دروس في مسائل علم الأصول - ج ٥

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٥

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8438-09-3
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤١٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وعلى الجملة : فالجمع بين ما ذكره من أن نفي الضرر نفي الطبيعي ولكن ادعاء والمصحح للادعاء انتفاء الأثر الثابت للفعل لو لا نفيه بعنوان نفي الضرر وبين الالتزام بالجمع بين الخطاب الدال على ثبوت الأثر للفعل وخطاب نفي الضرر بالعنوان الأولي والثانوي غير تام ، وأيضا قد ذكرنا أن الضرر اسم مصدر فلا بد من أن يكون المنفي ما يكون منه الضرر ويدور ما يكون منه الضرر بين نفس الفعل الضرري وبين التكليف والوضع الموجب رعايتهما الضرر ، وأن يكون النفي في ارادة الفعل الضرري ادعائيا ، بخلاف نفي الحكم من التكليف والوضع الملازم له فإن نفيهما يكون حقيقيا ، ويترتب على نفي التكليف أو الوضع الملازم له أنه لا يعم مدلول نفي الضرر موارد الحكم الترخيصي حتى فيما كان الترخيص في الفعل مطلقا ، بل ينحصر النفي بقاعدة نفي الضرر في موارد ثبوت التكاليف والإلزامات فيما إذا شملت خطاباتها بإطلاقاتها صورة كون التكليف والإلزام ضرريا.

وعلى الجملة بناء على ما ذكرنا من كون نفي الضرر ناظرا إلى التكاليف والإلزامات التي تكون فيها مدلولات الخطابات الشرعية بيانا لعقد الحمل فيها ، وأنه مثلا لم يجعل الوجوب للوضوء أو الغسل أو الصوم إذا كان ضرريا ، وأما الأحكام الترخيصية فيما إذا كان الموجب للضرر اختيار المكلف فلا يكون بالإضافة إليها حكومة ، فإن الضرر لم ينشأ من الترخيص ، نعم الجمع العرفي بين الخطابين بحمل أحدهما على الحكم بالعنوان الأولي والآخر على الحكم بالعنوان الثانوي يصح بالإضافة إلى فقرة لا ضرار بناء على أن نفيه بمعنى تحريم الإضرار بالغير ، وتكون النتيجة بمقتضى الجمع مثلا جواز الفعل في غير صورة الإضرار بالغير وعدم الجواز معه.

١٠١

.................................................................................................

______________________________________________________

وكذا يصح الجمع بهذا النحو بتقييد خطابات التكاليف بقاعدة نفي الضرر بناء على أن معنى لا ضرر ولا ضرار بمعنى تحريمهما ، فالوضوء الضرري يكون حراما فيقيد لا محالة وجوبه واستحبابه بما إذا لم يكن ضرريا ، وكذا غيره من الأفعال المحكومة بالجواز بالمعنى الأعم بحيث يشمل الوجوب والاستحباب والإباحة بالمعنى الأخص ، والفرق بين كون نفي الضرر تحريما للضرر أو نفيا لوجوبه عند كونه ضرريا ، أنه إذا توضأ المكلف مع كونه ضرريا يحكم ببطلانه ، بناء على تحريم الضرر حيث إن تحريمه يعم الضرر على المكلف ، بخلاف الضرار فإنه ظاهر في إضرار الغير ولا يعم ضرر الفاعل ، وأما بناء على كون لا ضرر نفي الوجوب الضرري فلا يحكم ببطلانه إلّا إذا كان الضرر بحيث يعد جناية على النفس فيحرم إيراد ذلك الضرر ولو كان على نفسه ؛ لأنّ خطاب نفي الضرر وإن يرفع وجوب الوضوء ، ولكن لا يرفع استحبابه ما دام لم يصل إلى حدّ الضرر المحرم ، بخلاف ما إذا قيل بأن معنى لا ضرر تحريم الضرر مطلقا وإن لم يكن بتلك المرتبة فإن تحريمه مطلقا يوجب التقييد في خطاب استحباب الوضوء أيضا.

وعلى الجملة التقييد في أدلة التكاليف بقاعدة نفي الضرر بنحو الجمع العرفي يصح بناء على مسلك شيخ الشريعة من كون نفي الضرر والضرار بمعنى تحريمهما ، فالوضوء الضرري يكون محرما فيقيد إطلاق خطاب الأمر بالوضوء عند القيام إلى الصلاة ونحوها بما إذا لم يكن ضرريا.

ثم إنه قد يستشكل في الأخذ بعموم قاعدة نفي الضرر في غير الموارد التي قام فيها دليل خاص لنفي الحكم الضرري أو عمل فيها المشهور بالقاعدة ، وذلك لثبوت الأحكام والتكاليف الضررية في الشريعة كثيرا ، بدوا من الحكم بتنجس المائعات

١٠٢

.................................................................................................

______________________________________________________

بملاقاة النجاسة المسقط لها عن المالية رأسا أو موجبا لنقص ماليتها كما هو الحال في بعض الجامدات ، كتنجس الجلود حيث تنقص ماليتها بالغسل ، وختما إلى أبواب الغرامات من الضمانات المالية وغيرها كالحدود والتعزيرات ، فإن كل واحد من الأحكام المشار إليها كوجوب الخمس والزكاة والجهاد وغير ذلك أحكام ضررية ثبتت في الشريعة ، ولا يمكن تخصيص القاعدة بخروج هذه الموارد بمخصص منفصل ، لاستهجان تخصيص العام بحيث لا يبقى تحته إلّا القليل ، فيعلم أن نفي الضرر كان مقترنا بقيد غير واصل إلينا فيكون خطاب نفيه مجملا لا يمكن التمسك به إلّا مع إحراز أن نفي الضرر مع القيد المزبور يعم المورد ، كما إذا عمل المشهور فيه بالقاعدة ، والقيد المنكشف لا يتعين بكونه من قبيل القرينة اللفظية ، بل يمكن كونه من قبيل قرينة الحال.

