عمدة الأصول - ج ٦

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٦

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: ولي عصر (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٣

فيما إذا لم يكن بعض الأطراف محلّ الابتلاء ثمّ إنّ المستفاد من هذه الأخبار هو الترخيص مع عدم الابتلاء بالتصرف بحسب طبعه بالنسبة إلى بقية الأفراد من أطراف العلم الإجمالي وإن كانت في معرض شرائه في الآتي وعليه فليس الخارج عن محلّ الابتلاء في مثل هذه الروايات مختصا بما إذا كان في بلاد بعيدة بحيث لا يصل اليد إليها أصلا فتدلّ هذه الروايات على توسعة ما في معنى الخروج عن محلّ الابتلاء كما لا يخفى (١). ويعتضد ذلك بصحيحة على بن جعفر عن أخيه عليه‌السلام فيمن رعف فامتخط فصار الدم قطعا صغارا فأصاب إنائه هل يصلح الوضوء منه؟ قال إن لم يكن شيء يستبين في الماء فلا بأس وإن كان شيئا بينا فلا يتوضأ منه (٢) حيث جعل فيه كون الماء وظاهر الإناء من قبيل الخروج عن محلّ الابتلاء وعدم تنجز التكليف فتدبّر جيدا.

ثمّ إنّ الخروج عن محلّ الابتلاء يوجب عدم تأثير العلم الإجمالي فيما إذا كان حدوث العلم الإجمالي متأخرا عن خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء أو مقارنا معه إذ معهما لا يحصل العلم بالتكليف المنجز كما لا يخفى.

وأمّا إذا علم بخروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء بعد العلم بالتكليف فلا أثر للخروج المذكور إذ الشك حينئذ في السقوط بعد ثبوت التكليف والاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني ويؤيده ما ورد من اراقة الماء في المشتبهين والتيمم إذ لو كان فقدان أحدهما يكفي في سقوط التكليف لامر به مع أنّه لم يأمر بذلك بل أمر باراقتهما معها فتدبّر جيدا.

نعم لو كان العلم بالخروج علما بالخروج من أوّل الأمر بحيث يشك في التكليف من أوّل الأمر كتبدل العلم التفصيلي بالشك الساري فلا موجب للاحتياط ولا فرق في ذلك بين أن يكون زوال العلم بالتكليف بالعلم الوجداني على الخروج أو بقيام الإمارة على الخروج من أوّل الأمر لوحدة الملاك.

__________________

(١) راجع تسديد الاصول / ج ٢ ، ص ٢١٣.

(٢) الوسائل / الباب ٨ من أبواب الماء المطلق.

١٢١

ثمّ المحكي عن هامش الكفاية أنّ اشتراط الابتلاء لا يختص بالشبهة التحريمية لوجود الملاك المذكور في الشبهة الوجوبية أيضا فلا يكون العلم الإجمالي فيها أيضا منجّزا إلّا فيما إذا كان جميع الأطراف محلا للابتلاء من حيث الترك لأنّ التكليف الوجوبي والبعث نحو شيء أيضا لا يصحّ إلّا فيما إذا كان للمكلف داع إلى تركه عادة إذ لو كان الشيء ممّا يفعله المكلّف بطبعه ولا داعي له إلى تركه كان جعل التكليف الوجوبي بالنسبة إليه لغوا محضا.

وعليه فلو كان بعض أطراف العلم الإجمالي في الشبهة الوجوبية خارجا عن محلّ الابتلاء بمعنى أنّ المكلّف لا يبتلي بتركه عادة ويأتي به بطبعه كان التكليف بالنسبة إليه منتفيا يقينا وفي الطرف الآخر مشكوك الحدوث فيكون المرجع هو الأصل الجاري بلا معارض.

أورد عليه المحقّق النائيني رحمه‌الله بأنّ متعلّق التكليف الوجوبي هو الفعل وهو مستند إلى الإرادة والاختيار حتّى فيما إذا كان مفروض التحقق عادة بدون أمر المولى فصح تعلّق التكليف به ولا يكون مستهجنا بخلاف متعلّق التكليف التحريمي فإنّه الترك وهو عدمي لا يحتاج إلى العلة الوجودية بل يكفيه عدم ارادة الفعل وهو أيضا عدمي فلو كان الترك حاصلا بنفسه عادة لأجل عدم الداعي للمكلف إلى الفعل كان النهي عنه لغوا مستهجنا.

وأجاب عنه السيّد المحقّق الخوئي قدس‌سره بأنّه لو بنينا على أنّ التكليف بما هو حاصل عادة وإن كان مقدورا فعله وتركه يكون لغوا فلا فرق بين التكليف الوجوبي والتحريمي فإنّه كما يقال : إنّ النهي عن شيء متروك في نفسه حسب العادة لغو مستهجن كذلك يقال إنّ البعث نحو شيء حاصل بنفسه لغو مستهجن فيعتبر حينئذ في تنجيز العلم الإجمالي عدم كون بعض الأطراف خارجا عن محلّ الابتلاء عادة في المقامين كما ذكره صاحب الكفاية.

وإن بنينا على أنّ التكليف بما هو حاصل عادة لا يكون لغوا ولا يشترط في صحة التكليف أزيد من القدرة فلا فرق أيضا بين التكليفين ولا يعتبر في تنجيز العلم الإجمالي

١٢٢

عدم خروج بعض الأطراف عن معرض الابتلاء في المقامين وهذا هو الصحيح (١).

وقد عرفت أنّ الصحيح في التنجيز هو اعتبار عدم الخروج عن مورد الابتلاء ولا يكفي في رفع الاستهجان وجود الغرض الراجح لأنّه لا يناسب مع الحكم الالزامي ومقتضى ما ذكر هو اعتبار المعرضية للابتلاء في تنجيز العلم الإجمالي وحسن الخطاب من دون فرق بين المحرمات والواجبات نعم ربّما يقع الخطاب للأهميّة أو احتمال صيرورة المورد محلا للابتلاء وهو أيضا لا فرق فيه بين المحرّمات والواجبات وبالجملة فلا وجه للتفرقة بينهما على أيّ تقدير كما لا يخفى.

