عمدة الأصول - ج ٦

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٦

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: ولي عصر (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٣

وجه لما أفاده بعض المعاصرين من اختصاص الطرف الآخر بجريان البراءة أو الحلّ فيه بلا معارض إذ مع قيام البينة والأمارة لا مجال للأصل فلا تغفل.

فتحصّل : ممّا تقدم إلى حد الآن أنّ العلم الإجمالي منجز كالعلم التفصيلي ولكنّ التنجيز في العلم الإجمالي معلق على عدم الترخيص الظاهري وذلك لكون العلم الإجمالي مشوبا بالشك دون العلم التفصيلي فالترخيص في أطراف العلم الإجمالي ممكن بالنسبة إلى المخالفة القطعية فضلا عن المخالفة الاحتمالية والاكتفاء بالموافقة الاحتمالية هذا كلّه بحسب مقام الثبوت وأمّا بحسب مقام الاثبات فقد عرفت أنّ مقتضى الأدلة بعد الجمع بينهما هو عدم جواز الترخيص في المخالفة الاحتمالية فضلا عن المخالفة القطعية فيجب الاحتياط التام في أطراف الشبهة المحصورة التي تكون أطرافها محلّ الابتلاء ولا فرق في ذلك بين أن يكون المعلوم الإجمالي من نوع واحد أو من نوعين فإذا علم بوجوب شيء أو حرمة شيء آخر وجب عليه اتيان هذا الشيء وترك ذلك الشيء الآخر لأنّ كلا من الوجوب والحرمة تدخل في عهدة المكلّف بالعلم الإجمالي وخصوصية الفعل أو الترك لا مدخلية لهما والمفروض هو امكان الاحتياط باتيان طرف محتمل الوجوب وترك الطرف الآخر الذي يكون محتمل الحرمة فلا تغفل.

ولا تفاوت أيضا فيما ذكر بين أن يكون العلم الإجمالي علما وجدانيا أو علما تعبديا كما إذا قامت البينة الشرعية على نجاسة أحد الإنائين.

ودعوى : أنّ القطع الوجداني بالإرادة الإلزامية خارج عن محلّ البحث لأنّه لا يجتمع مع احتمال الترخيص فضلا عن القطع به كما أفاد سيّدنا الإمام قدس‌سره (١).

مندفعة : بما عرفت من أنّ شوب العلم الوجداني بالشك يوجب المجال للترخيص الشرعي ومعه يكون حكم العقل بالتنجيز تعليقيا على ما إذا لم يرد من الشارع ترخيص فيه فمع الترخيص لا يبقى الحكم الواقعي المعلوم بالعلم الإجمالي على ما هو عليه من الفعلية

__________________

(١) تهذيب الاصول / ج ٢ ، ص ٢٤٨.

٨١

كما لا يبقى على ذلك في موارد قيام الأمارات عند عدم الاصابة وعليه فبحسب الأدلّة العامة لا فرق بين القطع الوجداني والتعبدي في أنّ مقتضاها هو البراءة كما لا فرق فيهما بحسب الأدلة الخاصة التي كان مقتضاها هو لزوم الاحتياط فتدبّر جيدا.

تنبيهات :

التنبيه الأوّل : في أنّه لا فرق بين الأمور الدفعية والتدريجية في وجوب الاحتياط والوجه فيه أنّه لا تفاوت في حكم العقل بوجوب الاحتياط وتنجيز العلم الإجمالي بين كون الواجب المعلوم بين الأطراف واجبا مطلقا كما في الدفعيات أو واجبا معلقا كما في التدريجيات بناء على امكان الواجب المعلق كما قررنا في محله لفعلية الوجوب على كلتا الصورتين وان كان زمان الواجب في المعلق استقباليا وهذا واضح وأمّا بناء على عدم تصور الواجب المعلق وكون الواجب مشروطا بشرط يحصل فيما بعد فان لم يعلم بحصول الشرط فيما بعد فلا علم بالتكليف الفعلي عند تردده بين أن يكون فعليا وأن يكون مشروطا بشرط غير الحاصل كما في بعض التدريجيات وحينئذ فلا مانع من الرجوع إلى مقتضى الاصول في الأطراف وإن علم بحصول الشرط في وقته فهو كالواجب المطلق في الحكم لكفاية كون التكليف في ظرف وجوده فعليا ومعلوما عند العقلاء للحكم بالتنجيز وهذا المعنى حاصل في المقام ولعلّ إليه يؤول ما في الدرر حيث قال وأمّا بناء على ما قلنا في مبحث مقدمة الواجب أخذا من سيّدنا الاستاذ طاب ثراه من انقسام الواجب إلى المطلق والمشروط وعدم ثالث لهما وأنّ المقدمات الوجودية للواجب المشروط بعد العلم بتحقق ما هو شرط الواجب في محله وإن لم يتحقّق بعد محكومة بالوجوب فاللازم الحكم بالاحتياط في المثال مطلقا فإنّ حكم الواجب المشروط بعد العلم بتحقق شرط الوجوب في محلّه وإن لم يتحقّق بعد حكم الواجب المطلق على هذا المبنى (١).

__________________

(١) الدرر ، ص ٤٦١ ـ ٤٦٢.

٨٢

والحاصل : أنّ بناء العقلاء في مثل ما ذكر على الاحتياط.

قال السيّد المحقّق الخوئي قدس‌سره تبعا لشيخه الاستاذ النائيني قدس‌سره والتحقيق هو ما ذهب إليه المحقّق النائيني قدس‌سره من تنجيز العلم الإجمالي وعدم جواز الرجوع إلى الأصل في شيء من الطرفين أمّا فيما تم فيه الملاك فعلا فلأنّ الترخيص في تفويت الملاك الملزم فعلا بمنزلة الترخيص في مخالفة التكليف الفعلي إذ عدم فعلية التكليف إنّما هو لوجود المانع مع تمامية المقتضي وهو لا يرفع قبح الترخيص في تفويت الملاك الملزم.

وأمّا فيما لم يتم فلما تقدم في بحث مقدمة الواجب من استقلال العقل بقبح تفويت الملاك الملزم في ظرفه بتعجيز النفس قبل مجيء وقته كاستقلاله بقبح تعجيز النفس عن امتثال التكليف الفعلي ولا فرق في قبح التفويت بحكم العقل بين كونه مستندا إلى العبد كما تقدم وبين كونه مستندا إلى المولى بترخيصه في ارتكاب الطرف المبتلى به فعلا وترخيصه في ارتكاب الطرف الآخر في ظرف الابتلاء فإنّه ترخيص في تفويت الملاك التام الملزم وهو بمنزلة الترخيص في مخالفة التكليف الواصل وعصيانه في حكم العقل (١).