كثرة التخصيص في قاعدة لا ضرر

قد يجاب عن الإشكال كما عن الشيخ قدس‌سره باختصاص الاستهجان بما إذا كان المخصص متعددا وبعناوين كثيرة ، وأما إذا كان خروج الأفراد الكثيرة بورود مخصص يخرج الكثير بعنوان واحد فلا استهجان فيه ، ولكن لا يخفى عدم الفرق في الاستهجان بينهما ، كما إذا ورد في خطاب المولى لعبده : أكرم كل عالم في البلد ، وفرض أنّ كلهم من غير الهاشميين إلّا واحد أو اثنين أو ثلاثة ، فإنه كما يستهجن إخراج البقية بالخطابات المتعددة ، كذلك ما إذا كان بخطاب واحد بأن يرد خطاب يذكر فيه : لا تكرم غير الهاشمي من علماء البلد ، إلّا إذا كان بنحو النسخ ، والمفروض في المقام خلافه ، نعم قد يقال : إن الاستهجان يختص بما إذا كان العام بمفاد القضية الخارجية كالمثال المتقدم ، وأما إذا كان بمفاد القضية الحقيقة فقلة الأفراد بعد

١٠٣

.................................................................................................

______________________________________________________

تخصيص ذلك العام غير مستهجن ، وذلك : لأنّ القضية الحقيقية غير ناظرة إلى الفرد الخارجي إلّا بنحو الفرض والتقدير ، فيمكن أن لا يكون للعام فرد خارجا بالفعل ، ولكن مفاد خطاب قاعدة نفي الضرر قضية خارجية على ما تقدم في تقريب حكومتها على أدلة الأحكام المجعولة ، وأنه ليس في مدلولاتها من الأحكام حكم ضرري ، فالالتزام بالتخصيص بخطاب آخر ولو بعنوان واحد لا يوجب ارتفاع الاستهجان.

والتزم هذا القائل بأن الإشكال بلزوم تخصيص الأكثر غير صحيح ، فإن الموارد المشار إليها في الإشكال قسم منها ما يكون أصل الحكم والتكليف المجعولين في الشريعة ضرريا ، كما في تنجس المائعات بملاقاة النجاسة وكذا بعض الجامدات على ما تقدم ، وكذا تعلق الزكاة بالمال الذي يعتبر في تعلقها به دوران الحول ، وقاعدة نفي الضرر غير ناظرة إلى نفي هذه الأحكام لقيام الدليل على ثبوت الحكم والتكليف مع كونهما في أصلهما ضرريين ، وقسم منها لا يرتبط أصلا بمدلول قاعدة نفي الضرر كالموارد التي قام الدليل فيها على تدارك الضرر والجناية ، نظير ضمان المال المتلف في يده بإفراط أو تفريط ، أو ضمان المال الذي أتلفه ودية الجناية التي ارتكبها ، فإنّ هذه الموارد غير داخلة في عموم نفي الضرر فإن مفادها نفي الحكم والتكليف الموجب للضرر ، لا نفي الحكم الموجب لتدارك الضرر ، فإن شئت قلت نفي الضرر كنفي ما اضطروا إليه وما استكرهوا عليه للامتنان ، ولا امتنان لنفي الضرر في موارد تدارك الضرر ، فإن الحكم بعدم التدارك يفتح بابا لانتشار الضرر ، نظير المصلحة الملزمة في القصاص الذي يفصح عنه قوله سبحانه : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي

١٠٤

الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(١) ، ولذا يمكن دعوى أن خروج الموارد التي يكون التكليف في أصله ضرريا للمصلحة الموجودة في متعلقه جعله امتنان ، فلا يعم مواردها قاعدة نفي الضرر ، وهذه الدعوى على إطلاقها محل تأمل ، إلّا أنه إذا كان من قبيل جعل الحكم والتكليف لواقع الضرر بخصوصه فلا يرتفع كسائر الأحكام الموضوعة لعنوان الخطأ والنسيان وغيرهما.

وعلى الجملة : قاعدة نفي الضرر لا تشمل الموارد التي يكون الحكم والتكليف فيها موجبا لعدم نفع المكلف ، كموارد تعلق الخمس بالمال حيث إن المكلف لا يملك من الربح مقدار الخمس ، وكذا لا يشمل موارد الحكم بتدارك الضرر ، بل لا يكون تخصيصها بالدليل القائم على ثبوت الحكم والتكليف الضرريين في أصلهما ، نعم ثبوتهما في مورد كونهما ضررين كشراء ماء الوضوء ولو بثمن غال تخصيص ، وهذه الموارد ليست بحيث يوجب خروجها عن قاعدة نفي الضرر الاستهجان في خطاب نفيه ، فيؤخذ بعموم القاعدة في الموارد التي يقتضي إطلاق خطاب التكليف والوضع اللازم له ثبوتهما حتى في حال كونهما ضرريين ، ويحكم باختصاصهما بغير حال الضرر ، وإذ قام دليل على ثبوت ذلك الحكم حتى في حال كونه ضرريا في مورد يكون مخصصا للقاعدة كقيام الدليل على تنجس الزيت والمرق بملاقاة النجاسة أيضا كسائر الأشياء الطاهرة ، وقد ظهر مما ذكرنا أن قاعدة نفي الضرر تنحصر حكومتها على الموارد التي يكون إطلاق خطاب التكليف أو الوضع الملازم له مقتضيا لثبوت ذلك التكليف والوضع حتى في مورد كونهما

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ١٧٩.

