دروس في مسائل علم الأصول - ج ٥

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٥

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8438-09-3
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤١٦

ـ ويروى سراقة بن مالك ـ فقال : في كل عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه حتّى أعاد مرتين أو ثلاثا ، فقال : ويحك ، وما يؤمنك أن أقول : نعم ، والله لو قلت : نعم ، لوجب ، ولو وجب ما استطعتم ، ولو تركتم لكفرتم ، فاتركوني ما تركتم ، وإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم ، واختلافهم إلى أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه).

ومن ذلك ظهر الإشكال في دلالة الثاني أيضا ، حيث لم يظهر في عدم سقوط الميسور من الأجزاء بمعسورها ، لاحتمال ارادة عدم سقوط الميسور من أفراد

______________________________________________________

وحاصل معنى الخبر إذا أمرتكم بشيء يجب منه ، أي بحسب وجوداته ما يتحمله نوع الناس ، وحدد ذلك في الحج بالمرة الواحدة طول زمان التكليف.

الاستدلال لقاعدة الميسور بحديث الميسور لا يسقط بالمعسور

الثانية : ما رواه في عوالي اللآلي أيضا ، وهو قوله على ما في الرواية : الميسور لا يسقط بالمعسور (١) ، وقد اورد على الاستدلال بذلك بوجهين.

الأول : أنه يمكن أن يكون المراد بالميسور ، الميسور من أفراد العام بمعنى أن عدم التمكن من امتثال التكليف في بعض أفراد العام وسقوطه عن المكلف فيه لا يوجب السقوط فيما يتمكن فيه من الامتثال من سائر الأفراد فلا موجب لحمل الميسور على الميسور من أجزاء المركب بأن يكون مفاده تعلق التكليف بسائر الأجزاء المقدورة.

الوجه الثاني ، من الاشكال هو أنه لو كان المراد الميسور من أجزاء المركب وشرائطه فلا بد من الالتزام بعدم كون الحكم المستفاد من الحديث حكما إلزاميا ، بل

__________________

(١) عوالي اللآلي ٤ : ٥٨. مع اختلاف يسير.

٤١

العام بالمعسور منها.

هذا مضافا إلى عدم دلالته على عدم السقوط لزوما ، لعدم اختصاصه بالواجب ، ولا مجال معه لتوهم دلالته على أنه بنحو اللزوم ، إلّا أن يكون المراد عدم سقوطه بماله من الحكم وجوبا كان أو ندبا ، بسبب سقوطه عن المعسور ، بأن يكون قضية الميسور كناية عن عدم سقوطه بحكمه ، حيث إن الظاهر من مثله هو ذلك ، كما أن الظاهر من مثل (لا ضرر ولا ضرار) هو نفي ما له من تكليف أو وضع ، لا أنها عبارة عن عدم سقوطه بنفسه وبقائه على عهدة المكلف كي لا يكون له دلالة على جريان القاعدة في المستحبات على وجه ، أو لا يكون له دلالة على وجوب

______________________________________________________

مدلوله كون الإتيان بالمقدار الميسور أولى ، حيث إنه لا يمكن الالتزام مع شمول الحديث للمستحبات أن الاتيان بالميسور منها واجب أو يقيد الميسور والمعسور فيه بالواجبات فلا يبقى فيه دلالة على جريان القاعدة في المستحبات ، ويدفع هذا الإشكال بأن المراد من عدم السقوط ليس وجوب الميسور ، بل المراد عدم سقوطه عن حكمه السابق ، فإن كان في السابق واجبا لا يسقط ميسوره عن الوجوب ، وإن كان مستحبا يستحب الإتيان بميسوره ، فالالتزام بأن الحديث ناظر إلى المركب والمشروط الذي عسر الإتيان بجميع أجزائه وشرائطه لا يوجب الالتزام بشيء من الأمرين كما هو الحال في المراد من نفي الضرر ، حيث إن المنفي فيه الحكم السابق في الفعل لو لا الضرر من تكليف أو وضع.

وأما الوجه الأول ، من الإشكال فيجاب عنه بأنه إن حمل الحديث على تعذر بعض الموافقة في بعض أفراد العام ، وأن التكليف لا يسقط في أفراده الميسورة يكون مدلوله حكما إرشاديا محضا ، حيث لا حاجة في إثبات بقاء التكليف في الأفراد الميسورة إلى خطاب شرعي ، بخلاف ما إذا كان المراد هو الميسور من المركب

٤٢

الميسور في الواجبات على آخر ، فافهم.

وأما الثالث ، فبعد تسليم ظهور كون الكل في المجموعي لا الأفرادي ، لا دلالة له إلّا على رجحان الإتيان بباقي الفعل المأمور به ـ واجبا كان أو مستحبا ـ عند تعذر بعض أجزائه ، لظهور الموصول فما يعمهما ، وليس ظهور (لا يترك) في الوجوب ـ لو سلم ـ موجبا لتخصيصه بالواجب ، لو لم يكن ظهوره في الأعم قرينة على إرادة خصوص الكراهة أو مطلق المرجوحية من النفي ، وكيف كان فليس ظاهرا في اللزوم هاهنا ، ولو قيل بظهوره فيه في غير المقام.

