عند المعتبر (بالكسر) بل لا بد من إبرازها بقول أو فعل حيث إن الإبراز مقوم لعناوينها فاعتبار ملكية شيء لآخر مجانا أو بالعوض لا يكون تمليكا مجانيا أو بيعا ما لم يبرز ليعمه ما دل على صحة الهبة أو نفوذ البيع ، وكذا مجرد الطهارة فإن اعتبارها للأشياء إنما تكون حكما بطهارتها بالإبراز فيتأخر الحكم على شيء مشكوك بالطهارة عن جعل الطهارة له بعنوانه الواقعي فيعود المحذور. أضف إلى ذلك أن الروايات كلّها إخبار عن أحكام الشريعة المجعولة من قبل لا أنها تحصل بقوله عليه‌السلام ليقال : إن الإنشاء هو الإبراز لا الإيجاد فتدبر.

وقد يقال في امتناع تكفل صدر الروايات لبيان الطهارة للأشياء بعناوينها الواقعية وللأشياء المحتملة دخولها في العناوين النجسة وجه آخر وهو : أن الطهارة الواقعية كالحلية الواقعية لا تكون من الأحكام المجعولة الاعتبارية بل المجعول الإنشائي هي النجاسة والحرمة فإنه لو كانت الطهارة أو الحلية الواقعية مجعولة لزم أن لا تكون الأشياء قبل الجعل لا طاهرة ولا نجسة ، ولا حلالا ولا حراما مع أن الأعيان الخارجية قسم منها يستقذره العرف ، وقسم منها لا يستقذره ، ويكون الاستقذار في الثاني بتلوثه بالأول ، والتطهير عرفا إزالة ذلك التلوث بالغسل ونحوه ، وإرجاعه إلى الحالة الأصلية التي لا استقذار فيها لا إيجاد أمر آخر وتكون الطهارة والتطهير عند الشارع أيضا كذلك فلا تكون طهارة المغسول أمرا اعتباريا إنشائيا. نعم ، للشارع إلحاق بعض غير المستقذر بالمستقذر العرفي أو إلحاق المستقذر العرفي كالخارج بالتقيؤ بغيره ، وكذا الحال في الحلية الواقعية. نعم ، الطهارة أو الحلية الظاهرية من

١٨١

.................................................................................................

______________________________________________________

المجعولات الإنشائية وعلى ذلك فلو كان قوله عليه‌السلام : «كل شيء نظيف» أو «طاهر» ناظرا إلى بيان الطهارة الواقعية للأشياء بعناوينها الواقعية يكون إخبارا وعلى تقدير إرادة الطهارة الظاهرية إنشاء والجمع بين الإخبار والإنشاء في استعمال واحد غير ممكن. أضف إلى ذلك أن الطهارة الواقعية ولو على تقدير كونها مجعولة مغايرة للطهارة الظاهرية حيث إن الاولى مجعولة بنفسها والطهارة الظاهرية هو البناء العملي على الطهارة فإرادتهما من كل شيء طاهر يوجب استعمال اللفظ في المعنيين والجمع بين اللحاظين المتنافيين.

أقول : في كلامه (طاب ثراه) موارد للنظر :

أولا ـ وقوع التهافت فيه حيث ذكر في الأول أن النجاسة الواقعية مجعولة شرعا ثمّ ذكر أن الأعيان الخارجية بعضها مستقذر عرفا وبعضها غير مستقذر ، وليس عند الشارع إلّا إلحاق بعض الأعيان من القسم الثاني بالأول ، ومن الأول بالثاني ، وأن التطهير عبارة عن إزالة التلوث من العين غير المستقذرة في نفسها وإرجاعها إلى حالتها الأولية فإن مقتضى ذلك كون النجاسة أيضا غير مجعولة وأن المراد بالإلحاق الإلحاق الحكمي بأن يحكم لبعض الأعيان غير المستقذرة كغير المذكي من الحيوان بتذكية شرعية بعدم جواز أكلها واستعمالها في الصلاة فيها إلى غير ذلك.

وثانيا ـ أن الاستشهاد لعدم كون الطهارة والحلية الواقعيتين مجعولتين بما ذكره غير صحيح ، فإن لزوم عدم الاتصاف بالطهارة والنجاسة ، وكذلك عدم الاتصاف بالحلية والحرمة قبل الجعل ليس من المنكرات عند المتشرعة كيف فإن البحث في الأفعال بأنها قبل حكم الشارع كانت على الحظر أو الإباحة أو على الوقف عند العقل مسألة معروفة عند القدماء ، وقد تركها المتأخرون لعدم ترتب ثمرة عملية عليها.

١٨٢

.................................................................................................

______________________________________________________

والحاصل كون الحلية الشرعية مجعولة لا تحتاج بعد الإمكان إلى أزيد من ظاهر الأدلة مثل قوله سبحانه : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ)(١) و (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ)(٢) و (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ)(٣) وهكذا حيث لا يفهم منها عرفا إلّا مقابل التحريم في مثل قوله سبحانه : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ)(٤) إلى غير ذلك. نعم ، قيل : إن كلّا من الطهارة والنجاسة أمر واقعي قد كشف عنهما الشارع ، وهذا أيضا كالالتزام بأن الطهارة أمر واقعي والنجاسة أمر جعلي خلاف الظاهر ، وقد ورد في ذيل الصحيحة الدالة على أمر إصابة البول وحكمه المجعول لبني إسرائيل : «وقد وسع الله عليكم بأوسع ما بين السماء والأرض وجعل لكم الماء طهورا» (٥).

وثالثا ـ أن الجمع بين الإخبار والإنشاء في استعمال واحد بأن يكون المراد بالإضافة إلى بعض موارد الانحلال مدلول الخطاب هو الإنشاء بالإضافة إلى بعضها الآخر الإخبار لا محذور فيه فإن الاختلاف بين الإخبار والإنشاء فيما إذا لم يكن صيغة خاصة للإنشاء بل فيها أيضا ليس في ناحية المستعمل فيه بل المستعمل فيه في موارد الإخبار والإنشاء أمر واحد وهو إظهار ثبوت الشيء ، ويكون الغرض من الإظهار قصد الحكاية عن ثبوته الواقعي مع قطع النظر عن الإظهار ، واخرى قصد ثبوته بهذا الإخبار فيكون الأول إخبارا والثاني إنشاء مع أن الإخبار والإنشاء لا يجري

__________________

(١) سورة المائدة : الآية ٩٦.

