عمدة الأصول - ج ٦

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٦

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: ولي عصر (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٣

الآخر بخلاف أصالة الطهارة في الملاقي بالفتح فإنّها معارضة بها في المشتبه الآخر والسرّ في ذلك أنّ الشك في الملاقي بالكسر ناش عن الشبهة المنقولة بالمشتبهين فالأصل فيهما أصل في الشك السببي والأصل في ناحية الملاقي بالكسر أصل في الشك المسببي وقد تقرّر في محله أنّ الأصل في الشك السببي حاكم على الأصل في الشك المسبّبي فما دام الأصل الحاكم الموافق أو المخالف جاريا لم يجر الأصل المحكوم واذا لم يجر الأصل الحاكم للمعارضة زال المانع فيجرى الأصل في الشك المسببي ووجب الرجوع اليه ومقتضى هو الطهارة.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ تقديم الأصل السببي على الأصل المسببي مخصوص بما إذا كان الأصل المسببي مخالفا مع الأصل السببي وأمّا إذا كانا متوافقين فهما جاريان إذ لا حكومة بينهما فمع جريانهما معا لا يبقى الأصل المسببي بعد سقوط الأصل السببي بالمعارضة حتّى يكون مرجعا بعد سقوط الأصل السببي في الطرفين وعليه فاللازم حينئذ هو الرجوع إلى مقتضى العلم الإجمالي وهو الاحتياط كما لا يخفى.

هذا مضافا إلى ما في مصباح الاصول بناء على المعروف من تقديم الأصل السببي على المسببي حتّى في الموافق من أنّه كما أنّ جريان أصالة الطهارة في الملاقي بالكسر في طول جريان أصالة الطهارة في الملاقي بالفتح كذلك جريان أصالة الحلّ في الطرفين في طول جريان أصالة الطهارة فيهما إذ لو أجريت أصالة الطهارة وحكم بالطهارة لا تصل النوبة إلى جريان أصالة الحلّ وعليه فتكون أصالة الطهارة في الملاقي بالكسر وأصالة الحل في الطرف الآخر في مرتبة واحدة لكون كليهما مسببين فإنّا نعلم اجمالا بعد تساقط أصالة الطهارة في الطرفين بأنّ هذا الملاقي بالكسر نجس أو أنّ الطرف الآخر حرام فيقع التعارض بين أصالة الطهارة في الملاقي بالكسر واصالة الحلّ في الطرف الآخر ويتساقطان فيجب الاجتناب عن الملاقي بالكسر نعم لا مانع من جريان أصالة الحلّ في الملاقي بالكسر بعد سقوط أصالة الطهارة فيه للمعارضة بأصالة الحلّ في الطرف الآخر لعدم معارض له في هذه المرتبة.

فالصحيح في الجواب عن استدلال بعض الأصحاب لوجوب الاحتياط هو أن يقال إنّ

١٨١

العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي بالكسر أو الطرف الآخر وإن كان حاصلا بعد العلم بالملاقاة إلّا أنّه لا يمنع عن جريان الأصل في الملاقي بالكسر لأنّ الأصل الجارى في الطرف الآخر قد سقط للمعارضة قبل حدوث العلم الثاني فليس العلم الإجمالي الثانى علما بالتكليف الفعلي على كلّ تقدير إذ يحتمل أن يكون النجس هو الطرف الآخر المفروض تنجز التكليف بالنسبة إليه للعلم السابق ومعه لا يبقى إلّا احتمال التكليف في الملاقي بالكسر فيجرى فيه هذا الأصل النافى بلا معارض فيحكم بالطهارة في الملاقي بالكسر كما لا يخفى.

هذا كلّه فيما إذا لم يكن الطرف الآخر الذي هو عدل للملاقى بالفتح مجرى لأصل طولى سليم عن المعارض كما إذا علمنا بنجاسة أحد المائعين ثم لاقي أحدهما شيء آخر وأمّا إذا كان مجرى لأصل طولى كما إذا علمنا بنجاسة مرددة بين الثوب والماء ثم لاقى الثوب شيء آخر فتسقط أصالة الطهارة في الطرفين للمعارضة وتبقى أصالة الحل في الماء بلا معارض لعدم جريانها في الثوب في نفسها فيقع التعارض حينئذ بين أصالة الطهارة في الملاقي بالكسر أي الملاقي للثوب وبين أصالة الاباحة في الماء فإنّا نعلم اجمالا بأنّ هذا الملاقي نجس أو أن هذا الماء حرام وبعد تساقط الأصلين يكون العلم الإجمالي بالنسبة إلى الملاقي بالكسر أيضا منجّزا فيجب الاحتياط عنه ايضا في هذا الفرض فهنا تفصيل بين جريان أصل طولى سليم عن المعارض في عدل الملاقي بالفتح وعدمه والحكم بوجوب الاحتياط في الأوّل دون الثاني ولكن يمكن ان يمنعا عن تنجيز العلم الإجمالي بالنسبة إلى الملاقي بالكسر لأنّ العلم الإجمالي الثاني ليس علما بالتكليف الفعلي على كلّ تقدير إذ يحتمل أن يكون الحكم المعلوم بالاجمال هو الطرف الآخر المفروض تنجز التكليف بالنسبة إليه للعلم الإجمالي الأوّل ومعه لا يبقى إلّا احتمال التكليف في الملاقي بالكسر فيحكم فيه بالطهارة ولا مجال لوجوب الاجتناب عنه.

ثم لا فرق في عدم وجوب الاحتياط بين كون العلم الإجمالي بالنجاسة حادثا قبل الملاقاة أو قبل العلم بها وبين كون العلم الإجمالي بالنجاسة حادثا بعد الملاقاة وقبل العلم بها

١٨٢

لاشتراكهما في كون العلم الإجمالي بالنجاسة مقدما على العلم بالملاقاة ومع تقدم العلم الإجمالي بالنجاسة على العلم بالملاقاة يتساقط الأصلان فيهما بالمعارضة ويتنجّز التكليف ويجب الاجتناب عن الملاقي بالفتح وطرفه ولا أثر للعلم بالملاقاة بعد تنجز التكليف بالعلم الأوّلى فإنّ العلم بالملاقاة وإن كان يوجب علما اجماليا بنجاسة الملاقي بالكسر أو الطرف الآخر إلّا أنّه لا أثر لهذا العلم بالنسبة إلى الطرف الآخر لتنجز التكليف فيه بمنجز سابق وهو العلم الأوّلى فلا مانع حينئذ من الرجوع إلى الأصل اعني أصالة الطهارة في الملاقي بالكسر لو لم يعارض مع أصالة الحلية في عدل الملاقي بالفتح وإلّا فيجب الاحتياط كما لا يخفى.

