عمدة الأصول - ج ٦

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٦

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: ولي عصر (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٣

ومنها : أنّ الاشتغال اليقينى يستدعي البراءة اليقينية والعلم الإجمالي بالتكليف المردّد بين الأقل والأكثر اشتغال يقينى ومقتضاه هو الاحتياط حتّى يحصل البراءة اليقينية.

واجيب عنه بأنّ في المقام لا يقين إلّا بالاشتغال بالأقل إذ الاشتغال بالأكثر بعد ما عرفت من انحلال العلم الإجمالي إلى المعلوم والمشكوك غير ثابت.

وعليه فوجوب الأجزاء المعلومة جزئيتها معلوم بخلاف الاجزاء المشكوكة فتجرى البراءة في المشكوكة.

ومنها : أنّ الموجب لانحلال العلم الإجمالي هو العلم التفصيلي بوجوب الأقل بنحو الاطلاق والموجود في المقام هو العلم التفصيلي بوجوب الأقل على نحو الاهمال الجامع بين الاطلاق والتقييد فما هو موجود لا يكون موجبا للانحلال بل مقوم للعلم الإجمالي وما هو موجب للانحلال لا يكون موجودا.

واجيب عنه بأنّ وجوب الأقل معلوم ومطلق سواء وجب الأكثر أم لا ومع معلوميته واطلاقه يوجب الانحلال.

وبعبارة اخرى أنّ الواجب ذات الأقل على نحو الاطلاق المقسمي ووجوبه لا ينافى مع وجوب شيء آخر أو عدم وجوبه إذ الأكثر ليس إلّا الأقل والزيادة ولا يفترق حال الأقل بالنسبة إلى تعلّق أصل التكليف به ضمت إليه الزيادة أو لا تضم فالقطع التفصيلى حاصل من غير دخول الإجمال بالنسبة إلى وجوب الأجزاء التي يعلم انحلال المركب إليها وإنّما الشك في أنّ الجزء الزائد هل يكون دخيلا فيه حتّى يكون متعلّق التكليف بعين تعلقه بالمركب أو لا يكون دخيلا هذا مضافا إلى أنّ ملاك الانحلال ليس تعلّق العلم التفصيلي ببعض الأطراف بل ملاكه عدم البيان على سائر الأطراف بحيث لو فرض وجود البيان عليها لم نقل بالانحلال فالمدار على عدم البيان المستند إلى عدم بقاء العلم لا على تعلّق العلم التفصيلى ببعض الأطراف وكيف كان فالأظهر أنّ الانحلال انحلال حقيقي.

الوجه الثاني للبراءة العقلية : هو الانحلال بالعلم التفصيلي بمطلوبية الأقل نفسيا أو

٢٢١

مقدميا والشك في الأكثر.

وتوضيح ذلك أنّ العلم الإجمالي فيما نحن فيه غير مؤثر في وجوب الاحتياط لكون أحد طرفيه معلوم الالزام تفصيلا والآخر مشكوك الالزام رأسا ودوران الالزام في الأقل بين كونه مقدميا أو نفسيا لا يقدح في كونه معلوم بالتفصيل لما ذكرنا من أنّ العقل يحكم بوجوب القيام بما علم اجمالا أو تفصيلا الزام المولى به على أىّ وجه كان ويحكم بقبح المؤاخذة على ما شك في الزامه والمعلوم الزامه تفصيلا هو الأقل والمشكوك الزامه رأسا هو الزائد والمعلوم الزامه اجمالا هو الواجب النفسي المردّد بين الأقل والأكثر ولا عبرة به بعد انحلاله إلى معلوم تفصيلي ومشكوك كما في كلّ معلوم اجمالى يكون كذلك.

أورد عليه بما عرفت آنفا من عدم المغايرة بين الاجزاء الداخلية والمركب لأنّ المركب عين الأجزاء بالأسر ومعه فلا مجال للوجوب المقدمى حتّى ينكره بعض ويثبته آخر بحسب ما تقدم في محله.

هذا مضافا إلى أنّه لو سلم وجود المغايرة بينهما وكون الوجوب في الأقل مقدميا يرد عليه أنّ الانحلال فاسد قطعا لاستلزام الانحلال المحال بداهة توقف لزوم الأقل فعلا إمّا بنفسه أو لغيره على تنجز التكليف مطلقا ولو كان متعلقا بالأكثر فلو كان لزومه كذلك مستلزما لعدم تنجزه إلّا إذا كان متعلقا بالأقل كان خلفا مع أنّه يلزم من وجوده عدم لاستلزامه عدم تنجز التكليف على كلّ حال المستلزم لعدم الانحلال وما يلزم من وجوده عدمه محال.

الوجه الثالث للبراءة العقلية : والتحقيق أن يقال إنّ المركب عين أجزائه فالأجزاء واجبة بوجوب نفسي لأنّ المنبسط على ذات الأقل على هذا القول هو الوجوب النفسي الذي لموافقته ثواب ولمخالفته عقاب الذي لا يتوقف تنجّزه على تنجّز تكليف آخر ليرد المحذور بل المحاذير المتقدمة نعم لا يعلم أنّ المنبسط عليه التكليف النفسي هو تمام المنبسط عليه واقعا أو بعضه وهذا لا يخرج التكليف النفسي المعلوم عن التنجّز وليس تنجّز الأجزاء

٢٢٢

فرع تنجّز الكلّ ومن ناحيته وذلك بخلاف أن يكون وجوبها مقدميا.

فالأقل معلوم الوجوب بالوجوب النفسى لأنّ المركب باللحاظ الأوّل الذي يجعله الحاكم موضوعا للحكم ملحوظ بلحاظ واحد وموجود في الذهن بوجود واحد ولا جزء له بهذه الملاحظة وإنّما يعتبر الجزئية بملاحظة ثانوية وهى ملاحظة كلّ جزء منه مستقلا فالجزء إن لوحظ فهى مقدمة للكل وإن لوحظ طريقا إلى الملاحظة الأولية للحاكم على الطبيعة المهملة فهى عين الكلّ إذ ليس للأجزاء بهذه الملاحظة وجود على حدة وعليه فالانحلال حقيقى بعد عدم مغايرة وجوب الأقل مع وجوب المركب لكون المركب عين الأجزاء ومع العينية لا مجال للوجوب الغيرى المقدمى في الاجزاء أيضا لأنّه فرع المغايرة بينها وبين ذيها وهو لا يساعد مع العينية.