لا يقال : إنّ أمر المولى الحقيقي غير مقيد عقلا وعرفا إلّا بالقدرة على امتثاله تكوينا أمّا مجرد صعوبة المقدمات أو كثرتها فلا تمنع من صحته فضلا عن تنجيزه لأنّ مولوية مولانا ذاتية ومطلقة وليست كالمولويات العرفية التي ربّما يدعى ضعفها وعدم ثبوتها في موارد الأفعال الشاقة فلو اريد دعوى عدم الأمر من قبل الشارع بالفعل الشاق الخارج عن محلّ الابتلاء لعدم تعلّق غرض له بذلك فهو بلا موجب لوضوح أنّ الشارع قد يتعلّق غرضه بذلك كما أمر نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله بنشر الدين وفتح العالم أو مقارعة المستكبرين وإذلال القياصرة والأكاسرة مع أنّ مثل هذا العمل كان بحسب النظر البدائي غير مقدور له وأنّ التكليف به لغو.

ولو اريد دعوى أنّه لا يتنجز على المكلّف فقد عرفت أنّ التنجيز مرتبط بدائرة المولوية وحق الطاعة وهي مطلقة في حق مولانا سبحانه (٢).

لأنّا نقول : بما مرّ في محله من عدم الفرق بين أمر المولى الحقيقي وأمر غيره في التنجيز وشرائطه بعد ما عرفت من أنّ الشارع لم يجعل طريقا خاصّا غير طريق العقلاء في الإيجاب والامتثال والاثبات والسقوط وكون مولوية الله تعالى مطلقة لا ينافي اكتفائه في الامتثال

__________________

(١) مصباح الاصول / ج ٢ ، ص ٣٩٥.

(٢) مباحث الحج / ج ٢ ، ص ٢٨٩.

١٢٣

بطريق العقلاء كما لا يخفى.

فالتفرقة بين أوامره وأوامر غيره بدعوى ذاتية مولويته لا وجه لها هذا مضافا إلى أنّ التكليف بالامور الشاقة في موارد لأهميّتها إلى حد لا يمنع عن التكليف بها كونها شاقة لا يستلزم التكليف بمطلق الموارد الشاقة مع عدم كونها في الأهميّة إلى ذلك الحد الذي يقتضي التكليف بها هذا مضافا إلى أنّ عدم التكليف بموارد الخروج عن محلّ الابتلاء ليس بملاك كون التكليف شاقا بل من جهة عدم المقدورية العرفية فتدبّر جيدا.

بقي هنا حكم الشك في الخروج عن محلّ الابتلاء وعدمه ذهب الشيخ الأعظم قدس‌سره هنا إلى وجوب الاحتياط حيث قال وأمّا إذا شك في قبح التنجيز فيرجع إلى الاطلاقات فيرجع المسألة إلى أنّ المطلق المقيّد بقيد مشكوك التحقق في بعض الموارد لتعذر ضبط مفهومه على وجه لا يخفى مصداق من مصاديقه كما هو شأن أغلب المفاهيم العرفية هل يجوز التمسك به أو لا.

والأقوى الجواز فيصير الأصل في المسألة وجوب الاجتناب إلّا ما علم عدم تنجز التكليف بأحد المشتبهين على تقدير العلم بكونه الحرام.

إلّا أن يقال إنّ المستفاد من صحيحة علي بن جعفر عن أخيه فيمن رعف فامتخط فصار الدم قطعا صغارا فأصاب إنائه هل يصلح الوضوء منه؟ قال إن لم يكن شيء يستبين في الماء فلا بأس وإن كان شيئا بيّنا فلا يتوضأ منه (١).

كون الماء وظاهر الإناء من قبيل عدم تنجز التكليف فيكون ذلك ضابطا في الابتلاء وعدمه إذ يبعد حملها على خروج ذلك عن قاعدة الشبهة المحصورة لأجل النصّ فافهم (٢).

والمراد من ذيل كلامه أعني قوله إلّا أن يقال الخ إنّ مع الضابط المذكور في الرواية ارتفع الشك في كثير من الموارد ولا يكون الاحتياط فيه واجبا وكيف كان فقد أورد في الكفاية

__________________

(١) الوسائل / الباب ٨ من أبواب الماء المطلق ، ح ١.

(٢) فرائد الاصول / ص ٢٥٢.

١٢٤

على ما ذهب إليه الشيخ من وجوب الاحتياط عند الشك في الخروج عن محلّ الابتلاء وعدمه بأنّ المرجع هو البراءة لأنّ مع الشك في حسن الخطاب لا علم بالاطلاق حتّى يرجع إليه حيث قال ولو شك في ذلك كان المرجع هو البراءة لعدم القطع بالاشتغال لا إطلاق الخطاب ضرورة أنّه لا مجال للتشبث به إلّا فيما إذا شك في التقييد بشيء بعد الفراغ عن صحة الاطلاق بدونه لا فيما شك في اعتباره في صحته تأمل لعلك تعرف إن شاء الله تعالى (١).

ودعوى : أنّ بناء العقلاء على حجية الظواهر ما لم تثبت القرينة العقلية والنقلية على ارادة خلافها ومجرد احتمال الاستحالة التكليف لا يعدّ معذورا عند العقلاء فإذا أمر المولى باتباع خبر العادل وترتيب الاثر عليه واحتملنا استحالة حجيته لاستلزامه تحليل الحرام وتحريم الحلال أو الالقاء في المفسدة وتفويت المصلحة أو غير ذلك ممّا ذكروه في استحالة العمل بالظنّ لا يكون هذا الاحتمال عذرا في مخالفة ظاهر كلام المولى والمقام من قبيل هذا بعينه فلا مانع من التمسك بالاطلاق عند الشك في الدخول في محلّ الابتلاء مفهوما أو الشك في اعتبار الدخول في محلّ الابتلاء في صحة التكليف فإنّ الاطلاق في مقام الاثبات كاشف عن الاطلاق في مقام الثبوت كشفا تعبديا (٢).

مندفعة : بأنّ مع الشك في استهجان الخطاب لأجل الشك في كونه مورد الابتلاء أو لا لا يصحّ التمسك بالاطلاق لكشف حاله إذ التمسك بالاطلاق فرع احراز امكان الاطلاق وهو لا يحرز في المقام مع الشك في الخروج عن محلّ الابتلاء لاحتمال استهجان الخطاب لاحتمال كون المورد خارجا عن محلّ الابتلاء وبناء العقلاء في الموارد التي لا دخل لها في صحة الاطلاق لا يحرز في مثل المقام ممّا له المدخلية في حسن الخطاب فالحكم بالبراءة لا يخلو من وجه.

__________________

(١) الكفاية / ج ٢ ، ص ٢٢٣.

(٢) مصباح الاصول / ج ٢ ، ص ٣٩٨.

١٢٥

نعم حكى بعض الأعلام عن سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره أنّه قال يكفي احراز الملاك وتماميته في وجوب الاحتياط ولو شك في القدرة العرفية وحسن الخطاب.