وقد عرفت أنّه لا مانع من الترخيص في مخالفة التكليف في أطراف المعلوم بالإجمال في الفعلين منه فضلا عن الترخيص في تفويت الملاك في التدريجين وذلك لشوب العلم الإجمالي بالشك كما مر مفصلا.

وعليه فالاستدلال بحكم العقل على قبح الترخيص في تفويت الملاك سواء تمّ الملاك فعلا أو لم يتم كما ترى هذا مضافا إلى أنّ فرض التمامية فعلا للملاك مع دخالة الشرط الذي لا يجيء لا يخلو عن التهافت وأيضا لا تكليف لنا بالنسبة إلى الملاكات كما لا يخفى وعليه فالأولى هو الاستدلال بما ذهب إليه شيخ مشايخنا المحقّق الحائري قدس‌سره من أنّ الواجب المشروط مع العلم بتحقق شرطه في ظرفه كالواجب المطلق في وجوب مقدماته الوجودية والعلمية وإن كان الوجوب المشروط باقيا على عدم فعليته بالفعل ولعلّ وجهه هو بناء

__________________

(١) مصباح الاصول / ج ٢ ، ص ٣٧١ ـ ٣٧٢.

٨٣

العقلاء على الاحتياط في مثل المورد ولا حاجة إلى الاستدلال بحكم العقل حتّى يرد عليه ما ذكر كما هو الظاهر قال سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره حيث قال تبعا لشيخه الاستاذ الحائري قدس‌سرهما إنّ التحقيق عدم الفرق في منجزية العلم الإجمالي بين كون الأطراف حاصلا فعلا وبين التدريجيات في عمود الزمان كان التكليف مطلقا أو معلقا أو مشروطا أمّا في الاولين فواضح لعدم الفرق لدى العقل بين حرمة مخالفة المولى قطعا أو احتمالا في ارتكاب الأطراف المحققة فعلا أو في ارتكابها مع تحققها تدريجا فلو علم بحرمة شيء عليه إمّا في الحال أو في زمان مستقبل يحكم العقل بوجوب تركهما في كلا الحالين فالتكليف الواقعي منجز عليه وكذا الأمر في الواجب المشروط فإنّه مع العلم بتحقق شرطه في محله كالواجب المطلق من هذه الحيثية فتدبّر (١).

ويشكل ذلك بأنّه إن اريد وجوب المقدمة شرعا بحكم العقل في المقدمات التي لا يمكن تحصيلها في وقت ذيها فهو غير معقول لأنّ وجوب المقدمة شرعا وجوب معلولي منبعث عن وجوب ذيها فيتبعه في الفعلية ومع الالتزام بعدم فعلية وجوب ذيها كيف يعقل فعليه وجوبها والعلم بتحقق الشرط في ظرفه لا يؤثر في المعلوم باخراجه إلى الفعلية والعقل يستحيل أن يحكم بمثل هذا الوجوب المعلولي.

وإن اريد حكم العقل بمجرد اللزوم واللّابديّة نظرا إلى حكمه باستحقاق العقاب على ترك الواجب في وقته بترك هذه المقدمة التي لا يمكن تحصيلها في وقته فعلى فرض تسليمه لا يجدي في وجوب الغسل شرعا قبل الفجر حتّى يؤتى به بقصد الأمر.

والتحقيق امكان الفرق بين المقدمات الوجودية والمقدمات العلمية بعدم وجوب المقدمة الوجودية لترشحه من وجوب ذيها ولا وجوب لذيها فعلا.

ولزوم المقدمة العلمية لأنّه أثر العلم بالتكليف لا أثر التكليف بنفسه.

بيانه أنّ مقتضى علمه الإجمالي بالتكليف إمّا في الحال أو في الاستقبال مع بقائه على

__________________

(١) تهذيب الاصول / ج ٢ ، ص ٢٧١ ـ ٢٧٢.

٨٤

شرائط الفعلية والتنجز في ظرفه هو وصول كلّ من التكليفين المحتملين وصولا اجماليا وهو كاف في فعلية الواصل في موطنه فيعلم اجمالا أنّ مخالفة هذا التكليف الحالي في الحال أو مخالفة ذلك التكليف الاستقبالي في الاستقبال موجبة لاستحقاق العقاب إمّا على هذه المخالفة في الحال أو على تلك المخالفة في الاستقبال فكل من المخالفتين في موطنها ممّا يحتمل ترتب العقاب عليها وهو الحامل على دفع العقاب المحتمل بترك المخالفة في موطنها ولا يتوقف فعلية التكليف في موطنه على أزيد من الوصول (١).

ويمكن الجواب عنه بأنّه لا عبرة بوصول التكليف الاستقبالي في الحال فإنّ وجوده وعدمه على حد سواء وإنّما العبرة بالوصول في موطن يترقب فيه البعث والانبعاث وهو الوصول في الاستقبال فهذا الوصول الإجمالي لا أثر له بالنسبة إلى أحد الطرفين قبل مجيء وقته فلا يكون التكليف في أحد الطرفين فعليا لعدم تحقّق شرطه ولا فرق فيه بين كون المقدمات وجودية أو علمية إذ مع عدم تحقّق الشرط قبل مجيء وقته لا علم بالتكليف الفعلي فيهما فالتفصيل بين المقدمات الوجودية والمقدمات العلمية مع أنّ العلم لم يتعلّق بالتكليف الفعلي قبل مجيء شرط المشروط لا وجه له ولا ينتج أمرا شرعيا قبل الفجر حتّى يؤتى الغسل به بقصد الأمر ولذا قال شيخنا الاستاذ الأراكي قدس‌سره عدم كفاية الوصول قبل مجيء وقت الواجب ممّا لا محيص عنه.

ودعوى : أنّ هذا الوصول الحالي يكفي في فعليته من قبل هذا الوصول فعلا وعدم فعليته من قبل تضايف البعث والانبعاث فإنّه لا يكون البعث فعليا إلّا حيث يمكن الانبعاث الفعلي هذا مضافا إلى أنّ مفروض الكلام بقاء التكليف الاستقبالي على شرائطه الفعلية والتنجيز فمع العلم باستمرار الوصول وعدم التبديل بانقلاب العلم جهلا يقطع بفعلية التكليف الاستقبالي بالوصول بقاء وإن لم يكن فعليا بالوصول حدوثا إلى أن قال فالفعلية عندنا بنفس الوصول والواصل هو الانشاء بداعي جعل الداعي سواء كان متعلقا بأمر حالي أو

__________________

(١) نهاية الدراية / ج ٢ ، ص ٢٤٨ ، ط قديم.

