عمدة الأصول - ج ٦

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٦

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: ولي عصر (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٣

والمخالفة القطعية يقع الكلام في امكان الترخيص ثبوتا بالنسبة إلى بعض الأطراف وعدمه.

ويمكن أن يقال : إنّ العقل يحكم بوجوب الاحتياط ووجوب تحصيل الموافقة القطعية بعد العلم الإجمالي بثبوت التكليف ولكنّ حيث إنّ هذا الحكم معلق على عدم ورود الترخيص الشرعي في أحد الأطراف وجعل مورد الخطاب في طرف آخر تعبدا لا ينافي الترخيص في البعض وجعل البدل في طرف آخر وعليه فالقول بأنّ حكم العقل في المعلوم بالإجمال بوجوب الاحتياط وعدم جواز ارتكاب أحد المشتبهين من جهة احتمال أن يكون ما يرتكبه من المشتبهين هو الحرام الواقعي فيعاقب عليه فيصح العقوبة عليه إذا اتفق ارتكابه ولو لم يعلم به حين الارتكاب ولا يبقى مجالا للترخيص الظاهري في بعض الأطراف غير سديد لأنّ الترخيص الظاهري بالنسبة إلى بعض الأطراف مقرونا بجعل البدل تعبدا يجتمع مع ثبوت الحكم المعلوم بالإجمال في الواقع ولا يمنع عن وجوده غايته أنّ معنى الترخيص الظاهري المقرون بجعل البدل معناه جواز البناء على كون الحرام المعلوم في غير مورد الارتكاب وهذا البناء لا يكون محالا ولا مستلزما للمحال فلا إشكال ثبوتا في الترخيص الظاهري بالنسبة إلى بعض الأطراف.

ودعوى : أنّ الظاهر من الأخبار البناء على حلية محتمل التحريم والرخصة فيه لا وجوب البناء على كونه هو الموضوع المحلل.

مندفعة : بأن ذلك إشكال اثباتي والكلام في المقام يكون في الامكان الثبوتي قال في منتقى الاصول الحق أنّه لا مانع عقلا من الترخيص في بعض الأطراف وتأمين الشارع من العقاب على تقدير كون الواقع فيه.

فللمولى أن يقول لعبده إنّني اقتنع منك بترك بعض الأطراف وأبيح لك الأطراف الأخرى وفي مثله لا يحكم العقل بثبوت العقاب على الطرف المرخص فيه على تقدير المصادفة للواقع.

وبالجملة لا نرى مانعا عقليا في مقام الثبوت من الترخيص في بعض الأطراف والتأمين

٦١

من العقاب عليه ومن هذا الباب جعل البدل فإنه وإن اصطلح عليه بهذا العنوان لكنه في واقعه يرجع إلى الترخيص في بعض الأطراف لكن الاشكال في مقام الاثبات فإنّ أدلة الاصول قاصرة اثباتا عن التأمين عن العقاب المحتمل في كلّ طرف المسبب عن العلم الإجمالي بالتكليف إلى أن قال نعم لو ورد دليل على الترخيص في خصوص موارد العلم الإجمالي كان مؤمنا من العقاب من جهته فينفع في عدم وجوب الموافقة القطعية (١).

هذا كلّه بناء على عدم كون الحكم المعلوم بالإجماع فعليّا من جميع الجهات وإلّا لوجب موافقته قطعا والترخيص في بعض الأطراف ينافيه كالترخيص في جميع الأطراف ولكنّ كون المعلوم بالإجمال كذلك يحتاج إلى اقامة الدليل ولا يثبت ذلك إلّا في بعض الموارد ففي موارد التي لم تحرز كون الحكم فعليا من جميع الجهات يجوز الترخيص في بعض الأطراف بنحو المذكور.

ودعوى : أنّ المراد من الفعلية المطلقة للتكليف المعلوم بالإجمال فعلية تحفّظ المولى عليه بلحاظ التزاحم الحفظي والاشتباه فهذه الفعلية تناقض الترخيص في الخلاف.

مندفعة : بأنّ مقتضى ما ذكر هو وجوب الاحتياط والإلزام بحفظ التكليف حتّى في موارد الشبهة ولو لم يكن من أطراف المعلوم بالإجمال وليس الكلام فيه بل الكلام في فعلية التكليف ذاتا مع قطع النظر عن مسألة المزاحمة ومن المعلوم أنّ الفعلية بهذا المعنى لا تنافي الترخيص الظاهري المقرون بجعل البدل في بعض الأطراف وبالجملة لا يمنع وجوب الاحتياط ولزوم الموافقة القطعية عن ورود الترخيص بالنسبة إلى بعض الأطراف مع جعل البدل ولو سلم عدم إمكان ذلك بالنسبة إلى جميع الأطراف وأمّا ان قلنا بامكان الترخيص في جميع الأطراف فلا كلام بالنسبة إلى البعض ولو لم يكن مقرونا بجعل البدل هذا كلّه بحسب مقام الثبوت.

وأمّا ما أفاده في الدرر من أنّه يمكن أن يرخص في بعض الأطراف إمّا تعيينا وإمّا على

__________________

(١) منتقى الاصول / ج ٥ ، ص ٧٨ ـ ٨٩.

٦٢

البدلية لأنّ الأذن في البعض ليس إذنا في المعصية ولا يكون منافيا للتكليف الواقعي المعلوم بالإجمال لما ذكرنا في محله من اختلاف مرتبة الحكمين فحينئذ فالعمدة اثبات دلالة هذه الأخبار في بعض الأطراف بعد رفع اليد عن دلالتها الأولية بحكم العقل (١).

ففيه كما أفاد استاذنا الأراكي قدس‌سره أنّ (الترخيص) في بعض الأطراف على وجه الإطلاق (أي من دون جعل البدل) لا يلائم مع الإلزام المطلق وعلى كلّ تقدير بل بينهما تهافت وتناقض وبسببه يرتفع العلم الإجمالي حتّى بالمطلوب المطلق بإطلاق المادة أيضا لمناقضة الترخيص المطلق معه أيضا فلا يبقى ملزم عقلي للاحتياط.

فاللازم على المولى في الفرض المذكور جعل الترخيص مقرونا بجعل البدل حتّى يسدّ باب ابتلاء المكلّف بمحذور الموافقة القطعية بواسطة الترخيص ويجعله ملزما برعاية واقعه بجعل البدل (٢).

