عمدة الأصول - ج ٦

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٦

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: ولي عصر (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٣

عدم تساويهما فلا يحكم العقل بالتخيير بينهما بل يحكم بلزوم الأخذ بذي المزية إذ مناط حكم العقل بالتخيير بينهما هو فقد المرجح لأحد الطرفين على الآخر ومع وجود المرجح لا حكم للعقل بالتخيير بل ربّما ينتهي الأمر كما أفاد في نهاية الأفكار إلى جريان البراءة بالنسبة إلى ذي المزية منهما بل مطلقا نعم لا يكفي في ذلك الترجيح من حيث الاحتمال فلا يؤثر مجرد أقوائية احتمال الوجوب مثلا في تعيين الأخذ به كما لا يكفي نفس احتمال الحرمة في ترجيح جانبها على احتمال الوجوب إلى أن قال في فرض تساوي المحتملين ملاكا لا بدّ من المصير إلى التوقف والتخيير عقلا بمناط الاضطرار والتكوين لا البراءة والحكم بالاباحة ظاهرا ولا الاحتياط بمعنى تقديم جانب الحرمة المحتملة (١).

المقام الثاني : في الدوران بين المحذورين من التوصليات مع تعدد الواقعة. ولا يخفى أنّه إذا كانت الواقعة متعددة وتوصلية لو علم بصدور شرطين أو حلفين وتعلّق أحدهما بفعل أمر والآخر بترك آخر واشتبه الأمر في الخارج دار الأمر في كلّ منهما بين الوجوب والحرمة.

وحيث لا يستحيل المخالفة القطعية فإنّه في الفرض المذكور لو أتى بهما أو تركهما خالف قطعا فالعلم الإجمالي باق على تنجيزه بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية بدعوى أنّ ترك المخالفة القطعية هو المقدار الممكن من الامتثال وعليه فاللازم هو اختيار أحد الفعلين وترك الآخر ولا يكون مجازا بالنسبة إلى المخالفة القطعية وأنّ الموافقة القطعية فهي ساقطة لعدم التمكن منها. نعم لو ظن أنّ الواجب هو فعل هذا وترك ذاك أو بالعكس. لا يبعد وجوب مراعاة الظنّ بالنحو المذكور لأنّ الموافقة القطعية إذا امتنعت لزم الاكتفاء بالموافقة الظنية وهي ممكنة على الفرض فيجب عليه في اختيار أحد الفعلين وترك الآخر مراعاة للظنّ المذكور بأن أتى بفعل ظن به وترك فعل ظن به.

فتحصّل : أنّه لا مجال للحكم بالتخيير المطلق حتّى بالنسبة إلى المخالفة القطعية في الواقعة المتعددة التوصلية بل اللازم عليه هو الاجتناب عن المخالفة القطعية مع مراعاة الموافقة

__________________

(١) نهاية الأفكار / ج ٣ ، ص ٢٩٥.

٢١

الظنية عند امتناع الموافقة القطعية إن حصل الظنّ وإلّا فالموافقة الاحتمالية كما في الواقعة الواحدة ممّا لا بدّ منه.

اللهمّ إلّا أن يقال : كما أفاد المحقّق الاصفهاني قدس‌سره إنّ التحقيق أنّ العلم لا ينجز إلّا طرفه مع القدرة على امتثال طرفه ومن البين أنّ هناك تكاليف متعددة في الوقائع المتعددة فهناك علوم متعددة بتكاليف متعددة في الوقائع المتعددة لا ينجز كلّ علم إلّا ما هو طرفه في تلك الواقعة والمفروض عدم قبول طرفه للتنجز ولا توجب هذه العلوم المتعددة علما اجماليا أو تفصيليا بتكليف آخر يتمكن من ترك مخالفته القطعية.

نعم انتزاع طبيعي العلم من العلوم المتعددة وطبيعي التكليف من التكاليف المتعددة ونسبة المخالفة القطعية إلى ذلك التكليف الواحد المعلوم بعلم واحد هو الموجب لهذه المغالطة.

ومن الواضح أنّ ضمّ المخالفة في واقعة إلى المخالفة في واقعة أخرى وإن كان يوجب القطع بالمخالفة لكنّه قطع بمخالفة غير مؤثرة لفرض عدم الأثر لكل مخالفة التكليف المعلوم في كلّ واقعة.

وممّا ذكرنا تبيّن أنّ التمكن من ترك المخالفة القطعية في واقعتين غير مفيد لأنّه ليس امتثالا للتكليف المعلوم الذي يترقب امتثاله فانّ كلّ تكليف في واقعة يستدعي امتثال نفسه بحكم العقل لا امتثاله أو امتثال تكليف آخر في واقعة أخرى (١) ونحوه ما في نهاية الأفكار حيث قال وأمّا مع تعددها فالحكم فيه أيضا التخيير عقلا كما في فرض وحدة الواقعة (٢).

حاصله عدم تنجيز العلم الإجمالي من حيث ترك المخالفة القطعية في واقعتين كما لم ينجز في واقعة واحدة من الدوران بين المحذورين وعليه فيكون مخيرا مطلقا ولو أوجب المخالفة القطعية.

واجيب عنه بأنّه لا نلاحظ العلم الإجمالي في كلّ واقعة كي يقال إنّ المخالفة القطعية للعلم

__________________

(١) نهاية الدراية / ج ٢ ، ص ٢٣٦.

(٢) نهاية الأفكار / ج ٣ ، ص ٢٩٥.

٢٢

الإجمالي المزبور مخالفة غير مؤثره بل الملحوظ هو العلم الإجمالي الحاصل بضمّ الواقعتين إحداهما إلى الأخرى وهو لا ينافي عدم تنجز العلم الإجمالي بالنسبة إلى كلّ واقعة بحيالها وعدم ثبوت تكليف آخر غير المعلوم بالعلم الإجمالي غير المنجز ولا يتنافى مع تعلّق علم اجمالي به آخر يستلزم تنجيزه بالنسبة إلى المخالفة القطعية (١).