١٠٥

.................................................................................................

______________________________________________________

ضرريين فيحكم بعدم ثبوتهما في مورد كونهما ضرريين ، وأما الموارد التي يكون أصل جعل التكليف والوضع ضرريا فيمكن أن يقال بأن خروجها عن القاعدة بالتخصّص ؛ لأنها من قبيل جعل الحكم لعنوان الضرر بخلاف ما إذا كان مقتضى خطاب التكليف أو الوضع الملازم له ثبوتهما حتى في مورد كونه ضرريا ، فيكون الدليل المزبور مخصصا لها نظير قيام الدليل على تنجس الملاقي للنجس ولو كان الملاقي مثل الزيت والسمن والجلود ، فإن الأخذ بإطلاق ما دل على تنجس الطاهر لقيام الدليل الخاص في الزيت والسمن ونحوهما ، وكبقاء الزوجيّة فيما إذا غاب زوجها المعلوم حياته فإنه تبقى الزوجية ما لم يطلقها زوجها ، وإن لم يكن في البين من ينفق عليها من قبل زوجها.

موارد حكومة قاعدة نفي الضرر ، وإن المراد بالضرر الضرر الواقعي

الأمر الثاني : قد تقدم أن المنفي بقاعدة نفي الضرر كل حكم يقتضي إطلاق خطابه وعمومه ثبوته في مورد الضرر ، فإن لم يقم دليل خاص على ثبوته في ذلك المورد مع كونه ضرريا ينفى بقاعدة نفي الضرر ، والضرر من العناوين الواقعية التي لا دخل للعلم والجهل فيهما ، وعليه فلو فرض كون لزوم البيع ضرريا يرتفع سواء كان المكلف عالما بحال البيع والشراء أو جاهلا به ، مع أنهم ذكروا في خياري العيب والغبن أنّ المشتري إن كان عالما بحال المبيع ، وأنه معيوب أو أنّ القيمة السوقية أقل مما يشترى بها ، فلا يثبت له خيار العيب أو الغبن ، وكذلك ذكروا أن المكلّف لو كان جاهلا بحال الوضوء أو الغسل من كونهما ضرريين فتوضأ أو اغتسل يحكم بصحة وضوئه وغسله ، ولو كان الحكم الضرري منتفيا ، لزم الحكم بثبوت خياري العيب والغبن في الصورة الاولى ، وبفساد الوضوء أو الغسل في الصورة الثانية ، ولكن

١٠٦

.................................................................................................

______________________________________________________

لا يخفى ما فيه ، فإنه قد ذكرنا سابقا عدم كون الدليل على ثبوت خيار الغبن والعيب هو قاعدة نفي الضرر ، بل هو مقتضى اشتراط السلامة وعدم اختلاف القيمة السوقية مع الثمن المسمى باختلاف لا يتسامح فيه ، ومع علم المشتري بحال المبيع من كونه معيبا أو مع علمه بالاختلاف الفاحش بين القيمتين بلا اشتراط بين المتبايعين ، نعم أصل صحة البيع في مورد الغبن أو العيب وإن يكن ضرريا ، إلّا أن قاعدة نفي الضرر لا تنفي الصحة ؛ لأنّ نفيها خلاف الامتنان ، فإنّ المشتري مع جهله بالحال يمكن له فسخ المعاملة بتخلف شرطه ، والعالم بالحال ربما يكون غرضه الوصول إلى المعيب أو المثمن ولو بثمن غال ، ونفي الصحة سدّ لوصوله إلى غرضه ، ولذلك قد فرقوا بين إكراه شخص بمعاملة أو اضطراره إليها ، وقالوا إن نفي الإكراه يرفع صحة المعاملة المكره عليها ، لكون الرفع موافقا للامتنان ، ورفع الاضطرار لا يعم المعاملة المضطر إليها لكون رفعها بعدم إمضائها خلاف الامتنان ، وبهذا يظهر الحال في الوضوء والغسل الضرريين ، فإنه لو كان الضرر المترتب على الوضوء أو الغسل بحيث لا يحرم ارتكابه يمكن أن يحكم بصحته ، نظير كون الوضوء أو الغسل حرجيّا فإنّ قاعدة نفي الضرر كقاعدة نفي الحرج ، لا تعم الفرض لكون الرفع خلاف الامتنان مع الغفلة عن الضرر ، بل لو حكم بعدم وجوبهما أمكن الحكم بصحتها بأدلة استحباب الوضوء والغسل كقوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)(١) بخلاف ما إذا كان الضرر بحيث يكون إيراد ذلك الضرر محرما على المكلف ، فإن الفعل فيه غير قابل للتقرب به ، وهذا بخلاف ما إذا صام المكلف في شهر رمضان مع كونه مريضا

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ٢٢٢.

١٠٧

.................................................................................................

