دروس في مسائل علم الأصول - ج ٥

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٥

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8438-09-3
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤١٦

ثابتا لأفراد المكلف ، كانت محققة وجودا أو مقدّرة ، كما هو قضية القضايا المتعارفة المتداولة ، وهي قضايا حقيقيّة ، لا خصوص الأفراد الخارجيّة ، كما هو قضية القضايا الخارجية ، وإلّا لما صح الاستصحاب في الأحكام الثابتة في هذه الشريعة ، ولا النسخ بالنسبة إلى غير الموجود في زمان ثبوتها ، كان الحكم في الشريعة السابقة ثابتا لعامّة أفراد المكلّف ممن وجد أو يوجد ، وكان الشك فيه

______________________________________________________

الموضوع في ذلك الجعل بحيث يعم أهل الشريعة اللاحقة وعدم كونه بحيث ينتهي أمد الجعل بمجيء الشريعة اللاحقة غير محرز لنا إذ من المحتمل كما أن الموضوع لوجوب الحج المجعول بنحو القضية الحقيقية البالغ المستطيع ولا يعم غير المستطيع كذلك يحتمل كون الموضوع للحكم المجعول في الشريعة السابقة البالغ العاقل قبل مجيء الشريعة اللاحقة فيكون الحكم من الأول مجعولا بحيث لا يكون موضوعه مطلق البالغ العاقل بل من يكون كذلك قبل مجيء الشريعة اللاحقة ، وبما أن المتيقن ثبوت الحكم المجعول كذلك فلا يكون ذلك الحكم مجعولا بالإضافة إلى أهل الشريعة اللاحقة ، وهذا القيد بما أنه يحتمل كونه قيدا مقوما للموضوع فالمتعين في المقام الاستصحاب في عدم جعله لعنوان عام ويجري مثل هذا الكلام في الاستصحاب في الحكم الثابت في أول شريعتنا ولذا يتمسك في إحراز عموم الأحكام الثابتة في صدر الإسلام بإطلاقات خطابات الأحكام وبالضرورة في الاشتراك في التكليف وأن حكمه صلى‌الله‌عليه‌وآله على واحد حكم على الامة.

وأما المناقشة بدعوى العلم بارتفاع الحكم السابق الثابت في الشريعة السابقة لكون اللاحقة ناسخة لها ولا معنى لنسخ الشريعة إلّا ارتفاع أحكامها فلا يمكن المساعدة عليها لأن نسخ الشريعة السابقة ليس بمعنى نسخ جميع أحكامها كيف واللاحقة مكملة للسابقة ومتممة لها ، وهذا لا يقتضي إلّا نسخ بعض أحكامها والعلم

٣٠١

كالشك في بقاء الحكم الثابت في هذه الشريعة لغير من وجد في زمان ثبوته ، والشريعة السابقة وإن كانت منسوخة بهذه الشريعة يقينا ، إلّا أنه لا يوجب اليقين بارتفاع أحكامها بتمامها ، ضرورة أن قضيّة نسخ الشريعة ليس ارتفاعها كذلك ، بل عدم بقائها بتمامها ، والعلم إجمالا بارتفاع بعضها إنما يمنع عن استصحاب ما شك في بقائه منها ، فيما إذا كان من أطراف ما علم ارتفاعه إجمالا ، لا فيما إذا لم يكن من أطرافه ، كما إذا علم بمقداره تفصيلا ، أو في موارد ليس المشكوك منها ، وقد علم بارتفاع ما في موارد الأحكام الثابتة في هذه الشريعة.

______________________________________________________

الإجمالي بوقوع النسخ في السابقة لا يمنع عن جريان الاستصحاب في الحكم الثابت في السابقة لانحلال المعلوم بالإجمال إما بالعلم التفصيلي بمقدار من الأحكام المنسوخة واحتمال انحصار النسخ عليها أو العلم الإجمالي بالنسخ فيما لا يدخل المشكوك في أطرافه كما إذا علم بوقوع النسخ في العبادات من الشريعة السابقة ولم يكن المشكوك كان من غير حكم العبادات أو للعلم بثبوت أحكام في هذه الشريعة فلا بد من العمل بها سواء كانت بعضها من قبل أو شرعت في شريعتنا ويحتمل أن يكون النسخ المعلوم بالإجمال فيها فلا يكون في الشريعة السابقة نسخ آخر فيجري الاستصحاب في المشكوك ، وما في عبارة الماتن قدس‌سره من اعتبار العلم بالنسخ في موارد الأحكام الثابتة في هذه الشريعة في انحلال العلم الإجمالي لا يمكن المساعدة عليه حيث يكفي في الانحلال احتمال انحصار المنسوخ المعلوم بالإجمال في تلك الموارد ولا يلزم حصول العلم.

وقد أجاب الشيخ قدس‌سره عن المناقشة الاولى أي دعوى عدم العلم بحدوث الحكم بالإضافة إلى أهل الشريعة اللاحقة بأمرين :

الأول ـ أن الحكم كان ثابتا في الشريعة السابقة للجماعة على نحو لم يكن

٣٠٢

ثم لا يخفى أنه يمكن إرجاع ما أفاده شيخنا العلامة ـ أعلى الله في الجنان مقامه ـ في ذب اشكال تغاير الموضوع في هذا الاستصحاب من الوجه الثاني إلى ما ذكرنا ، لا ما يوهمه ظاهر كلامه ، من أن الحكم ثابت للكلي ، كما أن الملكية له في مثل باب الزكاة والوقف العام ، حيث لا مدخل للأشخاص فيها ، ضرورة أن التكليف والبعث أو الزجر لا يكاد يتعلق به كذلك ، بل لا بدّ من تعلقه بالأشخاص ، وكذلك