ولا مجال أيضا لجعل نسبة الأجزاء إلى المركب كنسبة المحصّل إلى المحصّل لأنّه أيضا فرع المغايرة بل لا مجال للوجوب الضمني بعد عينية المركب مع أجزائه وكون الاختلاف بين المركب واجزائه بالاجمال والتفصيل ومع العينية فالتعبير بالضمنية مسامحة كما لا يخفى.

بل يرجع الأمر في النهاية إلى انكار العلم الإجمالي في المركبات الاعتبارية إذ مع الدقة يظهر أنّه لا علم بالتكليف إلّا بمقدار ذات الأقل والشك في تعلقه بالزائد عليه والوجوب في ذات الأقل نفسي لا غيري ولا ضمني.

هذا كلّه بالنسبة إلى جريان البراءة العقلية في الأقل والأكثر الارتباطيين.

في جريان البراءة الشرعية

وأمّا جريان البراءة الشرعية فقد صرّح الشيخ الأعظم به أيضا بدعوى أنّ وجوب الجزء المشكوك محجوب علمه عن العباد فهو موضوع عنهم وأنّ وجوب الجزء المشكوك فهو فهو ممّا لم يعلم فهو مرفوع عنهم بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله رفع عن امتى ما لا يعلمون.

٢٢٣

والقول بأنّ حديث الرفع لا يجرى في الشك في الوجوب الغيرى غير سديد بعد عدم الفرق بين الوجوبين في نفي ما يترتب عليه من استحقاق العقاب لأنّ ترك الواجب الغيري منشأ لاستحقاق العقاب ولو من جهة كونه منشأ لترك الواجب النفسي هذا مضافا إلى امكان دعوى أنّ العقاب على ترك الجزء أيضا من خصوص ذاته لأنّ ترك الجزء عين ترك الكلّ فافهم.

هذا كلّه إن جعلنا المرفوع والموضوع في الروايات خصوص المؤاخذة وأمّا لو عممناه لمطلق الآثار الشرعية المترتبة على الشيء المجهول كانت الدلالة أوضح لكن سيأتى ما في ذلك.

ولا يخفى عليك صحة ما أفاده الشيخ الأعظم قدس‌سره من جريان البراءة الشرعية بعد ما عرفت من تقريب جريان البراءة العقلية بعدم العلم إلّا بالتكليف بالأقل والشك في تعلقه بالأكثر.

ولكنّ الوجوب المرفوع أو المحجوب في الزائد على الأقل ليس وجوبا غيريا أو ضمنيا بعد ما عرفت مفصّلا من عينية المركب مع أجزائه فلا وجه لجعل الوجوب المشكوك في الأكثر وجوبا غيريا بل الصحيح هو عينية المركب مع أجزائه فلا وجه لجعل الوجوب المشكوك في الأكثر وجوبا غيريا بل الصحيح هو عينية المركب مع اجزائه وكون الوجوب في المشكوك وجوبا نفسيا.

وممّا ذكر يظهر أنّ العقاب على الجزء المشكوك عقاب من جهة نفسه لا من جهة كونه منشأ لترك الواجب النفسي.

ثم لا يخفى عليك أنّ من أنكر جريان البراءة العقلية بتوهم عدم الانحلال لا يتمكن من جريان البراءة الشرعية بالنسبة إلى وجوب الأكثر أيضا لأنّ رفع وجوب الأكثر معارض عنده مع رفع وجوب الأقل.

نعم أمكن له جريان البراءة في جزئية المشكوك لعدم معارضه جريانها في الأكثر بجريانها في الأقل العلم بالجزئية في الأقل.

٢٢٤

إلّا أن يقال : إنّ الجزئية من الامور الانتزاعية النسبية ولا تدخل تحت الجعل التشريعى القانوني حتّى يصح رفعها بل الّذى يقع تحت الجعل هو الوجوب والطلب والمفروض أنّ رفع وجوب الأكثر معارض مع رفع وجوب الأقل بناء على القول بعدم الانحلال.

هذا كلّه حال الأصل العقلي والشرعي بالنسبة إلى الأقل والأكثر الارتباطيين من الواجبات التوصلية.

وأمّا الأقل والأكثر الارتباطيين من الواجبات التعبدية فمحصّل القول فيها أنّها كالتوصليات من حيث جريان البراءة في القيود كجريانها في الأجزاء الخارجية.

وذلك لأنّه مع الشك في أخذ قصد القربة وعدمه والقول بامكان أخذه يكون كسائر الأجزاء المشكوكة في جريان أصالة البراءة وأمّا مع عدم امكان أخذه في المأمور به والقول بكونه من الأغراض المترتبة على الأمر فتنجزه تابع لتنجز الأمر فكما أنّ العقل يحكم في الشبهات البدوية بعدم تنجز الغرض المترتب على الأمر على المكلّف فكذلك هنا على القول بالبراءة أي يحكم بعدم تنجز الغرض في مورد البراءة وهو الأكثر عند الشك في الأقل والأكثر فلا يجب الاتيان بالأكثر في التعبديات أيضا إذ لا موجب له.

نعم لو كان التكليف متعلقا بالأقل يجب على المكلّف امتثاله على نحو يسقط به الغرض إذ الحجة قد قامت عليه هذا كلّه هو الجهة الاولى في جريان البراءة في صورة دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين من الأجزاء الخارجية.

دوران الأمر بين الأقل والأكثر في الأجزاء التحليلية

وأمّا الجهة الثانية ففي جريان البراءة في صورة دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين من الأجزاء التحليلية وهى على أقسام :

القسم الأوّل : أن يكون ما احتمل دخله في المأمور به على نحو الشرطية موجودا

٢٢٥

مستقلا في الخارج كالتستر بالنسبة إلى الصلاة والحكم فيه هو البراءة كما عرفتها في الشك في الاجزاء عقلا ونقلا ولا نطيل بالاعادة.