(٢) سورة البقرة : الآية ١٨٧.

(٣) سورة المائدة : الآية ١.

(٤) سورة المائدة : الآية ٣.

(٥) وسائل الشيعة ١ : ١٠٠ ، الباب الأول من أبواب الماء المطلق ، الحديث الأول.

١٨٣

فهو وإن لم يكن له بنفسه مساس بذيل القاعدة ولا الاستصحاب إلّا أنه بغايته دلّ على الاستصحاب ، حيث إنها ظاهرة في استمرار ذاك الحكم الواقعي ظاهرا ما لم يعلم بطروء ضده أو نقيضه ، كما أنه لو صار مغيّا لغاية ، مثل الملاقاة بالنجاسة أو ما يوجب الحرمة ، لدلّ على استمرار ذاك الحكم واقعا ، ولم يكن له حينئذ بنفسه ولا بغايته دلالة على الاستصحاب ، ولا يخفى أنه لا يلزم على ذلك استعمال اللفظ

______________________________________________________

في مثل قوله عليه‌السلام ؛ فإن قوله عليه‌السلام كما ذكرنا كله إخبار عن حكم الشريعة من حين تأسيسها حتى فيما إذا كان قوله بصورة الإنشاء ، وإذا كان مدلول الكلام انحلاليا فيمكن أن يكون القصد بالإضافة إلى بعض المدلول الإنشاء وبالإضافة إلى بعضه الآخر الإخبار. مثلا إذا باع البائع أحد المتاعين من المشتري بمائة واستدعى المشتري المتاع الآخر أيضا بالمائة وقال البائع : بعت المتاعين بما ذكرت فيريد بإبراز البيع بالإضافة إلى المتاع الأول الحكاية وبالإضافة إلى الثاني حصول البيع وإنشاءه.

ومما ذكرنا يظهر الحال في الطهارة الواقعية والطهارة الظاهرية فإن الاختلاف فيهما ليس في المستعمل فيه بالإضافة إلى لفظ الطهارة ليكون إرادتهما استعمالا للفظ في معنيين بل هما أمر واحد في ناحية المستعمل فيه ، وإنما يكون أحدهما نفسيا والآخر طريقيا فإنه لا يكون في الشيء ملاك يوجب اعتبار القذارة له فيعتبر كونه طاهرا من غير اعتبار العلم والجهل ، ويعتبر للشيء مع الجهل بطهارته الواقعية طهارة ما دام الجهل لتسهيل الأمر على المكلف بكون جهله عذرا فيما إذا أوجب ارتكابه مخالفة الواقع فتكون طهارة ظاهرية ، فالاختلاف في ناحية الملاك والفرض من الاعتبار ، ولكن هذا كله في تصوير إمكان الاستعمال ، وإلّا فقد تقدم ظهور الروايات في الحكم الظاهري خاصة.

ودعوى أن الغاية الواردة في الروايات قيد للحكم ولكن بالإضافة إلى الأشياء

١٨٤

في معنيين أصلا ، وإنما يلزم لو جعلت الغاية مع كونها من حدود الموضوع وقيوده غاية لاستمرار حكمه ، ليدلّ على القاعدة والاستصحاب من غير تعرض لبيان الحكم الواقعي للأشياء أصلا ، مع وضوح ظهور مثل (كل شيء حلال ، أو طاهر) في أنه لبيان حكم الأشياء بعناوينها الأوّلية ، وهكذا (الماء كله طاهر) ، وظهور الغاية في كونها حدا للحكم لا لموضوعه ، كما لا يخفى ، فتأمل جيّدا.

ولا يذهب عليك انه بضميمة عدم القول بالفصل قطعا بين الحلّية والطهارة وبين سائر الأحكام ، لعمّ الدليل وتمّ.

______________________________________________________

بعناوينها الواقعية ليس قيدا بل ذكر العلم لمجرد الطريقية المحضة فيكون الحكم بالطهارة بالإضافة إلى المشكوكات طهارة ظاهرية ، وبالإضافة إلى الأشياء بعناوينها الواقعية طهارة واقعية لا يمكن المساعدة عليها ؛ لما تقدم من أن الغاية الواردة فيها واحدة ، والحكم المذكور فيها وإن كان انحلاليا إلّا أنه مذكور بصورة واحدة وظاهرها كون الغاية قيدا لذلك الحكم المذكور بصورة واحدة.

وأما ما ذكر في الفصول من أن الروايات دالة بصدرها على قاعدة الطهارة وقاعدة الحلية ، وبذيلها على استصحابهما و... فلا يخفى ما فيه فإنه إذا كان الشيء محكوما بالطهارة الظاهرية وشك في تنجسه بعد ذلك فمفاد قاعدة الطهارة كاف في الحكم بطهارته حيث لم يعلم نجاسته ، وكذلك الحال في الشك في طرو الحرمة لما كان محكوما بالحلية الظاهرية فلا موضوع للاستصحاب لعدم خروج الشيء عن موضوع القاعدتين.

وعن الشيخ قدس‌سره التفصيل بين الروايات في دلالتها على اعتبار الاستصحاب وعدم دلالتها حيث ذكر أن قوله عليه‌السلام : «الماء كلّه طاهر حتى تعلم أنه قذر» ظاهره الاستصحاب ؛ لأن المياه كلّها مسبوقة بالطهارة ولو كان مفاده قاعدة الطهارة لاختص

١٨٥

ثم لا يخفى أن ذيل موثقة عمار : (فإذا علمت فقد قذر ، وما لم تعلم فليس عليك) يؤيد ما استظهرنا منها ، من كون الحكم المغيّى واقعيا ثابتا للشيء بعنوانه ، لا ظاهريا ثابتا له بما هو مشتبه ، لظهوره في أنه متفرع على الغاية وحدها ، وأنه بيان لها وحدها ، منطوقها ومفهومها ، لا لها مع المغيّى ، كما لا يخفى على المتأمل.