وتفصيل ذلك كما في مصباح الاصول أنّ التحقيق أنّ العلم الإجمالي بالالزام المردّد بين الوجوب والحرمة في كلّ من الأمرين وإن لم يكن له أثر لاستحالة الموافقة القطعية والمخالفة القطعية في كلّ منهما كما ذكر إلّا أنّه يتولد في المقام علمان اجماليان آخران أحدهما العلم الإجمالي بوجوب أحد الفعلين والثاني العلم الإجمالي بحرمة أحدهما والعلم الإجمالي بالوجوب يقتضي الاتيان بهما تحصيلا للموافقة القطعية كما أنّ العلم الإجمالي بالحرمة يقتضي تركهما معا كذلك.

وحيث إنّ الجمع بين الفعلين والتركين معا مستحيل يسقط العلمان عن التنجيز بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية ولكنّ يمكن مخالفتهما القطعية بايجاد الفعلين أو بتركهما فلا مانع من تنجيز كلّ منهما بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية فإنّها المقدار الممكن على ما تقدم بيانه وعليه فاللازم هو اختيار أحد الفعلين وترك الآخر تحصيلا للموافقة الاحتمالية وحذرا من المخالفة القطعية (٢).

لا يقال : إنّ العلمين الإجماليين المذكورين حصلا بتبع العلم الإجمالي بالإلزام المردّد بين الوجوب والحرمة في كلّ من الأمرين فإذا كان العلم الإجمالي المتبوع ساقطا عن التأثير فالعلمان التابعان يكونان ساقطين أيضا فلا تأثير لهما كما لا تأثير العلم الإجمالي المتبوع.

لأنّا نقول : لا ملازمة بين عدم تنجيزهما وبين عدم تنجيز العلم الإجمالي المتبوع وإن كان العلمان الإجماليان تابعين في الوجود فحينئذ يكون مقتضى العلمين هو التنجيز بالنسبة

__________________

(١) منتقى الاصول / ج ٥ ، ص ٣٥.

(٢) مصباح الاصول / ج ٢ ، ص ٣٣٩.

٢٣

إلى المخالفة القطعية كما ذكر نعم هذا فيما إذا لم يظن بأنّ الواجب هو فعل هذا وترك ذاك أو بالعكس وإلّا فقد عرفت أنّه لا يبعد وجوب الموافقة الظنية أيضا فيما إذا لم يمكن الموافقة القطعية لأنّها هو الميسور من موافقة المعلوم بالإجمال مع بقائه على التنجيز ولو في الجملة والفرق بين المقام الثاني والمقام الأوّل في أنّ العلم الإجمالي في المقام الأوّل ساقط أصلا ولا تأثير له ولذا لا يجب مراعاة الظنّ في طرف من أطرافه بخلاف المقام الثاني فإنّ العلم الإجمالي بالتقريب المذكور باق على التنجيز ولو في الجملة فيجب مراعاته مهما أمكن فلا يجوز أن يأتي على وجه يعلم بالمخالفة القطعية كما لا يجوز أن يأتي على خلاف المظنون فلا تغفل.

هذا كلّه فيما إذا تعددت الواقعة عرضا وأمّا إذا تعددت طولا كما إذا علم بتعلق حلف بايجاد فعل في زمان وبتعلق حلف آخر بتركه في زمان ثان واشتبه الزمانان ففي كلّ زمان يدور الأمر بين الوجوب والحرمة ففي هذه الصورة يكون مقتضى إطلاق قول المحقّق الأصفهاني قدس‌سره والعراقي هو التخيير أيضا بين الفعل والترك في كلّ من الزمانين إذ كلّ واقعة مستقلة ودار الأمر في كلّ واحد بين الوجوب والحرمة ولا يمكن الموافقة القطعية ولا المخالفة القطعية وعليه فللمكلف اختيار الفعل في كلّ من الزمانين واختيار الترك في كلّ منهما واختيار الفعل في أحدهما والترك في الآخر.

أورد عليه في مصباح الاصول بأنّه إن قلنا بتنجيز العلم الإجمالي في الامور التدريجية كغيرها فالعلم الإجمالي منجز بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية لا مكانها فاللازم اختيار الفعل في أحد الزمانين واختيار الترك في الآخر حذرا من المخالفة القطعية وتحصيلا للموافقة الاحتمالية.

وإن قلنا بعدم تنجيز العلم الإجمالي في التدريجيات فيحكم بالتخيير بين الفعل والترك في كلّ زمان إذ لم يبق سوى العلم الإجمالي بالالزام المردّد بين الوجوب والحرمة في كلّ من الزمانين وقد عرفت أنّ مثل هذا العلم لا يوجب التنجيز لعدم امكان الموافقة القطعية ولا

٢٤

المخالفة القطعية فيخيّر المكلّف بين الفعل والترك في كلّ من الزمانين (١).

ولا يخفى عليك أنّ مع تنجيز العلم الإجمالي في الامور التدريجية كغيرها كما هو الظاهر وعدم الظنّ بفعل هذا وترك ذاك أو بالعكس فاللازم هو اختيار الفعل في أحد الزمانين واختيار الترك في الآخر حذرا من المخالفة القطعية ولا فرق فيه بين أن يكون اختيار الفعل في الزمان الأوّل والترك في الزمان الثاني وبين العكس وأمّا مع حصول الظنّ بفعل هذا وترك ذاك أو بالعكس فلا يبعد القول بوجوب الموافقة الظنية أيضا فيقدم المظنون على غيره فإن كان المظنون هو ترك الأوّل وفعل الثاني اختار ذلك وإن كان عكس ذلك اختار العكس وذلك لما عرفت من أنّ الموافقة الظنية من مراتب الموافقة القطعية إذا امتنعت الموافقة القطعية فاللازم هو الاتيان بالميسور منها وهي الموافقة الظنية فلا تغفل هذا كلّه بالنسبة إلى تعدد الوقائع التوصلية مطلقا سواء كانت عرضية أو طولية وأمّا بالنسبة إلى تكرر الواقعة الواحدة فسيأتي حكمه في المقام الآتي فانتظر.