وبالجملة أنّ الترخيص في البعض من دون جعل البدل ينافي ما ذهبوا إليه من امتناع الترخيص في جميع الأطراف لكونه إذنا في المعصية أو لكونه ظلما في حق المولى أو لكونه نقضا لغرض المولى لأن المحذورات المذكورة باقية على تقدير المصادفة وعدم جعل البدل هذا بخلاف ما إذا كان مقرونا بجعل البدل وعليه فالترخيص المقرون بجعل البدل بالنسبة إلى بعض الأطراف ممكن ولو على مبنى من ذهب إلى امتناع الترخيص في جميع الأطراف.

ودعوى : ان هذا النحو من الترخيص محلّ إشكال بالنسبة إلى مبنى الأعاظم لأنّ مبناهم أنّ العلم الإجمالي إذا أوجب أن يكون الترخيص في طرفيه إذنا في المعصية أو الظلم ومناقضا لكون البعث حقيقيا بداعي جعل الداعي فهذا لا يكون إلّا بأن يصير التكليف الواقعي في مرتبة التنجز فمعه لا يعقل بدليّة أحد الطرفين في الظاهر فإنه لو كان التكليف في الطرف الآخر فترخيص ترك امتثاله اذن في المعصية والظلم ومناقض لداعي البعث أو الزجر

__________________

(١) الدرر / ص ٤٥٧ ، ط جديد.

(٢) أصول الفقه / ج ٣ ، ص ٦٦٣.

٦٣

الحقيقي (١).

مندفعة : بأنّ موضوع الاصول هو الشك في التكليف وهو موجود في كلّ طرف من أطراف المعلوم بالإجمال بخصوصه وعليه فجعل البدل في طول المعلوم بالإجمال مؤكد للمعلوم المذكور ولا منافاة بينهما لأن التعبد في ناحية الامتثال كما لا ينافي قاعدة الفراغ ولا تعاد بالنسبة إلى اجزاء الصلاة المعلومة وجوبها تفصيلا فإذا جاز اكتفاء الشارع في مورد العلم التفصيلي بالتكليف بالامتثال الاحتمالي كما في قاعدة الفراغ جاز ذلك في موارد العلم الإجمالي بالاولوية.

ودعوى : أنّ الحكم الواقعي قد وصل إلى المكلّف وتنجز فامتنع جعل الترخيص على خلافه ولو احتمالا فإنّ نفس التكليف والالزام وأصل ومعلوم تفصيلا وإنّما التردد في متعلقه فلا يمكن الترخيص في مخالفة هذا الالزام ولو احتمالا.

مندفعة : بما أفاده السيّد المحقّق الخوئي قدس‌سره من قوله أوّلا النقض بما لو فرض كون الأصل الجاري في بعض الأطراف نافيا دون بعض آخر كما لو علم إجمالا بوقوع نجاسة في أحد الإنائين وكان أحدهما متيقن النجاسة سابقا فإن أصالة الطهارة تجري في غير مستصحب النجاسة بلا إشكال مع أنّ العلم بوجود تكليف فعلي موجود بالوجدان.

وتوهم أنّ التكليف في مستصحب النجاسة ثابت قبل تحقّق العلم الإجمالي على الفرض فالعلم بوقوع النجاسة فيه أو في غيره لا يوجب علما بحدوث تكليف جديد فلا يقاس المقام بذلك.

مدفوع بأنّ سبق النجاسة في أحد الإنائين لا يضر بالعلم بالتكليف المردّد بين كونه ثابتا من الأوّل وحدوثه فعلا فلو أمكن جعل الحكم الظاهري والاكتفاء بالامتثال الاحتمالي في هذا الفرض أمكن في غيره أيضا لوحدة الملاك إمكانا وامتناعا وإن شئت قلت إنّ العلم الإجمالي لا يزيد على العلم التفصيلي فكما يجوز أن يكتفي الشارع في مورد العلم التفصيلي

__________________

(١) تسديد الاصول / ج ٢ ، ص ٢٠١ ـ ٢٠٢.

٦٤

بالتكليف بالامتثال الاحتمالي كما في قاعدة الفراغ والتجاوز كذلك يجوز له الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي في موارد العلم الإجمالي بطريق أولى.

وثانيا الحل بأنّ موضوع الاصول إنّما هو الشك في التكليف وهو موجود في كلّ واحد من الأطراف بخصوصه فإن احتمال انطباق التكليف المعلوم بالإجمال إنّما هو عين الشك في التكليف.

فتحصّل : من جميع ما ذكرناه في المقام أنّه لا مانع من جعل الحكم الظاهري في بعض الأطراف بحسب مقام الثبوت (١).

الجهة الثالثة : في مقام الإثبات

وهو أنّ بعد الفراغ عن امكان الترخيص في أطراف المعلوم بالإجمال هل ورد الترخيص أو لا.

يمكن الاستدلال على الأوّل بأمرين أحدهما الأخبار العامّة التي تدلّ على الحلية أو البراءة فان موضوعها هو المشتبه وهو بعمومه يشمل أطراف المعلوم بالاجمال ومن جملتها صحيحة عبد الله بن سنان كلّ شيء يكون فيه حرام وحلال فهو لك حلال أبدا حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه (٢) وغيرها من الأخبار العامة الدالة على الحلية والإباحة في المشتبه لأنّ هذه الرواية ونحوها كما دلّت على حلّية المشتبه مع عدم العلم الإجمالي وإن كان محرّما في علم الله سبحانه وتعالى فكذلك تدلّ على حلية المشتبه في أطراف العلم الإجمالي بالعموم.

أورد شيخنا الأعظم قدس‌سره على هذه الطائفة من الأخبار بأنّها وأمثالها لا تصلح لذلك لأنها كما تدلّ على حلية كلّ واحد من المشتبهين كذلك تدلّ على حرمة ذلك المعلوم اجمالا لأنّه أيضا شيء علم حرمته (فيتناقض الصدر والذيل في الرواية وتتساقط دلالتها بالنسبة إلى

__________________

(١) مصباح الاصول / ج ٢ ، ص ٣٤٩ ـ ٣٥٠.

(٢) الفقيه / الباب ٣٩ باب الصيد والذباحة ، ح ٨٣.

٦٥

مورد العلم الإجمالي).