______________________________________________________

لأشخاصهم دخل في ذلك الحكم ، وقد فهم بعض من كلامه هذا بأن مراده كما أن الملكية في الزكاة لطبيعي الفقير ، وملكية العين في الوقف العام للعنوان لا للأشخاص كذلك الحكم في الشريعة السابقة كان للطبيعي لا الأشخاص فيستصحب ثبوت الثابت للطبيعي ولو بعد انقضاء أهل الشريعة السابقة ؛ ولذا اورد عليه بأن ثبوت الحكم الوضعي للطبيعي أمر معقول ، وأما توجه التكليف إلى مجرد العنوان دون الاشخاص فغير معقول لعدم قبول الطبيعي بمجرده بعثا أو زجرا ولكن الظاهر أن مراد الشيخ كما ذكر الماتن قدس‌سره من كون الحكم الثابت في الشريعة السابقة كان بنحو القضية الحقيقية لا الخارجية وقد ذكرنا أن مجرد الالتزام بكونه ثابتا بنحو القضية الحقيقية غير كاف أيضا في ثبوت الحالة السابقة ، وأنه لا يمكن لنا إحراز عدم أخذ قيد في موضوعه ككونه للبالغ العاقل قبل مجيء الشريعة اللاحقة ليكون الشك في بقائه بالإضافة إلينا لا في أصل ثبوته في حقنا.

نعم ، يمكن فرض الحالة السابقة في حق اللاحق بنحو التعليق في الموضوع وأن اللاحق لو كان في السابق لكان داخلا في الموضوع يقينا ، ولكن تقدم عدم اعتبار الاستصحاب في الأحكام التعليقية في خطاب الشارع فضلا عن الموضوعات التعليقية التي تدخل في حكم العقل مع فرض المعلق عليه وبدون فرضه لا حكم له أصلا.

٣٠٣

الثواب أو العقاب المترتّب على الطاعة أو المعصية ، وكان غرضه من عدم دخل الأشخاص عدم أشخاص خاصّة ، فافهم.

وأما ما أفاده من الوجه الأوّل ، فهو وإن كان وجيها بالنسبة إلى جريان الاستصحاب في حق خصوص المدرك للشريعتين ، إلّا أنه غير مجد في حق غيره من المعدومين ، ولا يكاد يتم الحكم فيهم ، بضرورة اشتراك أهل الشريعة الواحدة أيضا ، ضرورة أن قضية الاشتراك ليس إلّا أن الاستصحاب حكم كلّ من كان على يقين فشك ، لا أنه حكم الكل ولو من لم يكن كذلك بلا شك ، وهذا واضح.

______________________________________________________

والثاني ـ الذي أجاب به عنها بأنه يستصحب الحكم في حق المدرك للشريعتين وبعد إحراز ثبوته في حقه وبقائه يثبت في حق الآخرين من أهل الشريعة اللاحقة لضرورة الاشتراك في التكليف ، وأنه إذا ثبت في حق أحد من أهل الشريعة اللاحقة يثبت في حق الآخرين أيضا وفيه أن الاشتراك في حق أهل الشريعة إنما فيما كان الثابت لبعض أهل الشريعة بعنوان يشترك الباقين معه في ذلك العنوان ، ولا يعم ما إذا اختصّ العنوان بذلك البعض ففي المثال الثابت لمدرك الشريعتين بعنوان كونه متيقنا بثبوت الحكم في حقه ويشك في بقائه ، وهذا العنوان لا يجري في حق الآخرين ، ولا يختلف الحال بين كون المتمسك بالاستصحاب هو نفس مدرك الشريعتين أو كنا أردنا الإجزاء فإن ثبوت الحكم في حقه بما أن للحكم بالإضافة إليه حالة سابقة ولسنا نحن على هذه الخصوصية.

وقد ذكر النائيني قدس‌سره أنه يلزم في اتباع الحكم الثابت في الشريعة السابقة أنه مما أبلغه الصادع بالشريعة اللاحقة ولا يثبت ذلك بالاستصحاب وأن الحكم المفروض مما أمضاه الشارع للشريعة اللاحقة وفيه :

ـ أنه إن اريد بالإمضاء الإبلاغ كما هو مقتضى استدلاله على الإمضاء

٣٠٤

السابع : لا شبهة في أن قضية أخبار الباب [١] هو إنشاء حكم مماثل للمستصحب في استصحاب الأحكام ، ولأحكامه في استصحاب الموضوعات ،

______________________________________________________

بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما من شيء يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار إلّا وقد أمرتكم به ، وما من شيء يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة إلّا وقد نهيتكم عنه» (١) فمع عموم خطابات الاستصحاب وشمولها للحكم الثابت في الشريعة السابقة يحصل إبلاغه وإمضاؤه.

ـ وإن اريد الإبلاغ بخطاب يخص ذلك الحكم بعينه فلا دليل على اعتباره في لزوم العمل بالحكم.

[١] ذكر الماتن قدس‌سره في هذا الأمر عدم اعتبار الأصل المثبت ومنه عدم اعتبار الاستصحاب بالإضافة إلى مثبتاته بخلاف الطرق والأمارات حيث إنها معتبرة حتى بالإضافة إلى مثبتاته ، وذكر في تقرير ذلك أن المستفاد من أخبار النهي عن نقض اليقين بالشك فيما إذا كان المستصحب نفس الحكم الشرعي سواء كان تكليفيا أو وضعيا جعل نفس ذلك الحكم في ظرف الشك وحيث إن المجعول في ظرف الشك حكم ظاهري يكون مماثلا للحكم الذي يكون المكلف على يقين منه حدوثا فيترتب على الحكم الظاهري أثره الشرعي والعقلي فالأول كما إذا كان نفس ذلك الحكم موضوعا لحكم شرعي آخر ، والثاني كوجوب الإطاعة الذي يترتب على إحراز التكليف سواء كان واقعيا أو ظاهريا بمعنى أنه يترتب على مخالفته استحقاق العقاب كما أن مقتضى أخبار النهي عن نقض اليقين بالشك في الاستصحاب الجاري في الموضوعات جعل حكم مماثل لحكم المستصحب ، ولكن لا يخفى بما أن

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٢ : ٢٧ ، الباب ١٢ من أبواب مقدمات التجارة ، الحديث ٢.