______________________________________________________

مدلوله بموارد نادرة كما إذا طرأ على الماء حالتان من الطهارة والانفعال ولم يعلم المتقدم منهما وذلك لحكومة الاستصحاب في طهارته على قاعدة الطهارة ، ولكن لا يخفى ما فيه فإنه إنما يلزم الحمل المذكور لو قيل باعتبار الاستصحاب حتى في الشبهات الحكمية وأما لو قيل بعدم اعتباره فيها كالشك في تنجس ماء البئر بملاقاة النجاسة أو في مقدار الكر مع ملاقاة المشكوك كريته بالنجاسة فيرجع في جميعها إلى قاعدة الطهارة.

مع أنّه لا دلالة في الرواية على أن الحكم بالطهارة لكون المياه مسبوقة بالطهارة لتدل على اعتبار الاستصحاب بل مدلولها الحكم بطهارة كل ماء شك في طهارته ونجاسته فيمكن أن يكون الوجه في الحكم بالطهارة نظير الحكم في الأهلة قاعدة مضروبة في المياه عند الشك في تنجسها نظير القاعدة المضروبة في الأهلة فلا دلالة لها على اعتبار الاستصحاب بحيث لو لم يتم دليل على اعتبار الاستصحاب من غير ناحية هذه الرواية لقلنا باعتباره أخذا بهذه الرواية مطلقا أو في المياه خاصة. نعم ، قد يقال بدلالة صحيحة عبد الله بن سنان الواردة فيمن أعار ثوبه الذمي على اعتبار الاستصحاب قال : «سأل أبي أبا عبد الله عليه‌السلام وأنا حاضر أني أعير الذمي ثوبي وأنا أعلم أنه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير فيرده عليّ فأغسله قبل أن اصلي فيه؟

فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : صلّ فيه ولا تغسله من أجل ذلك ، فإنك أعرته إياه وهو طاهر

١٨٦

.................................................................................................

______________________________________________________

ولم تستيقن أنه نجسه فلا بأس أن تصلي فيه حتى تستيقن أنه نجسه» (١) نعم مدلولها لا يعم الاستصحاب في غير الطهارة.

أقول : قد ذكرنا في بحث الفقه عدم دلالة الصحيحة على اعتبار الاستصحاب حتى في الطهارة الخبثية فإنه لو كان السؤال عن مثل الإناء الذي يعيره الذمي المفروض في السؤال وكان جوابه عليه‌السلام لا بأس بالأكل والشرب فيه لأنك أعرته وهو طاهر ولم تعلم أنه نجسه كان ظاهرا في اعتبار الاستصحاب ؛ لأن المشروط في جواز الأكل والشرب في الإناء طهارته بخلاف الثوب فإنه لم يذكر الإمام عليه‌السلام طهارة الثوب بل ذكر عدم البأس بالصلاة فيه والصلاة في الثوب الذي لا يعلم نجاسته جائز واقعا وإن لم نقل باعتبار الاستصحاب ولا اعتبار قاعدة الطهارة. نعم ، بعد العلم بنجاسة الثوب لا بد في الصلاة فيه من إحراز طهارته وتمام الكلام في بحث الفقه.

ولا يخفى أن الطهارة من الخبث كالطهارة من الحدث حكم وضعي فيكون أمرا اعتباريا كالخبث وليست طهارة شيء مجرد عدم اعتبار النجاسة فيه بل اعتبار خلو الشيء عن الخبث كما يشهد بذلك خطابات كيفية تطهير المتنجسات كما هو الحال في الحلية أيضا في مقابل الحرمة فليست حلية شيء مجرد عدم اعتبار حرمته بل هي اعتبار عدم حرمته ، ودعوى عدم الحاجة إلى هذا الاعتبار بعد اعتبار النجاسة كدعوى عدم الحاجة إلى اعتبار الحلية بعد اعتبار الحرمة للمحرمات مدفوعة بأن الأمر الاعتباري يكفي فيه الأثر والخروج عن اللغوية فاعتبار الطهارة لغير النجاسات للردع عن ما عندهم في بعض الأشياء من عدها من الأخباث والقذارات كما يرى من

__________________

(١) وسائل الشيعة ٣ : ٤٣٤٨ ، الباب ٧٤ ، من أبواب النجاسات ، الحديث الأول.

١٨٧

ثم إنك إذا حقّقت ما تلونا عليك مما هو مفاد الأخبار ، فلا حاجة في إطالة الكلام في بيان سائر الأقوال [١] والنقض والإبرام فيما ذكر لها من الاستدلال ولا بأس بصرفه إلى تحقيق حال الوضع وأنه حكم مستقل بالجعل كالتكليف أو منتزع عنه وتابع له في الجعل أو فيه تفصيل حتى يظهر حال ما ذكرها هنا بين التكليف والوضع من التفصيل [٢].

______________________________________________________

العادات عند بعض المجتمعات حتى من المتشرعة.

[١] لا بأس بالتعرض في المقام إلى ما يقال من التفصيل بين الشك في الرافع وبين الشك في رافعية الموجود بجريان الاستصحاب في الأول دون الثاني كما حكي ذلك عن السبزواري رحمه‌الله بدعوى أن اليقين بالرافعية لا ينافي اليقين بالشيء كما أن اليقين به لا ينافي اليقين بها فإنه إذا توضأ شخص يكون على يقين بطهارته مع يقينه بأن البول رافع للطهارة ، وإنما لا يجتمع اليقين بالطهارة مع اليقين بحصول الرافع أو الشك في حصوله فرفع اليد عن اليقين بالطهارة السابقة مع الشك في حصول الرافع داخل في صدر أخبار لا تنقض ورفع اليد عنها باليقين بحصول الرافع داخل في ذيلها ، وحيث إن اليقين برافعيته شيء لا يصلح ناقضا كذلك الشك في ناقضية شيء كالمذي لا يصلح ناقضا للمتيقن بالطهارة ولا يستند النقض إلى الشك في ناقضية المذي ولكن لا يخفى أن المنهي عنه في الأخبار هو رفع اليد عن اليقين بالحالة السابقة مع احتمال بقائها ، وأن اليقين بالحالة السابقة يحسب يقينا ببقائها من غير فرق بين أن يكون احتمال بقائها مستندا إلى الشك في وجود الرافع مع إحراز الرافعية أو إلى الشك في الرافعية مع إحراز وجود المشكوك رافعيته.