فالعلم بوجود الملاك في موارد الشك في الخروج عن محلّ الابتلاء يمنع عن الترخيص في طرف يكون مورد الابتلاء بل اللازم هو وجوب الاحتياط فيه كموارد الشك في القدرة العقلية مع احراز الملاك ألا ترى أنّ من ترك نجاة ابن المولى عن الغرق واعتذر بالشك في القدرة العقلية لا يسمع اعتذاره والحاصل أنّ في موارد الشك في محلّ الابتلاء يجب الاحتياط ولا مجال للبراءة.

اللهمّ إلّا أن يقال : كما أفاده بعض الاعلام إنّ قياس المقام بالشك في القدرة العقلية والحكم بوجوب الاحتياط في طرف يكون مورد الابتلاء محلّ تأمل ونظر لأنّ الملاك في المقام حاصل بنفسه إذ المقصود من النهي عن اجتناب النجس هو ترك الشرب وهو حاصل في الإناء الذي لا يكون مورد الابتلاء بخلاف مورد الشك في القدرة العقلية فلأن الملاك لا يحصل فيه إلّا بالاحتياط فالحكم بوجوب الاحتياط في مورد الشك في القدرة العقلية لتحصيل الملاك لا يستلزم الحكم بوجوبه في أطراف المعلوم بالإجمال إذا كان خارجا عن محلّ الابتلاء لأنّ الملاك حاصل بنفسه فيجوز الأخذ بالبراءة العقلية في طرف يكون مورد الابتلاء كما لا يخفى.

وهو جيّد بالنسبة إلى الشبهات التحريمية بخلاف الشبهات الوجوبية لأنّ الملاك فيها لا يحصل إلّا بالاحتياط وعليه فاللازم هو التفصيل بين الشبهات التحريمية والوجوبية والقول بوجوب الاحتياط في الثانية عقلا دون الأولى عند الشك في الخروج عن محلّ الابتلاء.

تتمة وهو أنّ بعض الأعلام قال في الشك في الابتلاء إنّ الشك إن كان في مفهوم الابتلاء فالمرجع هو عموم الأدلة ومقتضاه هو الاجتناب وإن كان الشك في المصداق فلا مجال للرجوع إلى عموم الأدلة ولا إلى ما دلّ على أنّ الخروج عن محلّ الابتلاء يوجب سقوط

١٢٦

الخطاب عن التنجيز لأنّه من الشبهات المصداقية ومقتضى القاعدة فيها هو الأخذ بأصالة البراءة.

ولكنّ لقائل أن يقول في الشبهة المفهومية وإن كان مقتضى القاعدة هو الرجوع إلى العموم في موارد الشك ولكنّه فيما إذا لم يكن الشبهة ممّا يوجب استهجان الخطاب والمقام يكون كذلك لأنّ المورد لو كان من موارد الابتلاء لا يبقى حسن للخطاب.

التنبيه الخامس : في الشبهة غير المحصورة ويقع الكلام في جهات :

الجهة الاولى : في تعريفها ولا يذهب عليك أنّ شيخنا الأنصاري قدس‌سره قال في تعريفها وهي أنّ كثرة الاحتمال يكون بحيث يوجب عدم الاعتناء بالضرر المعلوم وجوده بين المحتملات ألا ترى الفرق الواضح بين العلم بوجود السمّ في أحد إناءين أو واحد من ألفي إناء وكذلك بين قذف أحد الشخصين لا بعينه وبين قذف واحد من أهل بلد فإنّ الشخصين كلاهما يتأثران بالأوّل ولا يتأثر أحد من أهل البلد بالثاني وكذا الحال لو أخبر شخص بموت الشخص المردّد بين ولده وشخص آخر وبموت المردّد بين ولده وبين كلّ واحد من أهل بلده فإنّه لا يضطرب خاطره في الثاني أصلا (١).

اورد عليه في نهاية الأفكار بأنّ ما افيد من عدم اعتناء العقلاء بالضرر مع كثرة الأطراف إنّما يتم في مثل المضار الدنيوية وذلك أيضا فيما يجوز توطين النفس على تحملها لبعض الأغراض لا ما يكون مورد الاهتمام التامّ عندهم كالمضارّ النفسيّة وإلّا ففيها يمنع إقدامهم على الارتكاب بمحض كثرة الأطراف لو علم بوجود سمّ قاتل في كاس مردّد بين ألف كئوس أو أزيد يرى أنه لا يقدم أحد على ارتكاب شيء من تلك الكئوس وإن بلغت الأطراف ما بلغت لا في المضارّ الاخروية التي يستقل العقل فيها بلزوم التحرز عنها ولو موهوما إلى أن قال فالاولى أن يقال في تحديد كون الشبهة غير محصورة إنّ الضابط فيها هو بلوغ الأطراف بحيث إذا لوحظ كلّ واحد منها منفردا عن البقية يحصل الاطمئنان بعدم

__________________

(١) فرائد الاصول / ص ٢٥٩ ، ط قديم.

١٢٧

وجود الحرام فيه الملازم للاطمينان بكون الحرام في بقية الأطراف (١). وفيه أنّه لعلّ مراد الشيخ هو عدم الاعتناء باحتمال وجود الحرام فيه وهو يساوى ما أفاده في نهاية الأفكار.

وعليه فعدم اعتناء العقلاء في كلّ طرف باحتمال وجود الحرام المعلوم وجوده بين المحتملات في الشبهة غير المحصورة طريق عقلائي على عدم كون الحرام في كلّ طرف يريد الفاعل ارتكابه ومع قيام طريق عقلائي على عدم كون الحرام فيه يخرجه عن أطراف المعلوم بالإجمال ويصير كالشبهة البدوية.

قال سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره قد اضطرب كلام القوم في ميزان الشبهة غير المحصورة كما اضطرب في بيان سرّ عدم وجوب الاجتناب عن بعض أطرافها أو جميعها وأسدّ ما قيل في المقام ما أفاده شيخنا العلامة اعلى الله مقامه أنّ كثرة الأطراف توجب ضعف احتمال كون الحرام مثلا في طرف خاصّ بحيث لا يعتني به العقلاء ويجعلونه كالشك البدوي فيكون في كلّ طرف يريد الفاعل ارتكابه طريق عقلائي على عدم كون الحرام فيه إلى أن قال.

ثمّ إنّ شيخنا العلامة قد استشكل فيما ذكره بأنّ الاطمينان بعدم الحرام في كلّ واحد من الأطراف لا يجتمع مع العلم بوجود الحرام بينها.

