عمدة الأصول - ج ٦

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٦

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: ولي عصر (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٣

وحلال فهو لك حلال أبدا حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه. (١)

وكقوله عليه‌السلام في خبر عبد الله بن سليمان عن ابي عبد الله عليه‌السلام في الجبن كل شيء لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان أنّ فيه ميتة. (٢)

هذا مضافا إلى اختصاصه بالشبهة الموضوعية فإنّ البينة تكون في الموضوعات لا في الأحكام وكقوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة حيث قال قلت لأبي جعفر عليه‌السلام فهل عليّ إن شككت في أنه أصابه شيء أن انظر فيه قال لا ولكنّك إنّما تريد أن تذهب بالشك الذي وقع في نفسك (٣) دلالتها على عدم لزوم الفحص واضحة ولكن يمكن أن يقال : إنّ النظر هو الفحص مع الدقة فالمنفي هو في هذه الرواية هو فحص خاص لا مطلق الفحص وإن كان مع سهولة والجواب عنه بأنّ يقال لا منافاة بين هذه الصحيحة والأخبار المتقدمة فإنّ المنفي في هذه وإن كان هو الفحص الخاص ولا يشمل مطلق الفحص وإن كان مع سهولة ولكن يكفي نفي الفحص المطلق في الأخبار المتقدمة إذ المجموع من المثبتات.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ اطلاق سائر الأخبار منصرف عن الموارد التي يمكن تحصيل العلم فيها بسهولة ومع الانصراف لا مجال للبراءة قبل الفحص الذي لا يحتاج إلى مئونة نعم يجري البراءة من دون فحص إذا كان الفحص محتاجا إلى دقة واعمال نظر.

وامّا الشبهة الموضوعية الوجوبية فالأمر فيها أوضح لعدم دليل خاص فيها يدلّ بالاطلاق على عدم الحاجة إلى الفحص فالشك الذي أخذ موضوعا فيها منصرف عن الموارد التي يمكن تحصيل العلم فيه بسهولة بل يصدق العلم المأخوذ في الغاية على ما لو تفحص لظفر به فإذا شك في كونه مديونا وعدمه وأمكن الرجوع بسهولة إلى دفتر المحاسبات وجب عليه الرجوع إلى الدفتر المذكور ويؤيده بعض الروايات الخاصة وإن كانت ضعيفة كرواية زيد الصائغ ... «قلت وإن كنت لا أعلم ما فيها (أي في الدراهم المركبة

__________________

(١) الفقيه / الباب ٣٩ باب الصيد والذباحة / ح ١٣.

(٢) الوسائل / الباب ٦١ من أبواب الاطعمة المباحة ، ح ٢.

(٣) جامع الاحاديث / ج ٢ ، ص ١٣٦.

٣٢١

من الفضة ومس ورصاص) من الفضة الخالصة إلّا أنّى أعلم أنّ فيها ما يجب فيه الزكاة قال فاسبكها حتى تخلص ويحترق الخبيث ثمّ يزكّى ما خلص من الفضة لسنة واحدة. (١)

فتحصّل : أنّ الأقوى هو ما ذهب اليه المحقّق النائيني قدس‌سره في محكي كلامه من عدم جواز اجراء الأصل مطلقا إذا كان الواقع ينكشف بأدنى فحص وليس الشك مستقرا.

ولا يرد عليه ما أورده سيّدنا الاستاذ محقق الداماد قدس‌سره من أنّ بعض الأخبار كالصريح في خلافه مثل ما ورد في الوسائل في كتاب الأطعمة من أنّه أمر الامام عليه‌السلام غلامه بشراء الجبن من السوق فأكله فسئل عن الجبن المشكوك فأجاب بأنّي اشتريت الآن وأكلت كما رأيت. (٢)

لأنّ مورد الرواية من موارد قيام الأمارة على عدم كون الجبن من الميتة إذ سوق المسلمين من الأمارات ولا ارتباط لها بالمقام الذي لا أمارة فيه على ذلك ولو سلّمنا عدم اختصاصها بمورد قيام الأمارة فلا يصلح للاستدلال لاختصاصها بالشبهة التحريمية والكلام في الشبهة الموضوعية الوجوبية وأيضا لا مجال للاستدلال بصحيحة زرارة المتقدمة لعدم وجوب مطلق الفحص لأنّها تنفي الفحص الخاص وهو النظر المحتاج إلى دقة هذا مضافا إلى اختصاصها بالشبهة التحريمية الموضوعية والكلام في الشبهة الوجوبية الموضوعية وتعميم كبرى الاستصحاب لا يلازم تعميم السؤال عن الفحص والجواب عدم لزومه لغير الشبهة التحريمية الموضوعية.

ولقد أفاد وأجاد سيّدنا الامام المجاهد قدس‌سره حيث قال فلو قال المولى أكرم ضيفي وشك العبد في أنّ زيدا ضيفه أو لا فلا يجوز له المساهلة بترك الفحص مع امكانه خصوصا إذا كان رفع الشبهة سهلا والمشتبه مهمّا. (٣)

فالحاصل هو عدم جواز اجراء الأصل في الشبهة الوجوبية الموضوعية كالشبهة

__________________

(١) الكافي / ج ٣ ، ص ٥١٧.

(٢) الكافي / ج ٦ ، ص ٣٣٩.

(٣) تهذيب الاصول / ج ٢ ، ص ٤٢٢.

٣٢٢

التحريمية الموضوعية مع امكان تحصيل العلم فيها بسهولة بحيث لو فحص بأدنى الفحص ارتفع الشك فاللازم في جواز جريان البراءة هو أن يكون الشك مستقرا وقد مضى تفصيل ذلك في التنبيه الثامن من البراءة فراجع.

وأمّا الشبهات الحكمية فقد استدل لاعتبار الفحص في الرجوع إلى البراءة بامور : الأوّل دعوى الإجماع القطعي على عدم جواز العمل بأصل البراءة قبل استفراغ الوسع في الأدلة قال شيخنا الأعظم قدس‌سره إنّ في الاجماع القطعي كفاية.

أورد عليه في الكفاية بأنّه لا يخفى أنّ الاجماع هاهنا غير حاصل ونقله لوهنه بلا طائل فإنّ تحصيله في مثل هذه المسألة ممّا للعقل اليه سبيل صعب لو لم يكن عادة بمستحيل لقوة احتمال أن يكون المستند للجل لو لا الكل هو ما ذكر من حكم العقل.

