عمدة الأصول - ج ٦

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٦

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: ولي عصر (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٣

تشريعي ولعلّ إليه يؤول ما ذهب إليه المحقّق العراقي في موضع من المقالات حيث قال في معنى القاعدة أظهرها الحمل على نفي الحقيقة بضميمة تقييده بالشريعة ولو من جهة أنّ نفي تشريع ما يوجب الضرر موجب لنفي نفس المعلول الناشي من قبله بل ولئن دققت النظر لا يحتاج هذا المعنى إلى تقييد زائد إذ التقييد إنّما يحتاج في مورد قابل للاطلاق ومعلوم أنّ نفي الضرر من قبل الشارع في عالم تشريعه منحصر بما كان ناشئا من تشريعه ولا يشمل المضار الخارجية الأجنبية عن مرحلة التشريع كما هو ظاهر انتهى ولقد أفاد وأجاد من جهة عدم الحاجة إلى التقييد إلّا أنّ قوله ولو من جهة أنّ نفي تشريع ما يوجب الضرر موجب لنفي نفس المعلول ظاهر في أنّ المنفي هو السبب وهو كما عرفت خلاف الظاهر فان المنفي هو المسبب ويدلّ نفي المسبب بدلالة الاقتضاء على نفي السبب فلا تغفل والقول بأنّ مورد حديث نفي الضرر يصلح للقرينية على أنّ المراد من الضرر المنفي هو عدم جواز اضرار بعضهم على بعض ولا ارتباط للحديث بنفي طبيعة الضرر في جميع الأحكام الشرعية ويعتضد ذلك بخلوه عن قيد في الإسلام غير سديد بعد كون العبرة بعموم الوارد لا بخصوصية المورد وحمل الوارد على خصوص بعض الموارد مع تعميمه محتاج إلى شاهد وخلوه عن قيد الإسلام لا يمنع عن ظهوره في كون المراد هو نفي طبيعة الضرر من قبل الشارع في عالم تشريعه لأنّه قابل للنفي حقيقة دون المضار الخارجية التي ترد من بعض على البعض فإنّ نفيها مع وجودها في الجملة يحتاج إلى ادعاء ومجاز هذا مضافا إلى امكان منع اختصاص مورد حديث النفي بالضرر الحاصل من بعض على بعض لامكان أن يكون قوله لا ضرر ولا ضرار تعليلا لأمرين أحدهما المنع من عدم الاستيذان وثانيهما الحكم بقلع الشجرة ويعتضد ذلك باخبار الشفعة فإنّها معلّلة بحديث نفي الضرر وهذا وأشباهه يصلح للقرينة على أنّ المقصود هو نفي طبيعة الضرر في جميع الأحكام الشرعية من دون اختصاص ببعض الموارد.

ودعوى : أنّ حديث قلع أسباب الضرر تشريعا يبطله كثرة الأحكام الضررية وكون

٤٢١

اصول أحكامه وأساس دينه أحكاما ضررية على العباد في عاجلهم في نظر العقلاء ومعه كيف يدعى أنّه لا حكم ضرري في الاسلام وأنّه قلع أسباب الضرر بعدم تشريع حكم ضرري فهل هذا إلّا كادعاء السلطان بأنّه لا سرقة في حوزة سلطنتي وحمى قدرتي مع كون مقربي حضرته من السرقة إلى أن قال وما تمسك به الأعلام في تصحيح الدعوى من أنّه ناظر إلى الأحكام التي ينشأ من اطلاقها لا إلى ما طبعه على الضرر كدعوى أنّ الأحكام المذكورة ليست ضررية غير صحيح جدا إذ كما لا يصح نفي الضرر عن صحيفة التكوين مع شيوعه فيها فهكذا لا يصح أن ينفي مع كون اصول فروعه أحكاما ضررية عند العقلاء من جهاده وزكاته وحجه وخمسة إلى أن قال ومع هذا الشيوع في التشريع لا يصح أن يدعى قلع أسبابه في التشريع. (١)

مندفعة : بأنّ الانصاف أنّ حديث نفي الضرر كما قالوا منصرف عما يكون واردا مورد الضرر كالجهاد والزكاة والحج والخمس وإنّما النظر فيه إلى الأحكام التي ليست كذلك وإنّما تؤدي إلى الضرر باطلاقها أو عمومها وتنظير المقام بادعاء السلطان أنّه لا سرقة في حوزة سلطنتي وحمى قدرتي مع كون مقربي حضرته من السرقة ليس في محله بعد ما عرفت من انصراف الحديث عما يكون واردا مورد الضرر هذا مع امكان منع الضرر في الأحكام المذكورة حتى عند العقلاء بعد مقابلتها بالفوائد الجسيمة الدنيوية ألا ترى أنّ فوائد الحج كاجتماعهم في محل واحد واشرافهم على أحوالهم وتنظيم برنامج لاحياء حقوقهم وحفظ استقلالهم وتقوية دفاعهم قبال الأعداء من الامور الواضحة وهكذا الأمر في فوائد بذل الخمس والزكاة للمجتمع الاسلامي فإنّ بذلهما يوجب تحصيل الأمنية والاستقلال والقدرة والتمكن من أن يعيشوا سالمين من دون تعارض بين الطبقات وهذه الامور ونحوها من الامور العقلائية التي اهتم لها جميع العقلاء وبذلوا لها أموالا كثيرة وفائدتها لا يختص بقشر من الاجتماع دون قشر بل ينتفع بها جميع الأقشار ولعلّ قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من أصبح ولا يهتم

__________________

(١) تهذيب الاصول / ج ٢ ، ص ٤٧٧ ـ ٤٧٨.

٤٢٢

بامور المسلمين فليس بمسلم ناظر إليها أيضا مضافا إلى الامور الاخروية ثمّ إنّه يحفظ بما ذكرنا ظهور الكلام في عدم التقدير وظهوره في أنّ المنفي هو نفس الضرر لا الحكم الضرري ولا الفعل الضار والمضر لانهما غير عنوان نفس الضرر ولا يلزم ممّا ذكر المجاز في كلمة الضرر بارادة الحكم الضرري منه كما لا يحتاج ما ذكرناه إلى النفي الادعائي بل ظهور كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في أنّه صادر بما هو مشرع ومقنن يكفي في أنّ النفي تشريعي ومربوط بأحكامه فيكون حقيقيا ويدلّ نفي حقيقة المسبب بدلالة الاقتضاء على نفي أسبابه الشرعية من الأحكام التكليفية والوضعية والوجودية والعدمية.

ودعوى أنّ هذا المعنى يشتمل على التقييد بالضرر الحاصل من الشرع وذلك بأحد نحوين :

١ ـ التقييد من ناحية الأسباب أي لا ضرر مسبب عن الحكم.