وفيه : أنّ ايجاب الجزئي وإن كان لا يجتمع مع السلب الكلي إلّا أنّ المنافاة إنّما يتحقّق في المقام إذا لوحظت الأفراد في عرض واحد لا إذا لوحظت كلّ واحد في مقابل الباقي فكل واحد من الأطراف إذا لوحظ في مقابل الباقي يكون فيه احتمال واحد في مقابل الاحتمالات الكثيرة ولا إشكال في ضعف احتمال واحد في مقابل مائة ألف احتمال.

لا يقال : إنّا نعلم بأنّ واحدا من هذه الأمارات مخالف للواقع ومعها كيف يجوز العمل بها معه.

لأنّا نقول : إنّ العلم بكذب واحد من الأمارات غير المحصورة كالعلم بنجاسة إناء بين

__________________

(١) نهاية الأفكار / ج ٣ ، ص ٣٢٩ ـ ٣٣٠.

١٢٨

عدة غير محصورة حرفا بحرف (١).

ولعلّ مراده من عرض واحد ملاحظة كلّ فرد منضما إلى بقية الأفراد ويقال لا يعتني به العقلاء في كونه الحرام المعلوم إجمالا بينها فهذا لا يخلو من المنافاة مع العلم الإجمالي بوجود الحرام بين الأفراد بخلاف ما إذا لوحظ كلّ فرد منفردا بالنسبة إلى بقية الأفراد ويقال إنّه لا يعتنى به العقلاء في كونه الحرام ففي هذه الصورة يجمع الاطمئنان بعدم الحرام في هذا الفرد مع العلم بوجوده في بقية الأفراد فتأمل جيدا.

وهنا شبهة اخرى عن بعض الأعلام وهو أنّ هذا صحيح فيما إذا كانت الأفراد متساوية في احتمال كون كلّ فرد حراما وأمّا إذا كانت جملة منها مظنونة الحرمة دون الاخرى فدعوى عدم الاعتناء في المظنونات محلّ تأمل ونظر بل يجب الاحتياط فيها لتنجيز العلم الإجمالي في المظنونات إلّا إذا كانت المظنونات بنفسها غير محصورة وربما يقال في تعريف الشبهة غير المحصورة بأنّها بحيث تصير الكثرة فيها إلى حدّ لا يتفق ارتكاب جميعها وفيه أنّ التعريف المذكور أعم ويشمل المحصورة التي تكون بعض أطرافها خارجا عن محلّ الابتلاء هذا مضافا إلى أنّ ظاهر عنوان الشبهة غير المحصورة أنّ نفس هذا العنوان مانع عن تأثير العلم الإجمالي لا حيثية اخرى كالخروج عن محلّ الابتلاء وعدم اتفاق ارتكاب جميعها وعليه فأسدّ التعاريف هو ما ذهب إليه الشيخ الأعظم والمحقّق العراقي قدس‌سره وسيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره.

أمّا تعريفها بأنّ غير المحصور ما يعسر عدّه فهو لا يتم إذ لا انضباط لعسر العدّ في نفسه لاختلاف الأشخاص واختلاف زمان العدّ فمثل الألف يعسر عدّه في ساعة ولا يعسر في يوم أو أكثر وهكذا تعريفها بما يعسر موافقتها القطعية لا يخلو عن إشكال لأنّ العسر بنفسه مانع عن تنجيز التكليف وفعليته سواء كانت قليلة. أو كثيرة فلا يكون ضابطا لكون الشبهة غير محصورة وغير ذلك من الوجوه غير التامة.

الجهة الثانية : في حكمها وقد عرفت من ملاحظة الجهة الاولى أنّ الشبهة غير المحصورة

__________________

(١) تهذيب الاصول / ج ٢ ، ص ٢٩٠ ـ ٢٩١.

١٢٩

بعد قيام طريق عقلائي على عدم وجود الحرام في طرف يريد الفاعل ارتكابه يوجب الاطمئنان بخروجه عن أطراف المعلوم بالإجمال وصيرورته كالشبهة البدوية أو كالمعلوم عدم الحرمة فلا يجب الاحتياط فيه هذا مضافا إلى ما مرّ من أنّ مقتضى عموم أدلة البراءة هو شمولها لأطراف المعلوم بالإجمال وإنّما لم نقل بالبراءة في أطراف المعلوم بالإجمال للأدلة الخاصة الدالة على لزوم الاحتياط ولكنّها مختصة بالشبهات المحصورة وعليه فلا وجه لرفع اليد عن عموم أدلة البراءة إلّا في الشبهات المحصورة بقرينة الأدلة الخاصة الدالة على وجوب الاحتياط فيها وبقي غير المحصورة تحت عموم أدلة البراءة هذا مع قطع النظر عن الأخبار الخاصة الدالة على الحلية في أطراف المعلوم بالإجمال في الشبهة غير المحصورة قال سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره يمكن الاستدلال على حكم الشبهة غير المحصورة بروايات كثيرة.

منها : صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبدا حتّى تعرف الحرام بعينه. فإنّ ظهورها في العلم الإجمالي لا يكاد يشك غير أنّه خرج المحصورة بالاجماع أو بالعقل وبقي ما بقي والقول بأنّ الشبهة غير المحصورة نادرة ضعيف جدا بل غالب الشبهات غير محصورة وقد يتفق كونها محصورة (١).

هذا مضافا إلى امكان أن يقال إنّ المحصورة خرجت من هذه الصحيحة بروايات خاصّة تدلّ على وجوب الاحتياط فيها وعليه فمقتضى الجمع بين مثل صحيحة عبد الله بن سنان والأخبار المذكورة الواردة في الشبهات المحصورة هو حمل صحيحة عبد الله بن سنان على الشبهة غير المحصورة.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ ما ذكر في بيان حكم الشبهة غير المحصورة من أن قيام طريق عقلائي على عدم وجود الحرام في طرف يريد الفاعل ارتكابه يوجب الاطمئنان بخروجه عن أطراف المعلوم بالإجمال فيجري فيه البراءة كما تجري في الشبهات البدوية إنّما يكون فيما إذا كان احتمال انطباق المعلوم بالإجمال في الأطراف مساويا وإلّا فلا طريق عقلائي على

__________________

(١) تهذيب الاصول / ج ٢ ، ص ٢٩١.

١٣٠

خروج مظنون الانطباق عن أطراف المعلوم بالإجمال ومع عدم خروجه عن أطراف المعلوم بالإجمال لا وجه للبراءة بالنسبة إليه بل مقتضى العلم الإجمالي هو لزوم الاحتياط في دائرة المظنونات إلّا إذا كانت المظنونات بنفسها غير محصورة. نعم لا بأس بالتمسك صحيحة عبد الله بن سنان الدالة على البراءة بعد خروج الشبهة المحصورة منها من دون فرق بين المظنونات وغيرها فلا تغفل.