القسم الثاني : أن يكون ما احتمل دخله في المأمور به على نحو الشرطية متحدا مع المقيّد في الوجود الخارجي كالايمان في الرقبة المؤمنة ولم يكن من مقومات المأمور به ففي هذه الصورة ربّما يقال إنّه ليس ممّا يتعلّق به وجوب والزام مغاير لوجوب أصل الفعل ولو بعنوان المقدمة وعليه فلا يندرج فيما حجب الله علمه عن العباد.

أورد عليه بأنّه لا بأس بنفى القيود المشكوكة للمأمور به بأدلّة البراءة من العقل والنقل لأنّ المنفي فيها الالزام بما لا يعلم ورفع كلفته ولا ريب أنّ التكليف بالمقيّد مشتمل على كلفة زائدة والزام زائد على ما في التكليف المطلق وإن لم يزد المقيّد الوجود في الخارج على المطلق الموجود في الخارج.

ودعوى : أنّ كلّ مورد تكون الخصوصية المشكوكة فيه راجعة إلى نفس متعلّق التكليف بحيث توجب سعة التكليف وزيادته عرفا ودقة كانت مجرى البراءة شرعا لأنّها تقبل انبساط التكليف فالشك فيها يكون الشك في تكليف زائد مع وجود قدر متيقن في البين هو ذات المقيّد فيتحقّق الانحلال المدعى وذلك نظير الطهارة مع الصلاة فإنّ الصلاة مع الطهارة والصلاة بدونها بنظر العرف من الأقل والأكثر.

أمّا إذا كانت الخصوصية المشكوكة غير راجعة إلى متعلّق التكليف بل إلى موضوع المتعلّق بنحو لا يستلزم وجودها زيادة في المتعلّق ولا فقدها فيه وذلك نظير عتق الرقبة المؤمنة فإنّ إيمان الرقبة أو عدم إيمانها لا يلازم زيادة في العتق أو نقصا بل نفس العتق على كلا التقديرين بنحو واحد لا اختلاف فيه فالشك فيها لا يكون مجرى البراءة إذ لا يتصور الانبساط هاهنا إذ لا يكون المتعلّق مقيّدا بتلك الخصوصية إذ هى ليست من خصوصياته المضيّقة له وبالجملة لا متيقن في البين في متعلّق التكليف يشار اليه ويقال إنّه معلوم الوجوب والشك في الزائد عليه بل الفعل بدون الخصوصية مباين للفعل المنضم للخصوصية فلا يتحقّق الانحلال فالحقّ هو التفصيل بين الصورتين.

٢٢٦

مندفعة : بأنّ متعلّق التكليف وإن لم يتقيد ابتداء بالخصوصية المشكوكة ولكنّ يكتسب التقيد باضافته إلى موضوع مقيّد فيصح حينئذ أن يشك في كون المتعلّق ذا سعة أو لا ومع اكتساب التقيّد والتضيّق من المضاف اليه يصح الانحلال المبني على القول بانبساط الوجوب أيضا وعليه فالشك في الاشتراط يرجع إلى الشك في وجوب هذا التقيد بنفس الوجوب الشخصي النفسي الاستقلالي المنبسط على المشروط ومع هذا الشك يصح الأخذ بالبراءة العقلية والنقلية فلا فرق بين كون الشرط شرطا لمتعلق التكليف كالطهارة في الصلاة وبين كونه شرطا لمتعلّق المتعلّق كاشتراط الايمان في عتق الرقبة لأنّ الأمر في كليهما من الدوران بين الأقل والأكثر بلحاظ ما يدخل في العهدة فتجرى البراءة عنه.

القسم الثالث : أن يكون ما احتمل دخل في الواجب بمنزلة الفصل بالنسبة إلى الجنس ممّا ليس له منشأ انتزاع مغاير بحسب الوجود الخارجي بل يكون من مقدمات المأمور به.

ففي هذه الصورة ربّما يقال بعدم جريان البراءة لعدم الأقل والأكثر بحسب الوجود الخارجى إذ الجنس لا يوجد بدون الفصل فالأمر يدور بين أن يكون الجنس متميزا بفصل معين أو بفصل ما من فصوله وهذا من موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير لا من موارد الدوران بين الأقل والأكثر.

يمكن أن يقال : إنّ العبرة في الأحكام بعالم تعلّق الوجوب وعالم الجعل وهو عالم التحليل وفي هذا العالم يمكن الافتراق حتّى بين الجنس والفصل بالتحليل العقلي كما نقول في تعريف الإنسان إنّه مركب من الحيونة والنطق مع أنّ مقتضى المقابلة هو أن لا يكون النطق داخلا في الحيوانة وليس ذلك إلا لكون الملحوظ في طرف الجنس ماهية مبهمة وبهذا الاعتبار يدور الأمر بين الأقل والأكثر ولا يضره الاتحاد الخارجي لأن الخارج ظرف السقوط لا الثبوت فيجرى البراءة في المشكوك ويحكم بكفاية الذات من دون حاجة إلى ضمّ ضميمة لأنّ تصور الجنس بنحو الاهمال يكفى في تحقّق المعلوم والمشكوك لا يقال إنّ المبهم لا يكون مورد تعلّق الحكم.

لأنّا نقول : لا مانع من ذلك ألا ترى أنّ الاشبح الذي لا نعلم أنّه حيوان أو إنسان لا يجوز

٢٢٧

قتله ويجوز أسناد الرؤية إليه وهو شاهد على جواز تعلّق الحكم به فدعوى عدم جواز تعلّق الحكم بالمبهم كما ترى.

ودعوى : أنّ عينية الطبيعة المهملة مع المقيّد لا أصل لها إذ الحصة الموجودة من الطبيعة ليست عين الوجود بل متحدة به اتحاد اللامتحصل مع المتحصل فالجامع بين الحصص أولى بأن لا يكون عين الوجود فالوجود المضاف إلى الحصة مضاف إليها بالعرض كما أنّ الوجود المضاف إلى الجامع بواسطة حصته يكون عرضيا بالأولوية والوجوب كالوجود مضاف إلى الحصة عرضا فضلا عن الجامع وعليه فلا علم بوجوب الجامع إلّا بالمعنى الأعم ممّا بالذات وما بالعرض.