٢ ـ التقييد من ناحية الظروف والحالات أي لا ضرر في فرض تطبيق السلطة التشريعية للمولى خارجا وبالمقدار الذي يرتبط من المجتمع بالشارع فالاضرار التكوينية وإن كانت موجودة إلّا أنّها ليست داخلة في الدائرة المربوطة بالسلطة التشريعية للمولى وإنّما ترتبط بعالم التكوين وكلا النحوين من التقييد يستلزمان النفي الحكم الضرري لا محالة. (١)

مقبولة ولكن يكفي للتقييدين ظهور كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في أنّه صادر بما هو مشرع ومقنن ومقتضاه هو نفي الضرر حقيقة في هذه الحومة ولا حاجة إلى قرينة أخرى لأنّ الضرر الناشي عن الأحكام الشرعية وإن كان من ناحية التطبيق منفي بحديث لا ضرر واطلاقه يشمله أيضا كما لا يخفى.

ثمّ إنّ دعوى أنّ هذا التركيب لم يعهد استعماله في نفي المسبب بل المعهود والشائع هو استعماله في النهي كقوله تعالى (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ) الآية أو في نفي الحقيقة

__________________

(١) مباحث الحجج / ج ٢ ، ص ٤٦٤.

٤٢٣

حقيقة كقوله عليه‌السلام لا عتق إلّا في ملك أو ادعاء كقوله عليه‌السلام يا أشباه الرجال ولا رجال أو في الكمال كقوله عليه‌السلام لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد.

ممنوعة لعدم انحصار موارد استعماله فيما ذكر لكثرة استعماله في نفي المعاليل فيدل بدلالة الاقتضاء على نفي عللها كقولهم لا نور ولا حرارة والمقصود هو ما يدلّ عليه بدلالة الاقتضاء من انه لا سراج ولا نار كما لا يخفى.

هذا مضافا إلى أنّ دعوى شيوع إرادة النهي من هذا التركيب غير ثابتة لأنّ جملة من الأمثلة التي ادعى أنّها ظاهرة في النهي ليست كذلك لاقترانها بكلمة (في الاسلام) كقوله عليه‌السلام لا صرورة في الاسلام ولا حمى في الاسلام ولا خصى في الاسلام ولا شغار في الاسلام فإنّ هذه الضميمة تشهد على أنّ نفي الماهية بلحاظ عالم التشريع أي عدم وقوعه موضوعا للحكم لا نفيها خارجا بداعي الزجر عن ايجادها (١) على أنّ الضرر بما انه معنى اسم مصدري لا يتضمن النسبة الصدورية ولا تناسب بينه وبين احتمال النهي الظاهر في المنع عن ايجاد الفعل والمصدر الذي يتقيد بالنسبة الصدورية وكيف كان فتحصّل : قوّة ما اخترناه تبعا لشيخنا الاستاذ الأراكي قدس‌سره.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ ما اخترناه تبعا لشيخنا الاستاذ لا يرجع إلى نفي أحكام نفس طبيعة الضرر منها نفي الضرر حتى يرد عليه أنّ الضرر علّة للنفي ولا يكاد الموضوع يمنع عن حكمه وينفيه بل يثبته ويقتضيه إذ المنفي في حديث نفي الضرر والضرار هو نفس طبيعة الضرر الناشي من الأحكام لا حكم هذه الطبيعة نعم يدلّ نفي المعلول وهو الضرر الناشي من الأحكام على نفي أسبابه وهي الأحكام الموجبة للضرر من ناحية اطلاقها أو عمومها بدلالة الاقتضاء ولا دلالة لنفي المعلول على نفي حكم نفس هذا المعلول من النفي حتى يرد عليه ما ذكر من أنّ الضرر علّة للنفي ولا يكاد الموضوع يمنع عن حكمه وينفيه فلا تغفل وهذا الاشكال مشترك الورود بين ما اخترناه وما ذهب إليه المحقّق الخراساني في متن

__________________

(١) قاعدة لا ضرر للسيد المحقّق السيستاني (مد ظله العالى) / ص ١٦٨.

٤٢٤

الكفاية ولذا أجاب عن ذلك بقوله ثمّ الحكم الذي اريد نفيه بنفي الضرر هو الحكم الثابت للأفعال بعناوينها أو المتوهم ثبوته لها كذلك في حال الضرر لا الثابت له بعنوانه لوضوح أنّه العلة للنفي ولا يكاد يكون الموضوع يمنع عن حكمه وينفيه بل يثبته ويقتضيه. (١)

مسلك من حمل النفي على النهي السلطاني :

ولا يذهب عليك أنّ المحكي عن سيّدنا الامام المجاهد قدس‌سره أنّ المحتمل جدا بل هو المتعيّن حسب القرائن الواصلة أنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا ضرر ولا ضرار بمعنى النهي عن الضرر لكن لا بمعنى النهي الإلهي كأكثر النواهي المذكورة في الكتاب والسنة بل بمعنى النهي السلطاني والحكم المولوي وقد صدر عنه بما أنّه سائس الملة وقائدها ورئيس الملة وأميرها وأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى أن يضر الناس بعضهم ببعض وأن يجعل احد احدا في ضيق وحرج ومشقة وقد ألقاه صلى‌الله‌عليه‌وآله على الوجه الكلي حتى يكون حجة على الكل في جميع الادوار وهو بما أنّه نهي سلطاني صدر عن نبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مفروض الطاعة يجب اقتفاء أثره واتباع قوله هذا هو المدعى.

وأمّا ما يدلّ عليه فمن طرق العامة ما رواه أحمد بن حنبل في مسنده برواية عبادة بن صامت حيث وقفت على أنّه رواه بلفظة «وقضى» أن لا ضرر ولا ضرار ثمّ ساق سائر الاقضية وقد أوضحنا أنّ لفظة «قضى وحكم وأمر» ظاهر في كون المقتضي والمحكوم به من أحكام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بما هو سلطان أو من قضائه بما هو قاض ومعه لا مجال لحمله على أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بصدد الحكم النازل إليه من عند الله إذ ليس المقام مقامه وظاهر الكلام على خلافه كما أنّ المقام ليس مقام فصل الخصومة والقضاء كما لا يخفى فينحصر قوله «لا ضرر» في كونه نهيا سلطانيا أراد به نهي الامّة عن الاضرار وايجاد الضيق والحرج ولا ينافي ما ذكرنا من أنّه نهي سلطاني مع ما تقدم منا أنّ لفظة «قضى» ظاهر في أنّ الحكم المتلوّ له صادر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله بما هو قاض فإنّ ذلك صحيح إذا لم يقم قرينة على كونه ليس بصدد فصل الخصومة والقضاء

__________________

(١) الكفاية / ج ٢ ، ص ٢٦٩.