٣٠٥

كما لا شبهة في ترتيب ما للحكم المنشأ بالاستصحاب من الآثار الشرعية والعقلية ، وإنما الإشكال في ترتيب الآثار الشرعية المترتبة على المستصحب بواسطة غير شرعية عادية كانت أو عقلية ، ومنشؤه أن مفاد الأخبار : هل هو تنزيل المستصحب والتعبد به وحده؟ بلحاظ خصوص ما له من الأثر بلا واسطة ، أو تنزيله بلوازمه

______________________________________________________

الحكم الظاهري المجعول والمنكشف من أخبار الاستصحاب طريقي يوجب تنجز الواقع فيما أصاب التكليف الواقعي وتكون موافقته عذرا فيما أوجب موافقته مخالفة التكليف الواقعي ولكن الماتن قدس‌سره ذكر في بحث الإجزاء ما يقتضي كون المجعول بالاستصحاب حكما نفسيا يوجب التوسعة في الواقع كما في استصحاب الحلية والطهارة ونحوهما ، وقد تعرضنا لما ذكره في ذلك البحث وقلنا : إنه لا يمكن الالتزام به فالحكومة الواقعية لا تجري بالإضافة إلى الأحكام الظاهرية بأن يكون جعلها وثبوتها موجبا للتوسعة الواقعية في الأحكام الواقعية ولو بالإضافة إلى شرائط متعلق التكليف في العبادات وغيرها.

وكيف كان فلا ينبغي التأمل فيما كان المستصحب بنفسه حكما شرعيا يترتب عليه الأثر الشرعي المترتب عليه وأثره العقلي من لزوم رعايته وموافقته وإذا كان من الموضوع لحكم شرعي يترتب عليه ذلك الحكم الشرعي وإنما الكلام فيما إذا كان الأثر الشرعي مترتبا لا على نفس ذلك المستصحب من الحكم والموضوع بل كان مترتبا على لازمه العقلي أو العادي أو ملازمه كذلك ولم يكن ذلك اللازم أو الملازم مما له حالة سابقة فهل يفيد الاستصحاب في ذلك المستصحب في ترتب الأثر الشرعي المترتب على لازمه العقلي أو العادي أو على ملازمه كذلك أم لا؟ ومنشأ الإشكال دلالة أخبار النهي عن نقض اليقين بالشك على سعة التنزيل في تنزيل المشكوك منزلة المتيقن بأن يكون المشكوك منزلته في مطلق ما للمتيقن من الأثر

٣٠٦

العقلية أو العادية؟ كما هو الحال في تنزيل مؤديات الطرق والأمارات ، أو بلحاظ مطلق ما له من الأثر ولو بالواسطة؟ بناء على صحة التنزيل بلحاظ أثر الواسطة أيضا لأجل أنّ أثر الأثر أثر.

______________________________________________________

الشرعي ولو بلحاظ لازمه أو ملازمه العقليين أو العاديين أو أنه ينزله منزلته مع لازمه وملازمه أو أنه لا دلالة لها إلّا على تنزيل نفس المشكوك منزلة المتيقن بلحاظ نفسه أو بلحاظ أثره الشرعي فقط فعلى الأولين يكون الاستصحاب معتبرا حتى بالإضافة إلى مثبتاته كالأمارات بخلافة على الأخير فإنه لا يعتبر إلّا بالإضافة إلى إثبات نفسه فيما إذا كان المستصحب حكما شرعيا أو إثبات حكمه الشرعي فيما إذا كان من الموضوع للحكم الشرعي ، وتظهر الثمرة بين القولين فيما إذا كان للمستصحب لازما أو ملازما عقليا أو عاديا على تقديره بقائه زمان الشك فقط وإلّا فلو كان للازمه أو ملازمه حصول في السابق كنفس المستصحب يكون الاستصحاب جاريا في ناحية نفس اللازم أو الملازم.

أقول : لو كان مفاد أخبار الاستصحاب تنزيل المشكوك منزلة المتيقن السابق فمن الظاهر أنه قد لا يكون الشيء زمان اليقين به ذا أثر شرعي ، ويكون على تقدير بقائه زمان الشك ذا أثر شرعي ولو كان مفاد أخبار الاستصحاب تنزيل المشكوك منزلة ذات المتيقن السابق فلا تفيد شيئا لعدم ثبوت وجه التنزيل فإن وجه التنزيل هو الأثر الشرعي المترتب على نفس المتيقن السابق مع أن الماتن قدس‌سره كغيره يلتزم بجريان الاستصحاب في مثل هذه الموارد ودعوى أن المنزل عليه هو المتيقن بقاء بمعنى أن المشكوك الفعلي قد نزل منزلة المتيقن الفعلي مرجعها إلى تنزيل الشك في البقاء منزلة العلم به ، وحيث إن التنزيل بملاحظة الأثر المترتب على المنزل عليه غير محتاج إليه فيما كان المنزل عليه بنفسه قابلا للجعل والاعتبار ففي الحقيقة يعتبر

٣٠٧

.................................................................................................