______________________________________________________

يضرّ به الصوم فإنه يحكم ببطلانه حتى فيما إذا اعتقد عدم الضرر ، وذلك لا لحكومة قاعدة نفي الضرر على وجوب الصوم ، بل لأنّ المريض لم يشرّع في حقه الصوم إذا أضرّ به ؛ وعلى الجملة فيمكن الالتزام بأن الوضوء أو الغسل مع كونهما ضرريين بضرر لا يحرم إيراده على النفس صحيح ، أخذا ، بعموم أدلة استحباب الطهارة من الحدث ، وحديث لا ضرر لا حكومة له بالإضافة إلى أدلة المستحبات وسائر الأحكام الترخيصية إذا كان الضرر فيها متوجها إلى نفس المكلف ، نعم إذا كان الضرر المتوجه إليه بحدّ الحرام فالوضوء أو الغسل محكوم بالبطلان إلّا في فرض الغفلة والنسيان عن كونهما ضرريين ، بناء على عدم الحرمة الواقعية في حق الغافل ، نظير ما ذكرنا في باب اجتماع الأمر والنهي من أنه مع الغفلة ونسيان الغصب يحكم بصحة الوضوء أو الغسل ، ولو مع كون الماء ملك الغير فيما إذا لم يكن الغافل والناسي هو الغاصب ، ولكن ذكر المحقق النائيني قدس‌سره أن الوضوء أو الغسل في مورد كونهما ضرريين محكوم بالبطلان حتى فيما إذا لم يكن الضرر بحدّ الحرام.

وبتعبير آخر لا فرق بين صوم المريض إذا كان ضرريا وبين الوضوء والغسل الضرريين ، وذكر في وجه ذلك أن المكلف قد قسّم في الآية المباركة إلى واجد الماء وفاقده ، وأن الأول مكلف بالوضوء أو الغسل لصلاته والثاني يجب عليه التيمم لها ، والتقسيم قاطع الشركة ، ومقتضى التخيير بين الوضوء والغسل وبين التيمم مع عدم كون الضرر بحدّ الحرام كون المكلف في زمان واحد فاقد الماء وواجده ، فلا يجتمع هذا مع التقسيم وفيه أن هذا التقسيم بلحاظ وظيفة المكلّف بالإضافة إلى صلاته إذا كان عند القيام إليها محدثا ، وفي موارد كون الوضوء أو الغسل حرجيا أو ضرريا لا بحدّ الحرام يكون الحكم بصحة الوضوء أو الغسل بما دلّ على استحباب الطهارة

١٠٨

.................................................................................................

______________________________________________________

نفسيا للمحدث ، ولا حكومة لقاعدتي نفي الحرج والضرر مع عدم كونه بحد الحرام بالإضافة إلى خطاب استحباب الطهارة ، فيكون الوضوء أو الغسل صحيحا ، ومعه يخرج المكلف عن المحدث المزبور عند قيامه إلى الصلاة هذا أولا ، وثانيا : أن الموضوع لوجوب التيمم للصلاة في الآية المباركة هو من لم يجد الماء ، أي من لم يتمكن من استعماله لفقد الماء أو لمرضه كما هو مقتضى تفريع قوله سبحانه : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً)(١) على قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ ...)(٢) وإذا كان الضرر غير محرم فالمكلف متمكن من استعماله ، ومقتضى التقسيم في الآية لزوم الوضوء أو الغسل في حقه ، فإنما التزمنا بعدم وجوب الوضوء في حقه لقاعدة نفي الضرر كما هو الحال أيضا في موارد كونه حرجيا.

وذكر النائيني قدس‌سره أنه إذا اعتقد الضرر في الوضوء أو الغسل ثم ظهر بعد ذلك عدم الضرر في استعمال الماء يحكم بصحة صلاته ؛ لأنّ المكلف في فرض اعتقاده الضرر لا يتمكن من استعمال الماء ، نظير ما إذا اعتقد عدم الماء فتيمّم وصلى ثم علم أن الماء كان موجودا عنده.

أقول : إنما لا تجب الإعادة فيما إذا اعتقد عدم الماء وتيمّم وصلى إذا كان انكشاف وجود الماء عنده بعد خروج الوقت ؛ لأنّ هذا الانكشاف لا يترتب عليه أثر ؛ لأنه مع اعتقاده عدم الماء في تمام الوقت لا يتوجه إليه خطاب الوضوء أو الغسل للصلاة فيدخل في قوله سبحانه : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) حيث إن المراد منه عدم تمكنه من الوضوء والغسل لصلاته ولو لغفلته عن الماء واعتقاده عدمه ، وأما في فرض

__________________

(١ و ٢) سورة النساء : الآية ٤٣.

١٠٩

.................................................................................................