مندفعة : بإمكان منع عرضية أسناد الوجوب أو الوجود إلى الحصة بل إلى الجامع عند العرف وإن سلم ذلك بالدقة العقلية بل هما يسندان إليهما حقيقة وعليه فالطبيعة المهملة معلوم الوجوب والزائد عليها مشكوك فيجرى فيه البراءة وحيث لا يكون تباين بين الطبيعى وأفراده أو بين الجنس وأنواعه بل كلّ الطبيعى موجود في الخارج بنعت الكثرة لا بنعت التباين فأنّ الطبيعى لما لم يكن في حدّ ذاته واحدا ولا كثيرا فلا محاله يكون مع الواحد واحدا ومع الكثير كثيرا فيكون موجودا مع كلّ فرد بتمام ذاته ويكون متكثرا بتكثر الافراد فزيد إنسان وعمرو إنسان وبكر إنسان لا أنّهم متباينات في الإنسانية بل متكثرات فيها وإنّما التباين من لحوق عوارض مصنفة ومشخصة.

فلا مجال لانكار الأقل والأكثر لأنّ الأقل وهو الجنس أو الطبيعى معلوم وإنّما الشك في خصوصية نوع أو فرد وعليه فينحلّ العلم الإجمالي إلى المعلوم والمشكوك ويجرى البراءة في المشكوك.

بقى شيء :

وهو أنّ المحكى عن سيّدنا الاستاذ قدس‌سره هو التفصيل بين ما كان من قبيل الشرط والمشروط فحكمه بحسب البراءة الشرعية حكم ما إذا تردد الأمر بين الأقل والأكثر من

٢٢٨

الأجزاء دون البراءة العقلية فإنّ الظاهر عدم جريانها في المقام وإن قلنا بجريانها في الأقل والأكثر من الأجزاء لأن الانحلال المتوهم فيه لا يكاد يتوهم هاهنا حيث إنّ التكليف لو كان متعلقا بالمشروط واقعا لما كان إلّا متعلقا به بما هو لا بجزءين أحدهما ذات المشروط والآخر تقيّده بالشرط فإنّ الثاني ليس ممّا يصح أن يكلف به الآمر لعدم ما يكون بحذائه خارجا وذلك واضح فليس يصح أن يقال إنّ التكليف بذات المشروط معلوم تفصيلا والتكليف بتقييده بالشرط مشكوك بدوا وبين ما كان من قبيل العام والخاصّ أو الجنس والنوع فحكمه بحسب الأصل العقلي حكم القسم الأوّل (أي دوران الأمر بين الأقل والأكثر من الأجزاء الخارجية) فإن قلنا بجريان البراءة العقلية فيه لقلنا به هاهنا وأمّا بحسب الأصل النقلي فكذلك ظاهرا لأن الترديد بين الجنس والنوع وإن كان من قبيل الترديد بين المتباينين عرفا وكان خصوصية الخاصّ منتزعة من نفس الخاصّ إلّا أنه بعد اللتيا والتي تكون الارادة على النوع مشكوكة وعلى الجنس معلومة والملاك في جريان حديث الرفع ليس إلّا الشك في الارادة الواقعية النفس الأمرية.

وبعبارة اخرى إن تعلّق الارادة بالنوع والخاصّ مشكوك فالأصل عدمه ولا يعارضه البراءة في الجنس لعدم جريانها فيه حيث إنّ تعلّق الإرادة به معلوم انتهى ولا يخفى عليك أنّ التفصيل بين البراءة العقلية والشرعية فيما اذا كان التكليف من قبيل الشرط والمشروط بدعوى عدم صحة التكليف بشيء وليس ما بحذائه شيء خارجا لا وجه له لصحة التكليف بالشيء ولو لم يكن ما بحذائه شيء خارجا لا مكان الاتيان به ولو مع المشروط ومع صحة التكليف يدور الأمر بين التكليف بذات المشروط وبين التكليف به مع الشرط والتكليف بذات المشروط معلوم تفصيلا والتكليف بالشرط مشكوك فيجرى في المشكوك البراءة مطلقا عقلية كانت أو شرعية ولا موجب للتفصيل المذكور فتحصّل أنّه لا فرق في جريان البراءة مطلقا بين الشرط والمشروط وبين الجنس والنوع لانحلال المعلوم بالاجمال إلى المعلوم بالتفصيل والمشكوك ولو في الذهن الثاني في جميع الموارد ومعه تجري البراءة في الأجزاء التحليلية كالأجزاء الخارجية فتدبّر جيدا.

٢٢٩
٢٣٠

تنبيهات المقام الثاني :

التنبيه الأوّل : في جريان البراءة في الأسباب والمسببات وعدمه.

واعلم أنّ الأسباب والمسببات تنقسم إلى عقليّة وعاديّة وشرعيّة فإذا كانت الأسباب عقلية أو عادية فلا مجال للبراءة لأنّ بيانها ليس على الشارع والمفروض أنّ المكلّف به معلوم ومبيّن من جهة المفهوم وإنّما الشك في أسبابه العقليّة والعاديّة فاللازم حينئذ هو الاحتياط في الأسباب المذكورة قال سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره فيما إذا دار أمر السبب العقلي أو العادي بين الأقل والأكثر كما لو أمر بالقتل وتردد سببه بين ضربة وضربتين أو أمر بتنظيف البيت ودار أمره بين كنسه ورشه أو كنسه فقط لا اشكال في عدم جريان البراءة لأنّ المأمور به مبيّن وغير دائر بين الأقل والأكثر وما هو دائر بينهما فهو غير مأمور به والشك بعد في حصول المأمور به وسقوطه وقد قامت الحجة على الشيء المبيّن فلا بدّ من العلم بالخروج عن عهدته (١) وبعبارة اخرى مقتضى الاشتغال اليقيني هو الفراغ اليقيني بالاحتياط هذا كله فيما إذا كانت الأسباب والمسببات عقليّة أو عاديّة وأمّا إذا كانت الأسباب والمسببات شرعيّة أو كانت المسببات تكوينيّة إلّا أنّ أسبابها لإبهامها لا تتعين بفهم العرف بل اللازم أن يكشف عنها الشارع كما إذا فرض أنّ المأمور به في الوضوء أو الغسل هو حالة نورانيّة تكوينيّة لا سبيل لكشفها إلّا الشرع ففي الصورتين يجوز جريان البراءة لأنّ للشرع دخالة حينئذ في تعيين السبب وما يدخل في العهدة ومقتضى عموم حديث الرفع هو البراءة عن

__________________

(١) تهذيب الاصول / ج ٢ ، ص ٣٤٨.