المقام الثالث : في التخيير البدوي والاستمراري

ولا يذهب عليك أنّه لو كان لمورد دوران الأمر بين المحذورين أفراد ووقائع طوليّة تدريجيّة كما إذا علم اجمالا بصدور حلف واحد على الاتيان بفعل أو على تركه في كلّ ليلة جمعة فهل يكون التخيير حينئذ بدويّا أو استمراريا أمكن أن يقال لا إشكال في الثاني باعتبار أنّ كلّ فرد من أفراد ذلك الفعل له حكم مستقل وقد دار الأمر فيه بين محذورين فيحكم العقل بالتخيير كما تقدم لعدم امكان الموافقة القطعية ولا المخالفة القطعية ولا يترتب على ذلك في المقام سوى أنّ المكلّف إذا اختار الفعل في فرد والترك في فرد آخر يعلم اجمالا بمخالفة التكليف الواقعي في أحدهما ولا بأس به لعدم كون التكليف الواقعي منجّزا على الفرض.

__________________

(١) مصباح الاصول / ج ٢ ، ص ٣٤٠.

٢٥

ودعوى : أنّ العلم بالالزام المردّد بين الوجوب والحرمة وإن لم يوجب تنجيز التكليف المعلوم بالإجمال إلّا أنه مع فرض تعدد الأفراد يتولد من العلم الإجمالي المذكور علم اجمالي متعلّق بكل فردين من الأفراد وهو العلم بوجوب أحدهما وحرمة الآخر إذا المفروض اشتراكهما في الحكم وجوبا وحرمة فإن كان أحدهما المعين واجبا وإلّا فالآخر حرام يقينا وهذا العلم الإجمالي وإن لم يمكن موافقته القطعية لاحتمال الوجوب والحرمة في كلّ منهما إلّا أنّه يمكن مخالفته القطعية باتيانهما معا أو تركهما كذلك وقد عرفت أنّ العلم الإجمالي يتنجّز معلومه بالمقدار الممكن من حيث وجوب الموافقة القطعية أو حرمة المخالفة القطعية فلا مناص من كون التخيير بدويا حذرا من المخالفة القطعية فلا يجوز للمكلف التفكيك بين الأفراد من حيث الفعل والترك (١).

مندفعة : بمنع تولد العلم الإجمالي المتعلّق بكل فردين من الأفراد وهو العلم بوجوب أحدهما وحرمة الآخر إذ تعدد ليلة الجمعة لا يوجب العلم بوجوب أحدهما وحرمة الآخر بل كلّ ليلة باقية على كونها محتملة الأمرين فكما أنّ الليلة الواحدة محتملة الأمرين فكذلك الليلتان فلذا لو أتى بالفعلين فيهما أو تركهما لم يعلم بالمخالفة القطعية لاحتمال أن يكون المحلوف عليه هو الفعل فالاتيان به في الفردين موافق له أو المحلوف عليه هو الترك فترك الفعل في الفردين موافق له ولا يقاس المقام بصورة تعدد الوقائع في الأفراد العرضية أو الطولية مع تعدد الحلف واحراز اختلاف المحلوف عليه في الفعل والترك واشتباههما كما مرّ في المقام الثاني فإنّ في ذلك المقام يحصل العلم بالمخالفة لو أتى بهما أو تركهما والعلم الإجمالي يمنع عنه لبقائه على التنجيز بخلاف مقامنا هذا وعليه فالقول بالتخيير الاستمراري في الفرض المذكور في المقام لا يوجب المخالفة القطعية فيما إذا أتى بهما أو تركهما نعم لو أتى بالفعل في فرد وترك الفعل في فرد آخر يعلم اجمالا بمخالفة التكليف الواقعي في فرد كما يعلم بموافقة التكليف الواقعي في الآخر ولا ترجيح للمخالفة على الموافقة ولا بأس بحصول العلم

__________________

(١) مصباح الاصول / ج ٢ ، ص ٣٤٣ ـ ٣٤٤.

٢٦

بالمخالفة لعدم كون التكليف الواقعي منجّزا على الفرض.

فتحصّل أنّ التخيير الاستمراري في مفروض المسألة هو الصحيح فيجوز له أن يأتي بالفعلين أو التركين أو التفكيك بينهما كما لا يخفى ولعلّ المقرّرين خلطوا موضوع البحث في المقام بما إذا علم بتعلق الحلف بايجاد فعل في زمان وبترك ذلك الفعل في زمان آخر واشتبه الزمانان لأنّ في هذه الصورة تحرم المخالفة القطعية لامكانها إذ لو أتى بالفعلين في الليلتين أو تركهما فيهما علم بالمخالفة القطعية إذ المفروض هو العلم بتعلق الحلف بايجاد فعل في زمان وبترك ذلك الفعل في زمان آخر فالاتيان بهما. أو تركهما يوجب العلم بالمخالفة القطعية فلا مناص في هذه الصورة من الاحتياط بأن ياتي بفعل في ليلة وتركه في الأخرى حتّى لا تحصل المخالفة القطعية ولا مجال في هذه الصورة للتخيير الاستمراري ولكنّها أجنبية عن مفروض البحث في المقام فتحصّل أنّ التخيير الاستمراري هو الأظهر في مثل المقام الذي يكون المحلوف عليه مترددا بين الفعل والترك دون غيره ممّا يكون المحلوف عليه متعددا وحصل الاشتباه والله العالم.

ولعلّ إلى ما ذكرنا يؤول ما أفاده سيّدنا الإمام المجاهد حيث قال إذا تعددت الوقائع فهل التخيير بدئي أو استمراري الأقوى هو الثاني لأنّ المكلّف إذا أتى في الواقعة الثانية بخلاف الأولى (علم ظ) بمخالفة قطعية وموافقة قطعية وليس في نظر العقل ترجيح بينهما فصرف لزوم مخالفة قطعية لا يمنع عن التخيير بعد حكم العقل بعدم الفرق بين تحصيل تكليف قطعا وترك تكليف قطعا (١).