وفيه أنّ الاجماع ربّما يكون غير متوقف على الأدلة الموجودة في المقام بحيث لو لا الأدلة كان بناء الأصحاب على لزوم الفحص ففي هذه الصورة يكون الاجماع حجة قال سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره والظاهر أنّه لا مجال لهذه المناقشة للقطع بأنّه لو لم يكن في البين شيء من تلك الأدلة العقلية والنقلية أيضا لم يكن بناء الأصحاب على العمل بالبراءة قبل الفحص واليأس عن الدليل فهذا الاجماع العملي منهم حجة ودليل على عدم فهمهم من أدلّة البراءة الاطلاق أو دليل على تخصيصها على فرض أنّ لها اطلاق فتأمّل انتهى. (١)

هذا مضافا إلى أنّ الاستناد إلى الأدلة لا يضر إذا اتّصل الاجماع في كلمات القدماء إلى اجماع أصحاب الائمة عليهم‌السلام فإنّه كاشف حينئذ عن تقرير الإمام على ما مر في بحث الاجماع مفصلا وذهب اليه بعض الأكابر.

الثاني حصول العلم الإجمالي لكل أحد قبل الأخذ في استعلام المسائل بوجود واجبات ومحرمات كثيرة في الشريعة ومعه لا يصح التمسك بأصل البراءة لما تقدم من أنّ مجراه الشك في أصل التكليف لا في المكلف به مع العلم بالتكليف.

__________________

(١) المحاضرات لسيدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره / ج ٢ ، ص ٥٠٢.

٣٢٣

أورد عليه سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره بأنّ مقتضى هذا الدليل جواز الرجوع إلى البراءة قبل الفحص بعد ما لو ظفر بمقدار المعلوم بالإجمال من الأحكام وعدم جواز الرجوع إليها بعد الفحص بعد أيضا ما لم يظفر بهذا المقدار وذلك لأنّ المانع من اجراء البراءة بمقتضى هذا الدليل ليس عدم الفحص بل هو العلم الإجمالي فما لم يظفر على المقدار المعلوم بالاجمال لا يصح له الرجوع إلى البراءة ولو بعد الفحص لمنع العلم الإجمالي منه وإذا ظفر عليه يصح له ذلك ولو قبل الفحص والظاهر عدم التزامهم بذلك في شيء من الموردين والحاصل أنّ هذا الدليل أخص من المدعى من جهة وأعم منه من جهة أخرى فإنّ المبحوث عنه في المقام أنّه هل يجب الفحص في الشبهات بمقدار الممكن أو لا يجب بل يصح الرجوع إلى البراءة بمجرد حصول الشك وهذا الدليل إنّما يوجب عدم جواز الرجوع إلى البراءة ما دام العلم باقيا سواء فحص عن الدليل أو لم يفحص كما يوجب جواز الرجوع اليها لو انحل ولو لم يفحص. (١)

هذا مضافا إلى ما في الكفاية من أنّ محل الكلام في البراءة فيما لم يكن هناك علم موجب للتنجز إمّا لانحلال العلم الإجمالي بالظفر بالمقدار المعلوم بالاجمال أو لعدم الابتلاء إلّا بما لا يكون بينها علم بالتكليف من موارد الشبهات ولو لعدم الالتفات إليها. (٢)

ودعوى : أنّ المعلوم بالاجمال ذو علامة وتميز فالعلم الإجمالي المتعلق به غير قابل للانحلال بالظفر بالمقدار المعلوم بالاجمال لأنّ الواقع قد تنجز حينئذ بما له من العلامة والتميّز فكيف يعقل ما أفاده السيد الاستاذ من انحلاله قبل الفحص بالظفر بالمقدار المعلوم بالاجمال فإنّه إذا علم اجمالا بدين مردّد بين الأقل والأكثر مع العلم بكونه مضبوطا في الدفتر فهل يتوهم أحد جواز الرجوع إلى البراءة في المقدار الزائد على المتيقن قبل الفحص عما في الدفتر؟ والمقام كذلك فإنّ التكاليف المعلومة بالاجمال مضبوطة في الكتب المعتبرة عند الشيعة وعليه فالظفر بالمقدار المعلوم قبل الفحص لا يوجب انحلال العلم الإجمالي ليصح

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) الكفاية / ج ٢ ، ص ٢٥٦.

٣٢٤

الرجوع إلى البراءة قبل الفحص نعم إذا لم يكن المعلوم بالاجمال ذا علامة وتميز وكان مرددا بين الأقل والأكثر جاز الرجوع إلى البراءة بعد الظفر بالمقدار المعلوم بالإجمال لكن المقام ليس من هذا القبيل وعليه فلا يصح ما أفاده السيد الاستاذ من أنّه إذا ظفر بمقدار المعلوم بالإجمال قبل الفحص جاز له الرجوع إلى البراءة لانحلال المعلوم بالإجمال لما عرفت من عدم الانحلال ومعه لا يجوز الرجوع إلى البراءة كما لا يخفى.

مندفعة : بما أفاده في مصباح الاصول من أنّه لا نسلم عدم الانحلال حتى فيما إذا كان المعلوم بالاجمال ذا علامة وتميز ولم يكن مردّدا بين الأقل والأكثر إذ بعد العلم التفصيلي بنجاسة إناء بعينه يحتمل أن يكون هو إناء زيد المعلوم كونه نجسا ومعه لا يبقى علم بوجود نجاسة في غيره من الأواني إذ العلم لا يجتمع مع احتمال الخلاف بالضرورة فينحل العلم الإجمالي بالوجدان وليس لنا علمان اجماليان علم بوجود نجس مردّد بين الأقل والأكثر وعلم بنجاسة إناء زيد حتى يقال بعد العلم بنجاسة إناء بخصوصه إنّ العلم الأوّل قد انحل دون العلم الثاني بل مرجع العلم بوجود نجاسة مردّدة بين الأقل والأكثر والعلم بنجاسة إناء زيد إلى العلم بوجود نجس واحد بعنوانين فإذا علمنا تفصيلا بنجاسة إناء معين من الأواني ينحلّ العلم الإجمالي لا محالة.