[٢] ومن جملة الأقوال التفصيل في اعتبار الاستصحاب بين الحكم التكليفي والوضعي وجريانه في الثاني دون الأول كما نسب الفاضل التوني إلى نفسه وإن فسّر

١٨٨

فنقول وبالله الاستعانة :

لا خلاف كما لا إشكال في اختلاف التكليف والوضع مفهوما ، واختلافهما في الجملة موردا ، لبداهة ما بين مفهوم السببية أو الشرطية ومفهوم مثل الإيجاب أو الاستحباب من المخالفة والمباينة.

______________________________________________________

الوضعي بما يخرجه عن قسم الحكم.

وذكر الماتن قدس‌سره ما حاصله أنه لا كلام ولا خلاف في أن المفهوم من لفظ الوضع يخالف المفهوم من لفظ التكليف وإنهما يختلفان بحسب موارد الصدق في الجملة بمعنى أنه يتحقق في موارد الوضع من غير أن يكون تكليف فيه كالحدث من الصبي بوطيه صبية أو امرأة ويتحقق في مورد التكليف من غير حصول الوضع فيه كتحريم الكذب على المكلف بل لا يمكن الالتزام باتحاد التكليف والوضع لكمال الاختلاف بينهما كالسببية أو الشرطية فإنهما يحملان على مثل زوال الشمس مما لا يمكن أن يتعلق به التكليف ، ولا ينبغي التأمل في أن الحكم ببعض معانيه وإن لا يقبل التقسيم إليها كما إذا اريد منه المجعول الشرعي المقتضي لاختبار أحد طرفي الفعل تعيينا أو تخييرا إلّا أنه بالمعنى الآخر قابل للتقسيم إليهما كما إذا كان المراد منه ما يؤخذ من الشارع بما هو شارع ، ويشهد على إطلاق الحكم على كل من التكليف والوضع صحة تقسيمه إليهما فيقال : إن الزوجية أو الملكية حكم ، ودعوى أن إطلاقه على الوضع بنحو من العناية والتجوز يدفعها ملاحظة موارد الإطلاق.

ثمّ إنه قد وقع الخلاف في الوضع في بعض جهات لا يهم البحث فيها كالبحث في أن الحكم الوضعي منحصر على امور خاصة كالسببية والشرطية والمانعية كما عن العلامة أو مع زيادة العلية والعلامية كما يقال في أن قصر الصلاة عند خفاء الأذان والجدران لكون عدم السماع والخفاء علة لوجوب القصر أو كونهما علامة للبعد

١٨٩

كما لا ينبغي النزاع في صحة تقسيم الحكم الشرعي إلى التكليفي والوضعي ، بداهة أن الحكم وإن لم يصح تقسيمه إليهما ببعض معانيه ولم يكد يصح إطلاقه على الوضع ، إلّا أن صحة تقسيمه بالبعض الآخر إليهما وصحة إطلاقه عليه بهذا المعنى ، مما لا يكاد ينكر ، كما لا يخفى ، ويشهد به كثرة إطلاق الحكم عليه في كلماتهم ، والالتزام بالتجوز فيه ، كما ترى.

وكذا لا وقع للنزاع في أنه محصور في أمور مخصوصة ، كالشرطية والسببية والمانعية ـ كما هو المحكي عن العلامة ـ أو مع زيادة العلية والعلامية ، أو مع زيادة

______________________________________________________

الخاص الموجب للقصر أو مع زيادة الصحة والبطلان والعزيمة والرخصة أو أن الحكم الوضعي لا ينحصر عليها بل كل ما ليس من التكليف مما له دخل فيه أو موضوع له أو متعلق له أو حتى ما لم يكن له دخل فيه ولكن يصح إطلاق الحكم عليه فهو وضع ، والوجه في عدم كون البحث في هذه الجهة مهما ما يأتي من عدم ترتب ثمرة عملية على انحصاره على ما ذكر وعدم انحصاره عليه بل المهم البحث في أن الحكم الوضعي كالتكليف مجعول بنفسه أو أنه مجعول تبعي يكون بتبع إنشاء التكليف أو أنه غير مجعول أصلا.

أقول : لم يظهر الفرق بين العلية والسببية لتزداد الاولى على الثانية ، ولم يظهر أيضا كون العزيمة أو الرخصة وضعا فإن العزيمة تطلق في موارد سقوط التكليف المتعلق بالفعل رأسا بحيث لا تبقى مشروعيته كسقوط التغسيل عن الميت الشهيد ، وسقوط وجوب التمام في حق المسافر ، والأذان للصلاة فيمن حضر للصلاة في المسجد بعد تمام صلاة الجماعة وقبل تفرق الصفوف إلى غير ذلك مما لا يكون تكليف متعلق بالفعل ولو ندبا بحيث أمكن الإتيان به بنحو قربي ، واخرى يتعلق به تكليف تخييري أو استحبابي بعد سقوط الوجوب التعييني. وأما الصحة والفساد

١٩٠

الصحة والبطلان ، والعزيمة والرخصة ، أو زيادة غير ذلك ـ كما هو المحكي عن غيره ـ أو ليس بمحصور ، بل كلّ ما ليس بتكليف مما له دخل فيه أو في متعلقه وموضوعه ، أو لم يكن له دخل مما أطلق عليه الحكم في كلماتهم ، ضرورة أنه لا وجه للتخصيص بها بعد كثرة إطلاق الحكم في الكلمات على غيرها ، مع أنه لا تكاد تظهر ثمرة مهمة علميّة أو عمليّة للنزاع في ذلك ، وإنما المهم في النزاع هو أن الوضع كالتكليف في أنه مجعول تشريعا بحيث يصح انتزاعه بمجرد إنشائه ، أو غير مجعول كذلك ، بل إنما هو منتزع عن التكليف ومجعول بتبعه وبجعله.