ودعوى : أنّ حرمة المخالفة القطعية أهمّ بنظر العقل من لزوم الموافقة القطعية ولذا قيل بعلّية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعيّة وتوقف في علّيّته لوجوب الموافقة القطعيّة فيتعيّن رفع اليد عن لزوم الموافقة القطعية لأحدهما والاكتفاء بالموافقة الاحتمالية حذرا من الوقوع

__________________

(١) تهذيب الأصول / ج ٢ ، ص ٢٤٤.

٢٧

في المخالفة القطعية للآخر فيتعيّن التخيير البدوي (١).

مندفعة : بأنّه لا دليل على أهمّية حرمة المخالفة القطعية بالنسبة إلى الموافقة القطعية وأمّا العلم الإجمالي فقد فرغنا عن كونه مقتضيا وليس بعلّة لشوبه مع الشك وقد مرّ التفصيل في ذلك.

لا يقال : إنّ تحصيل الموافقة القطعية لكلا العلمين الإجماليين غير مقدورة فيتنزل العقل عنها إلى الموافقة الاحتمالية بخلاف الاجتناب عن المخالفة القطعية فإنّه مقدور لكل من العلمين فيحكم العقل بحرمتها فيتعيّن التخيير البدوي (٢).

لأنّا نقول : لو أتى بفعلين أو بتركين لم يحصل له العلم الإجمالي إما بوجوب الفعل في هذه الواقعة أو بحرمته في الواقعة الثانية أو بالعكس لا مكان أن يكون المحلوف عليه في الواقع هو الفعل فيوافقه أو هو الترك فيوافقه نعم لو أتى بفعل في واقعة وبترك في واقعة أخرى حصل له العلم بوجوب الفعل في هذه الواقعة أو بحرمته في الواقعة الثانية ولكنّه معارض بالعكس من العلم بحرمة الفعل في هذه الواقعة ووجوبه في الواقعة الثانية فلا يكونان منجّزين هذا مضافا إلى أنّ العلم المذكور بعد حكم العقل بالتخيير في كلّ واقعة مستقلة علم بالمخالفة لا بالمخالفة المحرمة فلا تنجيز للعلم المذكور حتّى يرجح جانب المخالفة ويحكم بالتخيير البدوي فالأظهر هو التخيير الاستمراري في مفروض المسألة فلا تغفل.

المقام الرابع : في تنجيز العلم الإجمالي بالنسبة إلى المخالفة القطعية مع تمكّنها دون الموافقة القطعية لعدم التمكّن منها

ولا يخفى أنّه إذا كان أحد الحكمين أو كلاهما تعبّديا مع وحدة الواقعة كما إذا دار الأمر بين وجوب الصلاة على المرأة وحرمتها عليها لاحتمالها الطهر والحيض مع عدم احراز أحدهما

__________________

(١) منتقى الاصول / ج ٥ ، ص ٣٣.

(٢) منتقى الاصول / ج ٥ ، ص ٣٣.

٢٨

ولو بالاستصحاب بناء على حرمة الصلاة على الحائض ذاتا بمعنى أن يكون نفس الصلاة حراما عليها ولو أتت بها من دون قصد القربة.

ففي هذه الصورة وإن لم تمكن الموافقة القطعية لدوران الأمر بين المحذورين إلّا أنّ المخالفة القطعية ممكنة فإنّه إذا جاءت بالصلاة بدون قصد القربة قطعت بالمخالفة القطعية إما من جهة ترك الواجب لو كانت الصلاة واجبة عليها وإما من جهة الاتيان بالحرام لو كانت الصلاة محرمة عليها ذاتا كما لا يخفى.

ومع تمكنها من المخالفة القطعية فلا مانع من تنجيز العلم الإجمالي بالنسبة إليها وعليه فتحرم عليها المخالفة القطعية ولا يجوز أن تأتى بالصلاة بدون قصد القربة ومع تنجيز العلم الإجمالي فلا مجال للرجوع إلى البراءة الشرعية أو العقلية لأنّ الاصول في أطراف العلم الإجمالي متعارضة إن لم نقل بأنّها غير جارية فيحكم العقل حينئذ بالتخيير بين الاتيان بالصلاة برجاء المطلوبية والقربة وبين تركها رأسا ولكنّ لا يجوز لها أن يترك كلا الأمرين رأسا باتيان الصلاة من دون قصد القربة لأنّه مخالفة قطعية ينافيها تنجيز العلم الإجمالي.

قال في مصباح الاصول إنّ الاصول في أطراف العلم الإجمالي في مواردها متعارضة متساقطة ويترتب على ذلك تنجيز العلم الإجمالي من حيث حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية أو من إحدى الجهتين دون الأخرى وبعبارة أخرى إذا تساقطت الاصول في أطراف العلم الإجمالي فالحكم المعلوم بالإجمال يتنجز بالمقدار الممكن فإن أمكن المخالفة القطعية والموافقة القطعية فالتنجيز ثابت من الجهتين وإلّا فمن إحداهما وحيث إنّ المخالفة القطعية فيما هو محلّ الكلام فعلا ممكنة كان العلم الإجمالي منجّزا بالنسبة إليها فحرمت المخالفة القطعية بأن تأتي بالصلاة بدون قصد القربة وحيث إنّ الموافقة القطعية غير ممكنة فلا محالة يحكم العقل بالتخيير بين الاتيان برجاء المطلوبية وبين تركها رأسا (١).

__________________

(١) مصباح الاصول / ج ٢ ، ص ٣٣٥.