٨٥

استقبالي فبالوصول يكون الانشاء المتعلّق بأمر حالي أو استقبالي فعليا إمّا في الحال أو في الاستقبال (١).

مندفعة : بأنّ النتيجة تابعة لأخس المقدمات إذ لا علم بالتكليف الفعلي قبل مجيء شرط المشروط والقطع بفعلية التكليف بقاء لا يجدي للقطع بفعلية التكليف حدوثا ومفروض الكلام هو وجوب المقدمات التي لا يمكن تحصيلها في وقت المشروط قبل مجيء وقته.

فتحصّل : أنّه لا فرق في وجوب الاحتياط في الأطراف بين الفعليات والتدريجيات سواء قلنا بثلاثية الواجب أي المطلق والمعلق والمشروط أو قلنا بثنائيته أي المطلق والمشروط لفعلية الوجوب في المطلق والمعلق وقيام بناء العقلاء في المشروط هذا كلّه بالنسبة إلى القاعدة العقلية وبناء العقلاء وعدم ملاحظة الأدلّة الشرعية.

وأمّا مع ملاحظة أدلة البراءة الشرعية فقد عرفت أنّها بعمومها وخصوصها تدلّ على البراءة حتّى في أطراف المعلوم بالإجمال ويمكن الأخذ بها والجمع بينها وبين المعلوم بالإجمال بحمل المعلوم على غير الفعلي كما هو مقتضى الجمع بين الأحكام الواقعية وما بين الأحكام الظاهرية ومع حمل المعلوم بالإجمال على غير الفعلي لا يلزم المحاذير المذكورة كما مرّ تفصيلا.

نعم يمنع عن ذلك الأدلة الخاصة الدالة على وجوب الاحتياط في أطراف المعلوم بالإجمال من دون فرق بين الشبهة التحريمية وبين الشبهة الوجوبية فلا يمكن الأخذ بالأدلة العامة أو الخاصة الدالة على البراءة بعد تخصيصها بالأدلة الخاصّة إلّا أنّ الادلّة الخاصة الدالة على الاحتياط مختصة بغير التدريجيات وعليه فالتدريجيات تبقى تحت عمومات البراءة ويتفرع عليه وجوب التمام على من أراد المسافرة والخروج عن البلد وشك في وصوله إلى حد الترخص لاستصحاب كونه في البلد ووجوب القصر على المسافر الذي

__________________

(١) نهاية الدراية / ج ٢ ، ص ٢٤٨ ـ ٢٤٩ ، ط قديم.

٨٦

أراد البلد وشك في وصوله إلى حدّ الترخص فإنّ حكمه هو استصحاب كونه في السفر واتيان صلاة المسافر فإذا خصصنا أدلّة الاحتياط بالفعليات فلا مانع من جريان الاستصحاب في هذا الفرع وإن علمنا اجمالا بمخالفة أحدهما للواقع ولا حاجة إلى الاحتياط لسقوط الواقع عن الفعلية.

اللهمّ إلّا أن يقال : بالغاء الخصوصية وعدم الفرق بين الفعليات والتدريجيات فحينئذ لا يترك الاحتياط في التدريجيات فتدبّر جيدا.

التنبيه الثاني : في موارد جواز الرجوع وعدمه إلى الأصل الطولي.

قال في مصباح الاصول إنّ الأصل الجاري في أحد طرفي العلم الإجمالي إمّا أن يكون من سنخ الأصل الجاري في الطرف الآخر أو يكون مغايرا له وعلى الأول إمّا أن يكون أحد الطرفين مختصا بجريان أصل طولي فيه دون الآخر أو لا يكون كذلك فهذه هي أقسام ثلاثة :

أمّا القسم الأوّل : وهو ما كان الأصل الجاري في طرف من سنخ الأصل الجاري في الطرف الآخر مع اختصاص أحدهما بأصل طولي كما إذا علم اجمالا بوقوع نجاسة في الماء أو على الثوب فإنّ الأصل الجاري في كلّ منهما مع قطع النظر عن العلم الإجمالي هو أصالة الطهارة ولا إشكال في سقوطها وعدم جريانها في كلّ الطرفين لما تقدم فلا يجوز التوضي بالماء ولا لبس الثوب في الصلاة إلّا أنّ العلم بالنجاسة لا أثر له في حرمة لبس الثوب بل يجوز لبسه مع العلم التفصيلي بالنجاسة فيبقى شرب الماء محتمل الحرمة والحلية لاحتمال نجاسته.

فهل تجري فيه أصالة الحل أو تسقط بالعلم الإجمالي كسقوط أصالة الطهارة وجهان :

ذهب المحقّق النائيني قدس‌سره إلى سقوطها للمعارضة بالأصل الجاري في الطرف الآخر وإن كان واحدا فالتزم بعدم جواز شرب الماء في المثال لعدم المؤمن من احتمال العقاب عليه ولكنّ التحقيق جريانها وعدم معارضتها بأصالة الطهارة في الطرف الآخر.

وذلك لما عرفت من أنّ العلم الإجمالي بالتكليف لا يوجب تنجز الواقع إلّا بعد تساقط

٨٧

الاصول في أطرافه فإذا كان الأصل الجاري في الطرفين من سنخ واحد كأصالة الطهارة في المثال المذكور فلا مناص من القول بعدم شموله لكلا الطرفين لاستلزامه الترخيص في المعصية ولأحدهما لأنّه ترجيح بلا مرجح.

وأمّا الأصل الطولي المختص بأحد الطرفين فلا مانع من شمول دليله للطرف المختص به إذ لا يلزم منه ترجيح من غير مرجح لعدم شمول دليله للطرف الآخر.

إلى أن قال : وهذا أحد الموارد التي يرجع فيها إلى الأصل المحكوم بعد سقوط الأصل الحاكم ونظير ذلك في الفروع الفقهية كثير منها ما لو علم بنجاسة شيء في زمان وطهارته في زمان آخر وشك في المتقدم منهما فإنّه بعد تساقط الاستصحابين بالمعارضة يرجع إلى قاعدة الطهارة.

ومنها ما إذا علم حلية شيء في زمان وحرمته في زمان آخر وشك في المتقدم منهما فإنّه بعد تساقط الاستصحابين يرجع إلى أصالة الحل إلى غير ذلك من الموارد التي يرجع فيها إلى الأصل المحكوم بعد سقوط الأصل الحاكم.