المسألة الثانية : أنّه لو حصل للأصل الجارى في هذا الملاقي بالكسر أصل آخر في مرتبته بحيث يحصل المعارضة بينهما كما لو وجد معه ملاقي المشتبه الآخر ففى هذه الصورة يحصل العلم الإجمالي بوجود النجاسة في هذا الملاقي بالكسر أو في ذلك الملاقي بالكسر فالأصل الجاري في كلّ طرف يعارض للأصل الجارى في الآخر فيرجع إلى العلم الإجمالي وهو يقتضي وجوب الاحتياط.

المسألة الثالثة : هى ما إذا حصلت الملاقاة والعلم بها ثم حدث العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي بالفتح والملاقي بالكسر أو بنجاسة الطرف الآخر ومقتضى العلم الإجمالي هو وجوب الاجتناب عن جميع الاطراف بل الأمر كذلك مع مقارنة العلم بالملاقاة مع العلم بالنجاسة كما إذا كان ثوب في إناء فيه ماء وعلمنا اجمالا في تلك الحال بوقوع نجاسة فيه أو في اناء آخر.

ودعوى : أنّ الأصل الجارى في الملاقي بالكسر متأخر رتبة عن الأصل الجارى في الملاقي بالفتح إذ الشك في نجاسة الملاقى بالكسر ناش عن الشك في نجاسة ما لاقاه ولا تصل النوبة إلى جريان الأصل في الملاقي بالكسر إلّا بعد سقوط الأصل فيما لاقاه وبعد سقوطه للمعارضة بينه وبين الأصل في الطرف الآخر يجرى الأصل في الملاقي بالكسر بلا معارض فيحكم بالطهارة.

١٨٣

مندفعة : بما مرّ من أنّ الأصل الموافق لا يكون متأخرا لقصور أدلة اعتبار الاصول عن افادة ذلك لاختصاصها بالأصل الموافق.

هذا مضافا إلى أنّ الأصل الجاري في الملاقي بالكسر ليس متأخرا عن الأصل الجارى في الطرف الآخر كما أنّ الأصل الجارى في الملاقي بالفتح ليس متأخرا عنه فكما يقع التعارض بين جريان الأصل في الملاقي بالفتح وجريانه في الطرف الآخر كذلك يقع التعارض بين جريان الأصل في الملاقي بالكسر وجريانه في الطرف الآخر وبالنتيجة تسقط الاصول ويكون العلم الإجمالي منجّزا فيجب الاجتناب عن الجميع الملاقي بالفتح والملاقي بالكسر والطرف الآخر.

على أنّ التقدم والتاخر الرتبى إنّما تترتب عليهما الآثار العقلية دون الأحكام الشرعية لأنّها مترتبة على الوجودات الخارجية التي تدور مدار التقدم والتأخر الزمانى دون الرتبى فالسبب والمسبب إذا كانا معينين في الوجود يعمهما دليل الحكم في عرض واحد.

ثم لا فرق فيما ذكر من وجوب الاحتياط بين أن يكون زمان النجس المعلوم بالاجمال بوجوده الواقعي سابقا على زمان الملاقاة كما إذا علمنا يوم السبت بأنّ أحد هذين الإنائين كان نجسا يوم الخميس ولاقى أحدهما ثوب يوم الجمعة وبين أن يكون زمانهما متحدا كما إذا كان ثوب في إناء فيه ماء وعلمنا اجمالا بوقوع نجاسة فيه أو في إناء آخر في تلك الحال.

والوجه فيه ان النجس المعلوم بالاجمال في هذه الصورة وإن كان سابقا بوجوده الواقعى على زمان الملاقاة إلّا أنّه مقارن له بوجوده العلمى والتنجيز من آثار العلم بالنجاسة لا من آثار وجودها الواقعي وحيث إنّ العلم الإجمالي بنجاسة أحد الاطراف متأخر عن الملاقاة فلا محالة يكون الملاقي بالكسر أيضا من أطرافه ولا أثر لتقدم المعلوم بالاجمال بوجوده الواقعى على الملاقاة واقعا.

المسألة الرابعة : هى ما إذا علم بالملاقاة ثم علم اجمالا بنجاسة الملاقي بالفتح أو الطرف الآخر ولكن كان الملاقي بالفتح حين حدوث العلم خارجا عن محلّ الابتلاء فانّه حينئذ تقع

١٨٤

المعارضة بين جريان الأصل في الملاقي بالكسر وجريانه في الطرف الآخر ويسقطان فيجب الاجتناب عنهما وإمّا الملاقي بالفتح فلا يكون مجرى للأصل بنفسه لخروجه عن محلّ الابتلاء فانه لا يترتب عليه أثر فعلى ويعتبر في جريان الأصل ترتب أثر عملى فعلى.

وإذ رجع الملاقي بالفتح بعد ذلك إلى محلّ الابتلاء لم يكن مانع من الرجوع إلى الأصل فيه لعدم ابتلائه بالمعارض لسقوط الأصل في الطرف الآخر قبل رجوعه إلى محلّ الابتلاء فيكون حال الملاقي بالفتح في هذا الفرض حال الملاقي بالكسر في المسألة الاولى من حيث كون الشك فيه شكا في حدوث تكليف جديد يرجع فيه إلى الأصل.

اللهم إلّا أن يقال : إنّ الخروج عن محلّ الابتلاء لا يمنع عن جريان الأصل فيه إذا كان له أثر فعلى والمقام كذلك فإنّ الملاقي بالفتح وان كان خارجا عن محلّ الابتلاء إلّا أنّه يترتب على جريان أصالة الطهارة فيه أثر فعلى وهو الحكم بطهارة ملاقيه فمجرد الخروج عن محلّ الابتلاء غير مانع من جريان الأصل إلّا ان العلم الإجمالي بنجاسته أو نجاسة الطرف الآخر يمنع من الرجوع إلى الأصل في كلّ منهما فيجب الاجتناب عنهما وأمّا الملاقي بالكسر فحكمه من حيث جريان الأصل فيه وعدمه على التفصيل الذي تقدّم في المسائل الثلاث هذا.