٢٩

المقام الخامس : في عدم التزاحم فيما إذا كانت القدرة في طرف شرعية

ولا يذهب عليك أنّ التزاحم والحكم بالتخيير في مقام الامتثال يختص بما إذا كانت القدرة في طرفي التزاحم عقلية أو شرعية وأما إذا كانت في طرف شرعية وفي طرف آخر عقلية وإن قيل أيضا بتقديم الأهم بينهما إن كان وإلّا فالحكم هو التخيير ولكنّ الصحيح هو تقديم طرف القدرة العقلية على طرف القدرة الشرعية لتعليق طرف القدرة الشرعية على عدم ارتكاب المحرم أو ترك الواجب ومن المعلوم أنّ هذا الحكم يرتفع بتزاحمه مع ارتكاب المحرم أو ترك الواجب.

وتفصيل ذلك أنّه مثلا إذا بنينا على أنّ الصلاة في النجس محرمة بالذات نظير سائر المحرمات المولوية وتردد الثوب الطاهر بين الثوبين المشتبهين الذين أحدهما طاهر والآخر نجس فهل يجب أن يكرر الصلاة فيهما تحصيلا لموافقة الأمر بالصلاة في الثوب الطاهر وإن استلزم المخالفة القطعية للنهي عن الصلاة في الثوب المتنجس أو تجب عليه الصلاة عريانا تحصيلا لموافقة النهي عن الصلاة في النجس وإن استلزم العلم بمخالفة الأمر بالصلاة في الثوب الطاهر أو يصلي في أحد الثوبين المشتبهين مخيرا لأنّه موافقة احتمالية من جهة ومخالفة احتمالية من جهة وجوه والأظهر هو الثاني فإنّ القدرة المعتبرة في الأمر بالصلاة في الثوب الطاهر شرعية لا عقلية.

وإليه ينتهي السيّد المحقّق الخوئي قدس‌سره حيث قال في المثال المفروض في المقام للمكلف علمان اجماليان في المقام أحدهما العلم الإجمالي بطهارة أحد الثوبين وثانيهما العلم بنجاسة أحد الثوبين والموافقة القطعية للعلم الإجمالي بطهارة أحدهما يتوقف على تكرار الصلاة فيهما كما أنّ الموافقة القطعية للعلم الإجمالي بنجاسة أحدهما تتوقف على أن لا يصلي في شيء من المشتبهين (فيتزاحم التكليفان).

وحيث إنّ المكلّف غير متمكن من إحراز الموافقة القطعية لكليهما فلا محالة تقع المزاحمة بين التكليفين في مقام الامتثال وحينئذ لا بدّ من العلم بما هو الأهم منهما إن كان وإلّا يتخير

٣٠

بينهما إلى أن قال ولكنّ الصحيح أنّ الواجب لو قلنا بحرمة الصلاة في النجس ذاتا هو الصلاة عاريا دون تكرارها ولا الصلاة في أحد المشتبهين وذلك للعلم بأنّ الاجزاء والشرائط المعتبرة في الصلاة لا تزاحم شيئا من المحرمات والواجبات حيث إنّ لها مراتب متعددة ومع العجز عما هو الواجب في حق المكلّف المختار يتنزل إلى ما دونه من المراتب النازلة (وهو في المقام الصلاة عريانا) وسره أنّ القدرة المعتبرة في الأجزاء والقيود قدرة شرعية فمع توقف احراز شيء منهما على ترك الواجب أو مخالفة الحرام يسقط عن الوجوب لعدم تمكن المكلّف منه شرعا فيتنزل إلى الصلاة فاقدة الشرط أو الجزء فلا مساغ لارتكاب المحرم أو ترك الواجب مقدمة لاتيان شيء من القيود المعتبرة في الصلاة إلى أن قال وإن شئت قلت إنّ القدرة المعتبرة في الصلاة في الثوب الطاهر شرعية والقدرة المأخوذة في ترك المحرم (كالصلاة في النجس بناء على ثبوت ذلك) عقلية وعند تزاحم التكليفين المشروط أحدهما بالقدرة الشرعية يتقدم ما هو المشروط بالقدرة العقلية على غيره (١).

فتحصّل : أنّ مع كون القدرة في طرف شرعية لا يبقى مجال للتزاحم لتقدم طرف يكون القدرة فيه عقلية نعم إذا كانت القدرة في طرفين عقلية فالمورد من المتزاحمات وتمّ فيه ما ذكر من أنّ المقدم هو الأهم وإلّا فالحكم هو التخيير في مقام الامتثال ثمّ لا يخفى عليك أنّ التخيير في مقام الامتثال وإن كان أجنبيا عن مسائل علم الاصول فإنّ التخيير المبحوث عنه فيه هو التخيير من جهة تعارض النصوص أو إجمالها لكن لا يخلو عن فائدة كما أنّ الشبهة الموضوعية في البراءة مسألة فقهية ومع ذلك ذكرت في الاصول إتماما للفائدة.

المقام السادس : في دوران الأمر بين شرطية شيء وبين مانعية في العبادات

قد تعرض الشيخ قدس‌سره في المقام لدوران الأمر بين المحذورين في العبادات الضمنيّة كما إذا دار الأمر بين شرطية شيء أو جزئيته لواجب وبين مانعيته عنه فذهب فيه إلى أنّ المكلّف

__________________

(١) التنقيح / ج ٢ ، ص ٣٩٥ ـ ٣٩٦.

٣١

مختار بين الاتيان بما يحتمل كونه شرطا أو جزءا وبين تركه لاحتمال كونه مانعا.

يمكن أن يقال : إنّ التخيير فيما إذا لم يمكن الامتثال التفصيلي أو الإجمالي وإلّا فلا تصل النوبة إليه فاللازم هو تقييد التخيير بين الشرطية أو الجزئية وبين المانعية بما إذا لم يتمكن من الامتثال التفصيلي أو الإجمالي.

قال السيّد المحقّق الخوئي قدس‌سره : إنّ الحكم بالتخيير في باب التكاليف الاستقلالية إنّما كان من جهة عدم تنجز الالزام المردّد بين الوجوب والحرمة لاستحالة الموافقة القطعية وهذا بخلاف الالزام المعلوم اجمالا في المقام فإنّه يمكن موافقته القطعية كما يمكن مخالفته القطعية فيكون منجّزا أو يجب فيه الاحتياط ولو بتكرار العمل.