أما القسم الثاني : وهو ما إذا كان الأصل الجاري في كلّ طرف من سنخ الأصل الجاري في الطرف الآخر مع عدم اختصاص أحدهما بأصل طولي فلا ينبغي الشك في عدم جريان الأصل في شيء منهما على ما تقدم بيانه وهذا القسم يتحقّق في موردين :

أحدهما : ما إذا لم يكن لشيء من الطرفين أصل طولي كما إذا علمنا بنجاسة أحد الثوبين فانّ الأصل الجاري في كلّ منهما مع قطع النظر عن العلم الإجمالي هي أصالة الطهارة فتسقط فيهما.

ثانيهما : ما إذا كان الأصل الطولي مشتركا فيه بين الطرفين كما إذا علمنا بنجاسة أحد الماءين فإنّ الأصل الجاري في كلّ منهما ابتداء هي أصالة الطهارة وبعد سقوطهما تصل النوبة إلى أصالة الحل في الطرفين والعلم الإجمالي كما يوجب تساقط الأصلين الحاكمين كذلك يوجب تساقط الأصلين المحكومين أيضا بملاك واحد وهو كون جريان الأصل في الطرفين

٨٨

مستلزما للترخيص في المعصية وفي أحدهما ترجيحا بلا مرجح.

وأما القسم الثالث : وهو ما إذا كان الأصل الجاري في أحد الطرفين مغايرا في السنخ للأصل الجاري في الطرف الآخر فان لم يكن أحد الطرفين مختصا باصل طولي فلا إشكال في عدم جواز الرجوع إلى الأصل في كلا الطرفين ولا في أحدهما للزوم الترخيص في المعصية أو الترجيح بلا مرجح.

وأما إن كان أحدهما مختصا بأصل طولي فهو يتصور بصورتين :

الصورة الأولى : ما إذا كان الأصل الطولي فيها موافقا في المؤدى مع الأصل الجاري في مرتبة سابقة عليه.

الصورة الثانية : ما كان الأصل الطولي فيها غير موافق للمؤدى مع الأصل الجاري في رتبة سابقة عليه أمّا الصورة الأولى كما إذا علمنا بنجاسة أحد الماءين أو غصبية الآخر فإنّ الأصل الجاري في محتمل النجاسة هو أصالة الطهارة وفي محتمل الغصبية هي أصالة الحل وفي فرض سقوط أصالة الطهارة في محتمل النجاسة تصل النوبة إلى أصالة الحل ففي مثل ذلك كان العلم الإجمالي منجّزا للواقع لأنّ الأصلين الجاريين في الطرفين وإن كانا مختلفين إلّا أنّ العلم الإجمالي بوجود الحرام في البين مانع من الرجوع إلى الأصل باعتبار أنّ الترخيص في كلا الطرفين ترخيص في مخالفة التكليف الواصل وفي أحدهما ترجيح بلا مرجح بلا فرق في ذلك بين أن يكون الأصل من الاصول الحاكمة أو الاصول المحكومة إلى أن قال :

وبعبارة أخرى الأمر في المقام دائر بين سقوط أصالة الإباحة في محتمل الغصبية وسقوط أصالة الطهارة وأصالة الإباحة في محتمل النجاسة وبما أنّه لا ترجيح في البين يسقط الجميع لا محالة إلى أن قال : وأمّا الصورة الثانية وهي ما كان الأصل الطولي مخالفا في المؤدى مع الأصل الجاري في مرتبة سابقة عليه فيرجع إليه بعد تساقط الاصول العرضية بلا فرق بين أن تكون الاصول العرضية متماثلة أو متخالفة.

مثال الأول : ما إذا علم اجمالا بزيادة ركوع في صلاة المغرب أو نقصانه في صلاة العشاء

٨٩

بعد الفراغ عنهما فقاعدة الفراغ في كلّ من الصلاتين تسقط بالمعارضة وبعد تساقطهما يرجع إلى استصحاب عدم الاتيان بالركوع المشكوك فيه من صلاة العشاء فيحكم ببطلانها واستصحاب عدم الاتيان بالركوع الزائد في صلاة المغرب ويحكم بصحتها ولا يلزم محذور المخالفة العملية القطعية نعم تلزم المخالفة الالتزامية باعتبار العلم بمخالفة أحد الاستصحابين للواقع وقد عرفت غير مرة أنّ الموافقة الالتزامية غير واجبة.

مثال الثاني : ما إذا علم اجمالا بنقصان ركعة من صلاة المغرب أو عدم الاتيان بصلاة العصر فإنّ قاعدة الفراغ في صلاة المغرب وقاعدة الحيلولة في صلاة العصر تسقطان للمعارضة فيحكم ببطلانها ووجوب اعادتها ويرجع إلى استصحاب عدم الاتيان بالركعة المشكوك فيها في صلاة المغرب فيحكم ببطلانها ووجوب اعادتها وإلى أصالة البراءة من وجوب قضاء صلاة العصر لما ثبت في محله من أنّ الفوت الذي هو الموضوع لوجوب القضاء لا يثبت بأصالة عدم الاتيان.

وهذا التفصيل الذي ذكرناه من جواز الرجوع إلى الأصل الطولي في بعض الموارد وعدم جواز الرجوع إليه في بعض موارد الأخر تترتب عليه ثمرات مهمة في بحث الخلل وفي بحث فروع العلم الإجمالي فانتبه (١).

وهنا مواقع للنظر منها أنّ ما ذكره في القسم الأول مبني على المشهور من تقدم الأصل السببي على المسببي حتّى في الموافق فإنّ أصالة الحلية حينئذ تكون محكومة بالنسبة إلى أصالة الطهارة لأنّ الشك في الحلية وعدمها مسبب عن الشك في طهارة الماء وعدمه فإذا حكم فيه بالطهارة لا مجال للشك في الحلية تعبدا وعليه ففي مفروض المسألة يجوز شرب الماء بعد تساقط أصالة الطهارة في الطرفين بالمعارضة وجريان الأصل المحكوم وهو أصالة الحلية في شرب الماء كما لا يخفى.

وأمّا بناء على ما ذكره بعض الأكابر من أنّ الاصول لا نظر لها في الاعتبار إلّا إلى مخالفها

__________________

(١) مصباح الاصول / ج ٢ ، ص ٣٥٦ ـ ٣٦٠.