______________________________________________________

اعتقاد الضرر وحتى مع خوفه من الضرر مع كون الضرر المحتمل مما يحرم إيقاع نفسه فيه كالهلاكة ويجب عليه التحفظ على نفسه منه ، فالأمر كما ذكر في فرض الاعتقاد بعدم الماء من أنه لو انكشف بعد خروج الوقت أنه لم يكن في استعماله ذلك الضرر فيحكم بإجزاء ما صلى في الوقت بتيمم ، نعم إذا انكشف في فرض الاعتقاد بعدم الماء ، وجود الماء عنده حين الصلاة مع التيمم أو عدم الضرر كما ذكر في الوضوء أو الغسل يجب عليه إعادة الصلاة بالطهارة المائية في الوقت ، وأما إذا كان اعتقاده بالضرر في استعمال الماء بالضرر غير المحرّم ، فتيمّم وصلى ثم انكشف بعد خروج الوقت أنه لم يكن في استعماله ذلك الضرر أيضا ، فاللازم الحكم بقضائها ولا يجرى في هذه الصورة حكم الاعتقاد بعدم الماء ، وذلك فإنه بناء على حرمة الإضرار بالنفس بهذه المرتبة كان عليه في الوقت أمر بالصلاة مع الطهارة المائية ، غاية الأمر كان يعتقد أن هذا الأمر استحبابي وكان في الواقع واجبا لعدم الضرر أصلا ، فالصلاة الواجبة قد فاتت فعليه قضاؤها ، هذا كله بالإضافة إلى قاعدة لا ضرر مع قطع النظر عن الروايات الواردة في التيمّم في بعض هذه الفروض ، وإلّا مع النظر إليها فإن الذي اعتقد عدم الماء معه عند صلاته بتيمّم ثم ظهر قبل خروج الوقت وجوده فعليه الإعادة ، وأما إذا اعتقد أو احتمل الضرر المحرم في الوضوء أو الغسل فتيمّم وصلى ثم انكشف قبل خروج الوقت أنه ليس في الوضوء أو الغسل ذلك الضرر فلا يجب عليه الإعادة.

وفي صحيحة أبي بصير قال : «سألته عن رجل كان في سفر ، وكان معه ماء فنسيه فتيمّم وصلى ، ثم ذكر أن معه ماء قبل أن يخرج الوقت ، قال : عليه أن يتوضأ

١١٠

لا الثابت له بعنوانه ، لوضوح أنه العلّة للنفي ، ولا يكاد يكون الموضوع يمنع عن حكمه وينفيه بل يثبته ويقتضيه.

ومن هنا لا يلاحظ النسبة بين أدلّة نفيه وأدلّة الأحكام ، وتقدم أدلّته على أدلّتها ـ مع أنها عموم من وجه ـ حيث إنه يوفق بينهما عرفا ، بأن الثابت للعناوين الأوّلية اقتضائي ، يمنع عنه فعلا ما عرض عليها من عنوان الضرر بأدلّته ، كما هو الحال في

______________________________________________________

ويعيد الصلاة» (١) ، وفي صحيحة عبد الله بن سنان أنه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام : «عن رجل أصابته الجنابة في ليلة باردة يخاف على نفسه التلف إن اغتسل قال : يتيمم ويصلّي ، فإذا أمن البرد اغتسل وأعاد الصلاة» (٢) ، وتحمل الإعادة فيها على الاستحباب أو حصول الأمن قبل خروج الوقت على ما ذكرنا في بحث التيمم من أنّ استمرار الخوف إلى خروج الوقت كاف في جواز التيمم ، كما يشهد بذلك مثل صحيحة داود بن سرحان عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «في الرجل تصيبه الجنابة وبه جروح أو قروح أو يخاف على نفسه من البرد ، فقال : لا يغتسل ويتيمّم» (٣) وظاهره كون الوظيفة مع استمرار الخوف هو التيمّم لصلاته حتى لو فرض عدم الضرر واقعا.

بقي في المقام أمر ، وهو ما يمكن أن يتوهم أن الضرر بالنفس أو الطرف وإن يكن حراما إلّا أنه لا ينطبق على نفس الوضوء ولا يتحدان وجودا فيكون التكليف بالوضوء مع حرمة الإضرار بالنفس أو الطرف من المتزاحمين ، ولازم ذلك الحكم بصحة الوضوء ولو مع علمه بالضرر ، لا أنه يقع التعارض بين الأمر بالوضوء وحرمة الظلم والإضرار بالنفس ليقدم حرمتهما على خطاب الأمر بالوضوء بالتقييد ، بل كما

__________________

(١) وسائل الشيعة ٣ : ٣٦٧ ، الباب ١٤ من أبواب التيمم ، الحديث ٥.

(٢) المصدر السابق : الحديث ٦.

(٣) وسائل الشيعة ٣ : ٣٤٨ ، الباب ٧ من أبواب التيمم ، الحديث ٨.

١١١

.................................................................................................

______________________________________________________

قيل في البين وجودان أحدهما : وصول الماء إلى الأعضاء بالكيفية الخاصة بقصد الوضوء ، والثاني : حصول النقص في النفس والطرف ، وهذا هو الضرر ، ويحصل الثاني بحصول الأول فيتسبب الضرر من حصول الوضوء ، ولكن لا يخفى لو سلّمنا أنّ الضرر على النفس أو الطرف لا يتحد مع الوضوء وجودا إلّا أن الأمر بالوضوء على تقدير عصيان النهي المتعلق بالمسبب أمر غير معقول حتى لو كان الأمر استحبابيا ، كما هو الحال في موارد التركيب الاتحادي وتقديم جانب النهي ، وكما إذا كان الماء منحصرا بالمغصوب لا يمكن الأمر بالوضوء ولو بنحو الترتب ، حيث إن عصيان النهي يكون بحصول الأمر المتحد مع المنهي عنه فيكون الأمر الترتبي به من قبيل طلب الحاصل كلا أو بعضا ، وكذا الحال في موارد تسبب المنهي عنه عما ينطبق عليه عنوان متعلق الأمر كلا أو بعضا ، وفي الفرض بما أن الضرر على النفس أو الطرف بأي سبب حرام ، ومع فرض حصوله بغسل البدن تماما كما في الغسل أو بعضه كما في الوضوء لا يمكن الأمر بهما لكونه من قبيل طلب الحاصل ، ودعوى أنّ الأمر يتعلق بقصد الوضوء أو الغسل على تقدير غسل البدن أو الأعضاء كما ترى ، فإن الأمر بالوضوء أو الغسل طلب إحداثهما لا قصدهما فقط.