ثم إنه حيث كان الملاك في قاعدة الميسور هو صدق الميسور على الباقي عرفا ، كانت القاعدة جارية مع تعذر الشرط أيضا ، لصدقه حقيقة عليه مع تعذره عرفا ، كصدقه عليه كذلك مع تعذر الجزء في الجملة ، وإن كان فاقد الشرط مباينا للواجد عقلا ، ولأجل ذلك ربما لا يكون الباقي ـ الفاقد لمعظم الاجزاء أو لركنها ـ

______________________________________________________

الاعتباري يعنى الكل ، فإن لزوم الإتيان بالباقي في الواجبات واستحبابه في المستحبات يحتاج إلى قيام الدليل عليه ، وإذا دار أمر الخطاب الصادر عن المعصوم كونه إرشادا إلى حكم العقل أو بيانا للحكم الشرعي يحمل على الثاني ، وقد يورد على ذلك بأن الحمل على المولوية ينحصر على موارد العلم بالمراد من المتعلق ، ودوران الأمر بين كون طلبه حكما شرعيا أو إرشاديا كالروايات الواردة في الأمر والترغيب في أكل بعض الثمار وشرب بعض المائعات ، وأما إذا لم يعلم المراد من المتعلق ودار الأمر بين أن يراد منه شيء قابل للطلب المولوي أو ما يقبل الإرشاد فقط فلم يثبت ظهور الخطاب في كون المراد ما هو قابل للطلب المولوي.

أقول : الميسور من الشيء يعم الميسور من أفراد العام ، والأجزاء الميسورة من المركب الاعتباري وظهور الطلب في المولوي إن كان مقتضاه اختصاص الحديث

٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

موردا لها فيما إذا لم يصدق عليه الميسور عرفا ، وإن كان غير مباين للواجد عقلا.

نعم ربما يلحق به شرعا ما لا يعد بميسور عرفا بتخطئته للعرف ، وإن عدم العد كان العدم الاطلاع على ما هو عليه الفاقد ، من قيامه في هذا الحال بتمام ما قام عليه الواجد ، أو بمعظمه في غير الحال ، وإلّا عد أنه ميسوره ، كما ربما يقوم الدليل بمورد الكل الاعتباري وأنه لا يسقط ميسوره بتعسّر معسوره فهو ، وإلا يلتزم بعموم الطلب حتى بالإضافة إلى موارد العام الاستغراقي ، غاية الأمر يكون الطلب بالإضافة إلى موارد تعسّر بعض أجزاء المركب حكما مولويا وبالإضافة إلى موارد تعذر بعض أفراد العام إرشاديا ، نظير ما ذكرنا في (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) وأنه بالإضافة إلى مثل البيع إرشاد إلى لزومه ، وبالإضافة إلى العهد والنذر تكليف ، فإن المستعمل فيه في كل منهما شيء واحد ، واختلاف التكليف عن الإرشاد إنما هو في الغرض الداعي إلى البعث الاعتباري ، ونظير ذلك في الأمر بالوفاء بالشرط فإنه بالإضافة إلى موارد شرط الفعل تكليف ، وبالإضافة إلى شرط الخيار إمضاء ، ثم إن متعلق السقوط لا يكون حكم الفعل لو لا تعذر بعض أجزائه ليقال بأن الالتزام بالتقدير أو العناية في الإسناد خلاف الظاهر ، ومع سقوط الوجوب النفسي عن الكل المعسور يكون الثابت للميسور حكما جديدا لم يكن له ثبوت سابقا ، ولا المراد بعد سقوطه عن عهدة المكلف بتعذر الكل ، بل المراد عدم سقوط الميسور من الكل عن مقام الجعل في فرض تعذر الكل ، فيجزي هذا المفاد في الواجبات والمستحبات بخلاف كون المراد عدم سقوط عن عهدة المكلف فإنه معه يختص مدلوله بالواجبات ولا يجري في المستحبات ، حيث لا يكون المستحب على عهدة المكلف ، ولا يخفى أن صدق الميسور من الشيء ومطلوبيته عند تعذر الكل لحصول الملاك فيه ولو ببعض مراتبه ، وإذا قام دليل في مورد على عدم مطلوبية ميسور الشيء فيه يعلم أن الميسور فاقد

٤٤

على سقوط ميسور عرفي لذلك ـ أي للتخطئة ـ وأنه لا يقوم بشيء من ذلك.

وبالجملة : ما لم يكن دليل على الإخراج أو الإلحاق كان المرجع هو الإطلاق ، ويستكشف منه أن الباقي قائم بما يكون الأمور به قائما بتمامه ، أو بمقدار يوجب إيجابه في الواجب واستحبابه في المستحب ، وإذا قام دليل على أحدهما فيخرج أو يدرج تخطئة أو تخصيصا في الأول ، وتشريكا في الحكم ، من دون الاندراج في الموضوع في الثاني ، فافهم.

______________________________________________________

للملاك ، كما أنه إذا أمر الشارع ببعض العمل مع عدم صدق أنه ميسور عرفا يعلم بحصول الملاك فيه ببعض مراتبه فيكون الأمر في الثاني ، وبيان عدم مطلوبية الباقي في الأول من التخطئة لنظر العرف ، وذلك فإنه إذا كان الحكم في الحديث متعلقا على الميسور الشرعي لكان مدلوله مجملا بالإضافة إلى موارد الكل والجزء ، فما في كلام الماتن من التردد بين التخطئة والتخصيص لا وجه له ، وفي غير ذلك يؤخذ بالإطلاق ، ولكن هذا كله مع الغمض عن ضعف السند فيه ، وفيما رواه أيضا في كتاب «عوالي اللآلي» من قوله : ما لا يدرك كله لا يترك كله (١) ، ولا يبعد ظهور هذا في الإرشاد إلى نظير موارد العام الاستغراقي وموارد العلم بمطلوبية الفعل بجميع مراتبه كما يأخذون في العرف بالكلام المزبور في نظير هذه الموارد دون موارد ، مثل المعجون الذي لا يدرك تمام ما هو معتبر فيه في معالجة الأمراض كما لا يخفى.

__________________

(١) عوالي اللآلي ٤ : ٨٥. مع اختلاف يسير.

٤٥

تذنيب : لا يخفى أنه إذا دار الأمر بين جزئية شيء أو شرطيته وبين مانعيته أو قاطعيته لكان من قبيل المتباينين [١].