٩٠

فأصالة الحلية كأصالة الطهارة ساقطة بالمعارضة مع أصالة الطهارة في الطرف المقابل ومع سقوطها فاللازم هو وجوب الاحتياط بترك شرب الماء قضاء للعلم الإجمالي وتفصيل ذلك أنّ أدلة الاستصحاب مثلا تدلّ على عدم جواز النقض والنقض يحصل بترتيب أثر المخالف لا الموافق وهكذا. أدلّة اعتبار الاصول تدلّ على عدم ترتيب أثر المخالف وهو لا ينافي ترتيب أثر الموافق لأنّ الموافق لا يكون محكوما ومع عدم كونه محكوما يجري حتّى مع جريان الأصل السببي نعم لا يجري الأصل إذا كان مخالفا لأنّ المخالف محكوم بادلة اعتبار الاصول الحاكمة وبالجملة فلا إطلاق لادلة اعتبار الاستصحاب والاصول بالنسبة إلى الموافق ولا أقل من الشك فلا دليل على حكومتها على الموافق حتّى لا يكون لجريان الموافق مجال.

ثمّ إنّ الفرق بين المقام وبين سائر التي يرجع فيها إلى الأصل المحكوم بعد سقوط الأصل الحاكم كما إذا علم بنجاسة شيء في زمان وطهارته في زمان آخر وشك في المتقدم منهما فإنّه يرجع فيه إلى أصالة الطهارة بعد تساقط الاستصحابين بالمعارضة أو إذا علم بحلية شيء في زمان وحرمته في زمان آخر وشك في المتقدم منهما فإنّه بعد تساقط الاستصحابين يرجع إلى أصالة الحل واضح لأنّ الاستصحاب المخالف في الموارد المذكورة يمنع عن جريان أصالة الطهارة أو أصالة الحلية لحكومة الاستصحاب بالنسبة إليه وعليه فأصالة الطهارة أو أصالة الحلية وإن كانتا جاريتين مع استصحاب الطهارة أو الحلية ولكنهما مع ملاحظة استصحاب النجاسة أو الحرمة لا تجريان فهما محكومان لا يرجع إليهما إلّا بعد تساقط الاستصحاب المخالف عند معارضته مع الاستصحاب الموافق.

ومنها : أنّ ما ذكره في القسم الثاني من لزوم الاحتياط ، سواء لم يكن لشيء من الطرفين أصل طولي كما إذا علمنا بنجاسة أحد الثوبين لتساقط أصالة الطهارة فالعلم الإجمالي يوجب الاحتياط أو كان الأصل الطولي مشتركا بينهما كما إذا علمنا بنجاسة أحد الماءين لتساقط الأصلين الحاكمين ابتداء أو الأصلين المحكومين ثانيا تام ولكنّ لا وجه لتقدم سقوط

٩١

أصالة الطهارة على سقوط أصالة الحلية بناء على ما عرفت من عدم دليل على حكومة الأصل الموافق بالنسبة إلى الأصل الموافق.

ومنها : أنّ ما أفاده في الصورة الأولى من القسم الثالث فيما إذا كان أحدهما مختصا بأصل طولي موافق في المؤدى مع الأصل الجاري في مرتبة سابقة عليه منظور فيه إذ لا فرق بينها وبين القسم الأول فكما أنّ مقتضى مختاره في القسم الأول هو حكومة أصالة الطهارة على أصالة الحلية فكذلك تكون أصالة الطهارة هنا أي الصورة الأولى من القسم الثالث حاكمة على أصالة الحلية في محتمل النجاسة مع أنّه لم يقل بها ومقتضى مختاره في القسم الأول من حكومة أصالة الطهارة على أصالة الإباحة ولو كانا متوافقين هو أن يحكم هنا بتعارض أصالة الطهارة في محتمل النجاسة مع أصالة الإباحة في محتمل الغصبية وسقوطهما والرجوع إلى أصالة الإباحة في محتمل النجاسة لا الحكم بسقوط الاصول جميعا في عرض واحد ولزوم الاحتياط نعم لو لم نقل بمقالة المشهور وهي حكومة أصالة الطهارة على أصالة الإباحة ولو كانتا متوافقين وقلنا بعدم حكومة المتوافقين تتعارض أصالة الطهارة وأصالة الإباحة في محتمل النجاسة مع أصالة الإباحة في محتمل الغصبية ومع تساقط جميع الاصول يرجع إلى مقتضى العلم الإجمالي وهو لزوم الاحتياط فلا تغفل.

فتحصّل : ١) أنّ في القسم الأول وهو ما كان الأصل الجاري في طرف من سنخ الأصل الجاري في طرف آخر مع اختصاص أحدهما بالأصل الطولي يكون الأصل المحكوم جاريا بعد سقوط الاصول الحاكمة ومقتضاه هو الحكم باباحة شرب الماء فيما إذا علم اجمالا بوقوع النجاسة في الماء أو الثوب هذا على المشهور من تقدم الأصل الحاكم على المحكوم حتّى في الموافقين وأما بناء على ما عرفت من عدم الدليل على تقدمه في هذه الصورة فالأصل المحكوم كالأصل الحاكم ساقط بالمعارضة ولا يرجع إليه ومقتضى ذلك هو وجوب الاحتياط.

٢) أنّ في القسم الثاني وهو ما كان الأصل الجاري في طرف من سنخ الأصل الجاري في

٩٢

طرف آخر مع عدم أصل طولي في طرف من الأطراف أو مع وجوده في كلّ طرف لا مجال للرجوع إلى الأصل المحكوم إذ لا وجود له في الفرض الأول وسقوطه بالمعارضة في الفرض الثاني فالحكم في الصورتين هو وجوب الاحتياط بعد سقوط الاصول في الأطراف ولا يجوز الرجوع إلى الأصل المحكوم.

٣) أنّ في القسم الثالث وهو ما إذا كان الأصل الجاري في أحد الطرفين مغايرا في السنخ للأصل الجاري في الطرف الآخر إمّا لا وجود للأصل المحكوم كما إذا لم يكن أصل طولي في أحد من الأطراف فحينئذ بعد سقوط الاصول بالمعارضة يجب الاحتياط قضاء للعلم الإجمالي.

وإمّا هو موجود في أحد الطرفين وحينئذ إمّا يكون موافقا في المؤدى مع الأصل الجاري في مرتبة سابقة عليه ذهب السيّد المحقّق الخوئي قدس‌سره فيه إلى سقوط الاصول مطلقا ووجوب الاحتياط ولا يخفى ما فيه فإنّ مقتضى مختاره في القسم الأول هو الرجوع إلى الأصل المحكوم بعد سقوط الاصول في مرتبة متقدمة نعم لا بأس بسقوط الجميع ووجوب الاحتياط بناء على غير المشهور من عدم الدليل على تقدم الأصل الحاكم على المحكوم في المتوافقين.