______________________________________________________

العلم بالحالة السابقة علما ببقائها عند الشك ما لم يعلم الخلاف ويساعد على ذلك نفس ظواهر أخبار النهي عن نقض اليقين بالشك ؛ لأن مدلولها أن رفع اليد عن اليقين بالحالة السابقة عند الشك في بقائها نقض لذلك اليقين فيترتب على هذا الاعتبار ما يترتب على العلم بالبقاء عقلا وشرعا من تنجيز الواقع على تقدير كون الواقع تكليفا أو موضوعا له وحتى ما إذا كان إحراز الواقع موضوعا لحكم شرعي آخر حيث إن خلاف العمل على مقتضى العلم بالواقع وإحرازه نقض لليقين السابق ما لم يعلم خلافه هذا بالإضافة إلى أثر شرعي مترتب على الواقع وإحرازه ولو بتوسيط أثر شرعي آخر ، وكذا بالإضافة إلى الأثر العقلي أي التنجيز والتعذير المترتب على إحراز الواقع وجدانا أو تعبدا وأما اللازم العقلي المترتب على الوجود الواقعي للشيء فقط فلا يثبت بالاستصحاب الجاري في ناحية الملزوم وكذا اللازم العادي فإنه لا يترتب أثرهما الشرعي بالاستصحاب في ناحية الملزوم حيث إن العلم الاعتباري والتعبدي بالملزوم لا يستلزم العلم بوجود اللازم العقلي أو العادي حتى يترتب بالاستصحاب المفروض أثرهما الشرعي ، وترتب أثرهما فيما كان العلم بالملزوم وجدانيا ؛ لأن العلم الوجداني بالملزوم يوجب العلم بتحقق اللازم العقلي والعادي فيحرز ثانيا الموضوع للأثر الشرعي المترتب عليهما بخلاف العلم التعبدي بالملزوم فإنه يحرز به العلم بالملزوم فقط وبضميمة الكبرى الدالة على ثبوت الحكم الشرعي لذلك الملزوم يحرز حكمه وكذا الحكم الشرعي المترتب على إحراز الحكم الثابت للملزوم فيما كان حكمه أو إحراز حكمه موضوعا لحكم شرعي آخر وما ذكرنا هو الوجه في عدم اعتبار الاستصحاب بالإضافة إلى مثبتاته فلو اغتسل المكلف أو توضأ مع احتمال وجود الحاجب في بعض أعضاء غسله أو وضوئه فالاستصحاب في

٣٠٨

وذلك لأن مفادها لو كان هو تنزيل الشيء وحده بلحاظ أثر نفسه ، لم يترتب عليه ما كان مترتّبا عليها ، لعدم إحرازها حقيقة ولا تعبدا ، ولا يكون تنزيله بلحاظه ، بخلاف ما لو كان تنزيله بلوازمه ، أو بلحاظ ما يعم آثارها ، فإنه يترتب باستصحابه ما كان بوساطتها.

والتحقيق أن الأخبار إنما تدل على التعبد بما كان على يقين منه فشك ، بلحاظ ما لنفسه من آثاره وأحكامه ، ولا دلالة لها بوجه على تنزيله بلوازمه التي لا يكون

______________________________________________________

عدم وجود الحاجب لا يثبت غسل تمام أعضاء غسله أو وضوئه والاستصحاب في بقاء حياة زيد إلى زمان قطع رأسه لا يثبت أنه مقتول إلى غير ذلك ، ومن يلتزم باعتبار الاستصحاب حتى بالإضافة إلى مثبتاته فلا بد من أن يلتزم بأن تحقق الشيء في زمان أمارة على بقائه زمان الشك ، وهذه الأمارة معتبرة كسائر الأمارات التي تثبت لوازمها العقلية والعادية أو يلتزم بأن اعتبار الاستصحاب مستفاد من أخبار النهي عن نقض اليقين بالشك ولكن الأثر الشرعي المترتب على اللازم العقلي أو العادي يعد أثرا شرعيا للملزوم كسائر الآثار الشرعية المترتبة عليه أو يلتزم بأن تلك الأخبار ظاهرة في بقاء المتيقن حتى بلوازمها العقلية أو العادية زمان الشك ، ولكن ضعف هذه الالتزامات ظاهر مما ذكرنا فلا نعيد ثمّ على تقدير القول باعتبار الأصل المثبت تظهر ثمرة الخلاف فيما إذا كان اللازم العقلي أو العادي لازما لبقاء المستصحب زمان الشك وإلّا فلو كان اللازم لازما من حين تحقق الملزوم فيجري الاستصحاب في ناحيتهما كما يجري في ناحية الملزوم فلا تظهر ثمرة عملية.

في عدم اعتبار الاستصحاب بالإضافة إلى اللازم العقلي والعادي والمعارضة بين الاستصحابين على تقدير القول به

ثمّ إنه قد يقال : إن اللازم العقلي إذا كان لازما لبقاء المستصحب فقط وكذا اللازم

٣٠٩

كذلك ، كما هي محل ثمرة الخلاف ، ولا على تنزيله بلحاظ ما له مطلقا ولو بالواسطة ، فإن المتيقن إنما هو لحاظ آثار نفسه ، وأما آثار لوازمه فلا دلالة هناك على لحاظها أصلا ، وما لم يثبت لحاظها بوجه أيضا لما كان وجه لترتيبها عليه باستصحابه ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

العادي فالاستصحاب في ناحية عدم تحققهما زمان الشك يعارض الاستصحاب في ناحية بقاء الملزوم فيسقط اعتبار المستصحب بالإضافة إلى ما يترتب على لازمه العقلي أو العادي لمعارضته بالاستصحاب في ناحية عدم اللازم العقلي أو العادي.

وأجاب الشيخ قدس‌سره عن المعارضة بأن الاستصحاب في ناحية الملزوم حاكم على الاستصحاب في ناحية عدم اللازم العقلي أو العادي ، ولكن لا يخفى أن دعوى الحكومة صحيحة على تقدير الالتزام بأمارية الاستصحاب ؛ لأن العلم بحدوث الملزوم سابقا إذا كان مفيدا للظن بالبقاء نوعا أو شخصا كان مفيدا للظن بحدوث لازمه العقلي والعادي أيضا ، وكما أن العلم ببقائه يوجب العلم بحدوثهما كذلك الظن به إذا كان الشخص ملتزما بأن الأثر الشرعي المترتب على اللازم العقلي أو العادي يعد من أثر الشرعي للملزوم أيضا بدعوى أن أثر الأثر أثر ، وهذه الدعوى وإن كانت سخيفة فإن ما ذكر إنما هو في ترتب الآثار الشرعية بعضها على بعض لا بالإضافة إلى المترتب على الأثر التكويني المترتب على الملزوم تكوينا إلّا أنه على فرض صحتها الجواب بالحكومة غير صحيح ؛ لأن جريان الاستصحاب في الملزوم لا يكون علما بحصول اللازم العقلي أو العادي بل يعد علما بما يترتب على هذا اللازم العقلي أو العادي إذا لم يكن في البين تعارض ، ولكن يكون الاستصحاب في عدم حدوث اللازم العقلي أو العادي نافيا لذلك الأثر المترتب عليها وهذا معنى المعارضة بين الاستصحابين بالإضافة إلى ذلك الأثر الشرعي الذي يكون أثر اللازم العقلي أو

٣١٠

نعم لا يبعد ترتيب خصوص ما كان محسوبا بنظر العرف من آثار نفسه لخفاء ما بوساطته [١] ، بدعوى أن مفاد الأخبار عرفا ما يعمه أيضا حقيقة ، فافهم.