______________________________________________________

في دوران الأمر بين جزئية الشيء أو شرطيته وبين مانعيته أو قاطعيته

[١] إذا دار الأمر بين جزئية شيء أو شرطيته وبين مانعيته أو قاطعيته لا يدخل الفرض في دوران أمر الواجب الارتباطي بين الأقل والأكثر ولا في دوران أمر التكليف بين المحذورين ، بل يكون من موارد تردد الواجب بين المتباينين ، كما إذا دار أمر المكلف بين كون الصلاة الواجبة عليه جهرا أو صلاة إخفاتية أو كونه مكلفا بالصلاة عاريا أو في ثوب نجس ، وعدم كونه من قبيل تردد الواجب بين الأقل والأكثر ظاهر ، فإن متعلق التكليف في موارد تردده بين الأقل والأكثر مردد بين كونه الأقل بنحو اللابشرط أو الأكثر بشرط ، وفي مفروض الكلام أمر الواجب مردّد بين كونه بشرط بالإضافة إلى شيء أو بنحو بشرط لا بالإضافة إليه ، نظير دوران أمر الصلاة الواجبة بين كونها قصرا أو تماما ، وأما عدم كونه من قبيل دوران الأمر بين المحذورين ، فلأن الجهر في القراءة أو لبس الثوب النجس وإن يكن أمره مرددا بين كونه شرطا أو مانعا إلّا أنه ليس بمتعلق التكليف ، وإنما يتعلق التكليف بالصلاة المقيدة بالجهر أو المقيدة بعدمه ، وكذا متعلقه ، إما الصلاة عاريا أو الصلاة في الثوب النجس ، وإذا تمكن المكلف من الصلاة في الوقت جهرا وإعادتها إخفاتا أو الصلاة عاريا وإعادتها في الثوب النجس يكون متمكنا من إحراز الموافقة القطعية والمخالفة القطعية ، وإذا لم يتمكن على التكرار لضيق الوقت ونحوه ، فهو متمكن من المخالفة القطعية ، والمعيار في دوران الأمر بين المحذورين عدم التمكن من شيء من الموافقة القطعية والمخالفة القطعية ، ففي صورة التمكن من كلتا المرتبتين من التنجيز يجب إحراز الموافقة القطعية ومع عدم التمكن من الموافقة القطعية تعيّن الموافقة الاحتمالية.

٤٦

ولا يكاد يكون من الدوران بين المحذورين ، لإمكان الاحتياط بإتيان العمل مرتين ، مع ذاك الشيء مرة وبدونه أخرى ، كما هو أوضح من أن يخفى.

______________________________________________________

ومن العجب عن الشيخ قدس‌سره أنه أدخل المقام في دوران الأمر بين المحذورين مع التزامه في دوران الواجب بين القصر والتمام بأنه من دوران أمر الواجب بين المتباينين مع وضوح عدم الفرق بينه وبين المفروض في المقام ، ثم إنه إذا لم يكن المكلف متمكنا من إحراز الموافقة القطعية وأتى بإحدى الصلاتين في الوقت لم يجب عليه الإتيان بالمحتمل الآخر ، كما إذا قام من النوم في وقت ولم يبق إلى آخر الوقت إلّا بمقدار ثمانية ركعات ولم يصل الظهرين ، ودار أمره في كل منهما بين الصلاة عاريا أو في ثوب نجس ، فإنه في الفرض يلزم عليه الموافقة الاحتمالية إما بالإتيان بهما عاريا أو في الثوب النجس ، وإذا أتى بما يحتمل معه الموافقة الاحتمالية لم يجب عليه الإتيان بالمحتمل الآخر خارج الوقت قضاء ؛ لأنّ الموضوع للقضاء فوت الواجب في الوقت ، ولا يمكن إحراز الفوت بالاستصحاب في عدم امتثال التكليف بما أتى به لسقوط التكليف بالإتيان بأحد المحتملين إما للامتثال أو خروج الوقت ، ولا يقاس بما إذا شك المكلف في وقت الصلاة في الإتيان بها فإن مع جريان الاستصحاب في عدم الإتيان ، وتركه بعد ذلك الإتيان بها مع تمكنه يعلم وجدانا فوت الواجب المحرز بالاستصحاب.

وقد يقال : إن المكلف المزبور الذي تردد أمر الواجب عليه بين الصلاة عاريا أو في ثوب نجس إذا كان متمكنا من الموافقة القطعية في الوقت ومع ذلك اقتصر على الموافقة الاحتمالية يلزم عليه قضاء الواجب الآخر في خارج الوقت ، ولكن فيه أيضا إشكال ؛ لأنّ الاستصحاب بعد الإتيان بأحد المحتملين في بقاء التكليف الثابت في حقه من قبل لا يثبت أن الفائت عند خروج الوقت هو المحتمل الآخر ، فأصالة البراءة

٤٧

خاتمة في شرائط الاصول العملية

أما الاحتياط : فلا يعتبر في حسنه شيء أصلا ، بل يحسن على كل حال [١].

______________________________________________________

بعد خروجه عن وجوب المحتمل الآخر جارية ومعها لا موجب للإتيان به.

[١] لا ينبغي التأمل في حسن الاحتياط عقلا وشرعا ، بمعنى أنه إذا أصاب التكليف الواقعي يكون موافقة وامتثالا له ، وإن لم يصب يحسب انقيادا ، بل يظهر من بعض الروايات في كونه مستحبا نفسيا لترتب الملاك عليه وإن لم يصادف التكليف الواقعي بلا فرق بين موارد الشبهات الحكمية والموضوعية ، بل في مطلق موارد احتمال التكليف الواقعي حتى مع قيام دليل معتبر على نفيه في تلك الموارد وبلا فرق بين كونه موجبا لتكرار العمل أم لا ، سواء كان في المعاملات أو في العبادات ، نعم ما لم يستلزم اختلال النظام ومعه لا يكون احتياطا كما لا يخفى ، وقد تقدم في بحث العلم الإجمالي جواز ترك تحصيل العلم التفصيلي والاقتصار بالامتثال بالعلم الإجمالي حتى في العبادات مع استلزامه تكرار العمل ، وان يورد على ذلك بأن الامتثال الإجمالي بتكرار العمل مع التمكن من الامتثال التفصيلي يعد عبثا ولعبا بأمر المولى فينا في قصد التقرب المعتبر في العبادة ، وأجاب الماتن قدس‌سره عن ذلك بوجهين.