ولا يخفى عليك أنّ العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي بالفتح أو نجاسة الطرف الآخر مع كون أحد الأطراف خارجا عن محلّ الابتلاء وكون الخطاب فيه مستهجنا لا يكون منجّزا فإذا لم يكن العلم الإجمالي منجّزا لا يمنع عن الرجوع إلى الأصل في الملاقي بالفتح عند رجوعه إلى محلّ الابتلاء فيحكم بطهارته وأمّا الملاقي بالكسر في الفرض المذكور أي العلم بالملاقاة قبل العلم بالنجاسة فهو من أطراف العلم الإجمالي بالنجاسة وهو مانع من جريان الأصل فيه وعليه يجب الاحتياط فيه.

المسألة الخامسة : هى ما لو تعلّق العلم الإجمالي أوّلا بنجاسة الملاقي بالكسر أو شيء آخر ثم حدث العلم بالملاقاة والعلم بنجاسة الملاقي بالفتح أو ذلك الشيء قبل الملاقاة ذهب في الكفاية إلى وجوب الاجتناب عن الملاقي بالكسر دون الملاقي بالفتح بدعوى أنّ حال

١٨٥

الملاقي بالفتح في هذه الصورة حال الملاقي بالكسر في الصورة الاولى في عدم كونه طرفا للعلم الإجمالي وأنّه فرد آخر على تقدير نجاسته واقعا غير معلوم النجاسة لا إجمالا ولا تفصيلا.

١٨٦

تتمة الفصل الثالث : في أصالة الاشتغال

المقام الثاني : في الشك في المكلّف به مع العلم بالتكليف وإمكان الاحتياط ودوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين.

وتوضيح محلّ النزاع في هذا المقام كما أفاد في مصباح الاصول أنّ محلّ الكلام في دوران الأمر بين الأقل والأكثر إنّما هو فيما إذا كان الأقل متعلقا للتكليف بنحو لا بشرط القسمي بمعنى إنّا نعلم ان الواجب لو كان هو الأقل لا يضرّه الاتيان بالأكثر وأمّا إذا كان الأقل مأخوذا في التكليف بشرط لا حتّى يضرّه الاتيان بالأكثر كما في دوران الأمر بين القصر والاتمام فهو خارج عن محلّ الكلام لكون الدوران فيه من قبيل الدوران بين المتباينين.

وبعبارة أخرى الكلام في دوران الأمر بين الأقل والأكثر إنّما هو فيما إذا كان مقتضى الاحتياط الاتيان بالأكثر وإذا كان الأقل مأخوذا بشرط لا لا يمكن الاحتياط بإتيان الأكثر لاحتمال كون الزائد مبطلا بل مقتضى الاحتياط هو الاتيان بالأقل مرّة وبالأكثر اخرى ولذا كان مقتضى الاحتياط عند الشك في القصر والتمام هو الجمع بينهما لا الاتيان بالتمام فقط وهذا هو الميزان في تمييز دوران الأمر بين الأقل والأكثر عن دوران الأمر بين المتباينين (١).

وإذا عرفت ذلك لا يخفى عليك أنّه وقع الكلام في أنّ الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين ملحق بالشك في التكليف حتّى يجري البراءة في وجوب الأكثر أو ملحق بالشك في المكلّف

__________________

(١) مصباح الاصول / ج ٢ ، ص ٤٢٩.

١٨٧

به حتّى يكون موردا لقاعدة الاحتياط.

وتحقيق الكلام في جهات الجهة الاولى في جريان البراءة في صورة دوران الأمر بين الأقل والأكثر من الأجزاء الخارجية.

قال شيخنا الأعظم قدس‌سره وقد اختلف في وجوب الاحتياط هنا فصرّح بعض متأخري المتأخرين بوجوبه وربما يظهر من كلام بعض القدماء كالسيد والشيخ ولم يعلم كونه مذهبا لهما بل ظاهر كلماتهم الآخر خلافه.

وصريح جماعة اجراء أصالة البراءة وعدم وجوب الاحتياط والظاهر أنّه المشهور بين العامة والخاصة للمتقدمين منهم والمتأخرين كما يظهر من تتبع كتب القوم كالخلاف وسرائر وكتب الفاضلين والشهيدين والمحقّق الثاني قدس‌سره ومن تأخر عنهم.

بل الانصاف أنّه لم أعثر في كلمات من تقدم على المحقّق السبزواري قدس‌سره على من يلتزم بوجوب الاحتياط في الأجزاء والشرائط وإن كان فيهم من يختلف كلامه في ذلك كالسيد والشيخ بل الشهيدين قدس‌سرهما.

وكيف كان فالمختار جريان أصل البراءة واستدل عليه بالبراءة العقلية والشرعية أمّا الأولى فقد ذكر لها وجوه :

الوجه الأوّل للبراءة العقلية :

هو الانحلال بالعلم التفصيلي بمطلوبية الأقل استقلالا أو في ضمن الأكثر ويستفاد ذلك من قول الشيخ الأعظم قدس‌سره وأمّا العقل فلاستقلاله يقبح مؤاخذة من كلّف بمركب لم يعلم من أجزائه إلّا عدة أجزاء ويشك في أنّه هو هذا أو له جزء آخر وهو الشيء الفلاني ثمّ بذل جهده في طلب الدليل على جزئية ذلك الأمر فلم يقتدر فأتى بما علم وترك المشكوك خصوصا مع اعتراف المولى باني ما نصبت لك عليه دلالة (١). ومن قوله لأنّ الآتي بالأكثر لا يعلم أنّه الواجب أو الأقل المتحقق في ضمنه (٢).

__________________

(١) فرائد الاصول / ص ٢٧٣.

(٢) فرائد الاصول / ص ٢٧٣ ـ ٢٧٤.