هذا مضافا إلى أنّه على تقدير تسليم عدم الانحلال وبقاء العلم الإجمالي على حاله لا يكون هذا العلم منجزا بالنسبة إلى الزائد على القدر المتيقن لما ذكرناه مرارا من أنّ التنجيز دائر مدار تعارض الاصول في أطراف العلم الإجمالي وتساقطها وحيث إنّه لا معنى لجريان الأصل في الطرف المعلوم كونه نجسا في مفروض المثال فيجري الأصل في غيره بلا معارض فلا يكون العلم الإجمالي منجّزا إلى أن قال فالمتحصل أنّ المانع من الرجوع إلى الأصل قبل الفحص لا بدّ من أن يكون شيئا آخر غير العلم الإجمالي. (١)

الثالث كما في الفرائد أنّ العقل لا يعذر الجاهل القادر على الفحص كما لا يعذر الجاهل

__________________

(١) مصباح الاصول / ج ٢ ، ص ٤٩٠ ـ ٤٩٣.

٣٢٥

بالمكلّف به العالم به اجمالا ومناط عدم المعذورية في المقامين هو عدم قبح مؤاخذة الجاهل فيهما فاحتمال الضرر بارتكاب الشبهة غير مندفع بما يؤمن معه من ترتب الضرر ألا ترى أنّهم حكموا باستقلال العقل بوجوب النظر في معجزة مدعى النبوة وعدم معذوريته في تركه مستندين في ذلك إلى وجوب دفع الضرر المحتمل لا إلى أنّه شك في المكلف به. (١)

لا يقال نعم لو لم تكن أدلّة البراءة الشرعية وأمّا معها فالمؤمّن موجود.

لأنّا نقول : أوّلا أدلّة البراءة منصرفة إلى ما بعد الفحص بسبب حكم العقل بوجوب الفحص وعدم جواز الرجوع إلى البراءة قبله.

وثانيا أنّ أدلّة البراءة معارضة مع أدلّة الاحتياط والجمع بينهما إمّا بحمل أدلّة الاحتياط على صورة التمكن من ازالة الشبهة بمثل الفحص وأدلّة البراءة على صورة عدم التمكن المذكور أو القول بالتعارض والتساقط والرجوع إلى البراءة العقلية التي لا موضوع لها بدون الفحص أو إلى حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل.

الرابع الآيات والروايات الدالة على وجوب التعلّم مقدمة للعمل وهي العمدة وأمّا من الآيات فقوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(٢).

وتقريب ذلك أنّ الآية الكريمة أوجبت الفحص والسؤال عن اهل الذكر عند عدم العلم ولم يجوز عدم الفحص مع أنّه لو كان حديث الرفع جاريا قبل الفحص فلا يكون الفحص والسؤال لازما وقوله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ)(٣).

بدعوى أنّ الآية الكريمة لا تجوز عدم الفحص والتعلم بل أوجبت السفر والنفر لتعلمها ولو كان حديث الرفع جاريا قبل الفحص فلا وجه لايجاب السفر والنفر للتعلم.

وأمّا من الروايات فموثقة مسعدة بن زياد قال سمعت جعفر بن محمّد عليهما‌السلام وقد سئل عن

__________________

(١) الفرائد / ص ٣٠١ الطبعة القديمة.

(٢) سورة النحل / الآية ٤٣.

(٣) سورة التوبة / الآية ١٢٢.

٣٢٦

قوله تعالى : (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) فقال إنّ الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة عبدي كنت عالما؟ فإن قال نعم قال له أفلا عملت بما علمت وإن قال كنت جاهلا قال أفلا تعلّمت حتى تعمل فيخصمه فتلك الحجة البالغة. (١)

بتقريب أنّها تدلّ على عدم كون الجاهل بالحكم معذورا إذا كان قادرا على التعلم واتفقت المخالفة مع أنّه لو كان حديث الرفع جاريا فيه فلا مجال للعتاب والمؤاخذة على ترك التعلم والتفحص.

وصحيحة أبي جعفر الأحول مؤمن الطاق عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال لا يسع الناس حتى يسألوا ويتفقهوا ويعرفوا إمامهم ويسعهم ان ياخذوا بما يقول وإن كان تقية (٢) بدعوى صراحتها على أنّ الناس ليسوا في سعة بسبب جهلهم بل اللازم عليهم أن يسالوا ويتفقهوا مع أنّه لو كان حديث الرفع جاريا فيه قبل الفحص والتعلم كانوا في سعة كما لا يخفى.

وصحيحة الفضلاء زرارة ومحمّد بن مسلم وبريد بن معاوية العجلي قالوا قال أبو عبد الله عليه‌السلام لحمران بن أعين في شيء سأله إنّما يهلك الناس لانهم لا يسألون (٣) والهلاكة لا تكون إلّا فيما إذا كان الأحكام الواقعية منجزة ولا تكون كذلك إلّا في صورة عدم شمول حديث الرفع لصورة الشك قبل الفحص.

وصحيحة ابن أبي عمير عن محمّد بن مسكين وغيره عن أبي عبد الله قال قيل له إنّ فلانا أصابته جنابة وهو مجدور فغسلوه فمات فقال قتلوه ألّا سالوا؟ ألّا يمّموه إنّ شفاء العي السؤال. (٤)

ومن المعلوم أنّ الفحص لو لم يكن واجبا فلا وجه للعتاب والمؤاخذة إلى غير ذلك من الأخبار قال في تسديد الاصول بعد نقل هذه الأخبار وغيرها إنّ دلالتها على وجوب

__________________

(١) تفسير البرهان / ج ١ ، ص ٥٦٠.

(٢) اصول الكافي / ج ١ ، باب سؤال العلم وتذاكره ص ٤٠ ، ح ٤.

(٣) اصول الكافي / ج ١ ، باب سؤال العلم وتذاكره ، ح ٢.

(٤) الوسائل / الباب ٥ من ابواب التيمم ، ح ١ و ٢.

٣٢٧

التعلم وتحصيل العلم بالأحكام واضحة لا سيما إذا انضم اليها ما يدلّ على أنّ العلم مقدمة للعمل ويهتف به فراجع.

