عمدة الأصول - ج ٦

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٦

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: ولي عصر (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٣

الخلاصة :

في أصالة التخيير فيما إذا دار الأمر بين المحذورين اللذين لا ثالث لهما كالدوران بين الفعل والترك مثل وجوب شيء وحرمته فقط وإنما قيّدنا الدوران بالوجوب والحرمة فقط لأن احتمال شيء آخر من الأحكام غير الإلزامية يوجب رجوع الشك فيه إلى الشك في التكليف فيمكن الأخذ فيه بالبراءة ويخرج عن الدوران بين المحذورين والعلم بأصل الإلزام كما أنه لا دوران بين المحذورين فيما إذا كان أحد الطرفين بخصوصه موردا للاستصحاب لانحلال العلم الجمالي إلى العلم التفصيلى والشك البدوي فيمكن الرجوع فيه إلى البراءة.

ثم تحقيق الحال في مورد الدوران بين المحذورين يقتضي البحث في مقامات :

المقام الأوّل : في دوران الأمر بين المحذورين في التوصليات مع وحدة الواقعة ولا يخفى أنّه إذا حلف مثلا على سفر معين وتردد في أنه حلف على فعله أو تركه فالأقوال فيه متعددة :

١) الحكم بالاباحة الظاهرية نظير الحكم بالإباحة عند دوران الأمر بين الحرمة وغير الوجوب.

٢) التوقف بمعنى عدم الحكم بشىء لا ظاهرا ولا واقعا.

٣) تقديم احتمال الحرمة على احتمال الوجوب لأولوية دفع المفسدة من جلب المنفعة.

٤) الحكم بالتخيير الشرعي كالتخيير بين المتعارضين.

٥) الحكم بالتخيير العقلى بين الفعل والترك بمناط الاضطرار عند عدم ترجيح أحدهما على الآخر وهذا هو المختار.

٤١

أمّا القول الأول فقد استدل له بامور :

الأمر الأوّل : هو الاستدلال بعموم أدلة الاباحة الظاهرية مثل قوله عليه‌السلام : كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه بدعوى أنّ الظاهر من قوله عليه‌السلام حتّى تعلم هو الحكم بالحلّية ما دام لم يحصل العلم التفصيلي وعليه فمع الإجمال يصدق أنّه لم يعلم تفصيلا فمقتضى العموم وعدم وجود المانع لا عقلا ولا نقلا هو الحكم بالإباحة الظاهرية.

ويمكن أن يقال : إنّ أدلة الاباحة تنصرف إلى محتمل الحرمة وغير الوجوب ووجهه ظاهر لاختصاص تلك الأدلّة بما إذا كان طرف الحرمة هي الإباحة والحلية وليس في باب الدوران بين المحذورين احتمال الإباحة والحلية بل يكون مقابل الحرمة هو الوجوب كما لا يخفى.

هذا مضافا إلى أنّ أدلة الإباحة الشرعية مختصة بالشبهات الموضوعية فلا تجري في الشبهات الحكمية فهو أخص من المدعى.

الأمر الثاني : هو الاستدلال بالبراءة العقلية بدعوى أنّ الوجوب والحرمة غير معلومين فمقتضى قاعدة قبح العقاب بلا بيان هو عدم العقوبة لا على الوجوب ولا على الحرمة ويمكن أن يقال إنّ العلم بجنس التكليف وهو الالزام يكفى في ارتفاع موضوع البراءة العقلية لان العلم بجنس التكليف بيان ويوجب الاحتياط بينهما ان أمكن كما اذا علم بان هذا أمّا خمر حرام أو ذاك مائع خاصّ الذي يجب شربه بنذر ونحوه فيجب عليه ترك شرب محتمل الخمرية وشرب ما احتمل وجوب شربه بنذر ونحوه ومع البيان لا مجال للبراءة العقلية وان لم يمكن الاحتياط كما إذا دار الأمر بين الفعل والترك في شيء واحد حكم العقل بالترخيص في الفعل والترك بمناط الاضطرار فمع فرض حصول الترخيص بحكم العقل بمناط الاضطرار لا حاجة إلى الترخيص الظاهري بمناط قبح العقاب مع عدم البيان نظرا إلى حصول الترخيص حينئذ في المرتبة السابقة بحكم العقل بالتخيير بين الفعل والترك.