١٨٨

ومن قوله قلت يختار هنا أنّ الجهل مانع عقلي عن توجه التكليف بالمجهول إلى المكلّف لحكم العقل بقبح المؤاخذة على ترك الأكثر المسبب عن ترك الجزء المشكوك من دون بيان ولا يعارض بقبح المؤاخذة على ترك الأقل من حيث هو من دون بيان إذ يكفي في البيان المسوغ للمؤاخذة عليه العلم التفصيلي بأنّه مطلوب للشارع بالاستقلال أو في ضمن الأكثر ومع هذا العلم لا يقبح المؤاخذة (١).

وتوضيح هذا الوجه كما أفاد في مصباح الاصول أنّ الأقل واجب يقينا بالوجوب الجامع بين الوجوب الاستقلالي والوجوب الضمني إذ لو كان الواجب في الواقع هو الأقل فيكون الأقل واجبا بالوجوب الاستقلالي ولو كان الواجب في الواقع هو الأكثر فيكون الأقل واجبا بالوجوب الضمني لأنّ التكليف بالمركب ينحلّ إلى التكليف بكل واحد من الأجزاء وينبسط التكليف الواحد المتعلّق بالمركب إلى تكاليف متعددة متعلقة بكل واحد من الأجزاء ولذا لا يكون الآتي بكل جزء مكلفا باتيانه ثانيا لسقوط التكليف المتعلّق به بل الآتي بكل جزء يكون مكلفا باتيان جزء آخر بعده لكون التكليف متعلقا بكل جزء مشروطا بلحوق الجزء التالي بنحو الشرط المتأخر.

فتحصّل : أنّ تعلّق التكليف بالأقل معلوم ويكون العقاب على تركه عقابا مع البيان واتمام الحجة وتعلقه بالأكثر مشكوك فيه ويكون العقاب عليه عقابا بلا بيان (٢).

يرد على هذا الوجه مناقشات :

منها أنّه لو اقتصرنا على الأقل نشك في حصول غرض المولى مع أنّ تحصيل الغرض واجب فلا بد من الاتيان بالأكثر حتّى يحصل العلم باتيان الغرض.

ويمكن الجواب عنه بأنّه إن كان الغرض بنفسه متعلقا للتكليف وكان بسيطا ففي مثل

__________________

(١) فرائد الاصول / ص ٢٧٤.

(٢) مصباح الاصول / ج ٢ ، ص ٤٢٨ ـ ٤٣٠.

١٨٩

ذلك يجب على المكلّف احراز حصوله والاتيان بما يكون محصلا له يقينا لأنّ المكلّف به وهو الغرض معلوم والشك في محصله ولا إشكال في هذه الصورة في وجوب الاحتياط وإن كان الغرض المذكور مردّدا بين الأقل والأكثر فلا يجب إلّا الأقل لأنّ الأكثر ممّا لم تقم عليه الحجة من قبل المولى فيجرى فيه قاعدة قبح العقاب بلا بيان كما تجري في أصل التكليف بالزائد.

وأمّا إن كان التكليف متعلقا بالفعل المأمور به فلا يجب على العبد إلّا الاتيان بما أمر به المولى (أي بما علم أنّه ما أمر به المولى) وأمّا كون المأمور به وافيا بغرض المولى فهو من وظائف المولى فعليه أن يأمر العبد بما يفي بغرضه فلو فرض عدم تمامية البيان من قبل المولى لا يكون تفويت الغرض مستندا إلى العبد فلا يكون العبد مستحقا للعقاب (١).

وممّا ذكر يظهر ما في الكفاية حيث قال إنّ الغرض الداعي إلى الأمر لا يكاد يحرز إلّا بالأكثر بناء على ما ذهب إليه المشهور من العدلية من تبعية الأوامر والنواهي للمصالح والمفاسد في المأمور بها والمنهي عنها (٢).

وذلك لما عرفت من أنّ مراعاة الغرض الداعي ممّا يلزم على المولى لا على العبد وعلى فرض التكليف بالأغراض لا يجب مراعاته إلّا بمقدار معلوم ويجري في الزائد عليه البراءة العقلية كأصل التكليف بالزائد.

ومنها : أنّ ما ذكر في وجوب الاحتياط في المتباينين بعينه موجود هنا وهو أنّ المقتضى وهو تعلّق الوجوب الواقعي بالأمر الواقعي المردّد بين الأقل والأكثر موجود والجهل التفصيلي به لا يصلح مانعا لا عن المأمور به ولا عن توجه الأمر كما تقدم في المتباينين حرفا بحرف.

ويمكن الجواب عنه بأنّ الفرق هو الانحلال في المقام بخلاف المتباينين وذلك لأنّ التكليف في ناحية الأقل معلوم وإنّما الشك في جزئية الزائد فينحلّ المعلوم بالإجمال إلى المعلوم

__________________

(١) راجع مصباح الاصول / ج ٢ ، ص ٤٣٧ ـ ٤٣٨.

(٢) الكفاية / ج ٢ ، ص ٢٣٢.

١٩٠

بالتفصيل وهو الأقل سواء كان وجوبه هو الوجوب النفسي أم الضمني والشك في جزئية الزائد ومقتضى قاعدة قبح العقاب بلا بيان هو الحكم بالبراءة العقلية في الزائد والأصل في ناحية الأكثر المشكوك لا معارض له لأنّ الأقل معلوم الوجوب ولا مجال لجريان الأصل فيه.

ومنها : أنّ الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية والعلم الإجمالي بالتكليف المردّد بين الأقل والأكثر اشتغال يقيني ومقتضاه هو الاحتياط حتّى يحصل البراءة اليقينية ويمكن الجواب عنه بأنّ في المقام لا يقين إلّا بالاشتغال بالأقل إذ الاشتغال بالأكثر بعد ما عرفت من انحلال العلم الإجمالي إلى المعلوم والمشكوك غير ثابت. وعليه فوجوب الأجزاء المعلومة الجزئية معلوم بخلاف وجوب الجزء المشكوك فإنّه مجهول فتجري البراءة في المشكوك كما لا يخفى.