والتحقيق أن ما عدّ من الوضع على أنحاء.

منها : ما لا يكاد يتطرق إليه الجعل تشريعا أصلا ، لا استقلالا ولا تبعا ، وإن كان

______________________________________________________

فيأتي الكلام فيهما كما يأتي بيان عدم الفرق بين السببية والشرطية للتكليف ، وإنما يطلق الشرط في مورد قيد التكليف كما يقال : دخول الوقت شرط لوجوب الصلاة ، والاستطاعة شرط لوجوب الحج ، والسبب يطلق في موارد الوضع كما يقال : الملاقاة مع النجس رطبا سبب لنجاسة الطاهر ، والموت سبب لنجاسة الميت إلى غير ذلك. وعلى الجملة الحكم الشرعي هو المجعول من الشارع فإن كان ذلك المجعول داخلا في عنوان الإيجاب والتحريم أو الترخيص فهو حكم تكليفي ، وإن لم يكن داخلا فيها وكان مما يحمل على الفعل أو غيره من الموضوع فهو حكم وضعي سواء كان جعله بنحو الاستقلال أو تبعا للتكليف ، وقد قسم الماتن الحكم الوضعي إلى أقسام ثلاثة ، منها : ما لا يكون مجعولا لا بنحو الاستقلال ولا بنحو التبع للتكليف ، والمراد من المجعول أن يكون جعل التكليف يوجب حصول المنشأ لحصوله وهذا القسم من الحكم الوضعي لا يقبل الجعل الإنشائي بوجه ، بل هو أمر واقعي كالسببية والشرطية والمانعية والرافعية للتكليف فيكون اتصاف ما هو سبب بالسببية ، وما هو شرط ومانع

١٩١

مجعولا تكوينا عرضا بعين جعل موضوعه كذلك.

ومنها : ما لا يكاد يتطرق إليه الجعل التشريعي إلّا تبعا للتكليف.

ومنها : ما يمكن فيه الجعل استقلالا بإنشائه ، وتبعا للتكليف بكونه منشأ لانتزاعه ، وإن كان الصحيح انتزاعه من إنشائه وجعله ، وكون التكليف من آثاره وأحكامه ، على ما يأتي الإشارة إليه.

أما النحو الأول : فهو كالسببيّة والشرطيّة والمانعيّة والرافعيّة لما هو سبب التكليف وشرطه ومانعة ورافعه ، حيث إنه لا يكاد يعقل انتزاع هذه العناوين لها من التكليف المتأخر عنها ذاتا ، حدوثا أو ارتفاعا ، كما أنّ اتصافها بها ليس إلّا لأجل ما عليها من الخصوصية المستدعية لذلك تكوينا ، للزوم أن يكون في العلّة بأجزائها

______________________________________________________

ورافع بالشرطية ، والمانعية والرافعية حاصلة من غير أن تتوقف على جعل إنشائي استقلالا أو تبعا ، والوجه فيما ذكره في هذا القسم ما تقرر في محله من لزوم الارتباط الخاص بين الشيء وأجزاء علته ، وإلّا لأثر كل شيء في كل شيء ، وعليه فذلك الارتباط الخاص والخصوصية الموجبة أمر خارجي لا يحصل بالإنشاء بمثل قوله دلوك الشمس سبب لوجوب صلاة الظهر والعصر لبقاء الدلوك بحاله بعد ذلك ولو كان فاقدا لتلك الخصوصية لكان فاقدا لها بعده ، ولو كان واجدا كان واجدا لها قبله أيضا والحاصل أن تلك الخصوصية الموجبة لإنشاء التكليف عند حصول الدلوك مثلا لا يمكن أن تحصل من التكليف المتأخر عنه ولو أطلق بعد قوله يجب الصلاة عند الدلوك السببية لوجوبها وأنه صار سببا ، لوجوبها فهذا الإطلاق بنحو العناية أو أنه كناية عن وجوبها عنده ، وفي الحقيقة السببية ونحوها منتزعة عن الخصوصية الخارجية الكامنة فيما يطلق عليه السبب أو الشرط أو المانع أو الرافع قبل إنشاء التكليف بالصلاة.

١٩٢

من ربط خاص به كانت مؤثرة في معلولها ، لا في غيره ، ولا غيرها فيه ، وإلّا لزم أن يكون كل شيء مؤثرا في كل شيء ، وتلك الخصوصية لا يكاد يوجد فيها بمجرد إنشاء مفاهيم العناوين ، ومثل قول : دلوك الشمس سبب لوجوب الصلاة إنشاء لا إخبارا ، ضرورة بقاء الدلوك على ما هو عليه قبل إنشاء السببية له ، من كونه واجدا لخصوصية مقتضية لوجوبها أو فاقدا لها ، وإن الصلاة لا تكاد تكون واجبة عند الدلوك ما لم يكن هناك ما يدعو إلى وجوبها ، ومعه تكون واجبة لا محالة وإن لم ينشأ السببية للدّلوك أصلا.

ومنه انقدح أيضا ، عدم صحة انتزاع السببية له حقيقة من إيجاب الصلاة عنده ، لعدم اتصافه بها بذلك ضرورة.