وبالجملة فملاحظة كل واحد من هذه الآيات والأخبار فضلا عن جميعها توجب القطع بعدم جواز الرجوع إلى اطلاق مثل حديث الرفع قبل الفحص بل إنّما الوظيفة هو الفحص والسؤال وتعلم التكاليف وإذا قصّر عنها يؤاخذ ويقال له يوم القيامة أفلا تعلّمت حتى تعمل؟ وهذه الأدلة اللفظية من الآيات والروايات هي عمدة الوجه لتقييد اطلاق أدلّة البراءة الشرعية. (١)

وقال في الكفاية بعد المناقشة في سائر الوجوه فالأولى الاستدلال للوجوب بما دلّ من الآيات والأخبار على وجوب التفقه والتعلم والمؤاخذة على ترك التعلم في مقام الاعتذار عن عدم العمل بعدم العلم بقوله تعالى كما في الخبر هلا تعلّمت فيقيد بها أخبار البراءة لقوة ظهورها في أنّ المؤاخذة والاحتجاج بترك التعلم فيما لم يعلم لا بترك العمل فيما علم وجوبه ولو اجمالا فلا مجال للتوفيق بحمل هذه الأخبار على ما إذا علم اجمالا فافهم ولا يخفى اعتبار الفحص في التخيير العقلي أيضا بعين ما ذكر في البراءة. (٢)

بل الأمر كذلك في سائر الاصول الجارية في الشبهات الحكمية كقاعدة الطهارة والاستصحاب إذ لا مجال لها بدون التفحص والتعلم بعين الملاك الذي عرفت في البراءة في الشبهات الحكمية.

قال السيد المحقّق الخوئي قدس‌سره وبما ذكرناه ظهر اختصاص أدلّة الاستصحاب أيضا لما بعد الفحص وظهر أيضا عدم جواز الرجوع إلى سائر الاصول العقلية قبل الفحص كالتخيير العقلي ونحوه وملخّص الكلام في المقام أنّ الاصول العقلية في نفسها قاصرة عن الشمول لما قبل الفحص لأنّ موضوعها عدم البيان وهو لا يحرز إلّا بالفحص فلا مقتضى لها قبله وأمّا

__________________

(١) تسديد الاصول / ج ٢ ، ص ٢٤٤ ـ ٢٤٨.

(٢) الكفاية / ج ٢ ، ص ٢٥٦ ـ ٢٥٨.

٣٢٨

الاصول النقلية فأدلتها وإن كانت مطلقة في نفسها إلّا أنّها مقيدة بما بعد الفحص بالقرينة العقلية المتصلة والنقلية المنفصلة (١) هذا فيما إذا قلنا باطلاق أدلّة الاصول من البراءة النقلية وغيرها فيمكن تقييدها بما دلّ على وجوب التفقه والتعلم بالنسبة إلى الشبهات الحكمية فيجب الفحص والتعلم قبل الأخذ بالبراءة وأمّا بناء على عدم اطلاق أدلّة الاصول وقلنا بأنّ المراد من عدم العلم المأخوذ في موضوع الاصول هو عدم الحجة القاطعة للعذر فحال الأدلة النقلية كحال البراءة العقلية من حيث إنّ وجود الحجة الواقعية إذا كانت بحيث لو تفحّص عنها لظفر بها كاف في تنجيز الواقع فمع احتماله قبل الفحص يشك في تحقق موضوع الاصول بل الشك منصرف عن مثله ومعه لا يصح الأخذ بها ولا إطلاق لها حتى يحتاج إلى تقييد اطلاقها بالأدلة الدالة على وجوب التفقه فتدبّر جيّدا.

استحقاق العقاب عند ترك الفحص وحصول المخالفة :

قال صاحب الكفاية قدس‌سره أمّا التبعة فلا شبهة في استحقاق العقوبة على المخالفة فيما إذا كان ترك التعلم والفحص مؤدّيا إلى المخالفة فإنّ المخالفة حينئذ وإن كانت مغفولة حين المخالفة وبلا اختيار إلّا أنّها منتهية إلى الاختيار وهو كاف في صحة العقوبة بل مجرد ترك التعلم والتفحص كاف في صحة المؤاخذة والعقوبة وإن لم يكن مؤدّيا إلى المخالفة مع احتمال أدائه إلى المخالفة لأجل التجرّي وعدم المبالات بها نعم يشكل ذلك في الواجب المشروط والموقت ولو أدّى تركهما قبل الشرط والوقت إلى المخالفة بعدهما فضلا عما إذا لم يؤد إليها حيث لا يكون حينئذ تكليف فعلي أصلا لا قبلهما وهو واضح ولا بعدهما وهو كذلك لعدم التمكن منه بسبب الغفلة ولذا التجأ المحقّق الأردبيلي وصاحب المدارك قدس‌سرهما إلى الالتزام بوجوب التفقه والتعلم نفسيا تهيئيا فيكون العقوبة على ترك التعلم نفسه لا على ما أدّى اليه من المخالفة فلا اشكال ح في المشروط والموقت إلى أن قال في الكفاية ولا يخفى أنّه لا يكاد ينحل هذا

__________________

(١) مصباح الاصول / ج ٢ ، ص ٤٩٤.

٣٢٩

الاشكال إلّا بذلك (أي الوجوب النفسي التهيئي) أو الالتزام بكون المشروط أو الموقت مطلقا معلقا لكنّه قد اعتبر على نحو لا تتصف مقدماته الوجودية عقلا بالوجوب قبل الشرط أو الوقت غير التعلم والفحص فيكون الايجاب حاليا وإن كان الواجب استقباليا قد اخذ على نحو لا يكاد يتصف بالوجوب شرطه ولا غير التعلم من مقدماته قبل شرطه أو وقته.

وأمّا لو قيل بعدم الايجاب إلّا بعد الشرط والوقت كما هو ظاهر الأدلة وفتاوى المشهور فلا محيص عن الالتزام بكون وجوب التعلم نفسيا لتكون العقوبة لو قيل بها على تركه لا على ما أدّى إليه من المخالفة ولا بأس به كما لا يخفى ولا ينافيه ما يظهر من الأخبار من كون وجوب التعلم إنّما هو لغيره لا لنفسه حيث إنّ وجوبه لغيره لا يوجب كونه واجبا غيريا يترشح وجوبه من وجوب غيره فيكون مقدميا بل للتهيؤ لايجابه فافهم. (١)

ويظهر من أخير عبارته وهو قوله لا بأس به أنّ وجوب الفحص والتعلم في المشروط والموقت وجوب نفسي فالاشكال حينئذ مرتفع على مختاره وكيف كان فقد أورد عليه سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره بأنّ الواجب المعلّق خلاف الظاهر من الأدلة وفتاوى المشهور كما أنّ كون وجوب التعلم مقدميا في غير الموقت والمشروط ونفسيا فيهما مخالف لظاهر أدلّة وجوب تحصيل العلم ويلزم التفكيك في وجوب تحصيل العلم والتفقه هذا مضافا إلى أنّه لو كان الواجب توصليا ولم يحصل العلم به ثمّ اتفق صدور الواجب منه من باب الاتفاق لزم استحقاقه للعقوبة مع اتيانه للواجب حيث ترك التعلم الذي هو واجب نفسي وهو كما ترى.