قال في مصباح الاصول إنّ الشك في السقوط تارة يكون ناشئا من الشك في صدور الفعل من المكلّف بعد تمامية البيان من قبل المولى كما إذا علمنا بوجوب صلاة الظهر مثلا ونشك في اتياننا بها ففي مثل ذلك تجري قاعدة الاشتغال بلا شبهة وإشكال لتمامية البيان من قبل المولى ووصول التكليف إلى المكلّف وإنّما الشك في سقوط التكليف بعد وصوله فلا بد من العلم بالفراغ بحكم العقل.

واخرى يكون ناشئا من عدم وصول التكليف إلى المكلّف فلا يعلم العبد بما هو مجهول من قبل المولى كما في المقام فإنّ الشك في سقوط التكليف باتيان الأقل يكون ناشئا من الشك في جعل المولى ففي مثل ذلك كان جعل التكليف بالنسبة إلى الأكثر مشكوكا فيه فيرجع فيه إلى الأصل العقلي وهو قاعدة قبح العقاب بلا بيان إلى أن قال فبعد الاتيان بالأقل وإن كان الشك في سقوط التكليف واقعا موجودا بالوجدان لاحتمال وجوب الأكثر إلّا أنّه ممّا لا بأس به بعد العلم بعدم العقاب على مخالفته لعدم وصوله إلينا والعقل مستقل

١٩١

بقبح العقاب بلا بيان (١).

ومنها : أنّ الموجب لانحلال العلم الإجمالي هو العلم التفصيلي بوجوب الأقل بنحو الاطلاق والموجود في المقام هو العلم التفصيلي بوجوب الأقل على نحو الاهمال الجامع بين الاطلاق والتقييد فما هو موجود لا يكون موجبا للانحلال بل مقوم للعلم الإجمالي وما هو موجب للانحلال لا يكون موجودا وبالجملة العلم التفصيلي بالجامع بين الخصوصيات لا يكون موجبا للانحلال وإلا كان موجبا له في المتباينين أيضا لأنّ العلم الإجمالي موجود في المتباينين أيضا.

وأجاب عنه في مصباح الاصول بأنّ ما ذكر متين لو قلنا بالانحلال الحقيقي فإنّ العلم التفصيلي بالجامع هو عين العلم الإجمالي بإحدى الخصوصيتين فكيف يكون موجبا للانحلال الحقيقي ولكنا نقول بالانحلال الحكمي بمعنى أنّ المعلوم بالإجمال وإن كان يحتمل انطباقه على خصوصية الاطلاق وعلى خصوصية التقييد إلّا أنّه حيث تكون إحدى الخصوصيتين مجرى للأصل دون الاخرى كان جريان الأصل في أحدهما في حكم الانحلال لما ذكرناه غير مرة من أنّ تنجيز العلم الإجمالي متوقف على تعارض الاصول في أطرافه وتساقطها فبعد العلم بوجوب الأقل بنحو الاحتمال الجامع بين الاطلاق والتقييد وإن لم يكن لنا علم بإحدى الخصوصيتين حتّى يلزم الانحلال الحقيقي إلّا أنّه حيث يكون التقييد موردا لجريان الأصل بلا معارض كان جريانه فيه مانعا عن تنجيز العلم الإجمالي فيكون بحكم الانحلال وهذا الانحلال الحكمي لا يكون في المتباينين لعدم جريان الأصل في واحد منهما لابتلائه بالمعارض فإنّ الأصلين في المتباينين يتساقطان للمعارضة وهذا هو الفارق بين المقامين (٢).

ولا يخفى عليك ما في دعوى عدم الانحلال الحقيقي بعد عدم مغايرة وجوب الأقل مع

__________________

(١) مصباح الاصول / ج ٢ ، ص ٤٣٢.

(٢) مصباح الاصول / ج ٢ ، ص ٤٣٣ ـ ٤٣٤.

١٩٢

وجوب المركب لكون المركب عين الأجزاء.

ولذا لا مجال للوجوب الغيري المقدمي في الأجزاء لأنّه فرع مغايرة المقدمة مع ذيها وهو لا يساعد مع العينية ولا مجال أيضا لجعل نسبة الأجزاء إلى المركب كنسبة المحصّل إلى المحصّل وذلك لما ذكر من أنّه فرع المغايرة والمفروض هو العينية بل لا مجال للوجوب الضمني بعد عينية المركب لأجزائه وكون الاختلاف بين المركب وأجزائه بالإجمال والتفصيل وعليه فيرجع المعلوم بالإجمال إلى العلم التفصيلي بوجوب الأجزاء المعلومة وهي الأقل والشك البدوي بالنسبة إلى الجزء المشكوك وعليه فالاشتغال اليقيني ليس إلّا بالنسبة إلى الأقل وأما الزيادة فليست إلّا مشكوك الوجوب ولا تردد بالنسبة إلى وجوب الأقل حتّى يقال بأنّ التردد مقوم للعلم الإجمالي كسائر موارد العلم الإجمالي ولعلّ منشأ الاشكال هو التعبير بالضمنية في كلام الشيخ مع أنّ الوجوب في الأقل عين الوجوب في الأكثر فالوجوب في الأقل معلوم ومطلق سواء وجب الأكثر أو لا ومع معلوميته واطلاقه يوجب الانحلال ولا يقاس بالمتباينين حتّى يقال لا انحلال بدعوى أنّ العلم التفصيلي بالجامع هو عين العلم الإجمالي بإحدى الخصوصيتين إذ الأقل معلوم الوجوب بالتفصيل وهو ليس بجامع كما لا يخفى.

ولقد أفاد وأجاد المحقّق اليزدي قدس‌سره حيث قال إنّ الأقل معلوم الوجوب بالوجوب النفسي لأنّ المركب باللحاظ الاول الذي يجعله الحاكم موضوعا للحكم ملحوظ بلحاظ واحد وموجود في الذهن بوجود واحد ولا جزء له بهذه الملاحظة وإنّما يعتبر الجزئية بملاحظة ثانوية وهي ملاحظة كلّ جزء منه مستقلا فالجزء إن لوحظ فهي مقدمة للكل وإن لوحظ طريقا إلى الملاحظة الأولية للحاكم على الطبيعة المهملة فهي عين الكل إذ ليس للأجزاء بهذا الاعتبار وجود على حدة إذا عرفت هذا فنقول بعد العلم بتعلق الوجوب إمّا بالأقلّ أو بالأكثر نعلم بتعلقه بذات الأقل مع قطع النظر عن كونه محدودا بأحد الحدين ونشك في تعلقه بشيء آخر فمقتضى الأصل البراءة هذا بعض كلامه الذي نقله سيّدنا الاستاذ المحقّق

١٩٣

الداماد قدس‌سره وقال لعلّه خال عن الاشكال (١).