٢٣١

مورد الشك قال الشهيد الصدر قدس‌سره إذا لم يكن المحصّل عرفيا إمّا لكون المسبب شرعيا أو لإبهامه وغموضه فنفس عدم عرفيته قرينة عامة على أنّ المولى هو الذي تكفل بيان السبب وتحديده فيكون مقدار اهتمام المولى بغرضه بمقدار بيانه للسبب وفي مثل ذلك ، الذي يجب بحسب الحقيقة ويدخل في عهدة المكلف ليس هو ذلك الغرض والمسبب المجهول بل المقدار المبين من السبب فإذا شك في بيان المولى لدخالة الزائد في السبب كان مجرى للبراءة لا عن السببية بل عن مقدار ما يهتم به المولى ويدخله في عهدة المكلف وهو السبب وبالجملة المجعول الانشائي للمولى وإن فرض هو ايجاب الغرض كما لو قال طهر ثوبك للصلاة مثلا وبيان سببية الغسلة الثانية للطهارة ليس أمرا مجعولا وموضوعا بالوضع الشرعي ولكن حيث إنّ القرينة العامة في باب المحصّلات الشرعية تصرف ظهور اللفظ عن لزوم تحصيل الغرض كائنا ما كان إلى ما ذكرناه يصبح السبب هو الذي يتنجز بمقدار تبيانه شرعا فهو الواجب بحسب الدقة والداخل في عهدة المكلف ويكون قابلا لايجاب الاحتياط تجاهه فتجري البراءة عنه عند الشك في دخالة الزائد فيه كما تجري البراءة عن وجوب الزائد المحتمل دخله في الغرض الاقصى.

وعلى هذا الأساس تجري البراءة عن شرطية شيء أو مانعيته في الوضوء السبب للطهور هذا إذا لم نقل بأنّ الطهور بنفسه اعتبار شرعي منطبق على نفس الأفعال الخارجية وإلّا فجريان الأصل فيه واضح (١).

وممّا ذكر يظهر ضعف ما قيل من عدم الفرق بين أن يكون السبب والمحصّل شرعيا أو غير شرعي إذ السببية غير مجعولة شرعا بجعل مستقل بل هي منتزعة من الحكم بحصول الواجب عند اتيان ذات السبب فلا موهم لجريان حديث الرفع فيها عند الشك نعم لو التزم بانها مجعولة بجعل مستقل كان للحديث في جريان حديث الرفع مجال وإن كان ممنوعا. (٢)

__________________

(١) مباحث الحجج / ج ٢ ، ص ٣٦٧ ـ ٣٦٨.

(٢) منتقى الاصول / ج ٥ ، ص ٢٤٩.

٢٣٢

وذلك لما عرفت من أنّ الذي يجب بحسب الحقيقة ويدخل في عهدة المكلف ليس هو الغرض أو المسبب المجهول لعدم التمكن منهما بدون معلومية أسبابها بل الذي يجب هو المقدار المبيّن من السبب وعليه فإذا شككنا في بيان المولى من جهة دخالة الزائد في السبب أمكن الأخذ بالبراءة في المقدار الزائد على ما بينه بعنوان السبب فإنّ ذلك ممّا للشرع فيه دخالة ويشمله عموم حديث الرفع كما لا يخفى.

ولا يلزم فيه أن يكون السبب مجعولا شرعيا بل يكفى في جريان البراءة كون السبب ممّا يتكفل الشارع لبيانه وتحديده وحينئذ لا يدخل في العهدة من السبب إلّا المقدار المبيّن وفي الزائد عليه تجري البراءة هذا. واستشكل سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد أيضا في ذلك بأنّ اجراء البراءة عقلا ونقلا فيما إذا تردّد الأمر بين الأقل والأكثر في نفس متعلقات التكليف لا يلازم اجرائها في دوران الأمر بينهما في الأسباب والمحصّلات مطلقا أمّا في الاسباب العادية والعقلية فواضح وأمّا في الأسباب الشرعية فلأنّ رفع الجزئية المشكوكة أو الشرطية كذلك وإن كان برفع منشأ انتزاعها اعني سببية الأكثر المجعولة شرعا حسب الفرض إلّا أنه لما لا يثبت سببية الأقل إلا بناء على التعويل على الأصول المثبتة لأشكل إجراؤها.

وإن شئت قلت حيث إنّ البيان بالنسبة إلى المسبب تمام وليس له جزء أو شرط مشكوك فلذا ليس هو محط الأصل لا شرعا ولا عقلا فيجب إحراز الإتيان بهذا الأمر البسيط إمّا وجدانا أو تعبدا وهذا لا يتحقق إلّا بإتيان الأكثر أو إثبات سببية الأقل وحيث لا يمكن الثاني لا بد من إتيان الأكثر وهذا بخلاف دوران الأمر بين الأقل والأكثر في متعلقات التكاليف فإنّه يقال فيه إنّ رفع وجوب الأكثر وإن كان لا يثبت وجوب الأقل إلّا على الأصل المثبت ولذا يصير الأقل بعد رفع الوجوب عن الأكثر بالأصل مشكوكا بالشك البدوي إلّا أنه ليس مجرى الأصل لأنّ جريان الأصل فيه يؤدي إلى الترخيص في المخالفة القطعية وهو قبيح بحكم العقل فمقتضى العلم الإجمالي فيه باق على حاله بعد فتدبّر فإنّه

٢٣٣

دقيق. (١)