وإمّا يكون الأصل المحكوم مخالفا في المؤدّى مع الأصل الجاري في مرتبة سابقة عليه فيرجع إلى الأصل المحكوم بعد سقوط الاصول الحاكمة مطلقا سواء كانت الاصول الحاكمة متماثلة أو غير متماثلة والله هو الهادي.

التنبيه الثالث : في انحلال العلم الإجمالي وعدم تأثيره في التنجيز بسبب الاضطرار إلى ارتكاب بعض الأطراف وعدمه ويقع الكلام في مقامين :

المقام الأول : فيما إذا كان الاضطرار إلى أحدهما المعيّن وهو يتصور بصور مختلفة.

أحدها : أن يكون الاضطرار قبل العلم بالتكليف أو مقارنا معه فالظاهر كما في الفرائد عدم وجوب الاجتناب عن الباقي لرجوعه إلى عدم تنجز التكليف بالاجتناب عن الحرام

٩٣

الواقعي لاحتمال كون المحرم هو المضطر إليه (١).

وعليه فإذا اضطر إلى شرب أحد المائعين مثلا ثمّ علم بوقوع النجاسة في أحدهما بعد الاضطرار فلا ينبغي الشك في عدم التنجيز في هذه الصورة إذ معه لا يحصل له العلم بالتكليف الفعلي فيهما بعد وجود احتمال وقوع النجاسة في الطرف الذي اضطر إليه.

وحيث إنّ المفروض هو حدوث الاضطرار إليه قبل وقوع النجاسة فيه فوقوع النجاسة في الطرف المضطر إليه لا يوجب حدوث التكليف الفعلي ووقوعها في الطرف الآخر مجرد احتمال وشبهة بدوية لا مانع فيها من الرجوع إلى الأصل.

ولا كلام في هذه الصورة ولا شبهة فيها ولكنّ لا يناسب وضوح المسألة ما وقع في كلام شيخنا الأعظم قدس‌سره من التعبير بأنّ الظاهر عدم وجوب الاجتناب عن الباقي الخ. وكيف كان فقد قيّد المحقّق العراقي قدس‌سره الاضطرار بكونه بمقدار أحد التكليف أو ازيد وإلّا فالعلم الإجمالي بالتكليف موجود غايته أنّه مردد بين التكليف المحدود في الطرف المضطر إليه وغير المحدود في الطرف الآخر ومقتضاه هو لزوم الاجتناب عن الطرف غير المضطر إليه (٢).

وثانيها : أن يكون الاضطرار بعد العلم بالتكليف ولكنّه مدة الفصل بين التكليف وعروض الاضطرار قليلة بحيث لا يمكن فيها الامتثال بالنسبة إلى التكليف المعلوم ومع عدم التمكن من الامتثال فلا يعقل تنجيز التكليف قبل حدوث الاضطرار ومجرد سبق زمان حدوث التكليف على الاضطرار مع عدم التمكن من الامتثال لا يوجب أن يكون العلم الإجمالي مؤثرا في تنجيز التكليف بالإضافة إلى قطعة زمان فاصلة بين التكليف وطروّ الاضطرار.

وعليه فهذه الصورة ملحقة بما إذا كان الاضطرار قبل العلم بالتكليف أو مقارنا له فلا تغفل.

__________________

(١) فرائد الاصول / ص ٢٥٤ ، ط قديم.

(٢) راجع نهاية الأفكار / ج ٣ ، ص ٣٥٠.

٩٤

ثالثهما : أن يكون الاضطرار بعد العلم الإجمالي بزمان يتمكن فيه من الامتثال ففي هذه الصورة اختلفت الآراء والأقوال.

ذهب الشيخ الأعظم قدس‌سره إلى أنّ الظاهر وجوب الاجتناب عن الآخر لأنّ الإذن في ترك بعض المقدمات العلمية بعد ملاحظة وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي يرجع إلى اكتفاء الشارع في امتثال ذلك التكليف بالاجتناب عن بعض المشتبهات (١) وهذا هو المختار.

ولكنّ أورد عليه في الكفاية بما حاصله مع توضيح ما أن عدم الاضطرار من شرائط التكليف شرعا ولا فرق في شرطية عدم الاضطرار شرعا السبق واللحوق والحدوث والبقاء فكما أنّه إذا علم إجمالا بثبوت خطاب مردّد بين المضطر إليه وغير المضطر إليه فلا أثر له لعدم العلم بالتكليف الفعلي على أي تقدير.

فكذلك إذا علم اجمالا بمثله بقاء لا حدوثا فإنّه لا علم له بتكليف فعلي على أي تقدير بقاء من أوّل الأمر بل له العلم به إلى حدّ الاضطرار.

وبعبارة أخرى أنّ التكليف محدود شرعا بحصول الاضطرار إلى متعلقه وعليه فيما بعد الاضطرار لا يعلم بثبوت التكليف على كلّ تقدير ومعه ينفى التكليف المشكوك بالأصل ولأجل ذلك يختلف الاضطرار عن صورة فقد أحد الأطراف لأنّ الفقدان ليس من حدود التكليف شرعا فالتكليف في صورة الفقدان مطلق في كلا الطرفين (٢).

يمكن أن يقال : إنّ مع فرض تسليم كون الاضطرار حدا شرعيا بحيث إذا عرض الاضطرار ارتفع أصل الحكم واقعا لا فعلية الحكم وثقله مع بقاء أصله كما ربما يستظهر ذلك من بعض الروايات الخاصة كموثقة أبي بصير قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن المريض هل تمسك له المرأة شيئا فيسجد عليه؟ فقال لا إلّا أن يكون مضطرا ليس عنده غيرها وليس شيء ممّا حرم الله إلّا وقد أحلّه لمن اضطر إليه (٣).

__________________

(١) فرائد الاصول / ص ٢٥٤.

(٢) راجع الكفاية / ج ٢ ، ص ٢١٦ ـ ٢١٨.

(٣) الوسائل / الباب ١ من أبواب القيام ، ح ٧.

٩٥

بناء على ظهورها في ثبوت الحلية الواقعية مكان الحرمة الواقعية عند الاضطرار لا ظهورها في مجرد الترخيص مع بقاء أصل الحرمة.