الأول : أنه ربما يكون التكرار لداع عقلائي معه لا يعدّ التكرار لعبا وعبثا بأمر المولى.

والثاني : أنّ اللازم في العبادة صدور متعلق الأمر بداع أمر الشارع ، وأما ما هو خارج عن متعلق التكليف فلا يعتبر فيه قصد التقرب ، وإذا كان المكلف بحيث لو لا أمر الشارع بأحد العملين أو الأعمال لم يكن يأتي به ، فيكون الإتيان لتعلق الأمر بالامتثال.

٤٨

إلّا إذا كان موجبا لاختلال النظام ، ولا تفاوت فيه بين المعاملات والعبادات مطلقا ولو كان موجبا للتكرار فيها ، وتوهم كون التكرار عبثا ولعبا بأمر المولى ـ وهو ينافي قصد الامتثال المعتبر في العبادة ـ فاسد ، لوضوح أن التكرار ربما يكون بداع صحيح عقلائي ، مع أنه لو لم يكن بهذا الداعي وكان أصل إتيانه بداعي أمر مولاه بلا داع له سواه لما ينافي قصد الامتثال ، وإن كان لاغيا في كيفية امتثاله ، فافهم.

بل يحسن أيضا فيما قامت الحجة على البراءة عن التكليف لئلا يقع فيما كان في مخالفته على تقدير ثبوته ، من المفسدة وفوت المصلحة.

______________________________________________________

وعلى الجملة كون الخصوصيات الخارجة عن متعلق الأمر صادرة بداع آخر لا يضر بصحة العمل ولو كان ذلك الداعي النفسانية ، نعم قد تكون الخصوصية الصادرة بداع آخر موجبة لبطلان العمل ، كما إذا أتى بصلاته في أول الوقت أو في مكان خاص كالمسجد رياء ، وهذا البطلان ثبت بخطاب شرعي ورد في بطلان العبادة بالرياء فيها ولا يجري في سائر الدواعي النفسانية ، ثم إن المستفاد من الخطاب الوارد في الرياء هل هو خصوص الرياء فيما يتحد مع العبادة خارجا كالمثالين ، أو يجري حتى فيما كانت للخصوصية تحقق آخر كالقنوت في الصلاة ونحوها فموكول إلى بحث النية في بحث الفقه.

وكيف كان فما ذكرنا من جواز الاحتياط وحسنه حتى في العبادات مع استلزامه تكرار العمل فضلا عن عدم استلزامه له يوجب أن يأخذ المكلف في الوقائع التي يبتلى بها بالاحتياط فيها ولو مع تمكنه من الاجتهاد أو التقليد فيها ، نعم يعتبر معرفته بطريق الاحتياط فيها وإلّا لا يكون احتياطا ، كما أنه إذا استلزم ذلك الإخلال بمعاشه لا يكون من الاحتياط على ما تقدم.

٤٩

وأما البراءة العقلية : فلا يجوز إجراؤها إلّا بعد الفحص واليأس عن الظفر بالحجة على التكليف [١].

لما مرت الإشارة إليه من عدم استقلال العقل بها إلّا بعدهما.

واما البراءة النقلية : فقضية اطلاق أدلتها وإن كان هو عدم اعتبار الفحص في جريانها [٢] كما هو حالها في الشبهات الموضوعية إلّا أنه.

______________________________________________________

[١] فلا يجوز الأخذ بها إلّا بعد الفحص واليأس عن الظفر بالحجة على التكليف ولزوم الفحص واليأس عن الظفر بها يكونان معتبرين في جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، باشتراط داخلي لا شرطان خارجيان ؛ لأن الموضوع لقبح العقاب وهو عدم البيان للتكليف لا يحصل بمجرد الجهل به ولو كان في البين ما يمكن مع الوصول إليه محرزا للتكليف لكفى ذلك في البيان ، فإن المراد بالبيان في قاعدة قبح العقاب هو ما يكون مصححا للعقاب لا خصوص العلم والإحراز هذا في الشبهة الحكمية ولا يبعد أن يكون الأمر كذلك حتى في الشبهة الموضوعية أيضا ، بمعنى لا استقلال للعقل بالبراءة وقبح العقاب بلا بيان ، إلّا مع عدم إمكان إحراز حال الموضوع للتكليف بالفحص والسؤال ، بل قد يقال بأنه لا سبيل لجريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان في الشبهة الموضوعية حتى بعد الفحص ، فإن العلم بالكبرى الكلية وإحرازها ، بيان بالإضافة إلى التكليف فيجب موافقتها في مصاديقها المحتملة كالمصاديق المحرزة ، ولكن لا يخفى ما فيه فإن الكبرى إذا كانت منحلّة إلى التكاليف باعتبار انحلال الموضوع الوارد فيها فما دام لم يحرز ولو بعد الفحص تحققه لم يكن مجرد إحراز الكبرى بيانا للتكليف في ذلك المورد على ما تقدم في البحث