ثمّ قال سيّدنا الاستاذ والأولى هو أن يجاب عن الاشكال بوجهين :

الأوّل : أن يقال إنّ الواجب المشروط يكون متعلقا للارادة الفعلية من الآن على تقدير تحقق شرطه كما يساعد عليه الوجدان وملاحظة الإنسان مطلوبات نفسه فإذا علم المكلف

__________________

(١) الكفاية / ج ٢ ، ص ٢٥٨ ـ ٢٦٠.

٣٣٠

بحصول الشرط في المستقبل وجب عليه تحصيل مقدماته فعلا.

الثاني : أن يقال إنّ أدلّة وجوب تحصيل العلم كأدلة وجوب الاحتياط فكما أنّ وجوب الاحتياط طريقي فكذلك وجوب تحصيل العلم وكما أنّه لو عصى الأوّل يعاقب على ترك الواقع لتنجزه عليه فكذلك لو عصى التكليف بوجوب تحصيل العلم فلو ترك الواقع المحتمل من جهة ترك تحصيل العلم يعاقب عليه. (١)

وفي كلا الوجهين نظر لامكان أن يقول قائل في الوجه الأوّل إنّ تعلق الارادة الفعلية من الآن على تقدير تحقق شرطه يكون بمعنى أنّ الارادة فعلية والمراد استقبالي وعليه فلا فرق بين هذا وبين الواجب المعلق فإنّ الوجوب في كليهما فعلي والواجب استقبالي ان قلت إنّ فعلية الوجوب مع كون الوجوب مشروطا أو موقتا يخالف الظاهر من القضية قلت فعلية الارادة مع تعليق الوجوب الحاكي عن الارادة يخالف الظاهر من القضية أيضا وعليه فالقول بالواجب المعلق لدفع الاشكال لا مانع منه.

ولا مكان أن يقول قائل في الوجه الثاني إنّه مع عدم تنجز التكليف في الواقع كما في المشروط والموقت بناء على عدم الفعلية والتنجيز قبل الشرط أو الوقت لا يرفع الاشكال إذ لا مجال حينئذ للمؤاخذة مع عدم تكليف فعلي في الواقع ولا يقاس المقام بوجوب الاحتياط وطريقيته لأنّ احتمال التكليف الفعلي موجود فيه بخلاف المقام قبل الوقت أو الشرط وممّا ذكر ينقدح عدم تمامية ما يقال من أنّ أحكام الشرع كلها منجزة للجاهل الملتفت الذي يقدر على رفع جهله بالفحص بمعنى أنّه بمنزلة العالم ولا يعدّ جهله بها عذرا له في شيء من الموارد بل بمجرد الاحتمال يتمّ البيان ولا تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان وتقوم عليه الحجة البالغة المدلول عليها بقوله «أفلا تعلمت حتى تعمل» وهذا لا فرق فيه بين أنواع التكاليف التي يكون المكلف في معرض الابتلاء بها مطلقة كانت أم مشروطة. (٢)

__________________

(١) المحاضرات لسيدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره / ج ٢ ، ص ٥٠٥.

(٢) تسديد الاصول / ج ٢ ، ص ٢٥٥ ـ ٢٥٦.

٣٣١

وذلك لما عرفت من عدم تكليف فعلي منجّز في الواقع في المشروطات به والموقتات هذا بخلاف موارد احتمال التكاليف المطلقة لأنّ احتمال وجود تكليف منجّز فيها يوجب وجوب الفحص فلا تغفل.

نعم يمكن أن يقال بحكم العقل وبناء العقلاء على صحة المؤاخذة على ترك المشروط أو الموقت إذا التفت المكلف وتمكن منهما في الجملة ولو بالتعلّم والتفحص وذلك لقبح تفويت الملاك ووجوب تحفظه.

قال في مصباح الاصول وقد لا يكون الواجب فعليّا بعد دخول الوقت لكونه غافلا ولو كانت غفلته مستندة إلى ترك التعلم أو لكونه غير قادر ولو كان عجزه مستندا إلى ترك التعلّم قبل الوقت مع عدم اتساع الوقت للتعلم وللاتيان بالواجب والاشكال المذكور مختص بهذه الصورة والذي ينبغي أن يقال حينئذ في هذه الصورة إنّه إن كانت القدرة المعتبرة في مثل هذا الواجب معتبرة عقلا من باب قبح التكليف بغير المقدور وغير دخيلة في الملاك كما إذا القى أحد نفسه من شاهق إلى الأرض فإنّه اثناء الهبوط إلى الارض وإن لم يكن مكلفا بحفظ نفسه لعدم قدرته عليه إلّا أنّ قدرته ليست دخيلة في الملاك ومبغوضية الفعل للمولى باقية بحالها ففي مثل ذلك لا ينبغي الشك في وجوب التعلم قبل الوقت للتحفظ على الملاك الملزم في ظرفه وإن لم يكن التكليف فعليا في الوقت لما تقدم سابقا من أنّ العقل يحكم بقبح تفويت الملاك الملزم كما يحكم بقبح مخالفة التكليف الفعلي.

وإن كانت القدرة معتبرة شرعا ودخيلة في الملاك فلا يجب التعلم قبل الوقت حينئذ بلا فرق بين القول بوجوبه طريقيا والقول بوجوبه نفسيا أمّا على القول بالوجوب الطريقي فالأمر واضح إذ لا يترتب على ترك التعلم فوات واجب فعلي ولا ملاك ملزم وأمّا على القول بالوجوب النفسي فلأنّ الواجب إنّما هو تعلّم الأحكام المتوجهة إلى شخص المكلف والمفروض أنّه لم يتوجه إليه تكليف ولو لعجزه ولا يجب على المكلف تعلّم الأحكام المتوجهة إلى غيره وهو القادر ولذا لا يجب على الرجل تعلّم أحكام الحيض.

٣٣٢

وظهر بما ذكرناه أنّه لا ثمرة عملية بيننا وبين المحقّق الاردبيلي إذ قد عرفت عدم وجوب التعلم في هذا الفرض على كلا القولين فلا يجدي الالتزام بالوجوب النفسي في دفع الاشكال المذكور بل الحق هو الالتزام بالاشكال وعدم وجوب التعلم ولا يلزم منه محذور (١) ولقائل أن يقول حيث إنّ القدرة ليست بشرعية فانحصر الأمر في القول بوجوب التحفظ على الملاك الملزم وهو صحيح لحكم العقل وبناء العقلاء عليه ولكنه مختص بما إذا احرز تمامية الملاك فلا تغفل.