فلا وجه لدعوى انحلال العلم الإجمالي في مفروض الكلام لبقاء العلم الإجمالي ولو بعد الاضطرار بالتكليف المردّد بين المحدود في الطرف المضطر إليه بحدّ الاضطرار وبين غير المحدود في الطرف الآخر ومقتضى بقاء العلم الإجمالي بالتكليف المردّد بين المحدود وغيره هو وجوب الاحتياط في غير المحدود كما لا يخفى.

ولذلك قال في نهاية الأفكار وان شئت قلت بوجود العلم الإجمالي بالتكليف المردّد بين المحدود في الطرف المضطر إليه وغير المحدود في الطرف الآخر ومقتضاه هو لزوم الاجتناب عن الطرف غير المضطر إليه (١).

وإليه يؤول ما حكاه شيخنا الاستاذ الأراكي قدس‌سره من استاذه المحقّق الحائري قدس‌سره أنّه قال ذكرت لاستاذي صاحب الكفاية أنّه إذا شك أحد في أن الواجب عليه هو اكرام زيد في ساعة واحدة أو هو اكرام عمرو في ساعتين هل يجب عليه الاحتياط أم لا؟ قال استاذي نعم يجب عليه الاحتياط بالجمع بينهما قلت ما الوجه في وجوب الاحتياط إلّا كون الأقل والأكثر في الطرفين والشخصين لا في طرف وشخص واحد (حيث لا يرجع الشك فيه إلى الأقل المعلوم والأكثر المشكوك حتّى يقال يؤخذ بالقدر المتيقن ويجري البراءة في الزائد عليه) وهذا الملاك بعينه موجود في المقام لأنّ أمره يدور بين الاجتناب عن هذا الفرد إلى عروض الاضطرار أو عن ذلك حتّى بعد عروض الاضطرار فصدّقني استاذي وعدل عما ذكره في متن الكفاية وذهب في هامش الكتاب إلى وجوب الاحتياط.

توضيح ما ذهب إليه في الهامش بحسب ما أفاده المحقّق الاصفهاني قدس‌سره أنّه ليس التكليف المعلوم مردّدا بين أن يكون محدودا أو مطلقا حتّى ينحلّ إلى معلوم ومشكوك نظرا إلى أنّ ثبوت أصله إلى هذا الحدّ متيقن وفيما بعده مشكوك بل اشتراط أصل التكليف بالقدرة

__________________

(١) نهاية الأفكار / ج ٣ ، ص ٣٥٠.

٩٦

وتحديده بالاضطرار معلوم إنّما الشك في أنّ التكليف بترك شرب النجس المعلوم هل هو منطبق على ترك شرب هذا الإناء إلى حدّ الاضطرار إلى شربه أو على ترك شرب ذلك الإناء الذي لا اضطرار إليه على الفرض وليس التكليف في أحد الطرفين من حيث الانطباق متيقنا بالاضافة إلى الآخر نظير ما إذا علم بأنّه مأمور بالجلوس إما في هذا المسجد ساعة أو في ذلك المسجد الآخر ساعتين فكونه مأمورا بجلوس ساعة وإن كان معلوما على أي تقدير لكنه لا بنحو التطبيق فلا يجدي في الانحلال (١).

ودعوى : أنّ هذا إذا كان هناك تكليف واحد وأمّا إذا كان كلّ ترك من تروك شرب النجس مثلا بملاحظة قطعات الأزمنة مطلوبا مستقلا فهناك تكاليف متعددة بتعدد التروك وكلّ ترك في كلّ زمان سواء كان في طرف هذا الإناء أو في طرف ذلك الإناء الآخر مطلوب إلى حدّ الاضطرار فاحتمال مطلوبية ترك شرب هذا الإناء في هذه الساعة مقرون باحتمال مطلوبية ترك شرب الآخر في هذه الساعة وهكذا إلى حدّ الاضطرار وأمّا بعد الاضطرار فليس ترك شرب ما لم يضطر إليه ذا طرف فعلا ليدور الأمر بين مطلوبيته ومطلوبية طرفه ولا ذا طرف قبلا لأنّ كلّ ترك في كلّ زمان كان له ظرف يختص به دوران الأمر بين مطلوبيته أو مطلوبية طرفه فليس للترك بعد الاضطرار طرف لا فعلا ولا قبلا فهو احتمال بدوي غير مقرون باحتمال آخر ولو من أوّل الأمر (٢).

مندفعة : أوّلا : بأنّ تقطيع الزمان بقطعات متعددة وملاحظة الترك بحسب كلّ قطعة من القطعات خلاف الظاهر لأنّ الزمان ظرف واحد لا ظروف متعددة وملاحظة كلّ قطعة على حده تحتاج إلى مئونة زائدة وعليه فالزمان المحدود في طرف المضطر إليه مقابل للزمان المطلق في طرف غير المضطر إليه وطرف من أطراف العلم الإجمالي ومقرون باحتمال آخر فيوجب الاحتياط.

__________________

(١) نهاية الدراية / ج ٢ ، ص ٢٥٠ ـ ٢٥١.

(٢) نهاية الدراية / ج ٢ ، ص ٢٥١.

٩٧

وثانيا : كما أفاده المحقّق الاصفهاني قدس‌سره أنّ الانحلال إلى تكاليف متعددة متعلقة بتروك شرب النجس إنّما يصحّ إذا كان كلّ ترك ذا مصلحة باعثة عن طلبه بل حيث إنّ النجس واحد وفعل الشرب واحد والمفسدة القائمة به واحدة فليس في الحقيقة إلّا زجر واحد عن الفعل الواحد وتعدده بحسب الفرض بالقياس إلى قطعات الازمنة وطلب كلّ ترك بتبع الزجر عما فيه المفسدة فليس في الحقيقة إلّا تكليف واحد مستمر إلى أن يتحقّق الاطاعة أو العصيان وهذا الواحد من حيث استمراره مردد بين المطلق والمحدود من حيث التطبيق على شرب هذا الإناء أو ذلك الإناء (١).

وممّا ذكرناه يظهر ما في منتقى الاصول حيث ذهب في مقام الاثبات إلى اختيار أنّ موضوع الحكم بالطهارة هو الشك ويراد به الشك الفعلي بمعنى الحاصل فعلا والحكم بالطهارة يكون بلحاظ أنّ الشك وظرفه والحكم يتعدد بتعدد موضوعه وعليه فيتعدد الحكم بتعدد الشك فكل شك في كلّ آن يكون موضوعا للحكم بالطهارة (أو الحلية).