[٢] قد تقدم أن العمدة من أدلة البراءة الشرعية رفع ما لا يعلمون في حديث

٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

الرفع ، وذكر أن المراد من الرفع بالإضافة إلى ما لا يعلمون مقابل وضعه ، والوضع فيما لا يعلمون يكون بالأمر بالاحتياط فيه طريقيا فيكون الرفع عدم الأمر به كذلك ، وما لا يعلمون يعم الإلزام والوضع في الشبهات الموضوعيّة والحكميّة ، ومقتضى إطلاق الرفع فيهما عدم لزوم الفحص ، إلّا أنه يتعين رفع اليد عن الإطلاق بالإضافة إلى الشبهات الحكمية ، بخلاف الشبهات الموضوعية فإنه يؤخذ فيها بالإطلاق إلّا في موارد خاصة يعلم فيها باهتمام الشارع بالواقع حيث يجب الاحتياط فيها ، ويستدل على رفع اليد عن الإطلاق في الشبهات الحكميّة والالتزام بلزوم الفحص فيها عن التكليف أو الوضع الملزوم للتكليف بوجوه منها ، الإجماع ، ومنها حكم العقل ، حيث يعلم إجمالا بثبوت التكاليف الواقعية في الشبهات بنحو يمكن الوصول إليها بالفحص ، ولازم ذلك عدم جواز الرجوع إلى أصالة البراءة في شبهة قبل إحراز خروجها عن أطراف العلم الإجمالي المزبور بالفحص ، ولكن لا يخفى أن دعوى الإجماع التعبدي في مثل المسألة مما يحتمل أو يعلم مدرك القائلين بلزوم الفحص غير ممكن ، والإجماع المدركي محصله لا يكون دليلا فضلا عن منقوله ، وأما دعوى العلم الإجمالي فقد أورد الماتن عليه بما حاصله انه يفرض الشبهة الحكمية قبل الفحص في موارد يلاحظها المجتهد بعد انحلال العلم الإجمالي بالظفر بالتكاليف الواقعيّة في جل الوقائع التي فحص فيها عن التكليف الواقعي بحيث لا يبقى له علم إجمالي بتكاليف اخرى في سائر الوقائع أو كانت الشبهات التي يعلم بثبوت التكاليف فيها إجمالا جلّها خارجة عن ابتلاء المكلف ولو لعدم الالتفات إليها ، فإنّه مع عدم الالتفات إليها تكون أصالة البراءة في الواقعة الملحوظة جارية لفعلية الشك في التكليف فيها ، بخلاف سائر الوقائع فإن الشك التقديري فيها بحيث

٥١

استدلّ على اعتباره بالإجماع وبالعقل ، فإنه لا مجال لها بدونه ، حيث يعلم إجمالا بثبوت التكليف بين موارد الشبهات ، بحيث لو تفحص عنه لظفر به.

ولا يخفى أن الإجماع هاهنا غير حاصل ، ونقله لوهنه بلا طائل ، فإن تحصيله

______________________________________________________

لو التفت إليها صار شكه فيها فعليا لا أثر له لعدم كون الشك التقديري بموضوع في شيء من الاصول العملية.

وفيه أن فرض الانحلال بدعوى عدم الالتفات إلى سائر الوقائع حين إجراء أصالة البراءة في شبهة حكمية لا يمكن المساعدة عليها ، فإنه وإن فرض كون سائر الوقائع من المجتهد مغفولا عنها في مقام ملاحظة واقعة يشك في التكليف فيها ، لكن مع ملاحظة سائر الوقائع والابتلاء بها تدريجيا في البحث عن أحكامها يكون الأصل الجاري فيها معارضا بالأصل الجاري النافي الذي أجراه في مسألة سابقة ، وهذا نظير ما إذا لاقى شيء أحد أطراف العلم بالنجاسة وحكم للملاقي بالكسر بالطهارة بأصالة الطهارة ، وبعد زمان لاقى شيء آخر سائر الأطراف فإنه مع بقاء الملاقي الأول تكون أصالة الطهارة الجارية فيه معارضة بأصالة الطهارة في الملاقى الآخر ، نعم إذا لم يبق الملاقى الأول ولم يكن لطهارته ونجاسته سابقا أثر شرعي فعلا ، فيمكن الرجوع في الملاقى الآخر بأصالة الطهارة ، وبهذا أمكن الجواب عما يمكن أن يقال : إنه كيف يجوز للمكلف الرجوع إلى الاصول النافية للتكليف أو الوضع الملزوم له في الشبهات الموضوعية مع أنه قد يحصل له بعد برهة من الزمان من الابتلاء بالشبهات الموضوعية أن التكليف كان في بعضها واقعا ، ووجه ظهور الجواب أنه لا يكون أثر لهذا العلم الإجمالي بالاضافة إلى الوقائع السابقة فعلا بخلاف الواقعة المشكوكة التي ابتلى بها فعلا فيجرى فيها الأصل النافي وأما الوقائع الكلية التي يفتي فيها المجتهد بالوظائف الفعلية ، فلكون فتواها بنحو القضية

٥٢

في مثل هذه المسألة مما للعقل إليه سبيل صعب لو لم يكن عادة بمستحيل ، لقوة احتمال أن يكون المستند للجل ـ لو لا الكل ـ هو ما ذكر من حكم العقل ، وأن الكلام في البراءة فيما لم يكن هناك علم موجب للتنجز ، إما لانحلال العلم الإجمالي بالظفر بالمقدار المعلوم بالإجمال ، أو لعدم الابتلاء إلّا بما لا يكون

______________________________________________________

الحقيقية تكون كلها ذا أثر فعلا ، ومع العلم بمخالفة فتواها بنفي التكليف في بعض الوقائع للواقع فثبوته فيها يسقط عن الاعتبار كل ما افتى بنفي التكليف أخذا بالأصل النافي فيها.