الجهة الثالثة : في اختصاص البحث بمانعية كثرة الأطراف عن تأثير العلم الإجمالي وعدمها

ولا يخفى عليك كما أفاد في نهاية الأفكار لا شبهة في أنّ البحث في المقام عن منجّزية العلم الإجمالي وعدمها كما يقتضيه ظاهر العنوان في كلماتهم ممحض في مانعية كثرة الأطراف عن تأثير العلم وعدمها فلا بد حينئذ من فرض الكلام في مورد يكون خاليا عن جميع ما يوجب المنع عن تأثير العلم الإجمالي كالعسر والحرج وكالاضطرار إلى ارتكاب بعض الأطراف أو خروجه عن مورد الابتلاء بحيث لو لا كثرة الأطراف لكان العلم الإجمالي منجّزا وإلّا فمع طرو واحد هذه الطواري لا يفرق بين المحصور وغيره لأنّ في المحصور أيضا لا يجب الاحتياط فلا خصوصية حينئذ لغير المحصور كي يصحّ جعله عنوانا برأسه في قبال المحصور.

وعليه فلا مجال للاستدلال في المقام على عدم وجوب مراعاة العلم الإجمالي بالعسر والحرج تارة وبعدم كون جميع الأطراف محلّ الابتلاء أخرى وثالثة بغير ذلك من الطوارى المانعة عن تأثير العلم الإجمالي.

وتوهّم أنّ ذلك من جهة ملازمة كثرة الأطراف مع أحد هذه الموانع خصوصا العسر والحرج مدفوع بأنّه لو سلم ذلك فانما هو في العلم الإجمالي في الواجبات وأمّا في المحرمات المقصود منها مجرد الترك فلا لأنّ كثيرا ما يتصور خلو كثرة الأطراف عن الموانع المزبورة مع

١٣١

أنّ العبرة حينئذ تكون بها لا بكثرة الأطراف (١).

الجهة الرابعة : في معيار الكثرة وعدمها

واعلم أنّ العبرة في المحتملات قلة وكثرة بتقلل الوقائع وتكثرها التي تقع موردا للحكم بوجوب الاجتناب مع العلم بالحرام تفصيلا ولذلك قال المحقّق العراقي قدس‌سره ويختلف ذلك في أنظار العرف باختلاف الموارد فقد يكون تناول امور متعددة باعتبار كونها مجتمعة يعدّ في أنظارهم وقعة واحدة كاللقمة من الارز ويدخل المشتمل على الحرام منها في المحصور كما لو علم بوجود حبّة محرمة أو نجسة من الارز أو الحنطة في ألف حبة مع كون تناول ألف حبّة من الارز في العادة بعشرة لقمات فإنّ مرجعه إلى العلم بحرمة تناول أحد لقماته العشر ومضغها لاشتمالها على مال الغير أو النجس وقد يكون تناول كلّ حبة يعدّ في أنظارهم واقعة مستقلة كما لو كانت الحبوب متفرقة أو كان المقام يقتضي كون تناولها بتناول كلّ حبة حبة ومضغها منفردة فيدخل بذلك في غير المحصور (٢).

الجهة الخامسة : في عدم مانعية المخالفة القطعية عن جريان البراءة في أطراف الشبهة غير المحصورة

الظاهر لو لا الاجماع على الخلاف أنّ المخالفة القطعية في الشبهات غير المحصورة لا مانع منها بعد عموم أدلّة البراءة وعدم دليل على خروج غير المحصورة منها لاختصاص الأدلة الدالة على وجوب الاحتياط في أطراف المعلوم بالإجمال بالشبهات المحصورة فمع دلالة الأخبار على البراءة وعدم المخصص في غير المحصورة لا مجال لما يظهر من نهاية الافكار من كون العلم الإجمالي على تأثيره في حرمة المخالفة القطعية (٣). إذ مقتضى الجمع بين العلم الإجمالي وشمول أدلة البراءة لأطرافه هو سقوط المعلوم عن الفعليّة والتنجّز.

هذا مضافا إلى امكان أن يقال إنّ بناء العقلاء على عدم الاعتناء باحتمال التكليف في كلّ

__________________

(١) نهاية الأفكار / ج ٣ ، ص ٣٢٨.

(٢) نهاية الأفكار / ج ٣ ، ص ٣٣١.

(٣) نهاية الأفكار / ج ٣ ، ص ٣٣٢.

١٣٢

فرد من أفراد الشبهة غير المحصورة لو كان من جهة عدم اعتدادهم بالعلم الإجمالي الحاصل في البين لخروجه عن صلاحية التأثير ، يقتضي جواز المخالفة القطعية.

ولكن اورد عليه في نهاية الأفكار بأنّ الشأن في اثبات هذه الجهة ولا أقل من عدم احراز ذلك فيبقى العلم الإجمالي على تأثيره في حرمة المخالفة القطعية (١). فالعمدة هو إطلاق أدلة البراءة الشرعية أو عمومها بالنسبة إلى أطراف الشبهة غير المحصورة فإنّ مقتضى الجمع بينها وبين المعلوم بالاجمال هو حمل المعلوم على غير المنجز كما هو مقتضى الجمع بين الأحكام الواقعية والأحكام الظاهرية.

الجهة السادسة : في جواز المعاملة مع بعض الأطراف معاملة العلم بالعدم

ولا يخفى عليك أنّ مقتضى ما عرفت في الشبهة غير المحصورة من جواز اجتماع الاطمينان بعدم الفرد من المعلوم بالإجمال مع وجود العلم الإجمالي بين الأفراد هو سقوط حكم الشك البدوي عن بعض الأطراف وجواز المعاملة معه معاملة العلم بالعدم لا معاملة الشك البدوي ولذا قال شيخنا الاستاذ الأراكي قدس‌سره في تعليقته على الدرر وظهر ممّا ذكرنا أن يعامل مع العلم الإجمالي معاملة العلم بالعدم لا معاملة الشك البدوي فلو فرض العلم الإجمالي باضافة الماء في أفراد غير محصورة جاز التوضي بواحد منها كسائر استعمالاته ولو كان كالشك البدوي جاز الشرب ولم يجز استعماله في رفع الحدث والخبث (٢).