______________________________________________________

العادي ويعد من أثر ملزومهما أيضا. نعم ، لو بنى أن مفاد أخبار لا تنقض تنزيل المشكوك منزلة المتيقن الفعلي بمعنى كونه علما بالإضافة إلى نفس الملزوم ولازمه العقلي والعادي فلا يبقى للاستصحاب في ناحية عدم اللازم العقلي أو العادي موضوع فدعوى الحكومة حينئذ لا بأس بها لإحراز نفس اللازم العقلي أو العادي بالاستصحاب في ناحية المتيقن السابق يعني الملزوم.

[١] قد ذكر الشيخ قدس‌سره في الرسائل اعتبار الأصل المثبت في مورد خفاء الواسطة وفسره بما إذا كان الأثر الشرعي ، وإن كان مترتبا على الواسطة إلّا أن العرف يرون ذلك الأثر أثرا لما له حالة سابقة ، ومثل لذلك بما إذا شك في الرطوبة المسرية لأحد المتلاقيين فإن الاستصحاب في بقاء تلك الرطوبة يفيد تنجس الطاهر منهما حيث إن العرف يرى أن ملاقاة الطاهر مع النجس بالرطوبة المسرية موضوعا لتنجس الطاهر مع أن الموضوع لتنجس الطاهر تأثره برطوبة المتنجس ، وكذا فيما إذا شك في وجود الحاجب في بعض أعضاء الوضوء أو الغسل فإن صب الماء على أعضائهما مع عدم الحاجب المحكوم بعدمه وإيصاله إلى تلك الأعضاء شرط لصحة الصلاة بحسب نظر العرف مع أن الموضوع لشرط الصلاة غسل البشرة والاستصحاب في عدم الحاجب لا يثبت وصول الماء إليها.

وأضاف الماتن قدس‌سره إلى خفاء الواسطة جلاها بحيث لا يمكن عرفا التعبد بالشيء وعدم التعبد بلازمه العقلي أو العادي أو كان وضوح اللزوم بينهما بنحو يعد الأثر الشرعي المترتب على اللازم العقلي أو العادي من أثر الملزوم أيضا.

أقول : أما مسألة خفاء الواسطة فالظاهر أنه لا يمكن الالتزام باعتبار الأصل

٣١١

كما لا يبعد ترتيب ما كان بوساطة ما لا يمكن التفكيك عرفا بينه وبين المستصحب تنزيلا ، كما لا تفكيك بينهما واقعا ، أو بوساطة ما لأجل وضوح لزومه له ، أو ملازمته معه بمثابة عد اثره اثرا لهما ، فإن عدم ترتيب مثل هذا الأثر عليه يكون نقضا ليقينه بالشك أيضا ، بحسب ما يفهم من النهي عن نقضه عرفا ، فافهم.

______________________________________________________

المثبت فيه ، وذلك فإنه لو كان المستفاد من الأدلة أن الموضوع لتنجس الطاهر تأثر الطاهر من الرطوبة النجسة فلا يفيد الاستصحاب في بقاء الرطوبة المسرية في الحكم بتنجس الطاهر فإنه لا يثبت تأثر الطاهر بتلك الرطوبة النجسة والتأثر بها ليس له حالة سابقة وإن كان الموضوع بحسب المستفاد من خطابات تنجس الطاهر نفس ملاقاته مع النجس مع الرطوبة فيجري الاستصحاب في بقاء الرطوبة المسرية ويحرز ببقائها تمام الموضوع لتنجس الطاهر ولا يكون الأصل مثبتا كما يستفاد كون الموضوع للتنجس ذلك الأمر بغسل الأشياء من مسها للنجس كالكلب والميتة والعذرة وغيرها المقيد إطلاقها بالرطوبة في أحد المتلاقيين لما دل على أن كل يابس ذكي. نعم ، إذا كانت الرطوبة النجسة في أعضاء الحيوان ولاقى طاهر بعضو الحيوان كالذباب الواقع على الثوب من العذرة ونحوها واحتمل عدم بقاء الرطوبة النجسة في عضوه عند وقوعه على الثوب فلا يحكم بنجاسة الثوب الملاقي حيث إن بدن الحيوان لا يتنجس والرطوبة إثبات بقائها بالاستصحاب لا يثبت ملاقاتها الثوب أو غيره من الطاهر. ومما ذكرنا يظهر أن الاستصحاب في ناحية عدم الحاجب في أعضاء الوضوء أو الغسل لا يفيد شيئا فإنه لا يثبت وصول الماء إلى تمام البشرة من أعضائهما.

وأما مسألة جلاء الواسطة فلو ثبت في مورد امتناع التفكيك عرفا بين التعبد بشيء وبين التعبد بلازمه العقلي بأن يترتب الأثر الشرعي لذلك الشيء ولا يترتب الأثر الشرعي المترتب على لازمه العقلي فلا بأس بالالتزام بالتعبد الثاني المكشوف