نعم لا بأس باتصافه بها عناية ، واطلاق السبب عليه مجازا ، كما لا بأس بأن

______________________________________________________

في السببية والشرطية والمانعية لنفس التكليف

أقول : لا يخفى ما في كلامه من الضعف فإنه لا ينبغي التأمل في أن الوجوب أو غيره من التكليف أمر إنشائي يحصل بالإنشاء والاعتبار ، وإرادة المولى لا تتعلق بفعل العبد فإن فعله غير مقدر للمولى بما هو مولى والحب والبغض والرضا وإن أمكن تعلقها بفعل العبد إلّا أن شيئا منها لا يكون مصداقا للتكليف ولا الإرادة حقيقة ، بل إرادة المولى تتعلق بفعل نفسه وهو إنشاء التكليف من الوجوب والحرمة ، والترخيص يعني الإباحة ، وإذا كان الوجوب أمرا إنشائيا فلا يمكن أن تكون الخصوصية الخارجية للدلوك موجدة لوجوب الصلاة ، بل يكون وجوبها بالإنشاء المعبر عنه بالإيجاب ، والإيجاب فعل اختياري للمولى وإرادته الإيجاب يكون بعد امور موطنها جميعا النفس ، ومنها لحاظ صلاح الفعل عند الدلوك فالخصوصية الخارجية في الدلوك توجب الصلاح في الصلاة عند حصوله ، ومن الظاهر أن الصلاح

١٩٣

يعبّر عن إنشاء وجوب الصلاة عند الدلوك ـ مثلا ـ بأنه سبب لوجوبها فكني به عن الوجوب عنده.

فظهر بذلك أنه لا منشأ لانتزاع السببية وسائر ما لأجزاء العلة للتكليف ، إلّا ما هي عليها من الخصوصية الموجبة لدخل كل فيه على نحو غير دخل الآخر ، فتدبر جيدا.

وأما النحو الثاني : فهو كالجزئية والشرطية والمانعية والقاطعية ، لما هو جزء المكلف به وشرطه ومانعة وقاطعه ، حيث إن اتصاف شيء بجزئية المأمور به أو شرطيته أو غيرهما لا يكاد يكون إلّا بالأمر بجملة أمور مقيدة بأمر وجودي أو عدمي ، ولا يكاد يتصف شيء بذلك ـ أي كونه جزءا أو شرطا للمأمور به ـ إلّا بتبع ملاحظة الأمر بما يشتمل عليه مقيدا بأمر آخر ، وما لم يتعلق بها الأمر كذلك لما كاد

______________________________________________________

في الفعل لا يكون تكليفا ولا موضوعا لتكليف. وقد اعترف قدس‌سره في بحث الشرط المتأخر عند ما ذكر أن ما يطلق عليه شرط التكليف لا يكون شرطا له حقيقة حيث إن المؤثر لحاظه لا نفسه ، وإذا كان الكلام في المقام في السببية والشرطية بالإضافة إلى التكليف المجعول لا بالإضافة إلى إنشائه فالدلوك الموجب للصلاح في الصلاة بحصوله بلحاظه يكون داعيا للمولى إلى إنشاء الوجوب لها عنده ، والإنشاء بالإضافة إلى المنشأ لا يكون من قبيل الإيجاد والوجود ليكون الفرق بينهما بمجرد الاعتبار واللحاظ ، وإلّا ففي الحقيقة الإيجاد نفس وجود الشيء بل الإنشاء أمر والمنشأ أمر آخر ؛ ولذا يكون المنشأ أمرا متأخرا عن إنشائه زمانا فإن الإنشاء متقوم بقصد تحقق الأمر الاعتباري ولو متأخرا بإبرازه أو مع إبرازه ، والكلام في المقام في السبب والشرط والمانع للتكليف المنشأ وكل ذلك ليس إلّا بأخذ ما يطلق عليه السبب والشرط والمانع قيدا في ناحية موضوع التكليف ثبوتا أو في ناحيته أو ناحية نفس التكليف

١٩٤

اتصف بالجزئية أو الشرطية ، وإن أنشأ الشارع له الجزئية أو الشرطية ، وجعل الماهية واختراعها ليس إلّا تصوير ما فيه المصلحة المهمّة الموجبة للأمر بها ، فتصورها بأجزائها وقيودها لا يوجب اتصاف شيء منها بجزئية المأمور به أو شرطه قبل الأمر بها ، فالجزئية للمأمور به أو الشرطية له إنما ينتزع لجزئه أو شرطه بملاحظة الأمر به ، بلا حاجة إلى جعلها له ، وبدون الأمر به لا اتصاف بها أصلا ، وإن اتصف بالجزئية أو الشرطية للمتصور أو لذي المصلحة ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

إثباتا فإن كان القيد أمرا وجوديا يطلق عليه الشرط أو السبب ، وإن كان أمرا عدميا يعبّر عن وجوده بالمانع ، وإن كان قيدا لاستمراره وبقائه يعبر عنه بالرافع أو الغاية ، وكل ذلك يكون بلحاظ المولى عند إنشائه التكليف على المكلف بنحو القضية الحقيقية المعبر عنه بمقام الجعل ، وبهذا يظهر إمكان الشرط المتأخر بالإضافة إلى نفس التكليف ، وعلى ذلك فيمكن أن يكون الشيء بتحققه موضوعا للحكم المقارن له أو بتحققه السابق أو المتأخر ، وبهذا صححنا سابقا الشرط المتأخر للتكليف.

ومما ذكرنا يظهر أنه لا فرق بين السببية للتكليف والشرطية له فكل منهما ينتزع عن كون شيء قيدا لموضوع التكليف والحكم فيقال : الاستطاعة شرط لوجوب الحج ، والتقاء الختانين أو الإنزال سبب لوجوب غسل الجنابة. وعلى الجملة الشرطية والمانعية للتكليف نظير الشرطية والمانعية والجزئية للمأمور به تنتزع عن إنشاء التكليف وجعله ، وفي ذلك المقام يؤخذ الشيء قيدا في ناحية موضوع التكليف والوضع أو في ناحية متعلق التكليف أو موضوع الوضع والفرق بينهما أن كون شيء شرطا وقيدا للتكليف لدخالته في صلاح الفعل ، ولذا قد يكون أمرا غير اختياري ، ويعتبر التكليف على تقدير حصوله بخلاف القيد أو الجزء لمتعلق التكليف فإن حصوله دخيل في استيفاء الملاك أو لقيام الملاك به وبغيره كما في