ولعلّ إليه يؤول ما أفاده سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره من أنّ العلم الإجمالي قائم بالتردد والشك أي الشك بأنّ هذا واجب أو ذاك وليس المقام كذلك للعلم بوجوب الأقل على كلّ حال والشك في وجوب الزائد إذ المفروض أنّ الواجب هو ذات الأقل على نحو الاطلاق المقسمى ووجوبه لا ينافي مع وجوب شيء آخر أو عدم وجوبه إذ الأكثر ليس إلّا الأقل والزيادة ولا يفترق حال الأقل بالنسبة إلى تعلّق أصل التكليف به ضمت إليه الزيادة أو لا تضم فالقطع التفصيلي حاصل من غير دخول الإجمال بالنسبة إلى وجوب الأجزاء التي يعلم انحلال المركب إليها وإنّما الشك في أنّ الجزء الزائد هل يكون دخيلا فيه حتّى يكون متعلّق التكليف بعين تعلقه بالمركب أو لا وهذا عين ما أوضحناه مرارا بأنّ هنا علما تفصيليا وشكا بدئيا.

وإن شئت قلت إنّ الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية بمقدار ما قام الدليل على الاشتغال ولا إشكال في أنّ الحجة قائمة على وجوب الأقل وأمّا الزيادة فليست إلّا مشكوكا فيها من رأس ومع ذلك فكيف يجب الاحتياط.

وما أفاده (المستشكل) من أنّ الأقل المردّد بين اللابشرط وبشرط شيء هو عين العلم الإجمالي فيلزم أن يكون العلم الإجمالي موجبا لانحلال نفسه غير تام لأنّ الأقل متعلّق للعلم التفصيلي ليس إلّا والشك إنّما هو في الزيادة لا في مقدار الأقل وإن شئت عبرت بأنّه ليس علم اجمالي من رأس حتّى يحتاج إلى الانحلال بل علم تفصيلي وشك بدئى وليس حاله نظير قيام الأمارة على بعض الأطراف الموجب للانحلال. (٢)

والأساس في ذلك كما أفاد سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره أنّ المركبات الاعتبارية ليست أمرا مغايرا للأجزاء بالأسر بل هو عينها حقيقة إذ ليس المراد من المركبات إلّا الأجزاء في لحاظ

__________________

(١) المحاضرات لسيدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره / ج ٢ ، ص ٣٧٧ ـ ٣٧٩.

(٢) تهذيب الاصول / ج ٢ ، ص ٣٣٤.

١٩٤

الوحدة كما أنّ الأجزاء عبارة عن الامور المختلفة في لحاظ الكثرة وهذا لا يوجب أن يكون هنا صورة وأجزاء متغايرة ويكون أحدهما محصّلا والآخر محصّلا.

وان شئت فلاحظ العشرة فإنّها عبارة عن هذا الواحد وذاك الواحد وذلك وليس أمرا مغايرا لتلك الوحدات بل هي عبارة عن هذه الكثرات في لحاظ الوحدة والعنوان يحكي عن وحدة جمعية بين الوحدات فلو لاحظت كلّ واحد من الوحدات فقد لاحظت ذات العشرة كما أنّك إذا لاحظت العنوان فقد لاحظت كلّ واحد من الوحدات بلحاظ واحد والفرق بينهما إنّما هو بالإجمال والتفصيل والوحدة والكثرة فالعنوان مجمل هذه الكثرات ومعصورها كما أنّ الأجزاء تفصيل ذلك العنوان ضرورة أنّ ضم موجود إلى موجود آخر حتّى ينتهي إلى ما شاء لا يحصل منه موجود آخر متغاير مع الأجزاء المنضمات.

ودعوة الأمر إلى ايجاد الأجزاء إنّما هو بعين دعوته إلى الطبيعة لا بدعوة مستقلة ولا بدعوة ضمنية ولا بأمر انحلالي ولا بحكم العقل الحاكم بأنّ اتيان الكل لا يحصل إلّا باتيان ما يتوقف عليه من الأجزاء وذلك لأنّ الطبيعة تنحلّ إلى الأجزاء انحلال المجمل إلى مفصّله والمفروض أنّها عين الأجزاء في لحاظ الوحدة لا شيئا آخر فالدعوة إلى الطبيعة الاعتبارية عين الدعوة إلى الأجزاء والبعث إلى احضار عشرة رجال بعث إلى احضار هذا وذاك حتّى يصدق العنوان ومع ما ذكرنا لا حاجة إلى التمسك في مقام الدعوة إلى حكم العقل وإن كان حكمه صحيحا وأمّا الأمر الضمني أو الانحلالي فمما لا طائل تحته إلى أن قال فالأمر لا يرى في تلك اللحاظ (أي لحاظ المركب بصورة وحدانية وهي صورة المركب فانيا فيها الأجزاء) إلّا أمرا واحدا ولا يأمر إلّا بأمر واحد ولكنّ هذا الأمر الوحداني يكون داعيا إلى اتيان الأجزاء بعين دعوته إلى المركب وحجة عليها بعين حجيته عليه لكون المركب هو الأجزاء في لحاظ الوحدة والاضمحلال (١).

هذا مضافا إلى ما حكي عن سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره من أنّ ملاك الانحلال ليس

__________________

(١) تهذيب الاصول / ج ٢ ، ص ٣٢٦.

١٩٥

تعلّق العلم التفصيلي ببعض الأطراف بل ملاكه عدم البيان على سائر الأطراف بحيث لو فرض وجود البيان عليها لم نقل بالانحلال فالمدار على عدم البيان المستند إلى عدم بقاء العلم لا على تعلّق العلم التفصيلي ببعض الأطراف (١).

لا يقال : إنّ الاطلاق عبارة عن لحاظ عدم القيد وعليه فالمتعلق بناء على وجوب الأقل غير المتعلّق بناء على وجوب الأكثر ومباين معه وعليه فدعوى العينية كما ترى.