٣١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

من التعبد بالأول حيث إنه المدلول الالتزامي لخطاب لا تنقض اليقين الشامل للملزوم ولكن في وجود الصغرى لذلك تأملا والتمثيل لذلك بالاستصحاب الجاري في بقاء الشهر يوم الشك وإثبات كون الغد أوّل الشهر الآتي لا يخلو عن الإشكال وذلك فإن الاستصحاب يجري في بقاء الشهر ولا يلازم التعبد بكون الغد أوّل الشهر الآتي بل الحكم بكون الغد أوّل الشهر الآتي لجريان الاستصحاب في بقاء أوّل الشهر الآتي المعلوم تحققه عند الغروب من يوم الشك مع احتمال بقائه إلى غروب الغد على ما ذكرنا سابقا من غير أن يكون أول الشهر عبارة عن كون يوم من شهر وعدم سبقه بمثله قبله ومن غير حاجة إلى دعوى جريان السيرة المستمرة على جعل يوم الشك آخر السابق واليوم اللاحق أول الشهر الآتي فإن هذه السيرة غير محرزة في غير يوم عرفة وما بعده فيما إذا ثبت يومها بحكم القاضي من العامة حيث جرت السيرة على متابعة العامة في ثبوت يوم عرفة مع عدم العلم بالخلاف وجعل ما بعده يوم العيد وهكذا وهذا لأن قضاءهم طريق شرعي لثبوت هلال ذي الحجة ولو كان هذا الاعتبار لرعاية التقية يعني أن حكمة الاعتبار هي رعايتها.

وقد يقال : الاستصحاب في ناحية بقاء أول شوال إلى غروب الشمس من بعد يوم الشك مبتلى بالمعارض وذلك فإنه قبل الغروب من يوم الشك لنا علم بأنه لم يكن أول شوال ونحتمل عدمه أيضا بعد يوم الشك لاحتمال كونه يوم الشك ، ولكن لا يخفى ما فيه فإن عدم أول شوال الملازم لأيام شهر رمضان قد انقطع وتبدل إلى العيد إما بيوم الشك أو ما بعده ، والمتيقن من عدمه الثاني هو اليوم الثاني ما بعد يوم الشك فالاستصحاب المذكور قريب إلى القسم الثالث من الكلي الذي لا موضوع فيه للاستصحاب.

٣١٣

ثم لا يخفى وضوح الفرق بين الاستصحاب وسائر الأصول التعبديّة وبين الطرق والأمارات [١] ، فإن الطريق والأمارة حيث إنّه كما يحكي عن المؤدّى ويشير إليه ، كذا يحكي عن أطرافه من ملزومه ولوازمه وملازماته ويشير إليها ، كان مقتضى إطلاق دليل اعتبارها لزوم تصديقها في حكايتها ، وقضيته حجية المثبت منها

______________________________________________________

وأما مسألة وضوح اللزوم بين الملزوم ولازمه العقلي أو العادي بحيث يعد الأثر الشرعي المترتب على اللازم يعد أثرا للملزوم أيضا فقد تقدم في بيان وجوه اعتبار الأصل المثبت وقوع المعارضة في مثل ما فرضه بين الاستصحاب الجاري في ناحية الملزوم وبين عدم حدوث لازمه العقلي والعادي.

الفرق بين الأمارة والأصل

[١] وتفترق الاصول العملية عن الطرق والأمارات بأن الأمارة كما تحكي عن مؤداها كذلك تحكي عن أطراف مؤداها من لازمه أو ملازمه أو ملزومه ومقتضى إطلاق اعتبارها تصديقها في كل من حكاياتها ويترتب الأثر الشرعي المترتب على كل واحد منها لاعتبارها في جميع تلك الحكايات هذا ما ذكر الماتن وغيره قدس‌سرهم ولكن قد يورد عليه بأن ملاك الاعتبار لو كان ما ذكر لانحصر اعتبارها في مثبتاتها بما إذا كان المخبر عن المؤدى قاصدا لها وملتفتا إلى الملازمة ولا يجري ما إذا كان منكرا للملازمة كما إذا قدّ زيد الملتف باللحاف نصفين ولا نعلم بحياته أو موته حين قده نصفين ولكن نعلم أن من قدّه هو عمرو وشهدت البينة أنه كان حيا ، ولكن لا نعرف من قدّه أو قالا : أن من قده ليس بعمرو ولو كان ملاك اعتبارها الحكاية عن أطرافها لا يثبت أن قاتله عمرو ؛ ولذا لا يحكم بكفر من ينكر أمرا يلازم إنكاره إنكار النبوة ولكن المنكر لذلك الشيء لا يرى الملازمة ولو كان الإخبار بشيء إخبارا عن لوازمه أيضا مطلقا لزم الحكم بكفره.

٣١٤

كما لا يخفى ، بخلاف مثل دليل الاستصحاب ، فإنه لا بد من الاقتصار مما فيه من الدلالة على التعبد بثبوته ، ولا دلالة له إلّا على التعبد بثبوت المشكوك بلحاظ أثره ، حسبما عرفت فلا دلالة له على اعتبار المثبت منه ، كسائر الأصول التعبدية ، إلّا فيما عدّ أثر الواسطة أثرا له لخفائها ، أو لشدة وضوحها وجلائها ، حسبما حقّقناه.

______________________________________________________

وقد يقال : إن الأمارات كلّها عقلائية قد أمضاها الشارع وبناء العقلاء في الأمارات إثبات الواقع وإحرازه بها بنظر من قامت عنده الأمارة ، وإذا ثبت الواقع بها ثبتت لوازمه وملازماته بعين ملاك ثبوت الواقع بها فالعلم بشيء علم بلوازمه وملازماته وملزومه فكذلك الوثوق به فإنه يوجب الوثوق بأطرافه ، وبتعبير آخر كما يحتج بقيام الأمارة بشيء بالإضافة إلى ذلك الشيء كذلك يحتجون بها بالإضافة إلى أطرافه.

أقول : احتجاج العقلاء بالإضافة إلى الأمارات التي من قبيل الإخبار بالشيء والخطاب لبيان ثبوته واقع حتى بالإضافة إلى أطرافه ولكن لا يختص اعتبار الخبر والشهادة بما إذا حصل الوثوق لمن يقوم عنده الخبر بل تكفي وثاقة المخبر وإن لم يحصل لمن يقوم عنده الخبر الوثوق بالواقع كما بينا ذلك في بحث اعتبار الظواهر والخبر الواحد إلّا أن ما ذكر لا يجري في اعتبار مطلق الأمارة. أضف إلى ذلك أن بعض الأمارات معتبرة تأسيسا من الشارع كالظن بالقبلة لمن لا يمكن له العلم بها ولو ظن أن القبلة في جهة يوجب الظن بكونها قبلة دخول الوقت فلا سبيل لنا إلى إحراز اعتبار الظن بدخوله ، وسوق المسلمين أمارة بتذكية الحيوان ، ولكن لا يكون أمارة بكون المشترى منه من مأكول اللحم ليجوز الصلاة فيه وإن ظن بكونه من مأكول اللحم.