١٩٥

وأما النحو الثالث : فهو كالحجية والقضاوة والولاية والنيابة والحريّة والرقيّة والزوجية والملكية إلى غير ذلك حيث إنها وإن كان من الممكن انتزاعها من الأحكام التكليفية التي تكون في مواردها ـ كما قيل ـ ومن جعلها بإنشاء أنفسها ، إلّا أنه لا يكاد يشك في صحة انتزاعها من مجرد جعله تعالى ، أو من بيده الأمر من قبله ـ جل وعلا ـ لها بإنشائها ، بحيث يترتب عليها آثارها ، كما يشهد به ضرورة صحة انتزاع الملكيّة والزوجيّة والطلاق والعتاق بمجرد العقد أو الإيقاع ممن بيده الاختيار بلا ملاحظة التكاليف والآثار ، ولو كانت منتزعة عنها لما كاد يصح اعتبارها إلّا بملاحظتها ، وللزم أن لا يقع ما قصد ، ووقع ما لم يقصد [١].

______________________________________________________

الجزء ؛ ولذا يجب الإتيان بهما ، وعلى ذلك لو ورد خطاب وجوب الصلاة عند الدلوك يكون الدلوك بنفسه قيدا للوجوب ومع كون التكليف انحلاليا بالإضافة إلى الدلوك كما هو كذلك بالإضافة إلى أفراد المكلف ففي كل دلوك يثبت وجوب الصلاة في حق كل مكلف بمعنى يكون وجوب الصلاة فعليا بفعلية الدلوك لكل مكلف كما هو الحال في الحكم المجعول بنحو القضية الحقيقية. وقد ظهر مما تقدم حال قيود متعلق التكليف ، وأن الشرطية أو المانعية لشيء بالإضافة إلى متعلق التكليف تحصل بتبع تعلق التكليف بالمقيد كحصول الجزئية لأجزاء متعلق التكليف بلحاظ تعلق التكليف في مقام الجعل بها.

في القسم الثالث من الأحكام الوضعية

[١] وذكر قدس‌سره في القسم الثالث من الأحكام الوضعية أنه يمكن جعلها مستقلا بإنشائها كما يمكن جعلها تبعا بإنشاء التكليف في موردها بحيث تكون منتزعة من التكليف المجعول كالحجية والقضاوة ـ أي منصبها ـ والولاية والنيابة والحرية والرقية والزوجية والملكية إلى غير ذلك ، ولكن الصحيح أنها مجعولة مستقلة وابتداء حيث

١٩٦

كما لا ينبغي أن يشك في عدم صحة انتزاعها عن مجرد التكليف في موردها ، فلا ينتزع الملكيّة عن إباحة التصرفات ، ولا الزوجية من جواز الوطء ، وهكذا سائر الاعتبارات في أبواب العقود والإيقاعات.

فانقدح بذلك أن مثل هذه الاعتبارات إنما تكون مجعولة بنفسها ، يصح انتزاعها بمجرد إنشائها كالتكليف ، لا مجعولة بتبعه ومنتزعة عنه.

______________________________________________________

يصح انتزاعها بمجرد جعلها ممن بيده أمر جعلها مع الغمض عن التكليف الثابت في مواردها فإنه تنتزع الملكية والزوجية وغيرهما بمجرد العقد أو الإيقاع ممن بيده اختيارهما مع الغمض عما يترتب عليهما من التكليف ، ولو كانت مجعولة بتبع التكليف لم يصح انتزاعها مع الغمض عنه وأيضا العاقد أو الموقع يقصد بعقده وإيقاعه حصول الوضع ولو لم يحصل وحصل التكليف لزم عدم حصول ما قصد ، وحصول ما لم يقصد ، أضف إلى ذلك عدم صحة انتزاع تلك الامور عن التكليف المذكور في مواردها مثلا لا يصح انتزاع الملكية من جواز التصرف حتى مع جواز التصرف الموقوف على الملك ؛ لأن هذا الجواز يثبت فيما إذا كان الشيء ملك غير أيضا ويقتضي جواز تملكه قبل التصرف الموقوف على مالكيته وكذا لا يصح انتزاع الزوجية من جواز الاستمتاع من المرأة فإنه يثبت في موارد عدم الزوجية كموارد تحليل المالك أمته للغير أو كون الأمة ملكا له ، وتثبت الزوجية بدون جواز الوطي كما في وطء الزوجة قبل بلوغها إلى غير ذلك ، والحاصل أن الامور المشار إليها في القسم الثالث من الوضع بنفسها قابلة للجعل كالتكليف ولا تنتزع من التكليف الثابت في مواردها بل التكليف يترتب عليها كسائر ترتب الأحكام على موضوعاتها.

أقول : الاستدلال على كون هذا القسم من الأحكام الوضعية مجعولة مستقلا لا بتبع التكليف بإنشاء العاقد والموقع لها مع الغمض عن التكليف في مواردها ولو

١٩٧

وهم ودفع : أما الوهم : فهو أن الملكيّة كيف جعلت من الاعتبارات الحاصلة بمجرد الجعل والإنشاء التي تكون من خارج المحمول ، حيث ليس بحذائها في الخارج شيء ، وهي إحدى المقولات المحمولات بالضميمة التي لا تكاد تكون بهذا السبب ، بل بأسباب أخر كالتعمّم والتقمّص والتنعّل ، فالحالة الحاصلة منها للإنسان هو الملك ، وأين هذه من الاعتبار الحاصل بمجرد إنشائه؟

______________________________________________________

لم تحصل لزم عدم حصول ما قصد وحصول ما لم يقصد غير صحيح ، والوجه في ذلك أنه لا كلام بل ولا خلاف في أن من بيده أمر العقد أو الإيقاع ينشئ ملكية المال وزوجية المرأة أو فرقتها ابتداء في البيع والنكاح والطلاق إلى غير ذلك ، والكلام في أن الملكية والزوجية والفرقة وغير ذلك مما ينشئه العاقد أو الموقع غير داخل في الحكم الشرعي والداخل فيه مما يكون حكما شرعيا وضعيا هل يحصل بإمضاء الشارع ما جعله العاقد والموقع كما يستظهر ذلك من قوله سبحانه : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(١)(فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ)(٢) أو يحصل بجعل الشارع الحكم التكليفي على ما يجعله العاقد أو الموقع كما في قوله سبحانه (الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ)(٣) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله على المروي : «الناس مسلطون على أموالهم» (٤) إلى غير ذلك ، وبالجملة لا يبطل ما ذكره الشيخ قدس‌سره من كون الزوجية والملكية وغيرهما من الأحكام الوضعية يتبع جعل الأحكام التكليفية بما ذكر من حصولها بالعقد والإيقاع من العاقد أو الموقع مع غمضهما عن التكليف في موردها ،

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ٢٧٥.