الجهة السابعة : في أنّ اللازم في أطراف الشبهة غير المحصورة أن يكون نسبة المعلوم بالإجمال بالنسبة إلى الأطراف نسبة القليل إلى الكثير

قال الشيخ الأعظم قدس‌سره إذا كان المعلوم بالإجمال المردّد بين الامور الغير المحصورة أفرادا كثيرة نسبة مجموعها إلى المشتبهات كنسبة الشيء إلى الامور المحصورة كما إذا علم بوجود خمسمائة شاة محرمة في ألف وخمسمائة شاة فانّ نسبة مجموع المحرمات إلى المشتبهات كنسبة

__________________

(١) نهاية الأفكار / ج ٣ ، ص ٣٣٢.

(٢) الدرر / ص ٤٧١.

١٣٣

الواحد إلى الثلاثة فالظاهر أنّه ملحق بالشبهة المحصورة لأنّ الأمر متعلّق بالاجتناب عن مجموع الخمسمائة في المثال ومحتملات هذا الحرام المتباينة ثلاثة فهو كاشتباه الواحد في الثلاثة (١).

والحاصل : أنّ عدم تنجيز العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة فيما إذا كانت نسبة المعلوم بالإجمال بالنسبة إلى أطراف الشبهة هي نسبة القليل إلى الكثير وأمّا إذا كانت النسبة هي نسبة الكثير إلى الكثير فالعلم الإجمالي يكون منجّزا لأنّ الشبهة حينئذ تخرج من غير المحصورة إلى المحصورة وتترتب عليها أحكام الشبهة المحصورة لأنّ احتمال التكليف في هذه الصورة لا يكون موهونا بحيث لا يكون موردا لاعتناء العقلاء كما لا يخفى.

التنبيه السادس : في أنّ ارتكاب أحد المشتبهين لا يوجب ترتب أحكام المعلوم بالاجمال وإن وجب الاجتناب عنه

قال شيخنا الأعظم قدس‌سره أنّ الثابت في كلّ من المشتبهين لأجل العلم الإجمالي بوجود الحرام الواقعي فيهما هو وجوب الاجتناب لأنّه اللازم من باب المقدمة من التكليف بالاجتناب عن الحرام الواقعي.

أمّا سائر الآثار الشرعية المترتبة على ذلك الحرام فلا يترتب عليهما (أي لا يترتب آثار الحرام الواقعي على كلّ واحد من الأطراف منفردا عن الآخر) لعدم جريان باب المقدمة فيها (لأنّ العلم بوجود الخمر مثلا بينهما لا يستلزم العلم بشربه إذا اكتفى بأحد الأطراف) فيرجع فيها إلى الاصول الجارية في كلّ من المشتبهين بالخصوص فارتكاب أحد المشتبهين لا يوجب حدّ الخمر على المرتكب بل يجري أصالة عدم موجب الحد ووجوبه (٢).

وبعبارة أخرى ترتب سائر الأحكام فرع ثبوت موضوعها ومع ارتكاب أحد المشتبهين لم يحرز موضوع سائر الأحكام كالحد المذكور حتّى يترتب عليه نعم لو ارتكب المشتبهين

__________________

(١) فرائد الاصول / ص ٢٦٢ ، ط قديم.

(٢) فرائد الاصول / ص ٢٥٢.

١٣٤

من الخمر احرز موضوع الحد وهو شرب الخمر فيترتب عليه حكمه ولكنّ المفروض هو ما إذا ارتكب أحد المشتبهين وقد اتضح أنّ ارتكاب أحد المشتبهين لا يوجب احراز موضوع الأحكام ولذا لا مجال لترتبها عليه ولا كلام في ما ذكر بحسب الكبرى وإنّما البحث في بعض الموارد من جهة أنّه من مصاديق هذه الكبرى أم لا مثل ملاقي أحد أطراف المعلوم اجمالا نجاستها فقد ذهب بعض إلى وجوب الاجتناب عن الملاقي بالكسر أيضا بدعوى أنّ تنجس الملاقي بالكسر إنّما جاء من وجوب الاجتناب عن ذلك النجس بناء على أنّ الاجتناب عن النجس يراد به ما يعم الاجتناب عن ملاقيه ولو بوسائط ولذا حكي عن السيّد أبي المكارم في الغنية الاستدلال على تنجس الماء القليل بملاقاة النجاسة بما دلّ على وجوب هجر النجاسات في قوله تعالى (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ).

أورد عليه الشيخ الأعظم قدس‌سره بمنع دلالة وجوب هجر النجس على وجوب الاجتناب عن ملاقي الرجز إذا لم يكن عليه أثر من ذلك الرجز الخ وهذا واضح لأنّ النجس والملاقي موضوعان مستقلان لوجوب الاجتناب وكلّ واحد محتاج إلى شمول الدليل الدال على وجوب الاجتناب عنه ولا يكفي في ذلك الدليل الدال على وجوب الاجتناب عن النجس لأنّ الدلالة المذكورة محتاجة إلى مئونة زائدة لاحتياجها إلى جعل الاجتناب عن الملاقي بالكسر من شئون الاجتناب عن النجس مع أنّهما موضوعان مستقلان ولكل واحد حكمه وشأنه وجعل الاجتناب عن أحدهما من شئون الآخر يحتاج إلى عناية زائدة وقوله تعالى : (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) لا يدلّ إلّا على وجوب الاجتناب عن نفس الرجز ولا دلالة له بالنسبة إلى ملاقيه مع خلوه عن عين النجاسة.

ربّما يؤيد كون وجوب الاجتناب عن الملاقي بالكسر من شئون الاجتناب عن النجس بما روى عن عمرو بن شمر عن جابر الجعفي عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه أتاه رجل فقال وقعت فارة في خابية فيها سمن أو زيت فما ترى في أكله فقال أبو جعفر عليه‌السلام تأكله فقال له الرجل الفارة أهون عليّ من أن أترك طعامي من أجلها فقال له أبو جعفر عليه‌السلام إنّك لم تستخف بالفارة وإنّما

١٣٥

استخففت بدينك إنّ الله حرم الميتة من كلّ شيء (١).

بدعوى أنّ السائل لم يرد بقوله الفارة أهون الخ أكل الفارة مع السمن أو الزيت بل أراد أكل السمن أو الزيت الملاقي لها فقول الإمام عليه‌السلام في مقام التعريض له أنّ الله حرم الميتة من كلّ شيء يدلّ على أنّ نجاسة الملاقي للميتة هي عين نجاسة الميتة وحرمته عين حرمتها فأكل الملاقي للميتة ينافي الاجتناب عنها.