لأنّا نقول : بعد تسليم كون الاطلاق عبارة عن لحاظ عدم القيد لا عدم اللحاظ كما هو الصحيح إنّ الإطلاق كما في مباحث الحجج لا يدخل في العهدة لأنّه يقوّم الصورة الذهنية وليس له محكي ومرئي ليراد ايجابه زائدا على ذات الطبيعة ولو قلنا إنّ الاطلاق لحاظ عدم القيد بخلاف التقييد لأنّ المولى لا يريد من المكلّف ايجاد الصورة الذهنية بل يريد ايجاد محكيها الخارجي.

وعليه فبلحاظ عالم المعروض الذهني للوجوب وإن كان الواجب دائرا بين متباينين إلّا أنّه بلحاظ ما يتسجل في العهدة عقلا وهو المحكي الخارجي دائر بين الأقل والأكثر (٢).

وممّا ذكره الشهيد الصدر قدس‌سره في الاطلاق يظهر الجواب عما يقال من أنّ الوجوب ارتباطي والارتباطية تساوق الوحدة والوحدة تساوق التباين مع الكثرة إذ لا يتعقل أقل وأكثر حقيقة إلّا مع فرض الكثرة فيكون العلم الإجمالي في المقام بحسب الحقيقة علما اجماليا بين متباينين.

وذلك لما في مباحث الحجج من أنّ الوحدة الذهنية الاصطناعية للصور الذهنية لا تدخل في العهدة بل محكيها ومعنونها وما تقتضيه من الضيق يدخل في العهدة وفي هذه المرحلة الأمر دائر بين الأقل والأكثر (٣).

فتحصّل أنّ الانحلال حقيقي لكون ذات الأقل معلوم الوجوب بالتفصيل لا من ناحية

__________________

(١) المحاضرات لسيدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره / ج ٢ ، ص ٣٧٦.

(٢) مباحث الحجج / ج ٢ ، ص ٣٣٤.

(٣) المصدر السابق.

١٩٦

حجية وجوب الأقل كما يظهر من كلام الشيخ قدس‌سره بل من ناحية عينية وجوب ذات الأقل لوجوب المركب ويشهد له عدم التردد في وجوبه مع أنّ التردّد ممّا يتقوم به العلم الإجمالي وهو الظاهر من كلام المحقّق اليزدي وسيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سرهما.

الوجه الثانى للبراءة العقلية : هو الانحلال بالعلم التفصيلي بمطلوبية الأقل نفسيا أو مقدميا وهو يستفاد أيضا من كلام الشيخ الأعظم قدس‌سره في جريان البراءة في الأقل والأكثر الارتباطيين وهو كما صرّح الشيخ به أنّ الموجود في المقام علم تفصيلي وهو وجوب الأقل بمعنى ترتب العقاب على تركه وشك في أصل وجوب الزائد ولو مقدمة.

وبالجملة فالعلم الإجمالي فيما نحن فيه غير مؤثر في وجوب الاحتياط لكون أحد طرفيه معلوم الالزام تفصيلا والآخر مشكوك الالزام رأسا ودوران الالزام في الأقل بين كونه مقدميا أو نفسيا لا يقدح في كونه معلوما بالتفصيل لما ذكرنا من أنّ العقل يحكم بوجوب القيام بما علم اجمالا أو تفصيلا الزام المولى به على أيّ وجه كان ويحكم بقبح المؤاخذة على ما شك في الزامه والمعلوم الزامه تفصيلا هو الأقل والمشكوك الزامه رأسا هو الزائد والمعلوم الزامه اجمالا هو الواجب النفسي المردّد بين الأقل والأكثر ولا عبرة به بعد انحلاله إلى معلوم تفصيلي ومشكوك كما في كلّ معلوم اجمالي يكون كذلك (١).

وفيه : ما عرفت من عدم المغايرة بين الأجزاء الداخلية والمركب لأنّ المركب عين الأجزاء بالأسر ومعه فلا مجال للوجوب المقدمي حتّى ينكره بعض ويثبته آخر بحسب ما تقدم في محله من وجوب المقدمة وعدمه ولو سلمنا المغايرة بينهما وكون الوجوب في الأقل مقدميا يرد عليه ما أورده صاحب الكفاية من أنّ الانحلال فاسد قطعا لاستلزام الانحلال المحال بداهة توقف لزوم الأقل فعلا إمّا بنفسه أو لغيره على تنجز التكليف مطلقا ولو كان متعلقا بالأكثر فلو كان لزومه كذلك مستلزما لعدم تنجزه إلّا إذا كان متعلقا بالأقل كان خلفا مع أنّه يلزم من وجوده عدمه لاستلزامه عدم تنجز التكليف على كلّ حال المستلزم

__________________

(١) فرائد الاصول / ص ٢٧٤.

١٩٧

لعدم لزوم الأقل مطلقا المستلزم لعدم الانحلال وما يلزم من وجوده عدمه محال (١).

إلّا أنّ ما أفاده صاحب الكفاية موقوف على مغايرة الأجزاء مع المركب وعدم عينية المركب للاجزاء بالأسر ولكن عرفت فساد ذلك قال سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره في محكي كلامه إنّ الظاهر عدم ورود إشكال المحقّق الخراساني قدس‌سره على تقدير كون الأجزاء واجبا بوجوب نفسي لأنّ المنبسط على ذات الأقل على هذا القول هو الوجوب النفسي الذي لموافقته ثواب ولمخالفته عقاب الذي لا يتوقف تنجزه على تنجز تكليف آخر ليرد المحذور بل المحاذير المتقدمة إلى أن قال نعم لا يعلم أنّ المنبسط عليه التكليف النفسي تمام المنبسط عليه واقعا أو بعضه وهذا لا يخرج التكليف النفسي المعلوم عن التنجز كما لا يخفى وإن شئت قلت إنّ وجوب الأجزاء على فرض كونه نفسيا منجز بنفس العلم بتعلق الوجوب به بحيث لو فرض محالا امكان تعلّق العلم بوجوب بعض الأجزاء في المركب دون العلم بوجوب الكل بالأسر لقلنا بتنجز ذلك البعض دون الكل وليس تنجزها فرع تنجز الكل ومن ناحيته وذلك بخلاف أن يكون وجوبها مقدميا فإنّ تنجزها حينئذ يتوقف على تنجزّ ذي المقدمة الذي هو الكل ويترشح من ناحيته كما يترشح أصل وجوبها من ناحيته ولعمري أنّه واضح ولا يحتاج إلى اطالة الكلام فتدبّر (٢).