والحاصل أن ما هو المعروف في ألسنتهم من اعتبار الأمارة بالإضافة إلى

٣١٥

.................................................................................................

______________________________________________________

أطرافها أيضا لا أساس له بل لا بد من ملاحظة الدليل الدال على اعتبار الأمارة من أن مقتضاه الإطلاق أو الاختصاص وأما ما ذكر في مسألة عدم الحكم بكفر منكر بعض ضروريات الدين أو المذهب فيما إذا لم ير المنكر ثبوته من الشريعة فهو من جهة أن الموجب للكفر أن يظهر الشخص أنه لا يعتقد بالنبوة ، ومن الظاهر أن منكر بعض الضروري مع عدم اعتقاده أنه مما أخبر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يوجب إنكاره النبوة ليحكم بكفره ، وذكر المحقق النائيني قدس‌سره في المقام كلاما حاصله : أن افتراق الاصول العملية عن الأمارات يكون في ناحية الموضوع وفي ناحية الحكم أما اختلافهما وامتياز الأمارة عن الأصل في ناحية الموضوع ففي جهات :

الاولى ـ أن الجهل بالواقع في الأمارات مورد لاعتبارها ولكنه موضوع في الاصول بمعنى أن ما دل على اعتبار الأمارة كما في قوله عليه‌السلام : «العمري ثقة فما يؤدي يؤدي عني» (١) يقتضي الأخذ بقوله وحيث إن التعبد بطريق في حق العالم بالواقع بلا معنى فيختص اعتبار قوله بغير العالم بالواقع ، وهذا بخلاف الاصول فإن المأخوذ في خطاب اعتبارها موضوعا لها الجهل بالواقع كقوله عليه‌السلام «لا تنقض اليقين بالشك» و «رفع عن امتي ما لا يعلمون».

الجهة الثانية ـ أن الكشف عن الواقع في الأمارات كشف ذاتي ناقص لا تكاد تناله يد الجعل بخلاف الاصول فإن الموضوع الجهل بالواقع من غير ملاحظة الكشف فيها أصلا.

والجهة الثالثة ـ أن الكشف الناقص في الأمارات ملحوظ في اعتبارها وخطاب

__________________

(١) الغيبة (للشيخ الطوسي) : ٣٦٠. طبعة مؤسسة المعارف الاسلامية.

٣١٦

.................................................................................................

______________________________________________________

الاعتبار ناظر إلى تتميمه بإلغاء احتمال الخلاف بخلاف الاصول العملية فإنه لو كان للجهل الموضوع جهة كشف لم تلاحظ تلك الجهة في اعتبار الحكم المعبر عنه بمفاد الأصل ، وأما اختلافهما من ناحية الحكم فقد ذكر قدس‌سره أنه في العلم الوجداني جهات أربع حيث إن العلم وهو الصورة المرتسمة للنفس وصف وكشف وفيه جري عملي وتنجيز وتعذير فإن كونه وصفا وجدانيا لا ينبغي التأمل فيه كما أن تلك الصورة المنكشفة بالذات تكشف عن ذي الصورة بالعرض لا كلام فيه وانكشاف ذي الصورة بها يعبر عنه بجهة الكشف ، مثلا : إذا علم العطشان بوجود الماء في المحل الفلاني تكون تلك الصورة المرتسمة محركة له نحو ذلك الماء ليشربه وكل من كونه وصفا وكشفا ومحركا مترتب على ما قبله وكونه محركا وجريا عمليا من كونه تنجيزا وتعذيرا في مرتبة واحدة فالمجعول في الأمارات يختلف عن المجعول في الاصول العملية فإن المجعول في الأمارات هي الجهة الثانية من العلم يعني الكشف عن ذي الصورة بتتميم كشفها الذاتي بإلغاء احتمال الخلاف وبعد هذا الجعل يترتب عليه الجري العملي والتنجيز والتعذير حيث كانا للعلم بالذات بخلاف الاصول العملية فإن المجعول فيها الجري العملي الذي كان للعلم بالبناء على إحراز الواقع كما في الاصول المحرزة أو بالبناء على أحد طرفي الشك من غير بناء على أنه الواقع كما في الاصول غير المحرزة.

أقول : ما ذكره قدس‌سره من كون الجهل بالواقع في الأمارة موردا وفي الاصول موضوعا إن كان المراد اعتبار الأمارة ثبوتا حتى في حق العالم بالواقع فهذا أمر غير معقول ولا فرق في اعتبار الأمارة والأصل ، وأن كلا منهما يعتبر في حق الجاهل بالواقع غاية الأمر يكون اعتبار الأصل في طول اعتبار الأمارة. وإن كان المراد أنه

٣١٧

.................................................................................................

______________________________________________________

لم يذكر في دليل اعتبار الأمارة موضوعا لاعتبارها كما في الرواية التي ذكرها وأما في خطابات اعتبار الاصول يذكر الجهل بالواقع موضوعا لاعتبارها فهذا صحيح في الجملة ولكن لا يطرد كما في قوله عليه‌السلام : إذا لم تعرف الميقات يجزيك أن تسأل أهله أو من يعرفه (١). وما ورد في اعتبار سوق المسلمين بعد ما سألوا الإمام عليه‌السلام عن شراء اللحوم ولا يدري ما صنع القصابون قال : «كل إذا كان ذلك في سوق المسلمين ولا تسأل عنه» (٢) وقد اشتهر التمسك في اعتبار الفتوى بقوله سبحانه (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(٣).