الأمر الثالث : هو الاستدلال بعموم أدلة البراءة الشرعية مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله «رفع عن امتى

٤٢

ما لا يعلمون» بدعوى أنّه يعمّ الطرفين إذ المرفوع هو ما كان وجوده ثقلا عن الامة والوجوب أو الحرمة ممّا يثقل على الامة وهكذا المرفوع هو ما كان مصداقا لما لا يعلمون وكلّ واحد من الوجوب أو الحرمة مصداق لما لا يعلمون لأنّ كلّ واحد منهما غير معلوم والمجعول في الشرع هو خصوص الوجوب أو الحرمة لا الجامع بينهما وعليه فإطلاق الموصول في قوله ما لا يعلمون يعمّ كلّ واحد من المحتملين.

وفيه : أنّه لا مجال للبراءة الشرعية لأنّ مع العلم الإجمالي بالوجوب أو الحرمة لا يصدق موضوع أدلّة البراءة إذ المرفوع هو ما لا يعلمونه مطلقا لا تفصيلا ولا إجمالا والمقام ممّا يعلم إجمالا وإن لم يعلم بالتفصيل.

هذا مضافا إلى أنّ مع تقدم حكم العقل بالتخيير لا ثقل للوجوب أو الحرمة وعليه فكيف يرفع الثقل بعموم «رفع ما لا يعلمون» وأيضا الحكم بالبراءة شرعا من الأحكام الظاهرية ولا بدّ في الأحكام الظاهرية من ترتب الآثار الشرعية وإلّا لكانت لغوا ولا خفاء في أنّ جعل البراءة سواء كانت عقلية أو شرعية أو جعل الإباحة الشرعية بعد حكم العقل بالترخيص والتخيير بين الفعل والترك لا أثر له.

هذا كلّه بالنسبة إلى القول الاول أي الحكم بالإباحة الظاهرية والبراءة نظير الحكم بالإباحة عند دوران الأمر بين الحرمة وغير الوجوب.

وأمّا القول الثاني : وهو التوقف بمعنى عدم الحكم بشيء لا ظاهرا ولا واقعا فلعله من جهة توهم عدم تمامية القواعد العقلية والشرعية عند قائله وسيأتى إن شاء الله تعالى تمامية القول الخامس من التخيير العقلي.

وأمّا القول الثالث : وهو تقديم جانب الحرمة بملاك أولوية دفع المفسدة من جلب المنفعة ففيه أوّلا : أنّ إطلاق ذلك ممنوع كوضوح تقديم وجوب حفظ النفس على حرمة الغصب فيما إذا توقف الحفظ على التصرف في مال الغير من دون إذنه.

وثانيا : أنّ المصلحة الفائتة بترك الواجب أيضا مفسدة وإلّا لم تصلح للالزام ما لم تبلغ

٤٣

حدا يكون في فواته مفسدة.

وثالثا : أنّ هذه القاعدة على فرض تماميتها فاللازم هو تخصيصها بموارد كون المفسدة والمصلحة معلومتين وأمّا لو كان الموجود احتمال المفسدة فلا نسلم أولوية رعايته من رعاية احتمال المصلحة والشاهد عليه عدم وجود البناء على رعاية مجرد احتمال المفسدة مع القطع بعدم وجود المصلحة فضلا عن ما إذا احتمل وجود المصلحة.

ودعوى : أنّ مقتضى القاعدة عند دوران الأمر بين التعيين والتخيير هو الأخذ بما يحتمل فيه التعيين وهو الحرمة.

مندفعة : بأنّ احتمالا التعيين لا يختص بجانب الحرمة بل ربما يكون في جانب الوجوب هذا مضافا إلى أنّ القاعدة المذكورة غير جارية في أمثال المقام ممّا يكون العقل فيه يستقل بالتخيير أو يستقل بالتعيين نعم الشك إنّما يكون في الأحكام التوقيفية التي لا يدركها العقل.

لا يقال : يحتمل ورود الحكم الشرعي التوقيفي بالنسبة إلى ترجيح جانب الحرمة ولو كان ذلك احتمال شمول أخبار التوقف لما نحن فيه وهو كاف في لزوم الاحتياط والأخذ بجانب الحرمة.

لأنّا نقول : إنّ أخبار التوقف محمولة على الاستحباب جمعا بينها وبين الأخبار الدالة على البراءة والإباحة فلا يوجب الأمر الاستحبابى وجوب ترجيح جانب الحرمة نعم ذهب في الكفاية إلى أنّ استقلال العقل بالتخيير إنّما هو فيما لا يحتمل الترجيح في أحدهما على التعيين ومع احتماله لا يبعد دعوى استقلاله بتعينه.