فتحصّل أنّ الصحيح في بيان البراءة العقلية هو أن نقول بالانحلال لعينية الأجزاء مع المركب إذ مع عينيتها مع المركب تصير واجبة بوجوبه ولا مغايرة بينهما حتّى يتوقف وجوب الأقل وتنجزه على الوجوب وتنجّز الأكثر لأنّ هناك وجوب نفسي واحد منبعث عن ارادة نفسية واحدة منبعثة عن غرض واحد قائم بالأجزاء بالأسر التي هي عين الكل لاتحاد المركب مع الأجزاء واختلافهما في اللحاظ بالمعنى الحرفي فلا ريب حينئذ في أنّ هذا الوجوب النفسي الشخصي المعلوم أصله منبسط على تسعة أجزاء مثلا بتعلّق واحد

__________________

(١) الكفاية / ج ٢ ، ص ٢٢٨.

(٢) المحاضرات لسيدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره / ج ٢ ، ص ٣٧٩ ـ ٣٨٠.

١٩٨

وانبساطه بعين ذلك التعلق على الجزء العاشر المشكوك مشكوك وحيث إنّ المنبسط على ذات الأقل هو الوجوب النفسي فلا يتوقف فعليته وتنجزه على تكليف آخر غير معلوم الحال فالأمر بذات الأقل فعلي للعلم به وذات الأقل حقيقة هي كلّ ما صار الأمر بالاضافة إليه فعليا وكلّ جزء منه هو بعض ما صار الأمر بالنسبة إليه فعليا وفي النهاية يرجع التقريب المذكور إلى انكار العلم الإجمالي في المركبات الاعتبارية إذ مع الدقة يظهر أنّه لا علم بالتكليف إلّا بمقدار ذات الأقل والشك في تعلقه بالزائد عليه والوجوب في ذات الأقل نفسي لا غيري ولا ضمني كما لا يخفى.

هذا كلّه بالنسبة إلى جريان البراءة العقلية في الأقل والأكثر الارتباطيين.

في جريان البراءة الشرعية

وأما جريان البراءة الشرعية فقد صرّح الشيخ الأعظم قدس‌سره به أيضا بدعوى أنّ وجوب الجزء المشكوك محجوب علمه عن العباد فهو موضوع عنهم فدلّ على أنّ الجزء المشكوك وجوبه غير واجب على الجاهل كما دلّ على أنّ الشيء المشكوك وجوبه النفسي غير واجب في الظاهر على الجاهل. وهكذا وجوب الجزء المشكوك ممّا لم يعلم مرفوع بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله رفع عن امتي ما لا يعلمون فإنّ وجوب الجزء المشكوك ممّا لم يعلم فهو موضوع عن المكلفين أو أنّ العقاب والمؤاخذة المترتبة على تعمد ترك الجزء المشكوك الذي هو سبب لترك الكل مرفوع عن الجاهل والقول بأنّ حديث الرفع لا يجري في الشك في الوجوب الغيري غير سديد بعد عدم الفرق بين الوجوبين في نفي ما يترتب عليه من استحقاق العقاب لأنّ ترك الواجب الغيري منشأ لاستحقاق العقاب ولو من جهة كونه منشأ لترك الواجب النفسي.

هذا مع امكان دعوى أنّ العقاب على ترك الجزء أيضا من خصوص ذاته لأنّ ترك الجزء عين ترك الكل فافهم.

١٩٩

هذا كلّه إن جعلنا المرفوع والموضوع في الروايات خصوص المؤاخذة وأمّا لو عمّمناه لمطلق الآثار الشرعية المترتبة على الشيء المجهول كانت الدلالة أوضح لكن سيأتي ما في ذلك (١).

ولا يخفى عليك صحة ما أفاده الشيخ من جريان البراءة الشرعية بعد تقريب جريان البراءة العقلية بعدم العلم إلّا بالتكليف بالأقل والشك في تعلقه بالأكثر نعم الوجوب المرفوع أو المحجوب في الزائد على الأقل ليس وجوبا غيريا أو ضمنيا بعد ما مرّ مفصلا من عينية المركب مع أجزائه فلا وجه لجعل الوجوب المشكوك في الأكثر وجوبا غيريا كما يظهر من صدر كلام الشيخ بل الصحيح كما مر هو عينية المركب مع أجزائه وكون الوجوب في المشكوك وجوبا نفسيا كما أشار إليه في ذيل كلامه بقوله هذا مع امكان دعوى الخ وإن أمر بالتفهم بقوله فافهم وممّا ذكر يظهر أنّ العقاب على الجزء المشكوك عقاب من جهة نفسه لا من جهة كونه منشأ لترك الواجب النفسي.

ثمّ لا فرق في جريان البراءة الشرعية بين أن يكون المرفوع أو المحجوب هو الوجوب أو العقاب والمؤاخذة أو مطلق الآثار وذلك لصدق الرفع والحجب على كلّ تقدير كما لا يخفى.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ صاحب الكفاية حيث أنكر جريان البراءة العقلية بتوهم عدم الانحلال لا يتمكن من جريان البراءة الشرعية بالنسبة إلى وجوب الأكثر أيضا لأنّ رفع وجوب الأكثر حينئذ معارض عنده مع رفع وجوب الأقل ولذا ذهب إلى جريان البراءة في جزئية المشكوك بدعوى عدم المعارضة بين جريانها في الأكثر وبين جريانها في الأقل للعلم بالجزئية في الأقل ومع العلم لا مجال للبراءة وبذلك فكّك بين البراءة العقلية والبراءة الشرعية.

أورد عليه في مصباح الاصول بأنّ التحقيق عدم صحة التفكيك بين البراءة العقلية والشرعية وأنّه على تقدير عدم جريان البراءة العقلية كما هو المفروض في كلامه لا مجال

__________________

(١) راجع فرائد الاصول / ص ٢٧٦.

٢٠٠