الاستدلال على اعتبار الفحص في الشبهات الحكمية بالعلم الإجمالي بالتكاليف فيها

وذكر المحقق النائيني قدس‌سره أن العمدة في عدم جريان أصالة البراءة في الشبهات الحكمية قبل الفحص هو العلم الإجمالي بثبوت التكاليف في الموارد التي يكون المدرك فيها بالتكليف بين أيدينا ، والمعلوم بالإجمال المعنون بهذا العنوان من قبيل ما إذا علم بحرمة بعض الغنم البيض في قطيع غنم مركب من البيض والسود ، ودار الأمر في البيض من الغنم بين الأقل والأكثر فإنه يجب في الفرض البحث عن سائر الغنم ، وأنه من أفراد البيض أو السود ومجرد الظفر بمقدار من البيض يحتمل انحصار الحرام منها في ذلك المقدار لا يؤثر في انحلال العلم الإجمالي لاندراج المعلوم بالإجمال في كل ما يندرج في عنوان البيض ، ووجه كون المقام من هذا القبيل. لا من قبيل العلم بحرمة بعض الغنم من قطيع جميعه من السود ودار الحرام فيها بين عشرة أو أكثر ظاهر ؛ لأنّ العلم بالتكاليف إجمالا في الوقائع التي فيها مدرك لها حاصل لكل من تصدى للاجتهاد ، فلا بد من الفحص عن تلك الوقائع ، نظير ما إذا علم المكلف بكونه مديونا للأشخاص الذين ضبط أسماءهم في دفتره فإنه لا يمكن له الرجوع إلى أصالة البراءة بعد أداء دين جملة من الأشخاص الذين يحتمل منه ضبط اسمه في

٥٣

بينها علم بالتكليف من موارد الشبهات ، ولو لعدم الالتفات إليها.

______________________________________________________

الدفتر منحصر عليهم.

أقول : مع احتمال التطابق بين المعلوم بالإجمال والمعلوم بالتفصيل ينحل العلم الإجمالي لا محالة من غير فرق بين أن يكون للمعلوم بالإجمال عنوان خاص أم لا ، وسواء كان ذلك العنوان أيضا مرددا بين الأقل والأكثر كما في مسألة العلم بحرمة بعض البيض من الغنم أم لم يكن ، كما إذا علم بنجاسة إنا زيد المردد بين الأواني المعلوم بالإجمال نجاسة بعضها ، وإذا علم تفصيلا بنجاسة بعض الأواني واحتمل أن يكون إناء زيد بعض ذلك المعلوم بالتفصيل بحيث يحتمل طهارة جميع الباقي فلا موجب لرفع اليد عن أصالة الطهارة في الباقي ، فإن الموجب لتساقط الاصول النافية في أطراف العلم هو لزوم الترخيص القطعي في مخالفة التكليف الواصل ، وهذا المحذور يختص بما قبل الفحص وقبل انحلال العلم بالظفر بالتكاليف في الوقائع بمقدار يحتمل انطباق المعلوم بالإجمال ولو بالعنوان عليها ، وإذا انحل بعد الفحص بحيث احتمل خلو الوقائع الباقية عن التكليف والمدرك له فيرجع فيها إلى أصالة البراءة.

ومما ذكر يظهر أنه لا وجه لدعوى أن لازم العلم الإجمالي عدم جواز الرجوع إلى الأصل النافي في الواقعة المشتبهة حتى بعد الفحص وعدم الظفر بالمدرك للتكليف فيها لبقاء العلم الإجمالي بحاله ، ووجه الظهور هو أن المفروض ثبوت العنوان للمعلوم بالإجمال وهو التكليف في الوقائع التي مداركها ممكنة الوصول بالفحص ، ومع عدم الظفر بالمدرك في واقعة بعد الفحص يعلم خروجها عن أطراف المعلوم بالإجمال ، فيكون احتمال التكليف فيها من قبيل الشك في الشبهة البدوية بعد الفحص.

٥٤

فالأولى الاستدلال للوجوب بما دل من الآيات والأخبار على وجوب التفقه والتعلم [١] والمؤاخذة على ترك التعلم في مقام الاعتذار عن عدم العمل بعدم العلم.

______________________________________________________

وعلى الجملة اعتبار الفحص في الرجوع إلى أصالة البراءة في الشبهة الحكمية مطلقا بدعوى أنّ مقتضى العلم الإجمالي بالتكاليف في الوقائع غير تام ، لما تقدم من عدم جريانها في الشبهات الحكمية قبل الفحص حتى بعد انحلال العلم الإجمالي المزبور.

اعتبار الفحص في الرجوع إلى الاصول في الشبهات الحكمية

[١] ذكر الماتن قدس‌سره أن الأولى الاستدلال على اعتبار الفحص في الشبهات الحكمية وعدم اعتبار البراءة فيها قبل الفحص بما دل على وجوب التفقه والتعلم وترتب المؤاخذة على ترك التعلم في مقام الاعتذار عن عدم العمل بعدم العلم ، ولعل نظره إلى آية السؤال ، فإن الأمر بالسؤال عند الجهل مقتضاه لزوم تحصيل العلم ، ومورده بالقرينة الداخلية والخارجية ما إذا كان فيه احتمال التكليف فإن الآية المباركة لا تعم الشبهة الموضوعية لما ورد في تفسيرها من كون المراد من أهل الذكر الأئمة عليهم‌السلام ، ومن الظاهر أنه لا شأن للامام عليه‌السلام في إحراز المشتبه الخارجي في الشبهات الموضوعية ، أضف إلى ذلك ما ورد في الشبهات الموضوعية من عدم لزوم السؤال والفحص فيها ، وعلى ذلك يكون مدلول الآية أخص بالإضافة إلى ما ورد في حديث الرفع من فقرة رفع ما لا يعلمون ، ولو بعد تقييدها بغير الشبهة الموضوعية فإنه ورد فيها الحكم بالحلية والعذر ما لم يعلم الحرمة ، وبالعذر ما لم يعلم الإلزام وعدم لزوم الفحص عن الموضوع والسؤال عنه.