نعم يمكن أن يقال : إن مع أخذ الجهل بالواقع في اعتبار أمر عدم أخذه موضوعا في خطاب أمر آخر يوجب أن يكون الثاني حاكما على اعتبار الأول في مقام اجتماعهما وتعارضهما ، أضف إلى ذلك أنه لو كان للأمارة المعتبرة جهة كشف نوعي فهذا الكشف لا يكون إلّا حكمة لاعتبارها ، وهذه الجهة تجري في بعض الاصول كقاعدة الفراغ كما يفصح عن ذلك قوله عليه‌السلام «حين يتوضأ أذكر» (٤) ومع ذلك لا تعتبر مثبتات قاعدة الفراغ ، وعلى الجملة مجرد كون شيء أمارة لا يقتضي اعتبارها في لوازمها العقلية والعادية بل الالتزام باعتبار أمارة حتى بالإضافة إلى ما يترتب على لازمها العقلي والعادي يحتاج إلى ثبوت الدليل عليه نظير ما قلنا بالإضافة إلى لوازم المخبر به أو قيام البينة لموضوع.

__________________

(١) انظر من لا يحضره الفقيه ٢ : ١٩٨.

(٢) وسائل الشيعة ١٦ : ٢٩٤ ، الباب ٢٩ من أبواب الذبائح ، وفيه حديث واحد.

(٣) سورة النحل : الآية ٤٣.

(٤) وسائل الشيعة ١ : ٣٣١ ، الباب ٤٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٧.

٣١٨

الموارد التي وقع الخلاف فيها في الاصول الجارية فيها

ثمّ بعد ما ذكرنا في عدم اعتبار الاصول في مثبتاتها وقع الخلاف في بعض الاصول في بعض الموارد أنها مثبتة فيها أم لا وينبغي التعرض لها :

منها ـ ما إذا تلف مال غير بيد شخص وقال مالكه : إن اليد كانت عادية فعلى ذي اليد : ضمانه وقال ذو اليد كان المال أمانة فلا ضمان عليه ، ومثله ما إذا قال المالك : كان المال بيدك بالشراء وإنك اشتريته بكذا فيطالبه بالثمن ، وقال ذو اليد : إنه كان هبة فلا ضمان عليه بالثمن حيث قيل في الفرضين بالضمان لأصالة عدم كون المال أمانة بمعنى عدم إذن المالك في الإمساك به وأصالة عدم هبته ماله ، وقد اورد على ذلك بأن أصالة عدم إذن المالك في الإمساك بماله لا يثبت كون اليد عادية في الفرض الأول كما أن أصالة عدم الهبة لا تثبت وقوع البيع واشتغال ذمته بالثمن مع أن الأصل عدم وقوع البيع وعدم اشتغال ذمته بالبدل وقد يقال في الفرضين بالضمان لقاعدة المقتضي وعدم المانع فإن وضع اليد على مال غير مقتض للضمان إذا لم يثبت المانع المدفوع بالأصل.

أقول : الحكم بالضمان في الفرض الأول صحيح يعني يقدم قول مثبت الضمان ؛ لأن الموضوع للضمان كما ذكرنا في بحث قاعدة ما يضمن وما لا يضمن هو إتلاف مال غير أو تلفه بيده من غير استيمان وهبة أو الإذن في الإتلاف مجانا والمراد بالعدوان هو ذلك كما هو المستفاد من الخطابات الشرعية والسيرة العقلائية والتلف في اليد في الفرض محرز ، والأصل عدم الأذن ، وعدم الاستيمان فيتم الموضوع للضمان ، والعدوان بمعنى الظلم لا أثر له في الضمان.

وأما في الفرض الثاني فمع تلف المال كما هو الفرض يقدم قول مدعي الهبة

٣١٩

.................................................................................................

______________________________________________________

لأصالة عدم وقوع البيع ولا يعارض بأصالة عدم الهبة ؛ لأنها بالإضافة إلى وقوع البيع من الأصل المثبت ولا أثر لوقوعها ونفيها بعد تلف المال حيث إن استحقاق المطالبة بالبدل المسمى أثر للبيع المنفي بالأصل وقاعدة المقتضي وعدم المانع لا أساس لها رأسا غير ما ذكرنا من السيرة العقلائية والمستفاد من الخطابات الشرعية ، وأما إذا كان الاختلاف في البيع والهبة قبل تلف العين فإن كان من يدعي الهبة له ممن لا يجوز استرجاع الهبة منه فالمرجع التحالف لأصالة عدم وقوع البيع ولا عدم وقوع الهبة ؛ لأن لكل منهما أثرا خاصّا ، وإن كان ممن يجوز استرجاع الهبة يقدم قول مدعي الهبة أخذا بإقراره بأن المالك يجوز له استرجاع ماله فلا يكون لأصالة عدم الهبة أثر خاص مع فرض نفوذ إقراره.

ومنها ـ ما إذا اختلف الجاني وولي الميت فادعى ولي الميت أن موت المجني عليه كان بجنايته سواء كانت الدعوى سراية الجناية أو أن جنايته كانت قتلا بأن ادعى أن الملفوف باللحاف كان حيا عند ما قدّه نصفين وأنكر الجاني.

فالمنسوب إلى الشيخ قدس‌سره التردد في المثالين نظرا إلى معارضة أصالة عدم سبب آخر في الفرض الأول ، وأصالة بقاء الحياة عند القدّ في المثال الثاني بأصالة عدم الضمان في كليهما ، وعن العلامة اختيار الضمان ، وعن المحقق عدمه ، ولكن المعارضة بين الأصلين غير واردة في كلام الشيخ ليقال : ظاهر كلامه يعطي التردد في اعتبار الأصل المثبت.

وكيف كان فموضوع الضمان بتعلق القود على الجاني أو الدية عليه استناد الموت إليه بحيث يقال : إنه قتله ، ومن الظاهر أن أصالة عدم سبب آخر في البين في الفرض الأول لا تثبت السراية واستناد الموت إلى الجاني وكذا لا يثبت استصحاب

٣٢٠