٤٢٥

كما عرفت.

إلى أن قال وأمّا ما ثبت وروده من طرقنا هو قضية سمرة والآثار الواردة من طرق الشيعة وإن لم يكن مصدرة بلفظة «قضى» ونحوه إلّا أنّ التامل في صدر القضية وذيلها والإمعان في هدف الأنصاري حيث رفع الشكاية إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ليدفع عنه الظلم والتدبر في أنّه لم يكن لواحد منهما شبهة حكمية ولا موضوعية يورث الاطمئنان ويشرف الفقيه بالقطع على أنّ الحكم حكم سلطاني والنهي نهي مولوي من جانب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على أن لا يضر احد احدا وأنّ من كان في حوزة حكومتي مصون من الضرر والضرار إلى أن قال فعلى ما قررناه يكون ما ورد من طرقنا موافقا لما عن طرق العامة المنتهية إلى عبادة بن صامت الذي لم يشك فيه اثنان فقد صرحوا باتقانه وضبطه ويظهر من معاجم الشيعة أنّه من أجلائهم إلى أن قال وقد عرفت أنّ الصدر متضمن رفع الشكاية من المظلوم عن الظالم إلى رئيس الملة وسلطانها المطلق وأي تناسب بينه وبين الأخبار عن نفي الحكم الضرري وعدم جعلها وأي تناسب في تعليل قلع الشجرة بقوله لا ضرر ولا ضرار مضافا إلى عدم معهودية ما ذكره من المعنى من أمثال هذه التراكيب الدارجة في كلمات الفصحاء الواردة في الآثار الشرعية عن بيوت الوحي فإنّ الغالب إنّما هو نفي الأثر بلسان نفي موضوعه أو النهي بلسان النفي وأمّا نفي عنوان (الضرر) وإرادة نفي ما له أدنى دخالة في تحققه فلم يعهد من هذا التركيب وقد أوضحنا أنّ الحكم الشرعي ليس علّة أو سببا توليديا للضرر وإنّما له أدنى دخالة في تحققه بما أنّه باعث اعتبارا نحو الموضوع الذي فيه الضرر وهو السبب الوحيد له. (١)

أورد عليه أوّلا : كما أفاد بعض الأعلام بأنّ سمرة كان يرى دخوله في دار الأنصاري سائغا له باعتبار حقه في الاستطراق إلى نخلته فإنّ حق الاستطراق عرفا يترتب عليه جواز الدخول مطلقا في كل زمان وحال لا خصوص الدخول بالاستئذان فإنّ اناطة الدخول بالاستئذان يناسب عدم الحق رأسا وقد احتج بذلك سمرة في حديثه مع الأنصاري ومع

__________________

(١) تهذيب الاصول / ج ٢ ، ص ٤٨٧ ـ ٤٩٠.

٤٢٦

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أن قال وعلى هذا فلو كان المراد بالحديث مجرد النهي التكليفي لبقى استدلال سمرة بلا جواب لأنّه يتمسك بحقه في الاستطراق و (لا ضرر) يقول لا تضر بالأنصاري ومن المعلوم أنّ النهي التكليفي عن ذلك ليس إلّا اعمال سلطة وليس جوابا عن وجه تفكيك الجواز المطلق عن حق الاستطراق.

وهذا بخلاف ما لو اريد به نفي التسبيب إلى الضرر بجعل حكم ضرري فإنّه يرجع إلى الجواب عن هذا الاستدلال بأنّ الاسلام لم يمض الأحكام العرفية حتى استوجبت تفويت حق الأخيرين والاضرار بهم فلا يترتب على حق الاستطراق جواز الدخول مطلقا ولا يثبت حق الاستطراق مطلقا بل ذلك مقيد بعدم كون الدخول ضررا على الأنصاري في حقه من التعيش الحرّ في داره وبذلك يظهر أنّ حديث لا ضرر على هذا التفسير أكثر تناسبا وأوثق ارتباطا بقضية سمرة منه على تفسيره بالنهي عن الاضرار. (١)

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ التقييد المذكور يستفاد أيضا من الجمع بين امضاء الأحكام العرفية من سلطة المالك على ماله والنهي السلطاني عن الضرر فتأمّل.

وثانيا : بأنّ كلمة (قضى) ليست مذكورة في الروايات الواردة في قصة سمرة حتى تكون قرينة على كون الحكم صادرا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بما هو دافع عن الظلم ويكون مآل القضاء إلى دفع الظلم والحكم السلطاني وعليه فلا قرينة على حمل النفي على النهي السلطاني في الروايات الواردة في قصة سمرة من الخاصة أو العامة نعم وردت كلمة قضى في روايات المنع عن فضل الماء وحق الشفعة بطرق العامة والخاصة ولكنها غير مربوطة بقصة سمرة وعليه فلا قرينة لرفع اليد عن ظهور كلمة (لا) في النفي في قوله لا ضرر ولا ضرار.

وثالثا : بما أفاده بعض الأجلة من أنّ فصل الخصومة بين الرعية والدفاع عن المظلومين منهم وإن كان باعمال الولاية منهم عليهم‌السلام إلّا أنّه لا ريب في أنّ مبناه هو الحقوق المجعولة للناس في الشريعة الالهية في قالب أحكام الالهية فمجرد كونه في مقام الدفاع عن المظلوم أو فصل

__________________

(١) قاعدة لا ضرر للسيد المحقّق السيستاني (مد ظله العالي) / ص ١٥٦ ـ ١٥٧.

٤٢٧

الخصومة ليس قرينة على أنّ كل ما يقوله ويستند إليه في هذا المقام فهو حكم وأمر سلطاني بل لا بد وأن يستفاد ذلك من قرينة أخرى.

ونحن إذا راجعنا الجملة المروية عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله «لا ضرر ولا ضرار» نراها أنّها تنفي وجود الضرر باطلاقه وأنّه لا اثر ولا خبر عن الضرر أصلا وبعد ما لم يكن هذا النفي راجعا إلى الاخبار عن انتفائه في عالم الطبيعة والتكوين كما عرفت فلا محالة يكون راجعا إلى الأخبار عن انتفائه في عالم القانون والأحكام حيث إنّ للضرر المنفي اطلاقا واسعا ينفى بالحديث أيّ ضرر كان فلا محالة يعم سعة النفي الضرر مطلقا سواء فيه ما كان من الرعية بعضهم ببعض أو من التكاليف الالهية ومعه فقهرا يكون الحديث حكما واسعا يشمل سعته جميع الموارد وهو لا يكون إلّا حكما إلهيا لا حكما سلطانيا ويكون مآل كلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله الاستناد إلى حكم كلي إلهي استند إليه في مقام رفع ظلم الظالم والدفاع عن المظلوم هذا إذا كان اللحاظ معطوفا إلى ما روي من طرقنا.