ولقائل أن يقول كما أنّ تنجز التكليف بالمسببات متوقف على البيان فكذلك يتوقف تنجزه على بيان أسبابها الشرعية لو كانت لها إذ التكليف بالمسببات من دون بيان أسبابها الشرعية مع عدم طريق للعرف اليها يوجب الإحالة إلى المجهول الذي لا يناله الناس كثيرا ما وهي قبيحة فالاكتفاء ببيان المسببات دون أسبابها الشرعية يوجب نقض الغرض وهو لا يصدر عن الحكيم المتعال وعليه فبيان الأسباب الشرعية على عهدة الشارع فإذا شككنا في المسببات من ناحية أسبابها الشرعية أمكن الأخذ بالبراءة في الأسباب الشرعية لأنّ أمرها بيد الشارع فيشمله عموم حديث الرفع لعدم اختصاصه بالتكاليف بل يشمل كل ما له دخل في ذلك وممّا له مدخلية فيه هو بيان الأسباب الشرعية بل يلحق بذلك ما إذا كانت الأسباب تكوينية ولكنها كانت مبهمة لا تتعين للعرف ويحتاج الكشف عنها بالبيان الشرعي وعليه فلا يتنجز التكليف بالمسببات بدون الكشف الشرعي وإلّا لزمت تعين الإحالة إلى المجهول وهي لا تصدر عن الحكيم المتعال كما عرفت.

ولا يحتاج ذلك إلى اثبات سببية الأقل حتى يقال إنّ أصالة البراءة لا تثبتها لأنّ سببية الأقل معلومة بالجعل الشرعي أو الكشف ولا حاجة إلى الاثبات وإنّما الشك في الزائد على المقدار المعلوم.

فيمكن القول بجريان البراءة في الأسباب الشرعية أو الاسباب التكوينية المبهمة التي لا تكون مبينة إلّا بالبيان الشرعي.

هذا مع الغمض عمّا أفاده في ذيل كلامه لما عرفت في الأقل والأكثر من معلومية وجوب الأقل من جهة معلومية انبساط التكليف بالنسبة إليه دون المورد المشكوك ومع معلومية وجوب الأقل بالتفصيل لا يصل النوبة في لزوم اتيانه إلى الأخذ بمقتضى العلم الإجمالي فتدبّر جيّدا.

__________________

(١) المحاضرات لسيدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره / ج ٢ ، ص ٣٩٨.

٢٣٤

ودعوى : أنّ التحقيق هو التفصيل بين أن يكون العنوان البسيط الذي هو المأمور به ذا مراتب متفاوته متدرج الحصول والتحقق من قبل أجزاء علته ومحققه بأن يكون كل جزء من أجزاء سببه مؤثّرا في تحقق مرتبة منه إلى أن يتم المركب فيتحقق تلك المرتبة الخاصة التي هي منشأ الآثار نظير مرتبة خاصة من النور الحاصلة من عدة شموع والظاهر أنّه من هذا القبيل باب الطهارة كما يكشف عنه ظاهر بعض النصوص الواردة في باب غسل الجنابة من نحو قوله عليه‌السلام تحت كل شعرة جنابة فبلّوا الشعر وأنقوا البشرة وقوله عليه‌السلام في الصحيح فما جرى عليه الماء فقد طهر وقوله عليه‌السلام في الصحيح الآخر وكل شيء أمسسته الماء فقد انقيته (ويعضده) استدلال جمع منهم على ناقضية الأصغر الواقع في اثناء الغسل بأنّ الحدث الاصغر ناقض للطهارة بكمالها فلأبعاضها أولى.

وبين ما لا يكون كذلك بأن كان العنوان البسيط غير مختلف المراتب (دفعي الحصول والتحقق عند تمامية محققه).

فعلى الأوّل لا قصور في جريان أدلّة البراءة عند الشك في المحقّق ودورانه بين الأقل والأكثر فإنّ مرجع الشك في دخل الزائد في المحقّق حينئذ بعد فرض ازدياد سعة الأمر البسيط بازدياد أجزاء محققه إلى الشك في سعة ذلك الأمر البسيط وضيقه فينتهي الأمر في مثله إلى الأقل والأكثر في نفس الأمر البسيط فتجري فيه البراءة عقليها ونقليها من غير فرق بين كون المحصل له من الأسباب العقلية والعادية أو الأسباب الشرعية كباب الطهارة الحديثة بل الخبيثة أيضا.

وأمّا على الثاني وهو فرض كون البسيط دفعي الحصول والتحقق عند تحقق الجزء الأخير من علته فلا محيص عند الشك في دخل شيء في محققه من الاحتياط لأنّ التكليف قد تنجز بمفهوم مبين معلوم بالتفصيل بلا ابهام فيه والشك إنّما كان في تحققه وحصول الفراغ منه بدونه والعقل يستقل في مثله بوجوب الاحتياط تحصيلا للجزم بالفراغ عما ثبت الاشتغال

٢٣٥

به يقينا. (١)

مندفعة : بما عرفت من أنّ تنجيز المسبب تابع للمقدار المبيّن من السبب وإلّا لزم أن يكون الذي يجب عليه ويدخل في عهدة المكلف أمرا مجهولا من ناحية أسبابه والتكليف بالمجهول من ناحية أسبابه كالتكليف المجهول من جهة نفسه في أنّه لا يصدر من الحكيم المتعال وبالجملة أنّ التكليف بالمسببات بدون تعيين أسبابها الشرعية تكليف بالمجهول فيرجع التكليف بها إلى التكليف بأسبابها الشرعية أو المكشوفة بالكشف الشرعي وحيث إنّ الأسباب المذكورة مرددة بين الأقل المعلوم والأكثر المشكوك فتجري فيها البراءة بالنسبة إلى الزائد على المقدار المبين من الأسباب وبعبارة أخرى يشك حينئذ في اشتغال الذمة بالزائد على المقدار المبيّن ومقتضاه هو البراءة.