فتحصّل : أنّ التفحص والتعلم واجب ولو في الموقتات والمشروطات لقبح تفويت الملاك التام ووجوب حفظه عند العقل والعقلاء ولو لم نقل بالواجب المعلق أو بالوجوب النفسي.

بقي هنا شيء وهو أنّه إذا كان الواقع بحيث لو تفحص المكلف عنه لا يصل اليه بعد الفحص بل ربما يؤدي فحصه إلى خلافه فهل يستحق العقاب على مخالفة الواقع لو لم يتفحص أو لا وجهان.

أحدهما : أنّه يمكن الالتزام بعدم استحقاق العقاب لجريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان إذ المراد من البيان هو الواصل فمع عدم امكان الوصول يجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان ومقتضاه هو عدم استحقاق العقوبة وعدم التفات المكلف إلى ذلك لا يرفع المؤمن العقلي نعم يستحق العقوبة على التجري لا على مخالفة الواقع بناء على استحقاق العقوبة من جهة التجري.

وثانيهما : ما ذكره في مصباح الاصول من أنّ التحقيق هو التفصيل بأنّ يقال إن بنينا على وجوب الفحص لآية السؤال والأخبار الدالة على وجوب التعلم وتحصيل العلم بالاحكام فالحق عدم استحقاق العقاب لعدم امكان التعلم والفحص وتحصيل العلم على الفرض فلا يكون المقام مشمولا للآية الشريفة والأخبار الدالة على وجوب التعلم.

وإن بنينا على وجوب الفحص لأجل العلم الإجمالي أو لأجل أدلّة التوقف والاحتياط

__________________

(١) مصباح الاصول / ج ٢ ، ص ٥٠٠.

٣٣٣

بناء على كون الوجوب المولوي الطريقي لا الارشادي المحض على ما استظهرنا منها فالحق استحقاق العقاب على مخالفة الواقع لكونه منجّزا بالعلم الإجمالي أو بوجوب التوقف والاحتياط. (١)

ولقائل أن يقول إنّ محل الكلام في وجوب الفحص لا يختص بموارد العلم الإجمالي بل يعمّ موارد احتمال التكليف بلا علم كما لا يخفى هذا مضافا إلى أنّ أدلّة التوقف والاحتياط معارضة مع أدلّة البراءة والجمع بينهما يقضي بحمل أدلّة الاحتياط على صورة التمكن من ازالة الشبهة بمثل الفحص والمفروض في المقام أنّه لا يتمكن من ذلك فلا مجال للتمسك بأدلة التوقف والاحتياط فتدبّر جيّدا.

هذا كله بالنسبة إلى استحقاق العقوبة على المخالفة للجاهل العامل قبل الفحص فيما إذا كان ترك التعلم مؤديا إلى المخالفة وأمّا حكم نفس عمله من الصحة والبطلان فهو كما يلي : إن شاء الله تعالى.

حكم الصحة أو فساد عمل الجاهل بلا فحص وتعلم :

إذا عمل الجاهل بلا فحص وتعلّم فيحكم ببطلان عمله بحسب الظاهر ما لم ينكشف الواقع والمراد من الحكم بالبطلان ظاهرا هو عدم جواز الاجتزاء به في مقام الامتثال بحكم العقل لاحتمال المخالفة مع الواقع ولا مؤمّن في الاكتفاء به لأنّ المفروض أنّه لم يتفحص ولم يتعلّم.

ولا فرق في ذلك بين المعاملات والعبادات بناء على فرض تمشّي قصد القربة من الجاهل في العبادات هذا كله فيما إذا لم ينكشف الواقع.

وامّا إذا انكشف الواقع بالعلم أو الحجة ففيه صور :

الصورة الاولى : أن تنكشف مخالفة المأتي به مع الواقع كما إذا علم بذلك وجدانا أو علم

__________________

(١) مصباح الاصول / ج ٢ ، ص ٥٠٢ ـ ٥٠٣.

٣٣٤

بذلك بسبب فتوى مجتهده الذي كان يجب تقليده حين العمل ومجتهده الذي يجب الرجوع إليه فعلا أو كان من يجب الرجوع إليه فعلا هو الذي كان يجب الرجوع إليه حين العمل وأفتى بمخالفة عمله مع الواقع فلا اشكال في هذه الصورة كما صرح به في الكفاية بوجوب الاعادة أو القضاء لعدم الإتيان بالمأمور به ولا دليل على جواز الاكتفاء بالمأتي به عن الواقع.

الصورة الثانية : أن تنكشف مطابقة المأتي به للواقع بسبب فتوى مجتهده في زمان العمل ومجتهده الذي يجب الرجوع إليه فعلا أو كان من يجب الرجوع إليه فعلا هو الذي كان يجب الرجوع إليه حين العمل وأفتى بموافقة عمله مع المأمور به ولا اشكال في الحكم بصحة العمل في هذه الصورة لمطابقة عمله للواقع بحسب الحجة الفعلية بعد العمل وحينه فيجوز أن يكتفي به ولا فرق في ذلك بين المعاملات والتعبديات بناء على كفاية أن يكون الداعي إلى العمل حسن كما هو المفروض والفاعل أتى به بنية القربة فاجتمع الحسن الفعلي مع الحسن الفاعلي فتحققت العبادة لأنّهما هما المقومان لصحة العبادة.

ودعوى أنّ قصد القربة ليس على كل تقدير وهو ينافي مع لزوم القربة المطلقة مندفعة بأنّ اللازم هو الاتيان بالعمل مع القربة وهو موجود في المقام ولا موجب لوجود القصد للقربة على ساير التقديرات فمن صلى مع الطهارة بماء حارّ قربة إلى الله كفى وإن لم يتوضأ بماء بارد لو لم يكن ماء حار لأنّ مع اتيانه بالوضوء في الصورة المذكورة اجتمع الحسن الفعلي مع الحسن الفاعلي ومعهما تحققت العبادة لوجود مقوماتها.