وتوضيح المقام أنّ احتمال كون شيء مانعا أو شرطا يتصور بصورتين.

الصورة الاولى : ما يتمكن فيه المكلّف من الامتثال التفصيلي ولو برفع اليد عما هو مشتغل به فعلا كما لو شك بعد النهوض للقيام في الاتيان بالسجدة الثانية فإنّه بناء على تحقّق الدخول في الغير بالنهوض كان الاتيان بالسجدة زيادة في الصلاة وموجبا لبطلانها وبناء على عدم تحققه به كان الإتيان بها واجبا ومعتبرا في صحتها (وفي هذه الصورة يتمكن من الامتثال التفصيلي بناء على عدم حرمة ابطال صلاة الفريضة مطلقا أو في خصوص المقام). فإنّه إذا رفع يده عن هذه الصلاة وأتى بصلاة أخرى حصل له العلم التفصيلي بالامتثال ففي هذه الصورة لا ريب في وجوب احراز الامتثال ولا يجوز له الاكتفاء باحد الاحتمالين (والحكم بالتخيير) لعدم احراز الامتثال بذلك والاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني فعليه رفع اليد عن هذه الصلاة واعادتها أو اتمامها على أحد الاحتمالين ثمّ اعادتها وعلى كلّ تقدير لا وجه للحكم بالتخيير وجواز الاكتفاء باحد الاحتمالين في مقام الامتثال هذا بناء على عدم حرمة ابطال صلاة الفريضة مطلقا أو في خصوص المقام من جهة ان دليل الحرمة قاصر عن الشمول له فإنّ عمدة مدركه الاجماع والقدر المتيقن منه هو الحكم بحرمة قطع الصلاة التي يجوز للمكلف الاقتصار عليها في مقام الامتثال وأما الصلاة المحكوم بوجوب اعادتها

٣٢

فلا دليل على حرمة قطعها.

وأمّا لو بنينا على حرمة قطع الفريضة حتّى في مثل المقام كان الحكم بالتخيير في محله إلّا أنّه لا لاجل دوران الأمر بين الجزئية والمانعية بل من جهة دوران الأمر بين حرمة الفعل وتركه.

وان شئت قلت إنّ لنا في المقام علمين اجماليين أحدهما : العلم الإجمالي بثبوت الزام متعلّق بطبيعي العمل المردّد بين ما يؤتى فيه بالجزء المشكوك فيه وما يكون فاقدا له ثانيهما : العلم الإجمالي بحرمة الجزء المشكوك فيه ووجوبه لدوران الأمر فيه بين الجزئية الموجبة لوجوبه والمانعية المقتضية لحرمته لكونه مبطلا للعمل.

والعلم الثاني وان كان لا يترتب عليه أثر لعدم التمكن من الموافقة القطعية ولا من المخالفة القطعية فيحكم بالتخيير بين الاتيان بالجزء المشكوك فيه وتركه إلّا ان العلم الإجمالي الأوّل يقتضي اعادة الصلاة تحصيلا للفراغ اليقيني.

الصورة الثانية : ما يتمكن فيه المكلّف من الامتثال الإجمالي إما بتكرار الجزء أو بتكرار أصل العمل كما إذا دار أمر القراءة بين وجوب الجهر بها أو الاخفات فإنّه إذا كرّر القراءة بالجهر مرة وبالاخفات أخرى مع قصد القربة (وقصد جزئية أحدهما الواقعية وكون الآخر قرآنا) فقد علم بالامتثال اجمالا.

ففي هذه الصورة فلا وجه فيها لجواز الاقتصار على الامتثال الاحتمالي فيجب عليه احراز الامتثال ولو اجمالا وبالجملة الحكم بالتخيير إنّما هو مع عدم التمكن من الامتثال العلمي ومع التمكن منه فالاقتصار على الامتثال الاحتمالي يحتاج إلى دليل خاصّ ومع عدمه يحكم العقل بلزوم الامتثال العلمي باعتبار ان شغل الذمة اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني (١).

هذا كلّه فيما إذا أمكن التكرار وأما إذا لم يمكن التكرار لضيق الوقت فالتخيير الذي ذهب إليه الشيخ في الدوران بين الشرطية والمانعية هو الصحيح.

__________________

(١) مصباح الاصول / ج ٢ ، ص ٣٣٦ ـ ٣٣٨.

٣٣

ولذا قال في مصباح الاصول في دوران الأمر بين الجزئية والمانعية : إذا دار الأمر بين القصر والاتمام عند ضيق الوقت فالتخيير بين الأمرين في الوقت وان كان ممّا لا مناص منه إلّا أنّه قد يتوهم عدم سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز بالنسبة إلى وجوب الاتيان بالمحتمل الآخر في خارج الوقت فلا يجوز الاقتصار باتيان أحد المحتملين في الوقت بل يجب عليه الاحتياط والاتيان بالمحتمل الآخر في خارج الوقت ولكنّ التحقيق عدم وجوب الاتيان بالقضاء في خارج الوقت إذ القضاء بفرض جديد وتابع لصدق فوت الفريضة في الوقت ولم يحرز الفوت في المقام لأنّ احرازه يتوقف على احراز فعلية التكليف الواقعي في الوقت بالعلم الوجداني أو الأمارة أو الأصل وكلّ ذلك غير موجود في المقام فانّ غاية ما في المقام هو العلم الإجمالي باحد الأمرين إلى أن قال وهو لا يكون منجّزا إلّا بالنسبة إلى وجوب الموافقة الاحتمالية ووجوب الأخذ باحد المحتملين في الوقت دون المحتمل الآخر لعدم امكان الموافقة القطعية فإذا لم يحرز التكليف بالنسبة إلى المحتمل الآخر في الوقت لم يحرز الفوت كي يجب القضاء (١).