ولا تفاوت فيه بين أن يكون المسبب ذات مراتب أو لا يكون لأنّ التكليف بالمقدار الزائد على المقدار المبيّن من الأسباب مجهول في كليهما والعلم بالتكليف ثابت بالنسبة إلى الأسباب المبيّنة دون المشكوكة أو غير المكشوفة ومعلومية المكلف به دون أسبابه الشرعية لا يجعل التكليف مبيّنا معلوما بالتفصيل من جميع الجهات بحيث لا إبهام فيه وعليه فلا يقاس المقام بما إذا كان المكلف به معلوما مبينا وله أسباب عقلية وعادية فإنّه لا محيص فيه من الاحتياط لعدم الابهام في المكلف به لا من جهة مفهوم المسبب ولا من جهة أسبابه بخلاف المقام كما لا يخفى.

وبعبارة أخرى لا مانع من جريان البراءة العقلية والشرعية بالنسبة إلى عقوبة ترك المسبب من ناحية الشك في أسبابه الشرعية أو من ناحية اسبابه التكوينية التي لا يتمكن المكلف من الكشف عنها إلّا ببيان الشرع أخذا بإطلاق رفع ما لا يعلمون فإنّ الرفع لا يختص بالمسببات بل يشمل الأسباب التي للشرع دخالة فيها فتدبّر.

التنبيه الثاني : في مقتضى القاعدة العقلية والشرعية في النقيصة العمدية والسهويّة ولا

__________________

(١) نهاية الافكار / ج ٣ ، ص ٤٠١ ـ ٤٠٢.

٢٣٦

يذهب عليك وضوح بطلان العمل بالنقص العمدي لأنّ الفاقد للجزء أو الشرط ليس مأمورا به بل هو كالمتروك رأسا ولا كلام فيه.

وإنّما الكلام في مقتضى القاعدة في النقيصة السهوية فنقول بعون الله تعالى واعلم أنّه إذا ثبتت جزئية شيء أو شرطيته وشك في كونه من الأركان بمعنى أنّه معتبر حتى حال السهو والنسيان بحيث لو ترك سهو أو نسيانا ثمّ تذكر في الأثناء أو بعد العمل كان عليه الاستيناف أو الاعادة وفي عدم كونه كذلك بمعنى أنّ اعتباره يختص بحال الذكر بحيث لو ترك سهوا أو نسيانا لا يلزم عليه الاعادة أو الاستيناف ففي جريان القاعدة والأصل العقلي الدال على قبح العقاب بلا بيان والبراءة الشرعية مع قطع النظر عن الأدلة الخاصة كقاعدة لا تعاد خلاف ثمّ إنّ هذه المسألة تكون من مسائل دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيّين لأنّ مرجع الشك فيها إلى الشك في أنّ المطلوب منهما هو الأقل المأتي به أو الأكثر من جهة الشك في اعتبار الجزء أو الشرط في خصوص حال الذكر أو الأعم منه وكيف كان فقد ذهب شيخنا الأعظم قدس‌سره إلى أنّ الأقوى فيها أصالة بطلان العبادة بنقص الجزء سهوا إلّا أن يقوم دليل عام أو خاص على الصحة لأنّ ما كان جزءا في حال العمد كان جزءا في حال الغفلة فإذا انتفى المركب فلم يكن المأتي به موافقا للمأمور به وهو معنى فساده.

أمّا عمومية جزئيته لحال الغفلة فلأنّ الغفلة لا توجب تغيير المأمور به فإنّ المخاطب بالصلاة مع السورة إذا غفل عن السورة في الأثناء لم يتغير الأمر المتوجه إليه قبل الغفلة ولم يحدث بالنسبة إليه من الشارع أمر آخر حين الغفلة لأنّه غافل عن غفلته فالصلاة الماتي بها من غير سورة غير مأمور بها بأمر أصلا غاية الأمر عدم توجه الأمر بالصلاة مع السورة إليه لاستحالة تكليف الغافل فالتكليف ساقط عنه ما دام الغفلة نظير من غفل عن الصلاة رأسا أو نام منها فإذا التفت اليها والوقت باق وجب عليه الاتيان به بمقتضى الأمر الأول. (١)

حاصله كما أفاد شيخنا الاستاذ الأراكي تبعا لشيخ المشايخ الحاج الشيخ عبد الكريم

__________________

(١) فرائد الاصول / ص ٢٨٦ الطبعة القديمة.

٢٣٧

الحائري قدس‌سره أنّ الأمر بالمركب الناقص لا يمكن أن يتوجه إلى عنوانى الساهي والناسي فإنّهما ما دام لم يلتفتا إلى تطبيق هذين العنوانين عليهما لا يمكن أن يبعثهما الخطاب المعلق بالعنوانين سمت متعلقه أعني الناقص ومتى التفتا يخرجان عن العنوانين ويدخلان تحت العامد والذاكر فإذا كان في هذا الاحتمال هذا المحذور العقلي يتعين الاحتمال الآخر وهو اشتراك الجزئية بين حالي العمد والسهو والذكر والنسيان نعم يمكن أن يسقط الشارع الاعادة عن المكلف الآتي بالناقص كما نقول به في بعض أجزاء الصلاة بواسطة القاعدة المستفادة من الشرع لكن الكلام في الأصل العقلي مع قطع النظر عما استفدنا من الشرع ولا شك في أنّ الأصل العقلي لزوم الاحتياط وعدم الاكتفاء بالمركب الناقص. (١)

أورد عليه شيخنا الاستاذ الأراكي قدس‌سره تبعا لشيخه الاستاذ بما حكاه عن استاذه السيد الفشاركي عن سيد مشايخنا الميرزا الشيرازي قدس‌سره بأنّا سلّمنا ما ذكر من عدم صحة تخصيص الناسي والساهي بالخطاب ولكن بالتامّ أيضا خطابه غير صحيح لكونه غافلا وتكليف الغافل غير صحيح فهو غير مأمور بشيء من الناقص والتام وحيث إنّ من المقطوع أنّ حاله ليس كالبهائم في عدم المحبوبية الذاتية في حقه للعمل بل المحبوبية للعمل ثابتة في حقه فننقل الكلام في هذه المحبوبية فنقول هى ممكن التعلق بالناقص والزائد على حد سواء فإذا فرغ عن العمل والمفروض أنّه غير مأمور بشيء أصلا ثمّ تذكر أنّه سها عن السورة مثلا فهو يحتمل أنّ المحبوب النفسي الأمري الإلهي في حقه في حال سهوه ونسيانه هو ما أتى به من الصلاة الناقص السورة ويحتمل أنّه كان الصلاة التام الأجزاء حتى السورة والأصل العقلي في حقه حينئذ هو البراءة إذ لا فرق في تقريب البراءة بين متعلق الحبّ ومتعلق الأمر فكما قلنا بأنّ تعلق الأمر بالمركب من تسعة اجزاء مثلا مقطوع وبالعاشر مشكوك فكذلك نقول في الحبّ حرفا بحرف فإنّه وإن لم يكن له اشتغال عقلي حين السهو والنسيان ولكن بعد التذكر يحصل الاشتغال إذ يعلم بحصول المطلوب النفس الأمري من المولى الذي كان تاما من ناحيته

__________________

(١) الدرر / ص ٤٩١ ، اصول الفقه / ج ٣ ، ص ٧٢٣.