لا يقال ما ورد في تفسير الآية لا يدل على انحصار مدلول الآية في الشبهة

٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الحكمية كما يشهد بذلك مورد نزول الآية ، وعليه يكون مدلولها عاما يشمل الامور الاعتقادية والأحكام الفرعية فتكون النسبة بينها وبين حديث الرفع من فقرة «رفع ما لا يعلمون» العموم والخصوص من وجه ، فإنه يقال : لا مانع من شمول الآية للامور الاعتقادية أيضا كما لا مانع عن شمول «رفع ما لا يعلمون» لها فيلزم الفحص في الامور الاعتقادية التي يجب فيها تحصيل العلم واليقين ، وإذا لم يتمكن من العلم بها ولو بعد الفحص فترفع عن المكلف كما يرفع التكليف في الشبهة الحكمية بعد الفحص وعدم التمكن من إحرازه.

وعلى الجملة مدلول الآية أخص بالإضافة إلى ما لا يعلمون ، بل لو كانت النسبة بينهما العموم من وجه فلا بد من رفع اليد في مورد اجتماعهما عن إطلاق حديث الرفع فإن الخبر المخالف للكتاب العزيز غير حجة ، وربما يحتمل أن نظر الماتن من قوله بما دل على التفقه آية النفر ولكن لا يخفى ما فيه ، فإن التفقه الوارد في الآية وجوبه نفسي كفائي يعم الإلزاميات وغيرها من الأحكام التكليفية والوضعية حتى الأحكام المجعولة على صنف من المكلفين لا يدخل المكلّف فيه كالأحكام للنساء ، وهذا لا يرتبط بالمقام ، فإن وجوب التعلم في المقام وجوبه طريقي بالإضافة إلى كل مكلف أو إرشادي له إلى تنجز التكليف في الوقائع التي يبتلي بها ، ولا يكون جهله بالتكليف فيها عذرا مع تمكنه من الوصول إليه بالفحص. وأما الأخبار فهي على طوائف ثلاث.

منها ما دل على عدم كون الجهل بالتكليف مع ترك التعلم عذرا كموثقة مسعدة بن زياد التي رواها في تفسير البرهان في ذيل آية (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ)(١) عن أمالي

__________________

(١) سورة الأنعام : الآية ١٤٩.

٥٦

بقوله تعالى كما في الخبر : (هلا تعلمت) فيقيد بها أخبار البراءة ، لقوة ظهورها في أن المؤاخذة والاحتجاج بترك التعلم فيما لم يعلم ، لا بترك العمل فيما

______________________________________________________

الشيخ ، قال : حدثنا محمد بن محمد (المفيد قدس‌سره) عن أبي القاسم جعفر بن محمد (يعني جعفر بن محمد بن قولويه) قال : حدثني محمد بن عبد الله بن جعفر عن أبيه عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن زياد ، قال : سمعت جعفر بن محمد عليه‌السلام وقد سئل عن قول الله تعالى : (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) فقال : إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة عبدي أكنت عالما فإن قال : نعم قال له : أفلا عملت بما علمت ، وإن قال : كنت جاهلا. قال له : أفلا تعلمت حتى تعمل فيخصمه فتلك الحجة البالغة» (١) وظاهرها لزوم تعلم التكاليف ومتعلقاتها وعدم كون الجهل مع التمكن من التعلم عذرا ، ويختص ذلك بالشبهات الحكمية حيث يكون التعلم في التكاليف ومتعلقاتها كالعبادات.

ومنها ما ورد في لزوم الفحص في الشبهة الحكمية ولزوم الاحتياط قبله ، كصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجلين أصابا صيدا وهما محرمان ، الجزاء بينهما أو على كل منهما جزاء؟ فقال : لا بل عليهما أن يجزي كل واحد منهما الصيد ، قلت : إن بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه ، فقال : إذا أصبتم بمثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا عنه فتعملوا» (٢) ، وظاهرها أيضا عدم كون الجهل في الشبهة الحكمية قبل الفحص عذرا ، وبهذه الصحيحة وما قبلها يجمع بين الأخبار الآمرة بالتوقف والاحتياط في الشبهات الحكمية ، وبين الأخبار الواردة في السعة ورفع ما لا يعلمون ، وجواز الارتكاب عند الجهل بالحرمة بحمل الثانية على ما بعد الفحص وعدم إحراز التكليف وحمل

__________________

(١) بحار الأنوار ٢ : ٢٩. عن أمالي الشيخ المفيد.

(٢) وسائل الشيعة ١٣ : ٤٦ ، الباب ١٨ من أبواب كفارات الصيد ، الحديث ٦.

٥٧

علم وجوبه ولو إجمالا ، فلا مجال للتوفيق بحمل هذه الأخبار على ما إذا علم إجمالا ، فافهم.

ولا يخفى اعتبار الفحص في التخيير العقلي أيضا بعين ما ذكر في البراءة ، فلا تغفل.

______________________________________________________

الاولى على ما قبل الفحص ، وهذا مع الفحص عما ذكرنا في الأخبار الواردة في التوقف عند الشبهات والأخذ بالاحتياط في الدين.

ومنها الأخبار الواردة في «كون طلب العلم فريضة» (١) ، حيث إن تلك الأخبار كما تعم الامور الاعتقادية كذلك تعم التكاليف الواقعية في الوقائع التي يبتلي بها المكلف ووجوبه بالإضافة إلى الامور الاعتقادية نفسي ، وبالإضافة إلى التكاليف طريقي يوجب عدم كون الجهل بها مع مخالفتها عذرا ، والجمع بين الوجوب النفسي والطريقي لا يدخل في استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، كما لا يدخل فيه إرادة الوجوب النفسي والغيري في مثل قوله عليه‌السلام «إذا زالت الشمس وجبت الصلاة والطهور».