وبالجملة مع عدم الأمر بهما ولو ترتبا لا كاشف عن الملاك فيهما ليحكم بصحتهما حتى مع العلم ، نعم مع الغفلة عن كونهما مضرّين يمكن الحكم بصحتهما لسقوط النهي عن الإضرار بالنفس أو الطرف للغفلة ، ويؤخذ بإطلاق الأمر بالوضوء والغسل كما هو المقرر في باب اجتماع الأمر والنهي ، وهذا الأخذ بالإطلاق مبني على سقوط النهي والحرمة مع الغفلة عن الفعل كنسيانه ، وإلّا فالصحة في فرض الغفلة أيضا فيها تأمل بل منع.

١١٢

التوفيق بين سائر الأدلّة المثبتة أو النافية لحكم الأفعال بعناوينها الثانوية ، والأدلّة المتكفّلة لحكمها بعناوينها الأوّلية.

نعم ربما يعكس الأمر فيما أحرز بوجه معتبر أن الحكم في المورد ليس بنحو الاقتضاء ، بل بنحو العليّة التامة.

وبالجملة الحكم الثابت بعنوان أوّلي :

تارة يكون بنحو الفعلية مطلقا ، أو بالإضافة إلى عارض دون عارض ، بدلالة لا يجوز الإغماض عنها بسبب دليل حكم العارض المخالف له ، فيقدّم دليل ذاك

______________________________________________________

ثم إنه قد يستظهر حرمة الإضرار بالنفس بأي مرتبة من الضرر من بعض الروايات كالتي رواها في الكافي في أول كتاب الأطعمة ، حيث ورد فيها «ولكنه خلق الخلق وعلم (عزوجل) ما تقوم به أبدانهم وما يصلحهم فأحلّه لهم وأباحه تفضلا منه عليهم به لمصلحتهم ، وعلم ما يضرّهم فنهاهم عنه وحرّمه عليهم» (١) ، ولكن لا يخفى أن الإضرار بالنفس في مثل هذه الروايات يؤخذ حكمة للتحريم كتحريم الميتة والدم وغير ذلك ، كما يجعل حكمة في النهي التنزيهي في بعض المأكولات ، ومن الظاهر أن لحاظ الإضرار حكمة في بعض الأحكام غير كونه موضوعا للحكم بالحرمة وعلة لها ، وما ينفع في التعدي أو التمسك به هو الثاني لا الأول.

الأمر الثالث : قد يقال بأن قاعدة نفي الضرر كما تكون حاكمة على التكليف والوضع الملازم له ، فيما إذا اقتضى إطلاق خطابهما ثبوتهما حال الضرر ، وكذلك تكون حاكمة على الأحكام العدمية أي عدم الحكم فيما إذا كان عدمه في مورد ضرريا ، مقتضى قوله عليهم‌السلام «الطلاق بيد من أخذ بالساق» (٢) عدم إمضاء الشارع

__________________

(١) الكافي ٦ : ٢٤٢ ، الحديث الأول.

(٢) مستدرك الوسائل ١٥ : ٣٠٦.

١١٣

العنوان على دليله.

وأخرى يكون على نحو لو كانت هناك دلالة للزم الإغماض عنها بسببه عرفا ، حيث كان اجتماعهما قرينة على أنه بمجرد المقتضي ، وأن العارض مانع فعلي ، هذا ولو لم نقل بحكومة دليله على دليله ، لعدم ثبوت نظره إلى مدلوله ، كما قيل.

ثم انقدح بذلك حال توارد دليلي العارضين ، كدليل نفي العسر ودليل نفي الضرر مثلا ، فيعامل معهما معاملة المتعارضين لو لم يكن من باب تزاحم

______________________________________________________

الطلاق الصادر من غير الزوج ، وإذا كان عدم الإمضاء ضرريا بالزوجة كما إذا امتنع الزوج عن إنفاقها وطلاقها يكون للحاكم أن يطلقها ، حيث إنّ عدم إمضائه ضرري بالزوجة فنفيه يكون بإمضائه ، وقد ذكر السيد اليزدي قدس‌سره على ما في ملحقات العروة في مسألة زوجة المفقود وأيّده ببعض الروايات الواردة في زوجة الغائب المفقود خبره ، وكذا فيما حبسه شخص وشردت دابته فإن الحكم بعدم ضمان الحابس ضرر على المالك المحبوس ، فيكون مقتضى رفع الضرر ضمانه ، ونظيره ما إذا حبسه فأبق عبده أو فتح قفصه وطار طيره ، ولكن لا يخفى أن الحكم بالضمان في هذا وما قبله من قبيل تدارك الضرر الناشئ عن اختيار الحابس وإرادته ، وقاعدة نفي الضرر لا تتكفل بحكم تدارك الضرر على ما تقدم ، ودعوى أن فتح القفص أو حبس المالك يعد إتلافا لطيره أو دابته لا يمكن المساعدة عليها مطلقا ، نعم إذا صح الاستناد في مورد فلا بأس بالأخذ بقاعدة الإتلاف التي تقدم عدم حكومة قاعدة لا ضرر بالإضافة إليها ، وأما إثبات صحة طلاق غير الزوج مع امتناعه عن إنفاقها فهو أيضا لا يمكن ؛ لأنّ الضرر ينشأ من ترك إنفاق الزوج وطلاق الحاكم يكون تداركا للضرر ، وإلّا فالضرر في نفس بقاء الزوجية ، فيكون مقتضى قاعدة نفيه انفساخ الزوجية ، نعم جعل الشارع لتخلّصها طريقا فيما إذا امتنع الزوج عن إنفاقها وطلاقها ، فإنّ للحاكم الطلاق بعد