وامّا إذا لاحظنا النقل المروي عن عبادة بن الصامت فنقول إنّ منشأ الاختلاف والخصومة بين الناس قد يكون الجهل والغفلة عن حكم الله الكلي وبيان مثل هذا الحكم الكلي من القاضي يكون رافعا للخصومة بينهم وفاصلا لها ولذلك يصح استناد القضاء بحكم الهى كلي إلى الامام أو الولي المعصوم عليه‌السلام بل القاضي غير المعصوم في مقام القضاء وحينئذ فمجرد تعلق القضاء به لا يكون دليلا على اعمال جهة الولاية في نفس ما قضى به بل إذا راجعنا الحكم الذي حكم به في مقام القضاء ووجدناه كليا شاملا لجميع الموارد نعلم أنّه حكم كلي الهي كما هو شان الأحكام الالهية فليس قضاء ولا حكما سلطانيا ذلك الحكم الذي ليس له تلك السعة وذلك الشمول. (١)

وعليه فقوله لا ضرر ولا ضرار حكم كلي يكون مستندا للدفاع عن المظلوم أو فصل الخصومة أو يكون نفسه رافعا للخصومة وفاصلا لها لارتفاع جهلهم وغفلتهم به وعلى

__________________

(١) تسديد الاصول / ج ٢ ، ص ٢٧٥ ـ ٢٧٦.

٤٢٨

التقديرين لا يكون حديث نفي الضرر نفسه قضاء اصطلاحيا بل هو حكم كلى كما هو مقتضى الظاهر ويشهد له تفكيك القضاء عن نقل حديث نفي الضرر في خبر عقبة بن خالد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن وقال لا ضرر ولا ضرار. (١)

وفي حديث المنع عن فضل الماء حيث روي في الكافي قال قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بين اهل البادية أنّه لا يمنع فضل ماء ليمنع به فضل كلاء وقال لا ضرر ولا ضرار. (٢)

ورابعا : بأنّ الروايات التي عبرت بأنّ من قضاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ لا ضرر ولا ضرار عامية وضعيفة ولا حجية لها عندنا هذا مضافا إلى ما عرفت من اختصاصها بغير قصة سمرة.

وخامسا : بأنّه يستبعد أن يكون المراد من القضاء معناه الاصطلاحي من الحكم بين المتخاصمين في جملة موارد استخدام هذا التعبير من قبيل (قضى في الركاز الخمس) مع أنّ الخمس ثابت في الغنيمة بالمعنى الأعم بقوله تعالى (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ ...) الشامل للركاز بل المراد من القضاء في أمثال هذا المورد هو القضاء اللغوي أي حكم بالخمس وحتمه في الركاز وهذا غير القضاء الاصطلاحي ولا يكون منافيا لكلية حديث النفي فالمراد أنّه حكم بهذا الكلي وحتمه فتدبّر.

وسادسا : بأن دعوى أنه لم يكن هناك نزاع بين الرجل الأنصاري وبين سمرة في حكم شيء من حق أو مال بل إنّما كان مورد الحديث شكاية الانصاري ظلم سمرة له في الدخول في داره بدون استئذان ووقوعه لذلك في الضيق والشدة مندفعة بما أفاده بعض الأعلام من منع عدم وجود النزاع في أي حكم في مورد قضية سمرة فإنّ الذي تمثله هذه القضية تحقق أمرين الأوّل وجود النزاع في شبهة حكمية حيث إنّ الأنصاري كان لا يرى لسمرة حق الدخول

__________________

(١) الكافي / ج ٥ ، ص ٢٨٠.

(٢) الكافي / ج ٥ ، ص ٢٩٣.

٤٢٩

في داره بلا استئذان ولكن سمرة كان يرى نفسه أنّه يجوز له ذلك لأنّ له حق الاستطراق إلى نخلته وليس يريد الدخول في مكان لا حق له في استطراقه حتى يحتاج إلى الإذن من مالك الأرض إلى أن قال الثاني طلب الأنصاري من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يحميه ويدفع عنه أذى سمرة إلى أن قال وعلى ضوء هذا فيمكن القول بأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في مورد الأوّل من النزاع الذي نشب بينهما حكم على وفق القانون الالهي العام وأمر سمرة بالاستئذان وهذا القانون هو حرمة الاضرار بالغير بناء على مسلك النهي إذ كان دخوله بلا استئذان اضرارا بالأنصاري أو محدودية حق الاستطراق بعدم لزوم الضرر بالغير بناء على مسلك النفي أو بكلا الأمرين على المعنى المختار للحديث الجامع للنفي والنهي بلحاظ كلا الجملتين وهما لا ضرر ولا ضرار وبعد ترجيح موقف الأنصاري في مورد النزاع وإباء سمرة عن الالتزام بموجب الحكم القضائي وصلت النوبة إلى معالجة الأمر الثاني بتنفيذ الحكم القضائي دفعا للضرر عن الأنصاري وقد استند صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى مادة قضائه المذكور وهي (لا ضرر ولا ضرار) فأمر بقلع نخلته. (١)

وعليه فقوله لا ضرر ولا ضرار يكون مبنا لرفع الشبهة والقضاء وتنفيذه من دون اختصاصه بباب دون باب وبه يرفع الشبهة الحكمية ويوجه أيضا أمره الولائي بالقلع وسيأتي تحقيق الجمع بين النفي والنهي في حديث نفي الضرر إن شاء الله تعالى.

وسابعا : بأنّ دعوى أن تعليل الأمر بالقلع بحديث نفي الضرر في قضية سمرة لم يتجه لو اريد بالنفي نفي الحكم الضرري أو النهي الأوّلي عن الاضرار إذ هذان المعنيان لا يبرران الاضرار بالغير بالقلع لأنّ القلع في حد نفسه اضرار كما أنّ الأمر به حكم ضرري وإنّما يبرر ذلك اعمال الولاية قطعا لمادة الفساد ودفعا للضرر والضرار فلا بد أن يكون مفاد (لا ضرر ولا ضرار) حكما سلطانيا حتى ينسجم التعليل مع الحكم المعلل.

مندفعة بما أفاده بعض الأعلام من أنّ مفاد (لا ضرر) لا يبرر الأمر بالقلع في حدّ ذاته

__________________

(١) قاعدة لا ضرر للسيد المحقّق السيستاني (مد ظله العالي) / ص ١٨٧ ـ ١٨٩.