وبالجملة فظاهر الدليل فعلية الحكم بفعليّة موضوعه فلا يثبت الحكم بالطهارة (أو الحلية) إلّا مع فعلية الشك فالحكم بالطهارة في ظرف بلحاظ الشك في ذلك الظرف.

ولا مجال لدعوى امكان الحكم فعلا بالطهارة للذات في الآن المستقبل بلحاظ الشك الفعلي بالطهارة في الآن المستقبل لأنّه إذا زال الشك في الآن المستقبل يزول الحكم بالطهارة وهو يكشف عن دخالته فيه.

كما لا مجال لدعوى أنّ موضوع الحكم الفعلي بالطهارة للذات في الآن المستقبل هو الشك الفعلي المستمر فإذا زال الشك يكشف عن عدم تحقّق موضوعه لأنّه إذا فرض حصول الشك في آن ولم يكن الشك في الآن الذي قبله ثبت الحكم بالطهارة (وهو) ممّا يكشف عن أنّ الشك الفعلي تمام الموضوع للحكم بالطهارة وكما لا يجوز الحكم بالطهارة فعلا بالنسبة إلى

__________________

(١) نهاية الدراية / ج ٢ ، ص ٢٥١.

٩٨

الأمر الاستقبالي لذلك (١) لا يجوز الحكم بها بالنسبة إلى الأمر السابق إلى أن قال وعلى هذا فمقتضى ما ذكرناه هو أنّه بناء على الالتزام بالاقتضاء لا يكون العلم الإجمالي منجّزا بقاء بعد عروض الاضطرار لجريان الأصل في الطرف الآخر بلا معارض إلى أن قال : وجملة القول أنّه على مسلك الاقتضاء يشكل الأمر في كثير من الفروع كالاضطرار إلى المعين أو الخروج عن محلّ الابتلاء أو فقدان بعض الأطراف أو تطهير بعض الأطراف فإنّ الأصل يجري في الطرف الآخر ـ في جميع ذلك ـ بلا محذور ولا معارض بل لو علم اجمالا بوجوب احدى الصلاتين أمّا الجمعة أو الظهر فجاء بالجمعة صح له إجراء الأصل بالنسبة إلى الظهر لعدم معارضته بالأصل الجاري في الجمعة لاتيانه بها. فهو قبل الاتيان بإحداهما وإن لم يتمكن من اجراء الأصل في كلا الطرفين ولكنّه بعد الاتيان بإحداهما يتمكن من ذلك لما عرفت مع أنّ هذا من الفروع المسلم فيها بقاء تنجيز العلم الإجمالي كمسألة تطهير بعض الأطراف أو فقدانه.

ويمكن أن يجعل هذا وجها من وجوه الاشكال على الالتزام بالاقتضاء وتعين القول بالعليّة التامة فرارا عن الوقوع في ذلك (٢).

وفيه : مواقع للنظر منها أنّ الشك الفعلي موجود بالنسبة إلى الطرفين ولو بعد الاضطرار إذ متعلقه هو أنّ النجس المعلوم اجمالا هل يكون في طرف المضطر إليه أو في طرف غير المضطر إليه فمع وجود الشك الفعلي بالنسبة إلى الطرفين تجري أصالة الطهارة في الطرفين وتسقط بالمعارضة ويرجع إلى مقتضى العلم الإجمالي والمفروض أنّه يقتضي وجوب الاحتياط قبل حدوث الاضطرار وهو باق بالنسبة إلى الطرف غير المضطر إليه فلا مجال للحكم بطهارة الطرف غير المضطر إليه.

والاضطرار إلى طرف معين وسقوط تكليف اجتنب عن النجس بالنسبة إليه لا يمنع عن الشك الفعلي في كونه نجسا أو طرفه الآخر ومع عدم المنع كان موضوع الحكم بالطهارة وهو

__________________

(١) ظ كذلك.

(٢) منتقى الاصول / ج ٥ ، ص ١٠٩ ـ ١١٣.

٩٩

الشك الفعلي باقيا في الطرفين فيجريان ويتساقطان.

وهكذا الأمر بالنسبة إلى أصالة الحلية فإنّها تجري في الطرفين ولو مع الاضطرار إلى طرف معين بناء على ما عرفت في التنبيه الثاني من أنّ الدليل الاجتهادي أو الأصل السببي يمنع عن الأصل المسببي فيما إذا كان مفاده موافقا للدليل الاجتهادي أو السببي وعليه فتجري أصالة الحلية في الطرفين ويتساقط بالمعارضة ويرجع إلى مقتضى العلم الإجمالي وهو الاحتياط في مورد غير الاضطرار فتأمل.

وممّا ذكر يظهر حكم موارد حدوث فقدان بعض الأطراف أو خروجه عن محلّ الابتلاء فإنّ الشك الفعلي بالنسبة إلى الطرفين موجود فتجري أصالة الطهارة أو الحلية وتسقط بالمعارضة ويرجع إلى مقتضى العلم الإجمالي في الطرف الآخر فتأمّل.

ومنها : أنّ أصالة البراءة لا تجري في الطرف الباقي بعد امتثال طرف من الأطراف لأنها منافية لمقتضى العلم الإجمالي وهو وجوب الاحتياط إذ تدريجية الامتثال لا توجب خروج الطرف الآخر عن مورد المعارضة كما لا يخفى.

ومنها : أنّ القول بالرجوع إلى الأصل في طرف آخر والحكم بعدم وجوب الاحتياط يخالفه الأخبار الخاصة مثل صحيحة صفوان بن يحيى أنّه كتب إلى أبي الحسن عليه‌السلام يسأله عن الرجل معه ثوبان وأصاب أحدهما بول ولم يدر أيّهما هو وحضرت الصلاة وخاف فوتها وليس عنده ماء كيف يصنع قال يصلي فيهما جميعا (١). فإنّها تدل على لزوم الاحتياط وعدم جواز تركه بعد الامتثال بإتيان طرف واحد وإلّا يكتفى بالصلاة في واحد منهما.

وموثقة عمار الساباطي عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث قال سئل عن رجل معه إناءان فيهما ماء وقع في أحدهما قذر لا يدري أيّهما هو وحضرت الصلاة وليس يقدر على ماء غيرهما قال يهريقهما جميعا ويتيمّم (٢) فإنّه لو كان خروج أحد الأطراف بالاضطرار أو

__________________

(١) الوسائل / الباب ٦٤ من أبواب النجاسات ، ح ١.

(٢) الوسائل / الباب ٨ من أبواب الماء المطلق ، ح ١٤.

١٠٠