فإن قلت إنّ غاية الحل معرفة الحرام بشخصه ولم تتحقق في المعلوم بالإجمال (وعليه فتدل الرواية على حلّية كلّ واحد من المشتبهين ولم تدلّ باعتبار غايتها على حرمة ذلك المعلوم اجمالا لاختصاص الغاية بما إذا علم الحرمة بالعلم التفصيلي كما يشهد له مادة المعرفة الظاهرة في تشخيص الشيء مع المميزات الشخصية التي لا تنطبق إلّا على العلم التفصيلي).

قلت أمّا قوله عليه‌السلام كلّ شيء حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه فلا يدلّ على ما ذكرت لأنّ قوله عليه‌السلام بعينه تاكيد للضمير (الذي في قوله أنّه حرام) جيء به للاهتمام في اعتبار العلم كما يقال : رأيت زيدا بعينه لدفع توهم وقوع الاشتباه في الرؤية وإلّا فكل شيء علم حرمته فقد علم حرمة نفسه فإذا علم بنجاسة إناء زيد وطهارة إناء عمرو فاشتبه الإناء إن فإناء زيد شيء علم حرمته بعينه نعم يتصف هذا المعلوم المعين بكونه لا بعينه إذا أطلق عليه عنوان أحدهما فيقال أحدهما لا بعينه في مقابل أحدهما المعين عند القائل (١).

حاصله هو تعارض الصدر والذيل في هذه الرواية فانّ مقتضى الصدر ان جميع الأطراف حلال في الظاهر ومقتضى شمول الغاية وهي قوله عليه‌السلام حتّى تعلم أنه حرام بعينه للمعلوم بالإجمال ارتفاع الحلية الظاهرية ومن المعلوم ان الحلال والحرام بالنسبة إلى المعلوم بالإجمال متضادان فلا تكون الرواية بعد التعارض والمناقضة حجة لا على الحل ولا على الحرمة بالنسبة إلى أطراف المعلوم بالإجمال.

ثمّ انّ الشيخ قدس‌سره خصّص هذا الإشكال ببعض الأخبار كالمذكور في كلامه واعترف بالظهور في بعض آخر من هذه الطائفة مثل صحيحة عبد الله بن سنان باعتبار ظهور الغاية في معرفة الحرام بشخصه التي لم تتحقق في المعلوم بالإجمال حيث قال وأمّا قوله عليه‌السلام في صحيحة عبد الله بن سنان فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه فله ظهور فيما ذكر حيث ان قوله بعينه قيد للمعرفة فمؤداه اعتبار معرفة الحرام بشخصه ولا يتحقّق ذلك إلّا إذا

__________________

(١) فرائد الاصول / ص ٢٤١.

٦٦

امكنت الإشارة الحسية إليه وأمّا إناء زيد المشتبه بإناء عمرو في المثال وإن كان معلوما بهذا العنوان إلّا أنّه مجهول باعتبار الأمور المميزة له في الخارج عن إناء عمرو فليس معروفا بشخصه ولكنّ ذهب في أخير كلامه إلى إشكال آخر وهو ما أشار إليه بقوله إلّا أنّ إبقاء الصحيحة على هذا الظهور توجب المنافاة لما دلّ على حرمة ذلك العنوان المشتبه مثل قوله عليه‌السلام اجتنب عن الخمر لأنّ الإذن في كلا المشتبهين ينافي المنع عن عنوان مردد بينهما ويوجب الحكم بعدم حرمة الخمر المعلوم اجمالا في متن الواقع.

وهو ممّا يشهد الاتفاق والنصّ على خلافه حتّى نفس هذه الأخبار حيث إنّ مؤدّاها ثبوت الحرمة الواقعية للأمر المشتبه (١).

ولا يذهب عليك ما في كلامه بعد اعترافه بظهور الغاية في صحيحة عبد الله بن سنان في العلم التفصيلي فإنّ ما أورده بقوله إلّا أنّ إبقاء الصحيحة على هذا الظهور توجب المنافاة لما دلّ على حرمة ذلك العنوان المشتبه مثل قوله عليه‌السلام اجتنب عن الخمر الخ قد مضى الجواب عنه بمثل الجواب في الأحكام الظاهرية بالنسبة إلى الأحكام الواقعية ومن المعلوم أنّ مخالفة الحكم الظاهري لا توجب ارتفاع الأحكام الواقعية بل يجمع بينهما بسقوط الأحكام الواقعية عن الفعلية وهكذا نقول في جريان أصالة الحلية في أطراف المعلوم بالإجمال.

ودعوى : أنّ الحكم الظاهري لا يقدح مخالفته مع الحكم الواقعي في نظر الحاكم مع جهل المحكوم بالمخالفة لرجوع ذلك إلى معذورية المحكوم الجاهل كما في أصالة البراءة وإلى بدلية الحكم الظاهري عن الواقع هذا بخلاف المقام فإنّ مع علم المحكوم بالمخالفة يقبح من الجاعل جعل كلا الحكمين لأنّ العلم بالتحريم يقتضي وجوب الامتثال بالاجتناب عن ذلك المحرم فإذن الشارع في فعله ينافي حكم العقل بوجوب الطاعة (٢).

مندفعة : بما مرّ في الجهة السابقة من أنّه لا يقبح ذلك مع شوب العلم الإجمالي بالشك

__________________

(١) فرائد الاصول / ص ٢٤١.

(٢) فرائد الاصول / ص ٢٤١.

٦٧

وتعليقية حكم العقل بالتنجيز فكما لا يكون ذلك قبيحا في الشبهات البدوية مع احتمال أن يكون في الواقع حكم كقولهم عليهم‌السلام اجتنب عن الخمر فكذلك في المعلوم بالإجمال لشوب العلم بالشك وحكم العقل بوجوب الإطاعة في المعلوم بالإجمال تعليقي ومنوط بعدم ورود الترخيص الشرعي ومع الترخيص الشرعي فلا حكم للعقل لأنّه معلق على عدم ورود الترخيص الشرعي.