ويمكن أن يقال : أوّلا وانّ السند ضعيف من ناحية عمرو بن شمر وثانيا إنّ غاية ما يستفاد من الخبر أنّ نجاسة الشيء الموجبة لحرمته مستلزمة لنجاسة ملاقيه وحرمته وليس في ذلك دلالة على أنّ نجاسة الملاقي للميتة هي عين نجاسة الميتة وحرمته عين حرمتها (٢). بل غاية ما يدلّ عليه أنّ النجاسة تسري من النجاسة الذاتية إلى الملاقي فيما إذا كان الملاقي لها معلوما.

هذا مضافا إلى ما أفاده سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره من احتمال تفسخ الميتة في السمن بحيث حصل الامتزاج والاختلاط وصارا بحكم واحد في الاستعمال والاجتناب (٣) وإذا عرفت أنّ كلّ نجس وملاقيه موضوعان مستقلان فاعلم أنّ الكلام في الملاقي للشبهة المحصورة يقع في ضمن مسائل :

المسألة الاولى : أنّه إذا علم بالملاقاة بعد العلم الإجمالي بنجاسة أحد الطرفين.

ففي هذه الصورة قال بعض الأكابر كما اذا شككنا في ملاقاة شيء مع النجس المعلوم بالتفصيل لم يقل أحد بالنجاسة للشك في الملاقاة كذلك إذا لاقى شيء مع أحد أطراف المعلوم بالاجمال لم يقل أحد بالنجاسة للشك في ملاقاة الشيء المذكور مع النجس المعلوم بالاجمال وذلك واضح ولا حاجة إلى التفصيلات المذكورة وكيف كان فقد يقال بوجوب الاحتياط بدعوى أنّ الملاقي بالكسر مثل الملاقي بالفتح في العلم الإجمالي بنجاسته أو نجاسة المشتبه

__________________

(١) الوسائل / الباب ج ٥ من أبواب الماء المضاف والمستعمل ، ح ٢.

(٢) مصباح الاصول / ج ٢ ، ص ٤١٢.

(٣) تهذيب الاصول / ج ٢ ، ص ٢٩٨.

١٣٦

الآخر فلا فرق بين المتلاقيين في كون كلّ واحد منهما أحد طرفي الشبهة فهو نظير ما إذا قسم أحد المشتبهين قسمين وجعل كلّ قسم في إناء وبعبارة أخرى كما في مصباح الاصول بعد العلم بالملاقاة (بعد العلم الإجمالي بنجاسة أحد الطرفين) يحدث علم اجمالي آخر بوجود نجس بين الملاقي والطرف الآخر بعد فرض الملازمة بين نجاسة الشيء ونجاسة ملاقيه واقعا ومن ثمّ لو فرض انعدام الملاقي بالفتح كان العلم بالنجاسة المردّدة بين الملاقي والطرف الآخر موجودا ويقتضي الاجتناب عن الملاقي والطرف الآخر تحصيلا للموافقة القطعية.

نعم لو فرضت الملاقاة بعد انعدام الطرف الآخر لم يكن العلم الثاني مؤثرا في التنجيز لعدم كونه علما بالتكليف الفعلي على كلّ تقدير الموجب لتساقط الاصول في الأطراف.

أورد عليه شيخنا الأعظم قدس‌سره بأنّه ليس الأمر كذلك لأنّ أصالة الطهارة والحلّ في الملاقي بالكسر سليمة عن معارضة أصالة الطهارة في المشتبه الآخر بخلاف أصالة الطهارة والحل في الملاقي بالفتح فإنّها معارضة بها في المشتبه الآخر.

والسرّ في ذلك ان الشك في الملاقي بالكسر ناش عن الشبهة المتقومة بالمشتبهين فالأصل فيهما أصل في الشك السببي والأصل في ناحية الملاقي بالكسر أصل في الشك المسببي وقد تقرر في محله أنّ الأصل في الشك السببي حاكم على الأصل في الشك المسببي سواء كان مخالفا له كما في أصالة طهارة الماء الحاكمة على أصالة نجاسة الثوب النجس المغسول به أم موافقا له كما في أصالة طهارة الماء الحاكمة على أصالة اباحة الشرب فما دام الأصل الحاكم الموافق أو المخالف يكون جاريا لم يجر الأصل المحكوم لأنّ الأوّل رافع شرعي للشك المسبب وبمنزلة الدليل بالنسبة إليه واذا لم يجر الأصل الحاكم لمعارضته بمثله زال المانع من جريان الأصل في الشك المسبب ووجب الرجوع إليه لأنّه كالأصل بالنسبة إلى المتعارضين (١).

ولا يخفى ما فيه فإنّ ما ذكره من تقديم الأصل السببي على الأصل المسببي مخصوص بما إذا كان الأصل المسببي مخالفا مع الأصل السببي وأمّا مع كونهما متوافقين فقد مرّ في التنبيه

__________________

(١) فرائد الاصول / ص ٢٥٤.

١٣٧

الثاني عن بعض الأكابر أنّ أدلة اعتبار الاصول لا نظر لها إلّا إلى مخالفها وعليه فالأصل المسببي إذا كان موافقا مع الأصل السببي جار إذ لا حكومة بينهما فمع جريانهما وعدم حكومة بينهما فلا يبقى الأصل المسببي بعد سقوط الأصل السببي حتّى يكون مرجعا بعد سقوط الأصل السببي في الطرفين وبعبارة أخرى فمع عدم الحكومة يكون الأصل المسببي كالأصل السببي طرفا للأصل في طرف آخر فيسقط الأصل المسببي كالأصل السببي بالمعارضة مع الأصل في الطرف الآخر ومقتضاه هو الرجوع إلى مقتضى العلم الإجمالي وهو الاحتياط هذا مضافا إلى ما أفاده في مصباح الاصول بناء على المعروف من تقديم الأصل السببي على المسببي ولو في الموافق من أنّه يتوجه الاشكال على جواب الشيخ الأعظم بالشبهة الحيدرية وتقريرها أنّه كما أنّ جريان أصالة الطهارة في الملاقي بالكسر في طول جريان أصالة الطهارة في الملاقي بالفتح كذلك جريان أصالة الحل في الطرفين في طول جريان أصالة الطهارة فيهما إذ لو أجريت أصالة الطهارة وحكم بالطهارة لا تصل النوبة إلى جريان أصالة الحل فتكون أصالة الطهارة في الملاقي بالكسر وأصالة الحل في الطرف الآخر في مرتبة واحدة لكون كليهما مسببين فإنّا نعلم اجمالا بعد تساقط أصالة الطهارة في الطرفين بأنّ هذا الملاقي بالكسر نجس أو أنّ الطرف الآخر حرام فيقع التعارض بين أصالة الطهارة في الملاقي (بالكسر) وأصالة الحل في الطرف الآخر ويتساقطان فيجب الاجتناب عن الملاقي (بالكسر) نعم لا مانع من جريان أصالة الحل في الملاقي بالكسر بعد سقوط أصالة الطهارة فيه للمعارضة بأصالة الحل في الطرف الآخر لعدم معارض له في هذه المرتبة (١).