١١٤

المقتضيين ، وإلّا فيقدّم ما كان مقتضيه أقوى وإن كان دليل الآخر أرجح وأولى ، ولا يبعد أن الغالب في توارد العارضين أن يكون من ذاك الباب ، بثبوت المقتضي فيهما مع تواردهما ، لا من باب التعارض ، لعدم ثبوته إلّا في أحدهما ، كما لا يخفى ، هذا حال تعارض الضرر مع عنوان أولي أو ثانوي آخر.

وأما لو تعارض مع ضرر آخر فمجمل القول فيه أن الدوران إن كان بين ضرري شخص واحد أو اثنين فلا مسرح إلّا لاختيار أقلهما [١]. لو كان ، وإلّا فهو مختار.

______________________________________________________

ثبوت ذلك عنده وهذا لا يرتبط بنفي الضرر وقاعدة نفيه ، ومما ذكرنا يظهر الحال فيما هو المبتلى به في عصرنا من تحمل الدائن بعض المصارف لتحصيل الدين على مديونه الممتنع عن الأداء ، أو استخلاص ملكه عن يد الغير الغاصب ، حيث إن الحكم بالضمان من قبيل تدارك الضرر يكون بامتناع المديون أو إمساك الغاصب داعيا له إلى صرف المالك المال ، لا أنه سبب له بحيث يستند التلف إليه لا إلى المالك.

[١] يقع الكلام في حكم تعارض الضررين في مسائل : الاولى ، ما إذا دار أمر المكلف بإيراد أحد ضررين يكون كل منهما من قبيل الإضرار بالنفس لا بالغير ، والثانية : ما إذا دار أمره بين ضررين يكون كل منهما من قبيل الإضرار بالغير ، الثالثة : ما إذا دار أمره بين ضرر نفسه وضرر الغير.

أما المسألة الاولى : فإن كان كل من الضررين من قسم غير الحرام أو أحدهما محلّل والآخر محرّم ، فيتخير في الأول ، ولزم اختيار المحلل في الثاني ، وأما إذا كان كل منهما محرّما فلا ينبغي التأمل في دخول الفرض في المتزاحمين ، ويتعين اختيار المهم والاجتناب عن الأهم أو محتمل الأهمية ، ومع التساوي أو احتمال الأهمية في كل منهما يكون الحكم هو التخيير على ما هو المألوف في باب التزاحم ، وبهذا يظهر

١١٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الحال في المسألة الثانية ، فإن الاضرار بالغير بكل من الضررين محرم ، فلا بد من اختيار الأخف ، وملاحظة احتمال الأهم ، ويترتب على ذلك أنه إذا أدخل رأس دابته في إناء شخص آخر فإن للحاكم الأمر بكسر الإناء ، فيما إذا لم يتراضيا بغيره ، ويكون ضمان تلف الإناء عليهما بقاعدة العدل والإنصاف ، فإنه لا يمكن للحاكم ذبح الحيوان أو الأمر به ، حيث لا موجب لإدخال الضرر الكثير عليهما ، نعم إذا كان إدخال رأسها بفعل شخص ثالث لا يبعد تخيير الثالث في اختيار كسر الإناء أو ذبح الحيوان ؛ لأنه مكلف بإيصال أحد المالين إلى مالكه بعينه ، والآخر إلى الآخر ببدله وضرر الإتلاف يتوجه إلى نفسه.

ومن هنا لو كان الإدخال بفعل أحد المالكين يتوجه عليه إتلاف مال نفسه ، وتخليص مال صاحبه لو لم يرض صاحبه بإتلاف ماله مع الضمان أو بدونه ، فإن إتلاف مال نفسه مقدمة لإيصال مال صاحبه إليه ، لا يقال : إتلاف مال نفسه ضرري بالإضافة إليه فينفى بقاعدة لا ضرر ، فإنه يقال : لا حكومة لقاعدة نفي الضرر في المقام حيث إن نفي وجوب رد مال صاحبه إليه ضرري مع أنه أقدم على ضرر نفسه بإدخاله رأس الحيوان في الإناء.

وهذا فيما إذا لم يحرز أهمية التحفظ على أحد الضررين ، وإلّا يتعين الاحتفاظ عليه ولو كان بفعل أحد المالكين ، كما إذا أدخل مالك العبد رأس عبده في قدر شخص آخر ، أو أدخل العبد رأسه فيه ، أو أدخل شخص آخر رأسه حيث يجب التحفظ على النفس المحترمة.

وأما المسألة الثالثة : وهي ما إذا دار الأمر بين ضرر نفسه والإضرار بالغير ، ويلحقها ما إذا دار الأمر بين حرمانه وعدم انتفاعه بملكه وبين ضرر الغير ، كما لو كان

١١٦

.................................................................................................