وعليه فصدر الرواية إمّا يختص بالعلم الإجمالي أو يعمّه والغاية مختصة بمعرفة تفصيليّة لأنّ العلم المأخوذ في الغاية ظاهر عرفا في خصوص ما يكون منافيا للشك ورافعا له لتعلقه بعين ما تعلّق به الشك كما أن الأمر في دليل الاستصحاب كذلك لأن العلم الإجمالي لا يكون ناقضا للشك في الأطراف وإنما الناقض هو العلم التفصيلي كما لا يخفى وعليه فيدلّ الصدر على الحلية في موارد المعلوم بالإجمال ولا يناقضه الذيل هذا مضافا إلى أنّ الدليل الدال على الحلية والإباحة غير منحصر فيما هو مشتمل على تلك الغاية فمع فرض إجمال مثل هذه الرواية المذيلة بالذيل المذكور لا مانع من التمسك بغيرها ممّا ليس مذيلا بالذيل المذكور إذ إجمال هذه الرواية على تقدير التسليم لا يسري إلى بقيّة الروايات الدالة على الحلية والإباحة وكيف كان فمع اختصاص الغاية بالعلم التفصيلي يشمل هذه الأخبار الدالة على الحلية والإباحة للشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي.

ومن جملة الأحاديث العامّة الدالة على البراءة حديث الرفع أي قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله «رفع ما لا يعلمون» بدعوى أنّ مصداق ما لا يعلمون في حديث الرفع هو الحكم الالزامي المجهول إذ هو الأمر الواقعي الذي يكون فيه ثقل على الامة فهذا الحكم الالزامي سواء كان في الشبهة الحكمية أو في الشبهة الموضوعية يكون مجهولا ومرفوعا ومقتضى عموم حديث الرفع هو جريان البراءة عن التكليف والحكم بالبراءة في أطراف العلم الإجمالي أيضا.

أورد عليه بإمكان الانصراف عن أطراف العلم الإجمالي ولو بملاحظة أنّ شمولها يعدّ

٦٨

عرفا إذنا في المعصية لحكم العرف كما عرفت بتنجيز المعلوم بالإجمال (١).

ويمكن أن يقال : إنّ دعوى الانصراف بملاحظة أنّ شمولها يعد عرفا إذنا في المعصية عرفا كما ترى لما مرّ من أنّ حكم العقل بتنجيز المعلوم بالإجمال تعليقي لا تنجيزي ومعه فالانصراف بدوي.

لا يقال : إنّ حديث الرفع لا يشمل أطراف المعلوم بالإجمال لأنّ المقصود من العلم في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله «رفع ما لا يعلمون» هو الحجة (فالمعنى هو رفع ما لم تقم عليه الحجة) وحكم العقل بلزوم الاجتناب عن الأطراف حجة بل الدليل الدال على التكليف حجة على تنجز التكليف في كلّ من الأطراف كما ذهب إليه سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره.

لأنّا نقول : حكم العقل بلزوم التنجيز تعليقي ومع حديث الرفع لا مورد للحكم العقلي حتّى يكون حجة والدليل الدال على التكليف أيضا لا يكون حجة على خصوص كلّ واحد من الأطراف للشك فيه ومجرد تطبيق الاحتمال المنجز على كلّ واحد من الأطراف لا يصدق عليه العلم وعليه فلا مانع من شمول حديث الرفع بالنسبة إلى كلّ واحد من الأطراف ويكفي ذلك في الترخيص فيها وجواز ارتكابها ومخالفة الترخيص مع الدليل الدال على التكليف كمخالفة الأحكام الظاهرية مع الأحكام الواقعية كما عرفت.

ودعوى : أنّ المانع بحسب الحقيقة إثباتي لا ثبوتي كما يظهر ذلك بمراجعة الفهم العرفي والارتكاز العقلائي فإنّه لا يساعد على جعل الترخيص الظاهري في تمام الأطراف ويرى فيه نحو مناقضة مع التكليف الواقعي المعلوم بالإجمال رغم كونه ممكنا عقلا.

وتوضيح ذلك أنّ الأغراض الإلزامية في التكاليف بحسب نظر العقلائي لا يرفع اليد عن ما أحرز منها لمجرد غرض ترخيص آخر محتمل أو معلوم مشتبه معه إذ الأغراض الترخيصية في ارتكاز العقلاء لا يمكن أن تبلغ درجة تتقدم على غرض الزامي معلوم ومن هنا يكون الترخيص في تمام الأطراف بحسب أنظارهم كأنّه تفويت لذلك الغرض الالزامي

__________________

(١) تسديد الاصول / ج ٢ ، ص ١٩٢.

٦٩

ومناقض معه وهذا الارتكاز يكون بمثابة قرينة لبيّة متصلة بالخطاب تمنع من انعقاد إطلاق في أدلة الاصول بالنسبة إلى أطراف العلم الإجمالي.

هذا مضافا إلى أنّ المنساق من «رفع ما لا يعلمون» عرفا أنّه بصدد الترخيص في قبال الأغراض الإلزامية غير المعلومة لا المتيقنة وفي مورد العلم الإجمالي لو لاحظنا مجموع الأطراف فالترخيص يكون في قبال الأغراض الإلزامية المعلومة (١).

مندفعة : بأنّ المناقضة بدوي إذ مع الالتفات إلى أنّ التنجيز تعليقي في المعلوم بالإجمال ويرتفع مع دليل الترخيص لا يراه العرف مناقضا كما أنّ الأغراض في موارد الشبهات الحكمية البدوية بالنسبة إلى الأحكام الواقعية أيضا الزامية ومع ذلك رفع الشارع عنها بعد الفحص بالاغراض الترخيصة فالاغراض الترخيصة التسهيلية ربما تتقدم على الأغراض الإلزامية.

هذا مضافا إلى أنّ مصداق «ما لا يعلمون» في كلّ طرف من أطراف المعلوم بالإجمال هو الحكم الإلزامي وهو غير معلوم ومصب الحكم بالرفع هو شخص هذه المصاديق الغير المعلومة لا أمر انتزاعي عقلي وهو عنوان أحدهما ولا المصداق الواقعي فإنّه ليس شيئا آخر وراء الأطراف وعليه فالترخيص ليس في قبال الأغراض الإلزامية المعلومة بل يكون في قبال الأغراض الإلزامية غير المعلومة كما لا يخفى.

هذا كلّه بالنسبة إلى عمومات الترخيص فانقدح ممّا مرّ أنّه لا مانع من شمولها لأطراف المعلوم بالإجمال فتدبّر جيدا.

ثانيهما هي الأخبار الخاصة التي يستدل بها على جواز ارتكاب أطراف العلم الإجمالي وهي متعددة منها صحيحة أبي بصير قال سألت أحدهما عن شراء الخيانة والسرقة قال لا إلّا أن يكون قد اختلط معه غيره فأمّا السرقة بعينها فلا ... الحديث (٢). بدعوى أنّ مورد

__________________

(١) راجع مباحث الحجج / ج ٢ ، ص ١٨٠ ـ ١٨٢.