(٢) سورة النساء : الآية ٣.

(٣) سورة المؤمنون : الآيتان ٥ ـ ٦.

(٤) عوالي اللآلي ١ : ٤٥٧ ، حديث ١٩٨.

١٩٨

وأما الدفع : فهو أن الملك يقال بالاشتراك على ذلك ، ويسمى بالجدة أيضا ، واختصاص شيء بشيء خاص ، وهو ناشئ إما من جهة إسناد وجوده إليه ، ككون العالم ملكا للباري (جل ذكره) ، أو من جهة الاستعمال والتصرف فيه ، ككون الفرس لزيد بركوبه له وسائر تصرفاته فيه ، أو من جهة إنشائه والعقد مع من اختياره بيده ، كملك الأراضي والعقار البعيدة للمشتري بمجرد عقد البيع شرعا وعرفا.

______________________________________________________

وإلّا لزم حصول ما لم يقصد وعدم حصول ما قصد ، والحاصل أن الأحكام الوضعية في القسم الثالث مجعولة بنفسها ولا تنتزع من التكليف الثابت في مواردها أخذا بظاهر الخطابات حيث إن مقتضاها كون تلك الأحكام يعني الوضعية مجعولة ، والتكليف في مواردها أثر لثبوتها كسائر الأحكام بالإضافة إلى موضوعاتها كظاهر آيات إرث أولي الأرحام والأقارب حيث إن ظاهرها ثبوت ملكية تركة المتوفى لهما بعد الدين والوصية ، وما ورد في ثبوت الخيارات من خيار المجلس والحيوان والشرط والرؤية في البيع مطلقا ما دام المجلس وفي شراء الحيوان للمشتري إلى غير ذلك ، وما ورد في ثبوت ضمان الإتلاف والتلف في كون الضمان مجعولا وكذا حق الشفعة وحق القصاص وملكية الدية والوكالة والولاية وهكذا في كون ما ذكر بنفسها مجعولات تأسيسا أو إمضاء ، ويترتب عليها التكاليف الثابتة في مواردها.

القسم الثالث من الحكم الوضعي

ثمّ إن الماتن قدس‌سره تعرض في ذيل كلامه في هذا القسم لأمر وتوضيح وعبر عن الأول بالوهم ، وعن الثاني بالدفع أما الأول فهو : أن الملكية جعلت من القسم الثالث من الأحكام الوضعية المجعولة بإنشائها تأسيسا أو إمضاء فتكون من الاعتبارات الحاصلة بالإنشاء وكل الاعتبارات الحاصلة بالإنشاء والمنتزعة عنه داخل في خارج المحمول حيث إن الاعتبارات لا يكون بإزائها في الخارج شيء غير منشأ الانتزاع لها

١٩٩

فالملك الذي يسمى بالجدة أيضا ، غير الملك الذي هو اختصاص خاص ناشئ من سبب اختياريّ كالعقد ، أو غير اختياري كالإرث ، ونحوهما من الأسباب الاختياريّة وغيرها ، فالتوهّم إنما نشأ من إطلاق الملك على مقولة الجدة أيضا ، والغفلة عن أنه بالاشتراك بينه وبين الاختصاص الخاص والإضافة الخاصة الإشراقيّة كملكه تعالى للعالم ، أو المقولية كملك غيره لشيء بسبب من تصرف واستعمال أو إرث أو عقد أو غيرها من الأعمال ، فيكون شيء ملكا لأحد بمعنى ، ولآخر بالمعنى الآخر ، فتدبّر.

______________________________________________________

المعبر عنه بإنشاءاتها مع أنه قد ذكر في محله أن الملكية من المحمولات بالضميمة التي لا تحصل بالإنشاء بل لا بد فيها من سبب خارجي كالتعمم والتقمص والتنعل فالحالة الحاصلة للإنسان منها هو الملك فأين هذا من الاعتبار المنتزع من مجرد الإنشاء أقول الظاهر أن مراد الماتن من قوله فالحالة الحاصلة منها كون (منها) بيانية ؛ لأن نفس التعمم أو التقمص أو التنعل هو الملك لا أن الملك حالة توجد بالتعمم والتقمص والتنعل ضرورة أنها بنفسها حالة للإنسان حدوثا وبقاء ، وأما الثاني يعني الدفع هو أن الملك يطلق على الاشتراك على أمرين ؛ أحدهما ـ ما ذكر من كونها من المحمولات بالضميمة وتكون لها خارجية. والثاني ـ هو اختصاص شيء لشيء ، والاختصاص أما بالإضافة الإشراقية كإضافة المعلول إلى علته ، ومنها إضافة العالم إلى الباري تعالى ، وأما إضافة مقولية وتكون هذه الإضافة باختصاص التصرف والاستعمال كاختصاص الفرس بزيد لركوبه له وسائر تصرفاته فيه أو بسبب غير اختياري كالإرث أو اختياري كالعقد فالتوهم نشأ من اشتراك الملك بين الحالة المتقدمة التي يطلق عليها الجدة أيضا وبين الاختصاص الخاص التي تكون بالإضافة الإشراقية أو المقولية الحاصلة بالتصرف واستعمال أو أرث أو عقد أو غيرهما فعلى

٢٠٠