بقي في المقام أمر وهو أنّ لزوم الفحص والتعلم بالإضافة إلى التكاليف في الوقائع التي يبتلي بها المكلف طريقي أو إرشادى إلى عدم كون الجهل بها مع إمكان الوصول إليها بإحرازها عذرا ، وأما تعليم أحكام الشريعة بنحو الواجب الكفائي للتحفظ بالشريعة في الامور الاعتقادية والأحكام الفرعية للإبلاغ والنشر وتعليم الجاهلين فهو أمر آخر ، كما هو المستفاد من آية النفر وغيرها ، وعلى ذلك فإن أحرز المكلف ابتلاءه بواقعة ولو بنحو العلم الإجمالي فلا يكون ترك تعلم تكليفه فيها

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ٢٥ ، الباب ٤ من أبواب صفات القاضي ، الأحاديث ١٥ ـ ١٨ و ٢٠ و ٢١ و ٢٣ ـ ٢٨.

٥٨

ولا بأس بصرف الكلام في بيان بعض ما للعمل بالبراءة قبل الفحص من التبعة والاحكام.

أما التبعة ، فلا شبهة في استحقاق العقوبة على المخالفة فيما إذا كان ترك التعلم والفحص مؤديا إليها ، فإنها وإن كانت مغفولة حينها وبلا اختيار ، إلّا أنها منتهية إلى الاختيار ، وهو كاف في صحة العقوبة ، بل مجرد تركهما كاف

______________________________________________________

عذرا ، بلا فرق بين كون ترك التعلم قبل حصول شرط التكليف ودخول وقته مع عدم تمكنه من التعلم بعد حصوله أو دخول وقته ، أو كان ترك التعلم والفحص بعد فعلية التكليف بحصول شرطه أو دخول وقته فيما إذا تمكن من التعلم بعدهما ، فإن أخبار وجوب التعلم بل آية السؤال تكشف عن أن ترك العمل الناشئ من ترك التعلم يوجب تفويت الملاك حتى فيما كان تركه موجبا للغفلة عن التكليف زمان حصول شرطه أو دخول وقته ، وإنما الكلام بالإضافة إلى الوقائع التي لم يحرز الابتلاء بها ، بل يكون الابتلاء بها مجرد احتمال فإنه قد يقال بعدم وجوب التعلم بالإضافة إليها أخذا بالاستصحاب في عدم ابتلائه بها ، حيث يجري الاستصحاب في الامور الاستقبالية كما يجرى في الامور الماضية ، وأورد على هذا الاستصحاب المحقق النائيني قدس‌سره بأنه يعتبر في جريانه كون المستصحب حكما شرعيا أو موضوعا لحكم شرعي ، والابتلاء بالواقعة وعدمه ليس بموضوع لوجوب تعلم حكمها ، بل وجوبه يثبت في موارد احتمال الضرر وهذا الاحتمال محرز بالوجدان بمجرد احتمال الابتلاء بالتكليف.

ولكن لا يخفى ما فيه ، فإن احتمال الضرر مترتب على ثبوت وجوب التعلم حتى بالإضافة إلى الواقعة التي يحتمل الابتلاء بها ، وكيف يكون احتماله موضوعا لوجوب التعلم بالإضافة إليها ، وثانيا : أنه يأتي أنّ اعتبار كون المستصحب موضوعا لحكم شرعي أو نفس حكم شرعي لإمكان التعبد ، ولو أمكن التعبد وإن كان

٥٩

.................................................................................................

______________________________________________________

المستصحب بحيث يمكن التعبد به ولو بأثره العقلي فلا بأس بالاستصحاب فيه ، ولو لم يكن المستصحب من الموضوع لحكم شرعي أو نفس الحكم الشرعي كما في موارد الاستصحاب موجب لإحراز امتثال التكليف أو عدم امتثاله من حصول متعلق التكليف خارجا وعدم حصوله فإن الاستصحاب فيهما موجب لإحراز امتثال التكليف أو عدم امتثاله.

وعلى ذلك فكما أن العقل يحكم بعدم الضرر في ترك التعلم بالإضافة إلى واقعة يعلم المكلف بعدم الابتلاء بها كذلك فيما إذا أحرز عدم الابتلاء بالاستصحاب ، ولكن الصحيح أن إطلاق أخبار وجوب التعلم يعم الموارد التي يحتمل المكلف الابتلاء بمخالفة التكليف فيها على تقدير ترك التعلم ما لم يكن احتماله ضعيفا ، بحيث يكون هناك وثوق بعدم الابتلاء وخروج موارد إحراز عدم الابتلاء عن أخبار وجوب التعلم تخصصي ، لكون وجوبه على تقديره شرعيا طريقي بالإضافة إلى التكاليف الشرعية العملية فلا يكون إيجابه طريقيا لمن يحرز عدم ابتلائه بالواقعة وجدانا ، وعلى ذلك يجب التعلم باحتمال الابتلاء فلا يبقى للاستصحاب في عدم الابتلاء مورد ؛ لأنّ عدم الابتلاء والابتلاء الواقعيين ليسا بموضوعين لعدم وجوب التعلم ووجوبه ليكون في البين موضوع للاستصحاب ، والعمدة في المقام في عدم جريان الاستصحاب في عدم الابتلاء ما ذكرنا ، لا ما يقال من أن تقديم الاستصحاب يستلزم حمل أخبار وجوب التعلم على الفرض النادر أو على موارد العلم الإجمالي بالابتلاء.

وبتعبير آخر مع شمول ما ورد في وجوب التعلم بالإضافة إلى مورد الابتلاء يثبت وجوب التعلم أي يحرز وجوبه فلا يكون في وجوبه شك ليكون لجريان

٦٠