(٢) الوسائل / الباب ١ من أبواب عقد البيع ، ح ٤.

٧٠

السؤال شراء الخيانة والسرقة فالجواب عنه بجواز شرائهما مع الاختلاط بغيره ظاهر في جواز اشتراء جميع أطراف المعلوم بالإجمال.

ويمكن أن يقال : إنّ غاية ما تدلّ عليه الرواية هو جواز اشتراء شيء من أموال من يكون في أمواله حرام ولم يفرض في السؤال شراء جميع أموال من يكون فيها حرام حتّى يدلّ على الحلية في جميع الأطراف فما يؤخذ من البائع محتمل الحرمة ولا علم بحرمته والعلم بحرمته أو غيره من أموال البائع وإن كان موجودا ولكنّ غير مورد الشراء خارج عن مورد ابتلائه فلا أثر له بعد خروجه عن محلّ ابتلائه وعليه فيدفع احتمال الحرمة بأصالة اليد وهي من الأمارات فلا دلالة للرواية على جواز ارتكاب أطراف المعلوم بالإجمال في غير مورد جريان أصالة اليد.

ومنها : صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال أتى رجل أبي فقال إنّي ورثت مالا وقد علمت أنّ صاحبه الذي ورثته منه قد كان يربو وقد أعرف أنّ فيه ربا واستيقن ذلك وليس يطيب لي حلاله لحال علمي فيه وقد سألت فقهاء أهل العراق وأهل الحجاز فقالوا لا يحل أكله فقال أبو جعفر عليه‌السلام إن كنت تعلم بأنّ فيه مالا معروفا ربا وتعرف أهله فخذ رأس مالك ورد ما سوى ذلك وإن كان مختلطا فكله هنيئا مرئيا فإنّ المال مالك واجتنب ما كان يصنع صاحبه الحديث (١). وإلى غير ذلك من الأخبار.

بدعوى أنّ هذه الأخبار تدلّ على أن اختلاط الربا المحرم بالمال الحلال يوجب حلّيّة جميع الأطراف.

اجيب عن ذلك بأنّ ظاهر هذه الأخبار ارتفاع الحرمة إذا اختلط الربا بمال حلال في يد المرابي ثمّ انتقل منه بالإرث إلى وارثه فجميع المال المشتمل على الربا حلال للوارث وماله ويأكله هنيئا مرئيا ولا بأس بأن يكون حكم الحرمة الواقعية مشروطا بشرط فلا محالة ترتفع بفقدان شرطها فلا ربط لهذه الأخبار بما نحن فيه وهي أجنبية عنه ولا مجال للتعدي

__________________

(١) الوسائل / الباب ٥ من أبواب الربا ، ح ٣.

٧١

عن موردها إلى غيره كما لا يخفى (١). ويشهد له قوله عليه‌السلام فإنّ المال مالك الخ.

فانّ اللام في المال إشارة إلى المال الموروث وهو المخلوط بالربا فالأخبار عنه بما لك يدلّ على حلّية جميع المال المذكور بالاختلاط وعدم التميز في خصوص الربا التي يعذر فيها الجاهل فتدبّر جيدا.

ومنها : موثقة سماعة قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أصاب مالا من عمل بني امية وهو يتصدّق به ويصل منه قرابته ويحج ليغفر له ما اكتسب وهو يقول إنّ الحسنات يذهبن السيئات فقال أبو عبد الله عليه‌السلام إنّ الخطيئة لا تكفر الخطيئة ولكنّ الحسنة تحطّ الخطيئة ثمّ قال إن كان خلط الحلال بالحرام فاختلطا جميعا فلا يعرف الحلال من الحرام فلا بأس (٢).

بدعوى دلالتها على أنّ اختلاط الحرام والحلال بحيث لم يتميز كلّ واحد منهما عن الآخر موجب لجواز التصرف في الجميع إمّا بالتصدق والصلة والحج وإمّا بالإمساك.

واجيب عنه بحملها على حرام خاصّ يعذر فيه الجاهل كالربا أو بحملها على ارتكاب البعض مع ابقاء مقدار الحرام كما في الفرائد ، ص ٢٤٦. ولكنهما لا يساعدان ظاهر الرواية إذ حمله على حرام خاصّ لا شاهد له كما أنّ حمله على ارتكاب البعض ينافي الترخيص الظاهر في التصرف العام في جميع المال نعم ربما تحمل الرواية على ارادة وقوع هذا الاختلاط قبل وصوله إلى يد المتصرف كما حكي عن المحقّق الخراساني وأورد عليه بأنّ هذا الوجه صحيح بناء على أن يكون النسخة (أصاب مالا من عمّال بني امية) كما نقله الشيخ (أي الأنصاري) وإلّا فالمال مقابل لعمله لهم ويكون حراما إذا وقع في يد الرجل العامل والخلط المفروض فيها خلط هذا الحرام المأخوذ بمال آخر حلال ولا محالة يكون في يد المتصرف نفسه (٣). ولم نجد في الجوامع الحديثية نسخة عمال بني امية لأنّ في المستطرفات المذكورة آخر السرائر عن

__________________

(١) تسديد الاصول / ج ٢ ، ص ١٩٧ ـ ١٩٨.

(٢) الوسائل / الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، ح ٢.

(٣) تسديد الاصول / ج ٢ ، ص ١٩٨.

٧٢

رجل أصاب مالا من أعمال السلطان (١).

وفي نسخة الكافي المصححة بتصحيح الشهيد الثاني كما أفاد بعض الأعلام عن رجل أصاب مالا من عمل بني أمية (٢) وفي التهذيب عن رجل اصاب مالا من عمل بني امية (٣) ولم ينقل في الوسائل غير ما في نسخة الكافي والتهذيب فراجع وعليه فلا موجب لذلك الحمل كما لا يخفى وأمّا حمل الرواية كما في الوسائل على أنّ المراد إذا لم يعرف قدر الحرام ولا صاحبه فيجب فيه الخمس ويحلّ الباقي.

ففيه أنّه خلاف الظاهر من وجوه إذ لم يقيد السائل السؤال بما إذا لم يعرف قدر الحرام ولم يترتب الإمام عليه‌السلام الترخيص على اخراج الخمس نعم أورد على الرواية بأنها في موردها لم يعمل بها أحد فهي معرض عنها لا حجة فيها أصلا (٤).