٤٣٠

سواء كان حكما أوّليا أو سلطانيا إذ لا فرق بين نوع النهي في عدم دلالته على تشريع مثل هذا الاضرار كما هو واضح وعليه فليس في الالتزام بالوجه المذكور علاج لهذه النقطة وكأنّه قد وقع الاشتباه فيما ذكر بين مرحلة اتخاذ الحاكم وسيلة لدفع الاضرار كقلع النخلة وبين الحكم بلزوم دفعه الذي يتكفّله القانون العام. (١)

وبالجملة أنّ حديث نفي الضرر وان لم يدلّ على الأمر بالقلع في حدّ ذاته ولكن يصح أن يكون مبنا للأمر بالقلع وعليه يمكن أن يقال في توجيه صحة تعليل الأمر بالقلع بحديث نفي الضرر كما في تسديد الاصول إنّ الكبرى الكلية هنا إنّما يكون توطئة وتمهيدا لحكمه بالقلع وحاصله أنّ سمرة وإن كان له حق ابقاء عذقه في بستان الأنصاري وحق المرور إليه بمقتضى عموم لا ضرر إلّا أنّه ليس له ايقاع الضرر على أهل الأنصاري ومضارته لهم بمقتضى عموم (لا ضرر ولا ضرار) فهذه الكبرى تدلّ على حدود حقه وما له وعليه فتدل على أنّ سمرة إذا كان مطيعا للاسلام فله حق ابقاء العذق والمرور إليه وليس له أن يضار الانصاري وحيث إنّ سمرة رجل عاص متمرد كما يظهر من صدر الحديث والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولي المسلمين وقيّمهم ومن وظائف ولي الأمر والقيم رفع المظالم ودفعها فلا محالة عليه أن يسد باب هذه المضارة بما يراه طريقا أصلح ولا يتصور هنا إلّا طريقان إمّا نصب محافظ وعامل حكومي طول الأيام والليالي للمراقبة عن حائط الانصاري كي لا يدخله سمرة بلا إذن منه وفجأة عليه وإمّا بقلع مادة هذا الفساد وحيث إنّ الطريق الثاني هو الأصلح الأسهل فقد اختاره ولي الامة. (٢)

فتحصّل : أنّه لا وجه لحمل قوله لا ضرر ولا ضرار على النهي السلطاني مع ترجيح كونه حكما إلهيا بوجوه منها ظهور هذا التركيب في النفي الكلي لا النهي فضلا عن السلطاني.

ومنها : تناسبه لرفع الشبهة ودفع الظلم كليهما وغير ذلك ممّا عرفت والله هو الهادي.

__________________

(١) قاعدة لا ضرر للمحقق السيستاني (مد ظله العالي) / ص ١٨٩.

(٢) تسديد الاصول / ج ٢ ، ص ٢٧٧ ـ ٢٧٨.

٤٣١

مسلك من فصّل بين لا ضرر ولا ضرار في المفاد :

وقد يفصّل بين لا ضرر ولا ضرار في استفادة النهي عن الثاني دون الأوّل والوجه فيه هو اختلاف مدخولهما في المعنى قال السيد المحقّق السيستاني مد ظله العالي إنّ الظاهر بملاحظة الموارد المختلفة للهيئة أنّ هذه الهيئة (أي هيئة الضرار) تدلّ على نسبة مستتبعة لنسبة أخرى بالفعل أو بالقوة وذلك ممّا يختلف بحسب اختلاف الموارد فتارة تكون النسبة الأخرى كالأوّل صادرة من نفس هذا الفاعل بالنسبة إلى نفس الشيء وأخرى تكون احداهما صادرة من الفاعل والأخرى من المفعول كما في ضارب فيعبّر عن المعنى حينئذ بالمشاركة وفي الحالة الأولى قد يكون تعدد المعنى من قبيل الكم المنفصل فيعبّر عنه بالمبالغة كما ذكر في كلام المحقّق الرضي قده (١) أو يعبّر عنه بالامتداد إذا لم يكن التعدد واضحا كما فسّر لفظ المطالعة في بعض الكتب اللغوية كالمنجد بإدامة الاستطلاع مع أنّه استطلاعات متعددة في الحقيقة وقد يكون المعنى من قبيل الكم المتصل فيكون تكرره بلحاظ انحلاله إلى أفراد متتالية كما في (سافر) ونحوه وحينئذ يعبر عنه بالامتداد والطول ولازمه التعمد والقصد في بعض الموارد نحو تابع وواصل كما مرّ آنفا.

ولا يرد على ما ذكرنا ما أورده المحقّق الاصفهاني على القول بدلالة الهيئة على المشاركة من أنّه لا يمكن أن يكون المدلول الواحد محتويا لنسبتين لأنّ المدلول المطابقى على ما ذكرنا نسبة واحدة لكنّها مقيدة بأنّ تتبعها نسبة أخرى على نحو دخول التقيد وخروج القيد.

وعلى ضوء ذلك يمكن القول بأنّ الضرار يفترق عن الضرر بلحاظ أنّه يعني تكرر صدور المعنى عن الفاعل أو استمراره وبهذه العناية أطلق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على سمرة أنّه مضار لتكرر دخوله في دار الأنصاري دون استيذان إلى أن قال اتضح ممّا ذكرناه في معنى الهيئة فيهما وجود الفرق بين معناهما (أي الضرر والضرار) فالضرر معنى اسم مصدري ماخوذ من المجرد والضرار مصدر يدلّ على نسبة صدورية مستتبعة لنسبة اخرى ولذلك ذكر المحقّق

__________________

(١) شرح الشافية ط الحجر / ص ٢٨.

٤٣٢

الرضي قدس‌سره ان الصيغة تفيد معنى المبالغة.

وأوضحنا في المسلك المختار أنّ افادة معنى المبالغة إنّما هي باعتبار الدلالة على تكرر النسبة أو استمرارها هذا ما يتعلق بمفاد هيئة (ضرار) إلى أن قال والمختار في معنى الحديث إنّ مفاد القسم الأوّل منه وهو قوله (لا ضرر) ما ذهب إليه الشيخ الأنصاري من نفي التسبيب إلى الضرر بجعل الحكم الضرري وأمّا القسم الثاني منه وهو (لا ضرار) فإنّ معناه التسبيب إلى نفي الاضرار وذلك يحتوي على تشريعين الأوّل تحريم الاضرار تحريما مولويا تكليفيا والثاني تشريع اتخاذ الوسائل الاجرائية حماية لهذا التحريم وبذلك يحتوي الحديث على مفادين :

١ ـ الدلالة على النهي عن الاضرار.