الصورة الثالثة : أن تنكشف مطابقة العمل المأتي به لفتوى من كان يجب الرجوع إليه حين العمل ومخالفته لفتوى من يجب الرجوع اليه فعلا ففي هذه الصورة فصّل في مصباح الاصول بين الأدلة الخاصة كحديث لا تعاد في خصوص الصلاة والحكم بالصحة في الصلاة وبين الأدلة العامة والحكم بالبطلان مطلقا حيث قال إنّ المقتضى للصحة إمّا أن يكون الأدلّة الخاصة على عدم وجوب الاعادة في خصوص الصلاة كحديث لا تعاد بناء على عدم

٣٣٥

اختصاصه بالناسي وشموله للجاهل أيضا كما هو الصحيح ولذا نحكم بصحة عمل الجاهل القاصر خلافا للمحقق النائيني قدس‌سره فإنّه أصرّ على اختصاصه بالناسي وهو لا يشمل الجاهل المقصّر لعدم اتيانه بوظيفته العبودية من التعلّم والتفحص وبالجملة الجاهل المقصّر بمنزلة العامد فلا يشمله حديث لا تعاد وأمثاله وإما أن يكون المقتضي للصحة الأدلة العامة التي أقاموها على دلالة الأوامر الظاهرية للاجزاء بلا فرق بين الصلاة وغيرها وعمدتها الإجماع على عدم وجوب الاعادة والقضاء بعد امتثال الأوامر الظاهرية ولو انكشف خلافها ولا يكون المقام داخلا في معقد الاجماع يقينا لأنّ الإجماع على الاجزاء وعدم وجوب الاعادة والقضاء إنّما هو فيما إذا كان العامل عمله مستندا إلى الأمر الظاهري وأمّا إذا لم يستند اليه كما في المقام فلا إجماع على صحته. (١)

ويمكن أن يقال : يكفي في الاجزاء مطابقة المأتي به مع الحجة والمفروض أنّها متحققة إذ فتوى من كان يجب الرجوع إليه حين العمل حجة له ولا دخالة للاستناد في حجيتها كما لا دخالة له في سائر الأمارات كالخبر ومعنى حجيتها أنّ العمل بما يطابقها يوجب العذر وسقوط الأمر الواقعي عن التنجيز والمفروض أنّه عمل بما يطابقها فمع العمل والإتيان بالموافق كان معذورا وسقط الأمر الواقعي ومع سقوط الأمر الواقعي لا مجال لوجوب الاعادة أو القضاء إذ لا أمر حتى يجب الاعادة ودعوى أنّ معنى الحجية هي التي استند اليها في العمل لا التي عمل بها موافقا لها من دون استناد مندفعة بأنّ مقتضى أدلّة حجية الأمارات هو جعلها منجزة في صورة الاصابة ومعذرة في صورة المخالفة ومعنى المعذرة هو رفع اليد عن عقوبة الواقع ومقتضى اطلاق أدلّة اعتبار الأمارات هو عدم مدخلية الاستناد في كون رأى المجتهد من الأمارات كما لا يخفى.

اللهمّ إلّا أن يقال : هذا صحيح إن قلنا بالاجزاء مطلقا وأمّا إذا لم نقل بذلك وإنّما قلنا به في صورة اختلاف الفتوى باعتبار السيرة والاجماع فالقدر المتيقن منهما هو صورة الاستناد

__________________

(١) مصباح الاصول / ج ٢ ، ص ٥٠٤ ـ ٥٠٥.

٣٣٦

فليتأمّل.

وبقية الكلام مذكورة في مبحث الاجتهاد والتقليد فراجع.

الصورة الرابعة : أن تنكشف مطابقة العمل المأتي به للواقع بحسب فتوى المجتهد الفعلي ومخالفته له بفتوى المجتهد الأوّل قال السيد المحقّق الخوئي قدس‌سره والحكم في هذه الصورة الصحة إذ الحجة الفعلية قامت على صحة العمل وعدم وجوب القضاء فجاز الاستناد إليها في ترك القضاء (١) ولا يخفى عليك أنّ هذا على تقدير لزوم الاستناد وعدم كفاية المطابقة وإلّا فمع عدم لزوم الاستناد وكفاية المطابقة في الحجية فإن قلنا ببقاء حجية فتوى من كان يجب الرجوع إليه حين العمل وكان أعلم يجب عليه الاعادة والقضاء وإن كان من يجب الرجوع إليه فعلا أعلم لا يجب عليه الاعادة أو القضاء وإن كانا متساويين فهو مخيّر بين من كان يجب الرجوع إليه حين العمل فيعيد لعدم المطابقة وبين من كان يجب الرجوع إليه فعلا فلا يعيد للمطابقة لأنّ قولهما حجة له بنحو الحجة التخيرية فتدبّر.

الإجهار في موضع الإخفات وبالعكس :

ولا يذهب عليك أنّ مقتضى القاعدة فيهما لو أتى به قبل الفحص والتعلم هو ما مرّ من عدم جواز الاكتفاء به في مقام الامتثال ظاهرا بحكم العقل لاحتمال المخالفة وعدم وجود المؤمّن هذا فيما إذا لم ينكشف الواقع وإلّا ياتي فيه أيضا الصور الاربعة المذكورة نعم وردت هنا النصوص الصحيحة الخاصّة على صحة الصلاة في الجهر والاخفات وبالعكس وفي الاتمام في موضع القصر من دون فرق بين كون الجهل قصوريا أو تقصيريا فلو انكشف الخلاف قبل انقضاء الوقت فلا حاجة إلى الاعادة فضلا عن القضاء بعد الوقت والدليل عليه هو النصوص الخاصة ولا اشكال في ذلك.

وانما الاشكال في الجمع بين الحكم بالصحة واستحقاق العقاب في صورة كون الجهل

__________________

(١) مصباح الاصول / ج ٢ ، ص ٥٠٥.

٣٣٧

تقصيريا فيقال كيف يعقل الحكم بالصحة مع الحكم باستحقاق العقاب على ترك الواجب فيما إذا قصّر في الفحص والتعلّم.

وقد أجيب عنه بوجوه منها ما ذكره في الكفاية من أنّه يمكن أن يكون المأتي به حال الجهل مشتملا على مصلحة ملزمة وأن يكون الواجب الواقعي مشتملا على تلك المصلحة وزيادة لا يمكن تداركها عند استيفاء المصلحة التي كانت في العمل المأتي به جهلا لتضادّ المصلحتين فالحكم بالصحة إنّما هو لاشتمال المأتي به على المصلحة الملزمة والحكم باستحقاق العقاب إنّما هو لأجل فوات المصلحة الزائدة بسبب تقصيره في ترك الفحص والتعلم فلا منافاة بينهما.