اللهمّ إلّا أن يقال : أنّ الأعراض يوجب وهن الرواية إذا لم يكن اجتهاديا ومع احتمال أن يكون الإعراض من جهة اجتهادهم فلا يوجب الوهن فتأمل.

ثمّ إنّ هذه الأخبار لو تمّت دلالتها تكون موافقة مع العمومات في الدلالة على الترخيص في أطراف المعلوم بالإجمال ولكنّ عرفت المناقشات الواردة فيها.

وفي قبال : تلك الروايات عمومها وخصوصها أخبار خاصّة تدلّ على وجوب الاحتياط التام في أطراف المعلوم بالإجمال ومقتضى القاعدة لو لم تتم الأخبار الخاصة المتقدمة هو تخصيص العمومات بها ومع تماميّة الأخبار الخاصة المتقدمة تتعارض الأخبار الخاصة المتقدمة مع الأخبار الخاصة الآتية والرجحان مع الأخبار الخاصة الآتية الدالة على وجوب الاحتياط التام في أطراف المعلوم بالإجمال وبالنتيجة لزم تخصيص العمومات بها أيضا وإليك الأخبار الخاصة الدالة على وجوب الاحتياط التام.

__________________

(١) السرائر / ص ٤٨٠ ، ط قديم.

(٢) الكافي / ج ٥ ، ص ١٢٦.

(٣) التهذيب / ج ٦ ، ص ٣٦٩.

(٤) تسديد الاصول / ج ٢ ، ص ١٩٨.

٧٣

منها صحيحة زرارة قال في ضمن أسئلته قلت (في مورد جريان الاستصحاب) فإني لم أكن رأيت موضعه (أي موضع الدم في ثوبي) وعلمت أنّه قد أصابه فطلبته فلم أقدر عليه فلما صليت وجدته قال عليه‌السلام تغسله وتعيد إلى أن قال قلت قد علمت أنّه قد أصابه ولم أدر أين هو فاغسله قال تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنّه قد أصابها حتّى تكون على يقين من طهارتك الحديث (١).

بدعوى أنّ الأصل الاستصحابي لو كان جاريا في جميع الأطراف وصار الحكم الواقعي ساقطا عن الفعلية بسبب جريانه لما كان للأمر بالغسل والاعادة مورد لجريان استصحاب الطهارة في الأطراف المحتملة لاصابة الدم.

نعم تختص هذه الصحيحة بارتكاب جميع الأطراف دفعة وبالشبهة المحصورة التحريمية وعليه فيرفع اليد عن العمومات الدالة على الترخيص في أطراف المعلوم بالإجمال بالنسبة إلى المخالفة القطعية فلا يجوز المخالفة القطعية في الشبهة المحصورة التحريمية كما لا يخفى.

ومنها : موثقة عمار الساباطي عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث قال سئل عن رجل معه إناءان فيهما ماء وقع في أحدهما قذر لا يدري أيّهما هو وحضرت الصلاة وليس يقدر على ماء غيرهما قال يهريقهما (٢) جميعا ويتيمم (٣) ونحوها موثقة سماعة (٤).

بدعوى أنّ في الأمر بإراقتهما دلالة على أنّه لا ينتفع بشيء منهما ولو في الشرب وغيره وعليه لزم الاحتياط التام بالنسبة إلى جميع الأطراف ولكنّ تختص هذه الرواية أيضا بالشبهة التحريمية.

ولذلك استدل بهما على وجوب الاحتياط فيما إذا خرج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء قائلا بأنّ مجرد خروج بعض الأطراف لو كان موجبا لرفع الاحتياط لأمر الإمام عليه‌السلام بإراقة

__________________

(١) التهذيب / ج ١ ، ص ٤٢١ ، ح ٨.

(٢) «من هريق كدحرج ، يهريق كيدحرج».

(٣) الوسائل / الباب ٨ من أبواب الماء المطلق ، ح ١٤.

(٤) الوسائل / الباب ٨ من أبواب الماء المطلق ، ح ٢.

٧٤

أحد إناءين فإنّ مع اراقة أحدهما خرج المراق عن مورد الابتلاء وحكم بطهارة الآخر مع أنّه لم يأمر بذلك بل أوجب اراقة الطرفين والاتيان بالتيمم.

ومنها : صحيحة ابن أبى يعفور عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال سألته عن المني يصيب الثوب قال إن عرفت مكانه فاغسله وإن خفي عليك مكانه فاغسله كلّه (١) مع أن الأصل يجري في كلّ طرف.

ومنها : صحيحة صفوان بن يحيى أنّه كتب إلى أبي الحسن عليه‌السلام يسأله عن الرجل معه ثوبان فأصاب أحدهما بول ولم يدر أيهما هو وحضرت الصلاة وخاف فوتها وليس عنده ماء كيف يصنع قال يصلي فيهما جميعا قال الصدوق يعني على الانفراد (٢).

بتقريب أنّه لو لم يكن الحكم الشرعي هو وجوب الاحتياط في الأطراف لجرت أصالة الطهارة أو استصحابها في كلّ واحد من الثوبين ولاكتفى بصلاة واحدة في واحد منهما ولم يحتج إلى التكرار هذا مضافا إلى ما أفاده في تسديد الاصول من أنّ هذه الصحيحة دلّت على أنّ قاعدة وجوب الاحتياط في أطراف المعلوم بالإجمال مركوزة في أذهان الرواة وإنّما سألوا عن حكم عدم الظفر بالماء عند ضيق الوقت والمعصوم عليه‌السلام قرره على هذا الارتكاز وأرشده إلى الأخذ بطريقة الاحتياط (٣).

ومنها : صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام في حديث في المني يصيب الثوب فان عرفت مكانه فاغسله وإن خفي عليك فاغسله كلّه (٤) ونحوها روايات أخر بدعوى أنّه لو لم يجب الاحتياط بالنسبة إلى أطراف المعلوم بالإجمال لما كان وجه لإيجاب غسل كلّ الثوب لجريان استصحاب الطهارة بالنسبة إلى كلّ موضع من اللباس يشك في اصابة النجس له فالمستفاد منها هو وجوب الاحتياط التام في جميع أطراف العلم الإجمالي.

__________________

(١) الكافي / ج ٣ ، ص ٥٣.