٢ ـ والدلالة على نفي الحكم الضرري ومضافا لذلك دلالته بناء على المختار على تشريع وسائل اجرائية للمنع عن الاضرار خارجا إلى ان قال :

أمّا الوجه الإجمالي فهو أنّ نفي تحقق الطبيعة خارجا في مقام التعبير عن موقف شرعي بالنسبة اليها يستعمل في مقامات مختلفة كافادة التحريم المولوي أو الارشادي أو بيان عدم الحكم المتوهم وما إلى ذلك ولكن استفادة كل معنى من هذه المعاني من الكلام رهين بنوع الموضوع وبمجموع الملابسات المتعلقة به.

وملاحظة هذه الجهات تقضي في الفقرتين بالمعنى الذي ذكرناه لهما :

أمّا الفقرة الأولى وهي (لا ضرر) فلأنّ الضرر معنى اسم مصدري يعبر عن المنقصة النازلة بالمتضرر من دون احتواء نسبة صدورية كالاضرار والتنقيص وهذا المعنى بطبعه مرغوب عنه لدى الانسان ولا يتحمله أحد عادة إلّا بتصور تسبيب شرعي إليه لأنّ من طبيعة الانسان أن يدفع الضرر عن نفسه ويتجنبه فيكون نفي الطبيعة في مثل هذه الملابسات يعني نفي التسبيب اليها بجعل شرعي ولمثل ذلك كان النهي عن الشيء بعد الأمر به أو توهم الأمر به دالّا على عدم الأمر به كما كان الأمر بالشيء بعد الحظر أو توهمه معبرا

٤٣٣

عن عدم النهي فحسب كما حقق في علم الاصول وعلى ضوء هذا كان مفاد (لا ضرر) طبعا نفي التسبيب إلى الضرر بجعل حكم شرعي يستوجب له.

وامّا الفقرة الثانية وهي (لا ضرار) فهي تختلف في نوع المنفي وسائر الملابسات عن الفقرة الأولى لأنّ الضرار مصدر يحتوي على النسبة الصدورية من الفاعل كالاضرار وصدور هذا المعنى من الإنسان أمر طبيعي موافق لقواه النفسية غضبا وشهوة وبذلك كان نفيه خارجا من قبل الشارع ظاهرا في التسبيب إلى عدمه والتصدي له ومقتضى ذلك أوّلا تحريمه تكليفا فإنّ التحريم التكليفي خطوة أولى في منع تحقق الشيء خارجا وثانيا تشريع اتخاذ وسائل اجرائية ضدّ تحقق الاضرار من قبل الحاكم الشرعي وذلك لأنّ مجرد التحريم القانوني ما لم يكن مدعما بالحماية اجراء لا سيما في مثل (لا ضرار) لا يستوجب انتفاء الطبيعة ولا يصحح نفيها خارجا. (١)

أمّا الوجه التفصيلي فهو بالنسبة إلى المقطع الأوّل من الحديث (لا ضرر) أنّ الحس اللغوي لمن عرف اللغة العربية يشهد بأنّ الضرر انما يمثل المعنى نازلا بالمتضرر لا صادرا من الفاعل فهو معنى اسم مصدري كالمضرة والمنقصة وليس معنى مصدريا كالاضرار إلى أن قال وعلى هذا فيكون مثل هذا التركيب مثل سائر الامثلة له حالا ك (لا حرج) ما يكون المعنى المنفي عنه عملا مرغوبا عنه للمكلف بحسب طبعه وإنّما يتحمله بتصور تشريع يفرضه عليه فيكون المنساق من النفي قصد نفي التشريع المتوهم أو المترقب فحسب وبذلك يكون مفاد لا ضرر نفي التسبيب إلى الضرر لجعل حكم ضرري كما هو مسلك المشهور.

وأمّا المقطع الثاني من الحديث وهو (لا ضرار) فحاصل كلامه أنّ الضرار هو الاضرار المتكرر أو المستمر وقد ذكرنا أنّ الاضرار بالغير عمل يمارسه الانسان بطبعه لأجل ارضاء الدواعي الشهوية والغضبية فإذا نهى عنه كما في جملة من الآيات فهو ظاهر في النهي التحريمي زجرا للمكلفين عن هذا العمل كما هو واضح وإذا نفي كما في هذا الحديث فإنّه يدلّ

__________________

(١) قاعدة لا ضرر للسيد المحقّق السيستاني مد ظله العالي / ص ١٢٩ ـ ١٣٥.

٤٣٤

على التسبيب إلى عدم تحقق هذا العمل وذلك من خلال ثلاثة أمور :

الأمر الأوّل : جعل الحكم التكليفي الزاجر عن العمل وهو الحرمة إلى أن قال.

الأمر الثاني : تشريع اتخاذ وسائل مانعة عن تحققه خارجا وذلك من قبيل تجويز ازالة وسيلة الضرر وهدمها إذا لم يمكن منع ايقاعه إلّا بذلك كالأمر باحراق مسجد ضرار والحكم بقلع نخلة سمرة ونحو ذلك.

وهذا التشريع يرتكز على قوانين ثلاثة : ١ ـ قانون النهي عن المنكر فإنّ للنهي مراتب متعددة إلى أن قال. ٢ ـ قانون تحقيق العدالة الاجتماعية بين الناس وهذا من شئون الولاية في الامور العامة الثابتة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأئمة الهدى عليهما‌السلام والفقهاء في عصر الغيبة إذ لا بدّ من العدالة في حفظ النظام. ٣ ـ حماية الحكم القضائي فيما إذا كان منع الاضرار حكما قضائيا من قبل الوالي بعد رجوع المتخاصمين إليه كما في مورد قضية سمرة حيث شكا الانصاري دخوله في داره بلا استئذان فقضى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعدم جواز دخوله كذلك وحيث أبى سمرة عن العمل بالحكم أمر صلى‌الله‌عليه‌وآله بقلع النخلة لتنفيذ الحكم بعدم الدخول عملا إلى أن قال : (ويلاحظ أيضا) أنّ هذا الجزء من مفاد (لا ضرار) هو مبنى تعليل الأمر بقلع النخلة في قضية سمرة بهذه الكبرى وهو أمر أشكل على جمع من الفقهاء حتى استند إلى ذلك بعض الاعاظم في جعل النهي في الحديث حكما سلطانيا بتصور تبريره حينئذ للأمر بالقلع وهو ضعيف إلى أن قال : الأمر الثالث : تشريع أحكام رافعة لموضوع الاضرار من قبيل جعل حق الشفعة لرفع الشركة التي هي موضوع لا ضرار الشريك أو عدم جعل ارث للزوجة في العقار لعدم الاضرار بالورثة كما في الحديث (١) فاتضح ممّا ذكرناه مجموعا أن الحديث بجملة (لا ضرر) يدلّ على نفي جعل الحكم الضرري وبجملة (لا ضرار) يدلّ على تحريم الاضرار وتشريع الصد عنه خارجا ورفعه في بعض الموارد موضوعا. (٢)

__________________

(١) الوسائل / الباب ٩ من ابواب ميراث الازواج.