______________________________________________________

حفر البالوعة في داره إضرارا بالجار ، وترك حفرها ضررا عليه أو فيه حرج عليه ، وقد يقال : فيما إذا كان حفرها إضرارا بالجار وترك حفرها حرجا أو ضررا على نفسه بالجواز ، فإنه في صورة الحرج في ترك حفرها ترتفع حرمة الإضرار بنفي الحرج ، وفي صورة تضرّره إما يكون حديث نفي الضرر والإضرار مجملا للعلم بخروج الفرض إما من صدر الحديث أو من ذيله ؛ لأنّ جواز تصرفه في ملكه بحفرها إضرار بالجار وحرمة حفرها ضرر على نفسه ، فلا يمكن التمسك بشيء من الصدر والذيل فيرجع إلى أصالة البراءة بالإضافة إلى احتمال الحرمة في التصرف في ملكه بحفرها ، وأما لأنّ فقرة لا ضرار لا يمكن التمسك بها فإنها للامتنان ، ولا امتنان في ترك الإضرار بالغير بحرمانه من التصرف في ملكه إذا كان في تركه ضرر على نفسه ، فيرجع إلى عموم ما دل على جواز تصرف المالك في ملكه وعموم سلطنته.

ولكن لا يخفى أنه لو كان ترك التصرف في ملكه وحرمانه عن الانتفاع به بحفر البالوعة فيه حرج لا يرتفع بقاعدة نفي الحرج ، حرمة الإضرار بالغير ؛ لأنّ قاعدة نفي الحرج كقاعدة نفي الضرر مورد جريانها موارد الامتنان في الرفع ، ولا امتنان في رفع حرمة الإضرار بالغير ، فيؤخذ فيه بقاعدة نفي الحرج.

وعلى الجملة : لا يجرى في الفرض لا قاعدة نفي الحرج ولا نفي الضرر ، وعلى ذلك فإن كان في البين عموم أو إطلاق يدل على جواز تصرف المالك في ملكه ولم يرفع اليد عن إطلاقه فيما كان ذلك التصرف إضرارا بالغير وعدوانا عليه فهو ، وإلّا فالتصرف المزبور محكوم بعدم الجواز إلّا إذا كان التصرف بحيث لا يتضرر الجار به ، ولو فرض أن الضرر يتوجه إلى شخص لا بفعل شخص آخر فلا يجوز له دفع الضرر عن نفسه بإيراده على الغير ، بخلاف ما إذا كان الضرر متوجها إلى ذلك الغير لا بفعله

١١٧

وأما لو كان بين ضرر نفسه وضرر غيره ، فالأظهر عدم لزوم تحمله الضرر ، ولو كان ضرر الآخر أكثر ، فإن نفيه يكون للمنّة على الأمة ، ولا منّة على تحمل الضرر ، لدفعه عن الآخر وإن كان أكثر.

نعم لو كان الضرر متوجها إليه ، ليس له دفعه عن نفسه بإيراده على الآخر ، اللهمّ إلّا أن يقال : إن نفي الضرر وإن كان للمنّة ، إلّا أنه بلحاظ نوع الأمة ، واختيار الأقل بلحاظ النوع منّة ، فتأمل.

______________________________________________________

فإنه لا يجب عليه إيراد الضرر على نفسه بدفعه عن الغير ، فإنّ توجيه الضرر إلى الغير لدفعه عن نفسه داخل في عنوان التعدي والإضرار على الغير ، ولا حكومة في الفرض لقاعدتي لا ضرر ولا حرج ، نعم إذا كان دفع الضرر عن نفسه أهم وإيراد الضرر على الغير مهم ، كما إذا توقف حفظ حياته على إتلاف مال الغير تعين دفع الضرر عن نفسه ولو باتلاف مال الغير ، كما إذا توقف حفظ حياة الجالس في السفينة على إلقاء مال الغير الموجود فيها في البحر ، جاز إذا أكره بالقتل إذا لم يدفع إلى المكره (بالكسر) مال الغير ، ولا يبعد الالتزام بعدم الضمان أيضا لو لم يكن الإمساك بمال الغير لتلفه بغرق السفينة ، أو بأخذ المكره لا محالة ، وأما إذا لم يكن الأمر كذلك بأن لم يكن مال الغير تالفا لو لا إتلافه ، فإتلافه وإن كان جائزا إلّا أنه يوجب الضمان ، فإنّ الضمان لا ينافي جواز الفعل تكليفا ، وقاعدة نفي الضرر لا تنفي ضمان الإتلاف ، فإن الضمان من الأحكام المجعولة لعنوان الضرر على الغير بل نفيه خلاف الامتنان ، وقد يقال من هذا القبيل أي من قبيل توجه الضرر إلى الغير ما إذا أكرهه شخص على أخذ مال الغير ودفعه إلى المكره (بالكسر) ، وإلّا يأخذ ذلك المكره (بالكسر) من نفس المكره (بالفتح) بدعوى ما تقدم ، من أنه لا يجب دفع الضرر المتوجه إلى الغير بتحمله ، ولكن لا يخفى ما فيه فإن متعلق الإكراه في الفرض الجامع بين الأمرين ،

١١٨

.................................................................................................

______________________________________________________

أحدهما : وهو دفع المال عن الغير تصرف حرام ، والآخر : محلل وهو دفع ماله فلا موجب للبين لحلية التصرف في مال الغير ، ولو كان أقل لعدم جريان قاعدة لا ضرر ولا حرج ، لكون رفع حرمة التصرف في مال الغير خلاف الامتنان ، نعم إذا كان ضرر المكره عليه بحيث يجب التحفظ منه فيجوز التصرف في مقام التزاحم ، كما ذكرنا ذلك في قضية سمرة وفي المثال المتقدم في المقام.

١١٩
١٢٠