(٢) الوسائل / الباب ٦٤ من أبواب النجاسات ، ح ١.

(٣) تسديد الاصول / ج ٢ ، ص ١٩٥.

(٤) الوسائل / الباب ٧ من أبواب النجاسات ، ح ١.

٧٥

ومنها : ما رواه الشيخ بسندين معتبرين عن علي بن أسباط عن غير واحد من أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال من نسي من صلاة يومه واحدة ولم يدر أي صلاة هي صلّى ركعتين وثلاثا وأربعا (١).

والحديث معتبر بناء على أنّ قوله غير واحد يدلّ على تكثير الناقل والوثوق بالصدور كما هو الظاهر وأفاده بعض الأعلام ونحوه ما رواه البرقي بإسناد معتبر عن الحسين بن سعيد يرفع الحديث قال سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن رجل نسي من الصلوات لا يدري أيّتها هي قال : يصلي ثلاثة وأربعة وركعتين فإن كانت الظهر أو العصر أو العشاء فقد صلّى أربعا وإن كانت المغرب أو الغداة فقد صلّى (٢).

بتقريب أنّ إطلاق هذه الروايات يشمل ما إذا حصل التذكر لنسيانه وتردده في كلّ من الصلوات الخمس اليومية في زمان واحد وبعد انقضاء وقت جميعها وحينئذ فلو كان الأصل النافي جاريا في أطراف العلم الإجمالي لكان مقتضى استصحاب عدم وجوب قضاء كلّ منها حاكما بعدم اشتغال الذمة بشيء منها ومع الاغماض عنه كان مقتضى قاعدة الشك بعد مضى الوقت في كلّ منها ذلك فعدم اعتناء الشرع بالاستصحاب ولا بالقاعدة وحكمه بوجوب الاتيان بثلاث صلوات دليل قاطع على أنّ حكم العقلاء بالاحتياط التام ممضى في الشريعة (٣).

فهذه الطائفة من الأخبار تدلّ على وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة الوجوبية من قضاء الصلوات وبالجملة أنّ الأخبار الخاصة تدلّ على وجوب الاحتياط في أطراف المعلوم بالإجمال في الشبهات المحصورة من الوجوبية والتحريمية كما أفاد سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره حيث قال إنّ إطلاق أدلة الاصول يشمل الشبهات المحصورة وغيرها ويصير المعلوم بالإجمال بعد شمولها ساقطا عن القطعية كما أنّ الحكم الواقعي صار ساقطا بقيام

__________________

(١) الوسائل / الباب ١١ من أبواب قضاء الصلوات ، ح ١.

(٢) الوسائل / الباب ١١ من أبواب قضاء الصلوات ، ح ٢.

(٣) تسديد الاصول / ج ٢ ، ص ١٩٥.

٧٦

الأمارات على خلافه ولكنّ مع ورود دليل خاصّ في خصوص المحصورة كصحيحة زرارة لا يجوز الأخذ باستصحاب الحالة السابقة ومقتضى الجمع بينها وبين العمومات الدالة على الترخيص هو رفع اليد عنها بهذه الأخبار ودعوى معارضة هذه الأخبار بالأخبار الخاصة الدالة على الترخيص مندفعة بما مر من أنّها لا تخلو عن المناقشات فلا تنهض للتعارض مع هذه الروايات مع قوّة الدلالة والسند فيها.

نعم أورد عليه بعض الأعلام بأنّ مورد هذه النصوص الخاصة هو شبهة القليل في القليل في الشبهات التحريمية الفعلية غير التدريجية هذا مضافا إلى كونها من العباديات فالتعدّي عن مورد هذه النصوص إلى مطلق موارد المعلوم بالإجمال ولو كانت شبهة القليل في الكثير أو الكثير في الكثير أو كانت من التدريجيات أو كانت من غير العباديات مشكل وعليه فلا وجه لرفع اليد عن العمومات الدالة على الإباحة والحلّية في غير مورد هذه النصوص بل يقتصر على مورد هذه الأخبار ويرجع في غيرها إلى عمومات الحلّيّة والإباحة ولذا يمكن القول برفع اليد عن تأثير العلم الإجمالي في من شك في وصوله إلى حدّ الترخص وعدمه عند الشروع في السفر. فصلّى تماما عند خروجه عن البلد وشك في وصوله إلى حدّ الترخص عند رجوعه من السفر إلى البلد فصلّى قصرا فإنّه وإن علم ببطلان إحدى صلاتيه ولكن أمكن له التمسك بالعمومات الدالة على رفع التكليف أو دليل الاستصحاب خارجا وراجعا لاختصاص الأدلة الخاصة الدالة على وجوب الاحتياط بالدفعيات ولا تشمل التدريجيات انتهى.

اللهمّ إلّا أن يقال : لا خصوصية للدفعيات فتشمل الأدلة الخاصة للتدريجيات كمالا خصوصية للشبهات التحريمية فتشمل الأدلة الخاصة للشبهات الوجوبية أيضا هذا مضافا إلى دلالة بعض الأخبار على الاحتياط التام في الشبهات الوجوبية أيضا كاخبار قضاء الصلوات بل لا خصوصية للتعبديات هذا مضافا إلى أنّ غسل القذر ليس تعبديا وأيضا هذا مع الغمض عن صحيحة صفوان بن يحيى التي تدلّ على أنّ المرتكز في أذهان الرواة هو

٧٧

وجوب الاحتياط التام في أطراف المعلوم بالإجمال وإنّما سألوا عن حكم عدم الظفر بالماء عند ضيق الوقت والمعصوم عليه‌السلام قرره على ذلك ويعتضد ذلك بعدم ظهور الفرق بين الموارد المذكورة في كلمات الأصحاب فيتحصل أن مقتضى الأخبار الخاصة هو عدم جواز المخالفة القطعية بل وجوب الموافقة القطعية في الشبهات المحصورة فلا مجال لجريان الأصل ولو في بعض الأطراف وإن قلنا بامكان جريان الأصل فيه ثبوتا نعم لو شك في مورد في الجريان وعدمه فالمرجع هو عموم ما دلّ على جريان الاصول.

وممّا ذكرنا يظهر أنّه لا مجال للتخيير في المقام بجميع أقسامه بعد ما عرفت من أن الأخبار الخاصة دلّت على وجوب الموافقة القطعية فلا مجال للتخيير مطلقا.