اورد عليه السيّد المحقّق الخوئي قدس‌سره بأنّ الوجه في تقديم محتمل الأهمية فيما إذا لم يكن لشيء منهما إطلاق ، هو أنّ كلا من الحكمين يكشف عن اشتمال متعلقه على الملاك الملزم وعجز المكلّف عن استيفائهما ممّا يقتضي جواز تفويت أحدهما فعند احتمال أهمية أحد الحكمين بخصوصه يقطع بجواز استيفاء ملاكه وتفويت ملاك الآخر على كلّ تقدير.

وأمّا تفويت ملاك ما هو محتمل الأهمية ولو باستيفاء ملاك الآخر فلم يثبت جوازه

٤٤

فلا مناص حينئذ من الأخذ بمحتمل الأهمية.

وهذا الوجه للزوم الأخذ بالتعيين غير جار في المقام إذ المفروض أنّ الحكم المجعول واحد مردد بين الوجوب والحرمة فليس في البين إطلاقان وملاكان ونسبة العلم الإجمالي إلى كلّ من الحكمين على حد سواء فالحكم بالتخيير باق على حاله.

وأمّا القول الرابع : وهو الحكم بالتخيير الشرعي نظير التخيير في الأخذ بأحد الخبرين المتعارضين فلا دليل عليه في المقام وإن قام عليه دليل في الخبرين المتعارضين.

والتخيير بمعنى الأخذ بأحدهما من الفعل أو الترك في مقام العمل تخيير عقلي وهو حاصل ومعه لا حاجة إلى طلبه شرعا لأنّه تحصيل الحاصل.

وأمّا القول الخامس : وهو الحكم بالتخيير العقلي بين الفعل والترك بمناط الاضطرار عند عدم ترجيح أحدهما على الآخر فلا إشكال فيه لأنّ الفعل والترك إذا كانا متساويين في نظر العقل يحكم العقل بالتخيير لقبح الترجيح بلا مرجح وبعبارة اخرى إدراك قبح الترجيح بلا مرجح ملازم لإدراك التخيير نعم لو كان أحد الطرفين مرجحا فلا يحكم العقل بالتخيير بل يحكم بلزوم الأخذ بذي المزية كما لا يخفى.

والعلم الإجمالي بالتكليف في مثل المقام يسقط عن التأثير وهو الاحتياط لعدم تمكّنه منه كما أنّه لا يصلح المقام للحكم التخييري شرعيا كان كما في باب الخصال أو عقليا كما في المتزاحمين فإنّه إنما يكون في مورد يكون المكلّف قادرا على المخالفة بترك كلا طرفي التخيير فكان الأمر التخييري باعثا على الإتيان بأحدهما وعدم تركهما معا لا في مثل المقام الذي هو من التخيير بين النقيضين فإنّه بعد عدم خلو المكلّف تكوينا عن الفعل أو الترك لا مجال للأمر التخييري بينهما وإعمال المولوية فيه لغو محض فينحصر التخيير في المقام بالتخيير العقلي المحض بمناط الاضطرار.

نعم الأولى أن يقال إنّ المراد من حكم العقل بالتخيير هو إدراكه أنّ زمام الواقعة بيد المكلّف عند تساوي الطرفين أي الفعل والترك بمناط الاضطرار.

٤٥

هذا كلّه بالنسبة إلى دوران الأمر بين المحذورين من التوصليات مع وحدة الواقعة.

المقام الثاني : في الدوران بين المحذورين من التوصليات مع تعدد الواقعة كما إذا علم بصدور شرطين أو حلفين وأنّ أحدهما تعلّق بفعل أمر والآخر بترك آخر واشتبه الأمر في الخارج دار الأمر في كلّ منهما بين الوجوب والحرمة.

ولا يخفى أنّ العلم الإجمالي باق في هذه الصورة على تنجيزه فيحرم المخالفة القطعية للتمكن منها بالإتيان بهما أو تركهما وأمّا الموافقة القطعية فهي ساقطة لعدم التمكن منها بخلاف الموافقة الاحتمالية فإنها ممّا لا بدّ منه عقلا.