فالحكم في هذه الصورة هو التخيير بين الأمرين في الوقت عند تضييقه وان كان الأمر دائرا بين الجزئية أو المانعية وما ذكره هنا اقوى ممّا حكاه عنه في الدراسات من لزوم الاتيان بالآخر في خارج الوقت بحسب القاعدة عدا مورد ورد فيه الدليل الخاصّ على جواز الاكتفاء ببعض الأطراف.

كالاجتزاء بالصلاة إلى الجهة التي يظن انها القبلة أو الاجتزاء بصلاة واحدة مع تردد القبلة بين اربع جهات ولم يتمكن المكلّف إلّا من الاتيان بصلاة واحدة مع دوران الأمر بين الشرطية والمانعية فانّ استقبال كلّ جهة من الجهات كما يحتمل شرطيته لاحتمال كونه إلى القبلة يحتمل مانعيته لاحتمال كونه على خلاف القبلة.

وذلك لما أشار إليه هنا من ابتناء وجوب القضاء على صدق عنوان الفوت وهو غير

__________________

(١) مصباح الاصول / ج ٢ ، ص ٣٣٩.

٣٤

ثابت نعم لو قلنا بأنّ القضاء يكون بالامر السابق صح القول بالاحتياط لأنّ الأمر السابق مردد بين القصر والاتمام ويجب عليه الاداء والقضاء من باب الاحتياط ولا يصل النوبة إلى التخيير.

المقام السابع : في مجرى أصالة التخيير

واعلم أنّ الظاهر من أكثر العبائر أنّ مجرى أصالة التخيير في علم الاصول هو الدوران بين المحذورين ومثّلوا له بما إذا علم التكليف ودار المكلّف به بين فعل شيء وتركه الذين لا يمكن جمعها ولا تركهما كما إذا علم بالحلف وتردد في أنّ المحلوف عليه هو فعل السفر مثلا أو تركه فلا يتمكن المكلّف فيه لا من الموافقة القطعية ولا من المخالفة القطعية فالعلم الإجمالي فيه يسقط عن التأثير ويحكم العقل بالتخيير الاضطراري التكويني ولذا يشكل الأمر في غير توصليين كما إذا كانا تعبديين أو كان أحدهما المعين تعبديا للتمكن من المخالفة القطعية فيه باتيان العمل من دون قصد القربة بناء على حرمة العمل ذاتا ولو بدون قصد القربة كالصلاة عن المرأة المردّدة في الطهر والحيض فإنّه إذا اتت بالصلاة وتركت قصد القربة قطعت بالمخالفة لأنّها اتت بالحرام باتيان الصلاة وتركت الواجب بترك قصد القربة والعلم الإجمالي لا يسقط عن التأثير باعتبار التمكن من المخالفة القطعية وإن لم يكن مؤثرا في ناحية الموافقة القطعية لعدم التمكن منها ومقتضى ذلك هو خروج هذه الصورة عن محلّ الكلام فإنّ المجرى على ما هو يظهر من أكثر الكلمات هو ما إذا لم يتمكن فيه من الموافقة القطعية والمخالفة القطعية وفي هذه الصورة يتمكن من المخالفة القطعية.

اللهمّ إلّا أن يقال : حيث إنّ المهم هو تحقيق أصالة التخيير بين الفعل والترك لا وجه لتخصيصه بما إذا لم يتمكن من المخالفة القطعية لأنّ العقل أيضا يحكم بالتخيير عند دوران الأمر بين الفعل بنحو قربي وترك الفعل القربي رأسا لعدم التمكن من الموافقة القطعية وبعبارة اخرى يكفي عدم التمكن من الموافقة القطعية لحكم العقل بالتخيير وعليه فيعمّ مجرى أصالة

٣٥

التخيير لما إذا كانا تعبديين أو كان أحدهما المعين تعبديا ولذا عمّم في الكفاية موضوع أصالة التخيير لغير التوصليين.

بقي هنا تخيير آخر وهو يختص بموارد التي لا يمكن الجمع بينهما من المتزاحمين كتزاحم واجب مع واجب آخر فانّ العقل يحكم بالتخيير ولكنّ الحكم الشرعي معلوم في الطرفين وإنّما عدم التمكن من جهة امتثالهما وعليه فالحكم بالتخيير تخيير فقهي من جهة عدم التمكن من ناحية الامتثال لا من جهة فقد النص أو اجماله أو تعارضه كما في التخيير الاصولي وكيف كان ان التخيير الفقهي في المتزاحمين لا يكون إلّا عند عدم مرجح لطرف بالنسبة إلى الآخر مضافا إلى عدم إمكان الجمع بينهما وإلّا فإن أمكن الجمع فاللازم هو الإتيان بهما لتمامية أدلتهما وإن كان ترجيح في بعض الأطراف فاللازم هو الإتيان به لأنّ الأمر يدور بين التعيين والتخيير والأصل فيه هو التعيين لأنّ الشك في السقوط بعد العلم بثبوت الحكم فإذا تزاحم بين الغريقين في الانقاذ ولم يمكن الجمع بانقاذهما تخيّر المكلّف في انقاذهما لو لم يكن ترجيح في البين وإلّا فالمتعين هو انقاذ طرف فيه الترجيح فإذا انقذنا الطرف المرجح نعلم بامتثال أنقذ الغريق وإلّا فلا نعلم بالامتثال والاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني.