فالصحيح في الجواب عن الاستدلال المذكور لوجوب الاحتياط كما في مصباح الاصول هو أن يقال إنّ العلم الإجمالي (٢) بنجاسة الملاقي بالكسر أو الطرف الآخر وإن كان حاصلا بعد العلم بالملاقاة إلّا أنّه لا يمنع عن جريان الأصل في الملاقي بالكسر لأنّ الأصل الجاري في

__________________

(١) مصباح الاصول / ج ٢ ، ص ٤١٣ ـ ٤١٤.

(٢) أي العلم الإجمالي الثاني.

١٣٨

الطرف الآخر قد سقط للمعارضة قبل حدوث العلم الثاني فليس العلم الإجمالي الثاني علما بالتكليف الفعلي على كلّ تقدير إذ يحتمل أن يكون النجس هو الطرف الآخر المفروض تنجز التكليف بالنسبة إليه للعلم السابق ومعه لا يبقى إلّا احتمال التكليف في الملاقي بالكسر فيجري فيه هذا الأصل النافي بلا معارض هذا كلّه فيما إذا لم يكن الطرف الآخر الذي هو عدل للملاقى بالفتح مجرى لأصل طولي سليم عن المعارض كما إذا علمنا بنجاسة أحد المائعين ثمّ لاقى أحدهما شيء آخر.

وأمّا إذا كان كذلك كما إذا علمنا بنجاسة مرددة بين الثوب والماء ثمّ لاقي الثوب شيء آخر فتسقط أصالة الطهارة في الطرفين للمعارضة وتبقى أصالة الحل في الماء بلا معارض لعدم جريانها في الثوب في نفسها (لعلّه لوضوح جواز لبسه في نفسه) فيقع التعارض حينئذ بين أصالة الطهارة في الملاقي بالكسر (أي الملاقي للثوب) وبين أصالة الإباحة في الماء فإنّا نعلم اجمالا بأنّ هذا الملاقي نجس أو أنّ هذا الماء حرام وبعد تساقط الأصلين يكون العلم الإجمالي بالنسبة إلى الملاقي بالكسر أيضا منجّزا فيجب الاحتياط عنه أيضا في هذا الفرض (١).

ولا يخفى عليك أنّه يمكن أن يمنع عن تنجيز العلم الإجمالي بالنسبة إلى الملاقي بالكسر لما عرفت من أنّ العلم الإجمالي الثاني ليس علما بالتكليف الفعلي على كلّ تقدير إذ يحتمل أن يكون الحكم المعلوم بالإجمال هو الطرف الآخر المفروض تنجز التكليف بالنسبة إليه للعلم الإجمالي الأوّلي ومعه لا يبقى إلّا احتمال التكليف في الملاقي بالكسر.

ثمّ لا فرق في عدم وجوب الاحتياط بين كون العلم الإجمالي بالنجاسة حادثا قبل الملاقاة أو قبل العلم بها وبين كون العلم الإجمالي بالنجاسة حادثا بعد الملاقاة وقبل العلم بها.

لاشتراكهما في كون العلم الإجمالي بالنجاسة مقدما على العلم بالملاقاة ومع تقدم العلم

__________________

(١) مصباح الاصول / ج ٢ ، ص ٤١٥ ـ ٤١٦.

١٣٩

الإجمالي بالنجاسة على العلم بالملاقاة يتساقط الأصلان فيهما بالمعارضة وينجز التكليف ويجب الاجتناب عن الملاقي بالفتح وطرفه ولا أثر للعلم بالملاقاة بعد تنجز التكليف بالعلم الأول فإنّ العلم بالملاقاة وإن كان يوجب علما اجماليا بنجاسة الملاقي بالكسر أو الطرف الآخر إلّا أنّه لا أثر لهذا العلم بالنسبة إلى الطرف الآخر لتنجّز التكليف فيه بمنجز سابق وهو العلم الأول فلا مانع حينئذ من الرجوع إلى الأصل أعني أصالة الطهارة في الملاقي بالكسر لو لم يعارض مع أصالة الحلية في عدل الملاقي بالفتح وإلّا فيجب الاحتياط.

قال في مصباح الاصول وأمّا ما قلناه في الدورة السابقة من أنّ مدار التنجيز في صورة التبدل إنّما هو العلم الثاني وإن كان صحيحا في نفسه فإنّا إذا علمنا اجمالا بنجاسة القباء أو القميص ثمّ تبدل علمنا بالعلم الإجمالي بنجاسة القباء أو العباء مثلا كان مدار التنجيز هو العلم الثاني لا محالة فيجب الاجتناب عن القباء والعباء لا عن القباء والقميص إلّا أنّ المقام ليس من قبيل التبدل بل من قبيل انضمام العلم إلى العلم فإنّا نعلم أوّلا بنجاسة الملاقي بالفتح أو الطرف الآخر ثمّ بعد العلم بالملاقاة كان العلم الإجمالي الاول باقيا بحاله ولم يتبدل غاية الأمر أنّه انضم إليه علم آخر وهو العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي بالكسر أو الطرف الآخر والعلم الثاني ممّا لا يترتب عليه التنجيز لتنجّز التكليف في أحد طرفيه بمنجز سابق وهو العلم الأول فيجري الأصل في طرفه الآخر بلا معارض وهو الملاقي بالكسر (١).

المسألة الثانية : أنّه لو حصل للأصل الجاري في هذا الملاقي بالكسر أصل آخر في مرتبته بحيث يحصل المعارضة بينهما كما لو وجد معه ملاقي المشتبه الآخر ففي هذه الصورة يحصل العلم الإجمالي بوجود النجاسة في هذا الملاقي بالكسر أو في ذلك الملاقي بالكسر والأصل الجاري في كلّ واحد يعارض الأصل الجاري في الآخر ومع المعارضة والتساقط يرجع إلى مقتضى العلم الإجمالي وهو وجوب الاحتياط كما لا يخفى.

المسألة الثالثة : هي ما إذا حصلت الملاقاة والعلم بها ثمّ حدث العلم الإجمالي بنجاسة

__________________

(١) مصباح الاصول / ج ٢ ، ص ٤٢١ ـ ٤٢٢.

١٤٠