نعم لو ظنّ أنّ الواجب هو فعل هذا وترك ذاك أو بالعكس لا يبعد الحكم بوجوب مراعاة الظن بالنحو المذكور لأنّ الموافقة القطعية إذا امتنعت لزم الاكتفاء بالموافقة الظنية والمفروض أنّها ممكنة.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ التمكن من ترك المخالفة القطعية في واقعتين غير مفيد لأنه ليس امتثالا للتكليف المعلوم الذي يترقب امتثاله فإنّ كلّ تكليف في واقعة يستدعي امتثال نفسه بحكم العقل لا امتثاله أو امتثال تكليف آخر في واقعة اخرى.

وبعبارة اخرى لا يتنجز العلم الإجمالي من حيث ترك المخالفة القطعية في واقعتين كما لم يتنجز في صورة وحدة الواقعة في الدوران بين المحذورين وعليه فيكون المكلّف مخيّرا مطلقا ولو أوجب ذلك مخالفة قطعية فيجوز الإتيان بهما أو تركهما في صورة تعدد الواقعة.

واجيب عنه بأنّه لا نلحظ العلم الإجمالي في كلّ واقعة كي يقال إنّ المخالفة القطعية للعلم الإجمالي المزبور مخالفة غير مؤثرة بل الملحوظ هو العلم الإجمالي الحاصل بضمّ الواقعتين إحداهما إلى الاخرى وهو لا ينافي عدم تنجيز العلم الإجمالي بالنسبة إلى كلّ واقعة بحيالها.

وذلك لأنّه يتولد في المقام علمان إجماليان آخران أحدهما العلم الإجمالي بوجوب أحد الفعلين والثاني العلم الإجمالي بحرمة أحدهما والعلم الإجمالي بالوجوب يقتضي الإتيان بهما تحصيلا للموافقة القطعية كما أنّ العلم الإجمالي بالحرمة يقتضي تركهما معا كذلك.

٤٦

وحيث إنّ الجمع بين الفعلين والتركين مستحيل يسقط العلمان عن التنجيز بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية ولكنّ يمكن مخالفتهما القطعية بايجاد الفعلين أو بتركهما فلا مانع من تنجيز كلّ منهما بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية فإنّها المقدار الممكن وحينئذ فاللازم هو اختيار أحد الفعلين وترك الآخر تحصيلا للموافقة الاحتمالية وحذرا من المخالفة القطعية.

لا يقال : إنّ العلمين الإجماليين المذكورين حصلا بتبع العلم الإجمالي بالالزام المردّد بين الوجوب والحرمة في كلّ من الأمرين فإذا كان العلم الإجمالي المتبوع ساقطا عن التأثير فالعلمان التابعان يسقطان عن التأثير أيضا فلا تأثير لهما كما لا تأثير للعلم الإجمالي المتبوع.

لأنّا نقول : لا ملازمة بين عدم تنجيزهما وبين عدم تنجيز العلم الإجمالي المتبوع وإن كان العلمان الاجماليان تابعين في الوجود فحينئذ يكون مقتضى العلمين هو التنجيز بالنسبة إلى المخالفة القطعية دون الموافقة القطعية نعم يجب مراعاة الموافقة الظنية فيما إذا لم يكن الموافقة القطعية.

والفرق بين المقام الثاني والمقام الأوّل في أنّ العلم الإجمالي في المقام الأول ساقط أصلا ولا تأثير له ولذا لا يجب فيه مراعاة الظن في طرف من أطرافه بخلاف المقام الثاني فان العلم الإجمالي بالتقريب المذكور باق على التنجيز ولو في الجملة فيجب مراعاته مهما أمكن فلا يجوز أن يأتى على وجه يعلم بالمخالفة القطعية كما لا يجوز أن ياتى على خلاف المظنون.

ولا فرق فيما ذكر بين ما إذا كانت الواقعة متعددة عرضا وبين ما إذا كانت كذلك طولا كما إذا علم بتعلق حلف بايجاد فعل في زمان ويتعلّق حلف آخر بتركه في زمان ثان ثم اشتبه الزمانان ففي كلّ زمان يدور الأمر بين الوجوب والحرمة.