ولذا قال في المستمسك فمع التساوي في الاهتمام يعلم بوجود الملاك في كلّ منهما تخييرا فيجب أحدهما على التخيير دون الآخر كما أنّه مع احتمال الأهميّة مع أحد الطرفين بعينه يعلم بوجود الملاك في محتمل الأهميّة إما تعيينا أو تخييرا بينه وبين الآخر فيجب بعينه عقلا دون الآخر وأما إذا كان احتمال الأهميّة موجودا في كلّ من الطرفين فلم يحرز وجود الملاك في كلّ منهما تخييرا فلا طريق للحكم بوجوب أحدهما تخييرا مع امكان الجمع بل يجب الجمع بينهما عقلا للعلم الإجمالي بوجوب أحدهما المردّد بينهما وما ذكرناه مطرد في جميع موارد الدوران بين ترك شرط وشرط آخر وبين ترك جزء وجزء آخر وبين ترك شرط وترك جزء مع العلم بوجوب الواجب (المشروط) وعدم سقوط وجوبه بتعذر جزئه أو شرطه مثل ان يدور الأمر بين ترك الطمأنينة في الصلاة وترك القيام وبين ترك القيام في الصلاة

٣٦

وترك الركوع وبين ترك القيام وترك الاستقبال إلى غير ذلك من موارد الدوران والحكم فيه ما ذكرناه من أنه إن علم بتساوي الأمرين في نظر الشارع فقد علم بوجود الملاك في كلّ منهما تخييرا فيتغير المكلّف بينهما وإن علم بأهمية أحدهما بعينه أو مساواته للآخر فقد علم بوجود الملاك في محتمل الأهمية وشك في وجوده في الآخر وإن احتمل الأهمية في كلّ من الطرفين فلا طريق إلى إحراز الملاك في أحدهما تعينا ومع تردده بينهما يجب الاحتياط بالجمع مع إمكانه ومع عدم إمكانه يتخير بينهما (١). وكيف ما كان فهذا التخيير تخيير فقهي وتفصيله مذكور في الفقه لأنّ الحكم معلوم والشك في ناحيته الامتثال لا من ناحية الأدلة فتدبّر جيدا.

المقام الثامن : في اشتراط عدم أصل لفظي في جريان أصالة التخيير

إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير فإن كان الشك في ثبوت التكليف ولم يكن أصل لفظي في المورد فمقتضى القاعدة هو التخيير إذ الشك في التكليف الزائد من ناحية الخصوصية ومع جريان البراءة في الخصوصية يحكم العقل بالتخيير مثلا إذا علمنا أنّ الشارع وجب علينا خصال الكفارات ولكنّ شككنا في أنّ بعضها مرتب على الآخر أو واجب في عداد البقية كان الشك في التعيين والتخيير وهكذا لو شككنا في التعيين والتخيير في الديات الستة ففي هذه الصورة التخيير معلوم والتعيين مشكوك وحيث إنّ التعيين أمر زائد يجري فيه البراءة ويحكم بالتخيير ولكنّ هذا إذا لم يكن أصل لفظي في البين وإلّا فهو مقدم على الأصل العملي كما إذا شككنا في لفظ الأمر الصادر من المولى بالاحسان إلى زيد أنّه اكتفى به أو ضمّ إليه عمرا وقال أو عمرو فمقتضى الاطلاق أنه أمر بالاحسان إلى زيد ولم يذكر عدلا له ولو أراد التخيير لذكر عدلا له فالواجب هو الاحسان إلى خصوص زيد ومع جريان مقدمات الاطلاق لا مجال للأصل العملي لأنّ موضوع الأصل العملي هو الشك ومع مقدمات

__________________

(١) المستمسك / ج ١ ، ص ٥٢٠ ـ ٥٢١.

٣٧

الاطلاق لا يبقى الشك كما لا يخفى وإن كان الشك في السقوط بعد العلم بالثبوت ولم يكن إطلاق في البين فمقتضى الأصل هو التعيين والاتيان بما يحتمل تعيينه كما إذا شككنا في حجية قول غير الأعلم والأمر يدور بين تعيين الأعلم والتخيير بين الأعلم وغير الأعلم وحيث إنّ مع الاكتفاء بقول غير الأعلم نشك في سقوط التكاليف الواقعية بذلك كان الشك في السقوط بعد العلم بالثبوت فمقتضى قاعدة أنّ الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني هو لزوم الاكتفاء بقول الأعلم أو الراجح من جهة اخرى وعليه فالأصل هو التعيين.

هذا إذا لم يكن إطلاق لفظي في البين وإلّا فمع فرض إطلاق الدليل الدال على حجية قول المجتهد لا مجال للأصل لأنّ موضوعه هو الشك وهو يرتفع باطلاق الدليل كما لا يخفى.

وبالجملة فكل مورد يكون الشك في ثبوت التكليف فالعقل يحكم بالتخيير مع عدم أصل لفظي وكلّ مورد يكون الشك في سقوط التكليف بعد العلم بثبوته يحكم العقل بالتعيين مع عدم إطلاق الدليل ولذا ذهب كثير من الاصحاب إلى تعيين محتمل الأعلمية أو الأعدلية أو الأرجحية بالنسبة إلى غيرهم وجعل في المستمسك من هذا الباب ما إذا كان كلّ من بدنه وثوبه نجسا ولم يكن له من الماء إلّا ما يكفي لأحدهما حيث قال فيه لا مجال للتخيير إذا احتمل أولوية نجاسة البدن من نجاسة الثوب بل الأمر يدور بين التعيين والتخيير والأصل يقتضي التعيين وإن قلنا بالتخيير إذا دار الواجب بين التعيين والتخيير لأنّ الشك في المقام في السقوط للعلم بمانعية نجاسة البدن والشك في كون العجز المفروض مسقطا (١).

وفي جعل هذا من امثلة المقام تأمل ونظر لأنّ المعلوم هو مانعية النجاسة سواء كانت في البدن أو اللباس لا مانعية نجاسة البدن وعليه فلا يكون الشك في هذا الفرع شكا في السقوط بل الشك في الثبوت للشك في اعتبار الخصوصية في تطهير البدن وكيف كان فالمسألة واضحة وقد ذكر السيّد المحقّق الخوئي قدس‌سره في مصباح الاصول جملة من احكام دوران الأمر

__________________

(١) المستمسك / ج ١ ، ص ٥٢٢.

٣٨

بين التعيين والتخيير عند ختام البحث عن حكم دوران الأمر بين الأقل والأكثر في الأجزاء التحليليّة فراجع (١).

__________________

(١) مصباح الاصول / ج ٢ ، ص ٤٤٧ ـ ٤٥٩.

٣٩
٤٠