(٢) قاعدة لا ضرر للسيد المحقّق السيستاني (مد ظله العالى) / ص ١٣٥ ـ ١٥٢.

٤٣٥

وفيه مواقع للنظر :

منها أنّ جعل معنى نفي الضرر نفي التسبيب إلى الضرر إن كان بمعنى تقدير التسبيب ففيه أنّه خلاف الأصل والظاهر هذا مضافا إلى أنّه لا حاجة إليه وذلك لأنّ نفي طبيعة الضرر حقيقة بعد عدم امكان نفيه خارجا يدلّ بدلالة الاقتضاء على عدم جعل أسبابه في حومة الشرع فلا حاجة إلى تقدير التسبيب حتى يكون المنفي هو التسبيب إلى الضرر كما مر أنّه لا وجه لتقدير الحكم أو فعل الضارّ وإن كان المقصود من نفي التسبيب هو ما ذكرناه فلا مناقشة في التعبير هذا مع ما في اختلاف التقدير من البعد حيث إنّ المقدر في لا ضرر هو نفي التسبيب وفي لا ضرار تسبيب النفي.

ومنها : أنّ تقيد المنفي بالضرر الخارجي ثمّ الحاجة إلى أن يكون النفي ادعائيا لا موجب له هذا مضافا إلى أنّه غير مساعد مع شان الشارع من النفي التشريعي.

ومنها : أنّ تخصيص استفادة النهي بقوله لا ضرار بدعوى أنّ الضرر عمل مرغوب عنه للمكلف بحسب طبعه لا يخلو عن الاشكال لإمكان أن يقصد إضرار نفسه بداع من الدواعي فيحتاج ردعه إلى النهى أيضا كما لا يخفى.

ومنها : أنّ التفرقة بين الضرر والضرار في أنّ كلمة (لا) في الأوّل تفيد النفي وفي الثاني تفيد النهي خلاف الظاهر من السياق.

اللهمّ إلّا أن يقال : ليس المقصود استعمال كلمة (لا) في النفي والنهي بل المقصود في كليهما هو النفي إلّا أنّ النهي مستفاد من نفي الثاني دون الأوّل ولقائل أن يقول إنّ اسم المصدر من الثلاثي وإن لم يكن النظر فيه إلى حيثية صدوره من الفاعل إلّا أنّه اسم مصدر لباب المجرد وهذا الباب كما يستعمل في الضرر بالنسبة إلى نفسه كذلك يستعمل بالنسبة إلى الغير أيضا كقولهم ضره يضره فاسم المصدر بإطلاقه يشمل ضرر بعض لبعض والضرر المكرر وغيره فيأتي فيه ما ذكر في لا ضرار من افادة النفي للنهي أيضا لعين ما ذكر في (لا ضرار) فلا فرق بين (لا ضرر) و (لا ضرار) من جهة استفادة النهي عن النفي فيهما فلا وجه لتخصيص ذلك

٤٣٦

بقوله (لا ضرار) فلا تغفل.

ومنها : أنّ جعل الضرار بمعنى الاضرار المتكرر أو المستمر لا يكفي في رفع ركاكة التكرار لأنّ نفي الضرر يشمل صورة الضرر المتكرر والمستمر لأنّ الضرر اسم مصدر وحاصل للمصدر والمصدر باطلاقه يشمل الضرر بالنسبة إلى الغير سواء كان مكررا أو لم يكن ولا حاجة إلى تكرار النفي والفرق المذكور بين الضرر والضرار من جهة كون الأوّل اسم مصدر والثاني مصدرا لا يدفع الاشكال لأنّ اسم المصدر يشمله بعمومه لاستعمال بابه في الأعم من الضرر النازل والضرر المتوجه إلى الغير ولا وجه لتخصيص نفي الضرر بنفي جعل الحكم الضرري ونفي الضرار بتحريم الاضرار لأنّ نفي الضرر مطلقا يدلّ على عدم الضرر الناشي من الأحكام الشرعية ومقتضى هذا النفي أنّ اضرار الناس بعضهم ببعض لا يكون مشروعا ومن المعلوم أنّ عدم مشروعية اضرار الناس بعضهم ببعض يساوي تحريم الاضرار فلا حاجة إلى تكرار لا ضرار لافادة تحريم الاضرار ولو المكرر منه بل ياتي في (لا ضرر) ما ذكره في (لا ضرار) من دلالة نفي الضرار على التسبيب إلى عدم تحقق هذا العمل بجعل الأمور الثلاثة.

تفصيل آخر :

قال الشهيد الصدر قدس‌سره في محكي كلامه وهذا هو المتعين في المقام ولسنا نقصد بذلك اثبات كون الضرار في المقام بهذا المعنى بما عرفته من السبر والتقسيم بعد الشك في كون هذا أحد المعاني العرفية للضرار وعدمه حتى يقال إنّ هذا اثبات للمعنى اللغوي بالاستحسانات بل نحن لا نشك في كون هذا المعنى عرفيا لكلمة (الضرار) فتعينه في المقام بالاستظهار العرفي باعتبار لزوم التكرار الركيك على الاحتمالات السابقة وعدم لزومه على هذا الاحتمال وبيان عدم لزوم التكرار على هذا الاحتمال هو أنّ حديث لا ضرر ينفي الحكم الضرري ويبقى عندئذ حكم ليس ضرريا بنفسه لكنه يتقصد ويتعمد به الضرر مثاله أنّ الحكم بكون

٤٣٧

الناس مسلطين على أموالهم بنفسه ليس ضرريا لكنه قد يستغلّه احد الشركين فيعمل هذا الحق الذي ليس بنفسه ضرريا بنحو يوجب الضرر على الشريك الآخر وذلك من قبيل أن لا ياذن لشريكه ان ينتفع بهذه المعين بوجه من الوجوه من بيعها وتقسيم ثمنها أو اجارتها وتقسيم أجرتها أو الانتفاع بها بأيّ نحو من الانحاء فمثل هذا تنفى بقوله (لا ضرار) ولا يلزم من ذلك تكرار إلى أن قال ويؤيد ذلك نفي الفقهاء بالقاعدة جملة من الأحكام التي ليست ضررية في نفسها حتى تكفي في نفيها كلمة (لا ضرر) وإنّما تستغل للاضرار ويتعمد بها الضرر وذلك من قبيل نفي كون الطلاق بيد الزوج حينما يستغل الزوج ذلك في الاضرار. (١)

فالأولى هو أن يقال إنّ كلمة (لا) للنفي في الضرر والضرار كليهما والمقصود بالنفي ليس هو نفي الضرر الخارجي بل الضرر الناشي من جعل الشارع والقرينة على ذلك واضحة وهي ظهور كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بانه صادر عنه بما هو مشرع ومقنن ولا نظر له إلى الإخبار عن الامور الخارجية لأنّ ذلك خارج عن شأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بل النظر إلى نفي الضرر الناشي من الأحكام الشرعية مطلقا سواء كانت وجودية أو عدمية ولتأكيد نفي الضرر الناشي من الأحكام الشرعية ضم نفي الضرار أيضا والمقصود به كما عرفت هو نفي الضرر الناشي من التعمد والتقصد بالأحكام ولو أنّها ليست في نفسها ضرريا.