هذا مضافا إلى أنّ التخيير الشرعي الثابت بدليل خاصّ كالتخيير بين الخبرين المتعارضين عند فقد المرجحات لا مجال له في المقام لأنّ الموضوع في المقام يكون أعم من تعارض الأخبار وهكذا التخيير العقلي الثابت في مورد التزاحم لا مورد له بعد اختصاص التخيير العقلي بما إذا لم يتمكن من الاحتياط والمفروض في المقام هو التمكن من الاحتياط ونعم يمكن القول بالتخيير العقلي الثابت بضميمة الدليل الشرعي من جهة الاقتصار على القدر المتيقن في رفع اليد عن ظواهر الخطابات الشرعية.

بتقريب أنّ العام كوجوب اكرام كلّ عالم يدلّ على وجوب اكرام كلّ فرد من العلماء تعينا من غير تقييد باكرام غيره وعدمه ولكنّ إذا علمنا من الخارج بعدم وجوب اكرام فردين منه معا كزيد وعمرو مثلا ودار الأمر بين خروجهما عن العموم رأسا بأن لا يجب اكرامهما أصلا وخروجهما تقييدا بأن لا يجب اكرام كلّ منهما عند اكرام الآخر بل يجب اكرام كلّ منهما عند عدم اكرام الآخر ففي مثل ذلك لا بدّ من الاقتصار على القدر المتيقن في رفع اليد عن ظاهر الدليل وهو الحكم بعدم اكرام كلّ منهما عند اكرام الآخر.

وفي المقام مقتضى إطلاق أدلة الاصول هو ثبوت الترخيص في كلّ واحد من أطراف العلم الإجمالي وقد علمنا من الخارج استحالة هذا الجعل لاستلزامه الترخيص في مخالفة

٧٨

التكليف الواصل فيدور الأمر بين رفع اليد عن الترخيص في جميع الأطراف ورفع اليد عن اطلاقه بأن يقيد الترخيص في كلّ طرف بما إذا لم يرتكب الطرف الآخر فالمتعين هو الثاني فتكون النتيجة هو التخيير في تطبيق الترخيص على أي طرف من الأطراف. وفيه أن مقتضى العلم الإجمالي هو الاحتياط والموافقة القطعية في أطراف المعلوم بالإجمال.

فإن قلنا بجواز الترخيص في الأطراف فمقتضى إطلاق أدلة الترخيص هو جواز ارتكاب جميع الأطراف وإن لم نقل بذلك فلا مجال للترخيص في بعض الأطراف كما لا يجوز الترخيص في جميع الأطراف بملاك واحد وهو أنّ الترخيص في بعض الأطراف محكوم بحكم الترخيص في جميع الأطراف على هذا القول وهو أنّ الترخيص ترخيص في المعصية وهي مخالفة المعلوم بالإجمال ولو مقيدا بترك الطرف الآخر والتقييد المذكور لا يرفع المحذور وهو قبح الترخيص في المعصية كما لا يخفى.

هذا مع قطع النظر عن الأخبار الخاصة التي تدلّ على وجوب الموافقة القطعية وإلّا فقد عرفت أنّ معها لا مجال للتخيير بأي معنى كان وهذه الأخبار هي العمدة في عدم جواز ارتكاب أطراف المعلوم بالإجمال وإلّا فقد عرفت جواز الترخيص في جميع الأطراف فضلا عن بعضها فلا تغفل.

وكيف كان فتحصّل أنّه لا مجال للبراءة والإباحة في أطراف المعلوم بالإجمال كما لا مورد للتخيير مطلقا سواء كان التخيير شرعيا أو عقليا وكلّ ذلك لقيام الأدلة الخاصة على حرمة المخالفة ووجوب الموافقة القطعية نعم لا يمكن التعدى عن مورد الأدلة الخاصة وهي الشبهة المحصورة إلى الشبهة غير المحصورة وعليه فمقتضى عمومات الحلية والإباحة هو عدم وجوب الاحتياط في الشبهات غير المحصورة لاختصاص الأدلة الخاصة بالشبهات المحصورة وهكذا مقتضى تلك العمومات عدم وجوب الاحتياط في الموارد التي تكون خارجة عن محلّ الابتلاء لاختصاص الأدلة الخاصة بموارد الابتلاء وبالجملة كلّ مورد شككنا فيه من حيث جواز الارتكاب وعدمه يمكن الرجوع فيه إلى عموم أدلة البراءة

٧٩

والإباحة.

هذا كلّه بالنسبة إلى جريان الاصول وهي أصالة الحلية والإباحة وأصالة البراءة والاستصحاب في أطراف المعلوم بالإجمال.

حكم جريان الأمارات في الأطراف

وأمّا جريان الأمارات في كلّ من الأطراف على خلاف المعلوم بالإجمال كما إذا علمنا بنجاسة أحد المائعين وقامت البينة على طهارة أحدهما المعين وقامت بينة أخرى على طهارة الآخر فتقع المعارضة بينهما للعلم الإجمالي بنجاسة أحدهما ومع المعارضة تسقطان عن الحجية كما هو مقتضى الأصل في تعارض الأمارات إذ دليل حجية الأمارات لا يشمل المتعارضين وترجيح أحدهما على الآخر ترجيح من غير مرجح.

ولا يختلف في ذلك بين كون العمل بالأمارات مستلزما للمخالفة العملية كما إذا كان المعلوم بالإجمال حكما الزاميا ودلت الأمارتان على خلافه وبين عدم كون العمل بهما مستلزما لذلك كما إذا كان المعلوم بالإجمال حكما ترخيصيّا ودلت الأمارتان على خلافه (١).

هذا كلّه بالنسبة إلى جريان الأمارة في كلّ واحد من الأطراف وأما إذا قامت البينة على طهارة أحدهما المعين فقط فلا إشكال في انحلال العلم الإجمالي حكما فإن كان مفاد البينة هو تعيين الطاهر فما قامت عليه البينة طاهر ولازمها هو أنّ النجس في طرف آخر والأمارة حجة في منطوقها ولازمها والمفروض أنّه لا معارض لها فيجب الاجتناب عن غير مورد قيام البينة وإن كان مفاد البينة هو تعيين النجس فما قامت عليه البينة نجس ولازمها هو طهارة الطرف الآخر ولا حاجة في الحكم بطهارة الطرف الآخر إلى أصل من الاصول فلا

__________________

(١) راجع مصباح الاصول / ج ٢ ، ص ٣٤٦.

٨٠