٢٣٨

ويشك في أنه آت به أو لا فإن قلنا بالانحلال في مسألة الأقل والأكثر يرتفع عنه هذا الحكم العقلي بسبب الانحلال وإلّا كان مشغول الذمة حتى ياتي الأكثر فاجراء البراءة إنّما هو بالنسبة إلى حال ذكره الحاصل له بعد العمل ليرفع الاعادة عنه. (١)

واستشكل في ذلك بأنّه بعد الاجماع على أنّ لكل أحد خطابا كان خطاب الغافل كخطاب الذاكر لعدم امكان اختصاصه بخطاب غاية الأمر أنّ الخطاب عام والمكلف ما دام غافلا لم يتنجز عليه وبعد الالتفات يتنجز الخطاب بالنسبة إليه ومقتضاه هو وجوب الاعادة مع الاتيان بالجزء المنسي كما ذهب إليه الشيخ الأعظم قدس‌سره.

وأجاب عنه المحقّق الحائري في الدرر بأنّ دعوى الاجماع بالنسبة إلى الغافل بالموضوع كما هو محل الكلام ممنوعة نعم الغفلة عن الحكم لا توجب اختلاف الحكم وإلّا لزم التصويب وملخص الكلام أنّا نشك بعد ارتفاع العذر أنّ الغافل صار مكلفا بغير المركب الناقص الذي أتى به والأصل عدمه وثبوت الاقتضاء بالنسبة إلى الجزء الفائت لا دليل عليه فالأصل البراءة عنه كما هو الشأن في كل مورد دار الأمر فيه بين الأقل والأكثر. (٢)

ودعوى : أنّ تحقق الامتثال والاطاعة في حقه ممنوع حيث إنّ ما اعتقده من الأمر وتحرّك على طبقه لم يكن في حقه فلا اطاعة حقيقية للأمر حيث لا أمر وأمّا محبوبيته واقعا فكفى بها مقربة له لكنه ما أتى بالفعل بداعي محبوبيته فما يصلح للدعوة المقربة ما دعاه وما دعاه لا واقعيّة له حتى يضاف الفعل إلى المولى بسبب الداعي من قبله. (٣)

مندفعة : بما أفاده شيخنا الاستاذ الأراكي قدس‌سره من أنّ قصد الأمر من باب الخطأ في التطبيق ومحرّكه في الحقيقة هو أمر المولى أو حبّه فهو قاصد لإتيان ما أتى به سواء كان مأمورا به أو محبوبا فلا وجه مع ما ذكرناه لقوله لكنه ما أتى بالفعل بداعي محبوبيته هذا مضافا إلى أنّ صدق العبادة متقوم بالأمرين الحسن الفعلي والحسن الفاعلي وكلاهما موجودان في مثل

__________________

(١) اصول الفقه / ج ٣ ، ص ٧٢٤.

(٢) الدّرر / ص ٤٩٢.

(٣) تعليقة الاصفهاني / ج ٢ ، ص ٢٨٠.

٢٣٩

المقام كما لا يخفى.

فتحصّل : أنّ البراءة العقلية تجرى في المقام بالنسبة إلى الزائد على الأقل ويحكم بكفاية ما أتى به في حال السهو والنسيان هذا كله بناء على عدم امكان للخطاب للناسي والساهي وإلّا فمع الامكان ووجود الخطاب للناسي الساهي فلا مجال للتمسك بالأصل العقلي المذكور إذ مع البيان لا مورد له وعليه فاللازم هو البحث عن امكان الخطاب للناسي والساهي وعدمه ثبوتا واثباتا.

إمكان الخطاب للناسي وعدمه :

فنقول مستعينا بالله تعالى ذكروا هنا وجوها لإمكان الخطاب بالنسبة إلى الناسي والساهي والمراد من الخطاب إمّا خطاب عامّ يشمل الغافل والذاكر كدليل الجزئية والشرطية أو خطاب مختص بالساهي والناسي الذي يدلّ على مطلوبية الأقل منه بخصوصه وكيف كان فلا مجال مع الاطلاق للأصل العقلي فإنّ مع خطاب عام فالحكم هو وجوب الاعادة بعد التذكر كما أنّ مع خطاب خاص بالساهي فالحكم هو الاكتفاء بالأقل فالبيان موجود ومع وجود البيان لا مجال لقاعدة قبح العقاب بلا بيان كما لا يخفى ولا بأس بذكر عمدة هذه الوجوه وهي كما تلي :

منها أنّ الخطابات العامة القانونية الدالة على الأجزاء والشرائط تشمل الناسي والساهي والنسيان والسهو لا يمنعان إلّا عن التنجيز كالعجز والجهل كما هو المستفاد من كلامه قدس‌سره وعليه فالخطابات العامة القانونية فعليّة ولا محذور في شمولها للناسي والساهي بعد عدم تنجّزها وكونها من الخطابات العامة القانونية إذ ليست كالخطابات الشخصية حتى تكون لغوا بالنسبة إلى الساهي والناسي.

ودعوى أنّه يتقوم البعث والزجر بامكان فعليّة الداعوية حين الخطاب وهي مستحيلة بالنسبة إلى الساهي والناسي مندفعة بكفاية أن يكون الخطاب داعيا إلى الامتثال بشرط

٢٤٠