أورد عليه في مصباح الاصول أوّلا بأنّ التضاد إنّما هو بين الافعال وأمّا التضادّ بين الملاكات مع امكان الجمع بين الأفعال فهو أمر موهوم يكاد يلحق بانياب الأغوال وثانيا بأنّ المصلحتين إن كانتا ارتباطيتين فلا وجه للحكم بصحة المأتي به مع فرض عدم حصول المصلحة الأخرى وإن كانتا استقلاليتين لزم تعدد الواجب وتعدد العقاب عند ترك الصلاة رأسا وهو خلاف الضرورة. (١)

ويمكن الجواب أمّا عن الأوّل فبأنّ انكار التضاد بين الملاكات ليس في محله لما أفاده الشهيد الصدر قدس‌سره من أنّه قد يكون هناك طعامان مشتركان في مصلحة الشبع إلّا أنّ أحدهما مشتمل على لذة تفوق لذة الطعام الآخر ولو شبع الشخص بالطعام الآخر وغير اللذيذ لم يلتذ عندئذ بأكل الطعام اللذيذ بذلك المستوى من الالتذاذ الفائق.

هذا مضافا إلى إمكان فرض التضادّ بين (الأفعال و) المحصلات للملاكات بكسر الصاد بأنّ نقول إنّ الواجب المحصل بالكسر للملاك ليس هو مطلق القصر بل القصر المقيّد بعدم مسبوقيته بالتمام وهذا يضادّ التمام المأتي به سابقا والقول بأنّه كيف يعقل تقييد صلاة القصر الواجب بعدم مسبوقيته بالتمام يشبه القول بأنّه كيف يعقل تقييد صلاة العصر الواجب

__________________

(١) مصباح الاصول / ج ٢ ، ص ٥٠٧.

٣٣٨

بالمسبوقية بالظهر مثلا. (١)

وأمّا عن الثاني فبما في منتقى الاصول من أنّ هذا الوجه قابل للمنع بكلا شقيه فإنّ لنا نختار الشق الأوّل ونلتزم بارتباطية المصلحتين ولكن نقول إنّ المترتب على التمام مصلحة وغرض غير ما يترتب على القصر من مصلحة وغرض وإن كان بينهما جامع نوعي وعليه فمصلحة القصر بما لها من المرتبة الزائدة على مصلحة التمام مصلحة ارتباطية لا يتصور حصول جزء منها وحده وهذا لا ينافي ترتب مصلحة ارتباطية أخرى على التمام تمنع من حصول مصلحة القصر للتضادّ بينهما إلى أن قال :

ثمّ إنّ لنا أن نختار الشق الثاني بأن نلتزم باستقلالية المصلحتين ولكن نقول إنّ ترتب مصلحتين في عرض واحد (لا بنحو الطولية كباب النذر للصلاة أول الوقت فان التداخل فيه محل كلام) لا يستلزم تعدد الحكم بل يكون هناك حكم واحد لكنه يكون آكد من الحكم الثابت للفعل ذي المصلحة الواحدة.

وعليه فالقصر وإن كانت فيه مصلحتان لكن لا يدعو ذلك لتعلق وجوبين به بل يثبت وجوب واحد بنحو اكيد نظير المحرمات التي يترتب عليها مفاسد متعددة.

وعلى هذا فلا يتعدد العقاب بترك القصر لأنّ تعدد العقاب فرع تعدد التكليف لا فرع تعدد المصلحة. (٢)

وعليه فالجواب المذكور في الكفاية تام.

ومنها : ما أفاده سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره من أنّه يمكن أن يقال : بتعدد المطلوب وإنه في حال الجهل أمران أحدهما أصل الصلاة والثاني الصلاة المقيدة بكونها قصرا ومع الاتيان بالمقيّد يحصل المطلق أيضا وبحصوله (المطلق) يفوت مصلحة الصلاة المقيدة بكونها قصرا وبذلك ينحلّ الاشكال إذ وجه صحة الاتمام على هذا كونه مأمورا به ووجه

__________________

(١) مباحث الاصول للسيد كاظم الحائري / ج ٤ ، ص ٤٨١ ـ ٤٨٢.

(٢) منتقى الاصول / ج ٥ ، ص ٣٧٣ ـ ٣٧٤.

٣٣٩

استحقاق العقاب على ترك القصر كونه مأمورا به أيضا ووجه عدم وجوب الاعادة قصرا لو علم بالحكم في الوقت هو تفويت مصلحة القصر بالاتيان بأصل الصلاة ولو في ضمن الاتمام.

ونظير ذلك ما إذا تعلق الطلب باتيان أصل الفريضة وتعلق طلب آخر باتيانها في المسجد فإنّه لو أتي بها في خارج المسجد امتثل الأمر الأوّل ومعه لا مجال لامتثال الأمر الثاني إذ الطلب الثاني إنّما تعلق باتيان الفريضة في المسجد والمفروض سقوطها باتيانها في خارجه وحينئذ فإن كان لخصوصية كونها في المسجد مصلحة لزومية كما في خصوصية القصر في المقام لاستحق العقوبة على تركها وجعل الاستاذ هذا الجواب أحسن ممّا اجاب به صاحب الكفاية. (١)

ولكن لا يخفى عليك أنّ فوت مصلحة الصلاة المقيّدة بكونها قصرا يتوقف على ما ذكره صاحب الكفاية من التضادّ فتدبّر جيّدا.

ثمّ هنا اشكال آخر وهو أنّ ظاهر النصوص الواردة في المقام أنّ الصلاة المأتي بها مع كيفية الاتمام في موضع القصر أو الاجهار في موضع الاخفات وبالعكس تامّة الأجزاء والشرائط.

وهذا ينافي بقاء شرطية الواقع من الجهر أو الاخفات مثلا أو جزئيته بالنسبة إلى الجاهل فمع عدم بقائهما وتمامية الأجزاء والشرائط يبقى السؤال والاشكال السابق وهو أنّه كيف يعقل الحكم بالصحة مع الحكم باستحقاق العقاب على ترك الواجب.

أجاب عنه في تسديد الاصول بأنّه ليس في أخبار الاتمام مكان القصر أزيد من قوله عليه‌السلام فلا اعادة عليه أو قوله فليس عليه اعادة ونفي وجوب الاعادة أعم من كون المأتي به تاما أو ناقصا سقط الواجب به كما لا يخفى.

وأمّا خبر الجهر والاخفات فهو وإن تضمن قوله عليه‌السلام «وقد تمت صلاته» إلّا أنّ المراد به

__________________

(١) المحاضرات لسيدنا الاستاذ المحقق الداماد قدس‌سره / ج ٢ ، ص ٥٠٧ ـ ٥٠٨.

٣٤٠