وعليه فحديث نفي الضرر كما ينفي الضرر الناشي من الأحكام الشرعية ويكون حاكما بالنسبة إليها إذا كانت ضرريا فكذلك ينفي حديث لا ضرار الأحكام التي يتقصد بها الاضرار وإن لم تكن الأحكام في نفسها ضرريا كما يكون مورد رواية سمرة كذلك فإنّه تقصد بمثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله الناس مسلطون على أموالهم لإيجاد الضرر على الأنصاري مع أنّ نفس الحكم لا يكون ضرريا وإنّما تقصد به سمرة الاضرار ويدلّ عليه أيضا مثل قوله تعالى : (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا)(٢).

__________________

(١) مباحث الاصول / ج ٤ من القسم الثاني ، ص ٥٣٣ ـ ٥٣٤).

(٢) البقرة / ٢٣١.

٤٣٨

فإنّ الآية الكريمة نهت عن الامساك الذي يكون جائزا في نفسه إذا تقصد الزوج بذلك الاضرار والاعتداء على المرأة.

وممّا ذكر ينقدح أنّ الشارع المقدس نفي الضرر مطلقا بالنسبة إلى أحكامه ولو كان الضرر حاصلا من ناحية التقصد بها للاعتداء بالنسبة إلى الآخرين من دون أن تكون الأحكام في نفسها ضرريا فإذا نفي الضرر والضرار دلّ ذلك بدلالة الاقتضاء على عدم السبب والتسبيب للضرر وذلك لا يتحقق إلّا بالنفي والنهي والمنع الولائي كما فصّل في كلام القائل فلا تغفل.

ثمّ إنّه ربما يشكل المعنى المذكور بأنّه لا أثر لتحقيق أنّ الضرار يكون بمعنى قصد الضرر وتعمده وتطبيقه على سمرة بهذه الملاحظة أو لا يكون. وذلك لاندراجه في الفقرة الأولى أعني نفي الضرر خصوصا إذا كان المقصود بنفي الضرر النهي عنه لاختصاص متعلق النهي بما إذا كان عن قصد وإرادة. (١)

ويمكن الجواب عنه بعد ما عرفت من أنّ نفي الضرر يختص بالضرر الناشي من نفس الأحكام والموارد التي تقصد بها الضرر ليست الأحكام فيها بنفسها ضرريا وإنّما الضرر ناش من التقصد بها وعليه فيحتاج نفيها إلى ضميمة (لا ضرار) فتحصّل : قوة كون (لا) للنفي في الضرر والضرار لوحدة السياق ولا يلزم منه ركاكة التكرار بعد ما عرفت من اختصاص الضرار بما يتقصد به الضرر وإن لم يكن ضرريا في حدّ نفسه ولو سلّمنا شمول لا ضرر لصورة تقصد الضرار بناء على نفي طبيعة الضرر في حومة ما يرتبط بالشرع ولو لم يكن ناشئا عن نفس الأحكام فنمنع الركاكة بعد وجود مصلحة الاهتمام بذكر صورة التقصد أو صورة الاستمرار وكيف كان فلا يصير لا ضرر مجملا سواء كان ذكر لا ضرار من باب اهتمام صورة الاستمرار أو من باب اهتمام صورة التعمد والتقصد أو غير ذلك فلا تغفل.

__________________

(١) منتقى الاصول / ج ٥ ، ص ٣٩٨.

٤٣٩

تنبيهات :

التنبيه الأوّل : في شمول قاعدة نفي الضرر للضرر على النفس وعدمه

والمختار هو الشمول فيما إذا كان الشمول امتنانا قال سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره قال الشيخ الأعظم قدس‌سره في رسالته المعمولة للقاعدة ما حاصله أنّه بناء على حمل الحديث على النهي أو على الضرر المجرد عن التدارك (١) لا يشمل الاضرار بالنفس وأمّا بناء على حمله على المعنى المختار يعمّ الاضرار بالغير وبالنفس إن كان مجردا عن التقييد بقوله «على مؤمن» وإلّا يختص بالأوّل فلا يشمل نفي وجوب الوضوء والحج مع الضرر. (٢) ولا يخفى عليك أنّ الظاهر من كلام الشيخ في موضع آخر أنّ شمول لا ضرر للاضرار بالنفس ممّا عليه العلماء حيث قال إنّ العلماء لم يفرقوا في الاستدلال بالقاعدة بين الاضرار بالنفس والاضرار بالغير. (٣)

وقال السيد المحقّق الخوئي قدس‌سره أيضا ذكر شيخنا الأنصاري رحمه‌الله في رسالته المعمولة في قاعدة لا ضرر أنّ الاضرار بالنفس كالاضرار بالغير محرم بالأدلة العقلية والنقلية. (٤)

وكيف كان فقد أورد عليه سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد بعد التصريح بأنّه لا اشكال في اختصاص الحديث بالاضرار بالغير على فرض التقييد بقوله «على مؤمن» بقوله وأمّا المجرّد عن القيد (أي على مؤمن) فالظاهر اختصاصه به أيضا لأنّ المتبادر منه ليس إلّا ذلك ولذا لا يشك أحد في عدم شمول ما دلّ على وجوب اطعام الناس على أولياء الأوقاف أو استحبابه اطعامهم لانفسهم بل لا بد في التعميم من القطع بالملاك وبالجملة فالمتبادر من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله «لا ضرر ولا ضرار» خصوصا بملاحظة قوله «لا ضرار» إرادة الاضرار بالغير خاصة كما أنّ

__________________

(١) ولعل عنوان التدارك شاهد على ان المقصود من حديث نفي الضرر هو نفي الاضرار بالغير إذ لا معنى لتدارك الضرر بالنسبة إلى الاضرار بالنفس.

(٢) المحاضرات لسيدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره / ج ٢ ، ص ٥٣١.

(٣) المكاسب / ص ٣٧٣ ط التبريز.

(٤) مصباح الاصول / ج ٢ ، ص ٥٤٨.

٤٤٠