فإنّ بناء على تنجيز العلم الإجمالي في الأمور التدريجية كغيرها كما هو الظاهر يكون العلم الإجمالي منجّزا بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية لإمكانها فاللازم اختيار الفعل في أحد الزمانين واختيار الترك في الآخر حذرا من المخالفة القطعية وتحصيلا للموافقة الاحتمالية إلّا إذا حصل الظن بفعل هذا وترك ذاك أو بالعكس فلا يبعد القول بوجوب الموافقة الظنية

٤٧

أيضا فيقدم المظنون على غيره فإن كان المظنون هو ترك الأوّل وفعل الثاني اختار ذلك وإن عكس ذلك اختار العكس وذلك لما عرفت من أنّ الموافقة الظنية من مراتب الموافقة القطعية فاللازم هو الاتيان بالميسور منها وهو الموافقة الظنية ولا مجال للحكم بالتخيير مطلقا سواء لزمت المخالفة القطعية أم لم تلزم وسواء امكنت الموافقة الظنية أم لم تمكن فلا تغفل.

المقام الثالث : في التخيير البدوي والاستمراري

ولا يذهب عليك أنّه لو كان لمورد دوران الأمر بين المحذورين أفراد ووقائع طولية تدريجية كما إذا علم اجمالا بصدور حلف واحد على الاتيان بفعل أو على تركه في كلّ ليلة جمعة فهل يكون التخيير حينئذ بدويا أو استمراريا فالمختار هو الثاني.

باعتبار أنّ كلّ فرد من أفراد ذلك الفعل له حكم مستقل وهو حكم العقل بالتخيير كما تقدم لعدم امكان الموافقة القطعية ولا المخالفة القطعية ولا يلزم من استمرار حكم العقل بالتخيير في المقام إلّا العلم اجمالا بمخالفة التكليف الواقعي في أحدهما ولا بأس به لعدم كون التكليف الواقعي منجّزا على الفرض.

ودعوى : أنّ العلم بالالزام المردّد بين الوجوب والحرمة وإن لم يوجب تنجيز المعلوم بالاجمال إلّا أنّه مع فرض تعدد الأفراد يتولد من العلم الإجمالي المذكور علم اجمالي متعلّق لكل فردين من الأفراد وهو العلم بوجوب أحدهما وحرمة الآخر إذ المفروض اشتراكهما في الحكم وجوبا وحرمة وهذا العلم الإجمالي وإن لم يمكن موافقته القطعية لاحتمال الوجوب والحرمة في كلّ منهما إلّا أنّه يمكن مخالفته القطعية باتيانهما معا أو تركهما كذلك وقد عرفت أنّ العلم الإجمالي يتنجّز معلومه بالمقدار الممكن من حيث وجوب الموافقة القطعية أو حرمة المخالفة القطعيّة فلا مناص من كون التخيير بدويا حذرا من المخالفة القطعية فلا يجوز التفكيك بين الأفراد من حيث الفعل والترك.

٤٨

مندفعة : بمنع تولد العلم الإجمالي المتعلّق بكل فردين من الأفراد وهو العلم بوجوب أحدهما وحرمة الآخر إذ تعدد ليلة الجمعة لا يوجب العلم بوجوب أحدهما وحرمة الآخر بل كلّ ليلة باقية على كونها محتملة الأمرين فكما أنّ الليلة الواحدة محتملة الأمرين فكذلك الليلتان فلذا لو أتى بالفعلين فيهما أو تركهما لم يعلم بالمخالفة القطعية لاحتمال أن يكون المحلوف عليه هو الفعل فالاتيان به في الفردين موافق له أو المحلوف عليه هو الترك فترك الفعل في الفردين موافق له.

نعم لو أتى بالفعل في فرد وترك الفعل في فرد آخر يعلم اجمالا بمخالفة التكليف الواقعي في فرد كما يعلم بموافقة التكليف الواقعي في آخر ولا ترجيح للمخالفة على الموافقة ولا بأس بحصول العلم بالمخالفة لعدم كون التكليف الواقعى منجّزا على الفرض.

فتحصّل أنّ الصحيح هو التنجيز الاستمرارى فيجوز له أن يأتى بالفعلين أو التركين أو التفكيك بينهما.

لا يقال إنّ حرمة المخالفة القطعيّة أهم بنظر العقل من لزوم الموافقة القطعية لأنّا نقول لا دليل على أهميّة حرمة المخالفة القطعيّة بالنسبة إلى لزوم الموافقة القطعيّة كما لا يخفى.

المقام الرابع : في تنجيز العلم الإجمالي بالنسبة إلى المخالفة القطعية مع تمكنها دون الموافقة القطعية لعدم التمكن منها

إذا كان أحد الحكمين أو كلاهما تعبديا مع وحدة الواقعة كما إذا دار الأمر بين وجوب الصلاة على المرأة وحرمتها عليها لاحتمالها الطهر والحيض مع عدم احراز أحدهما ولو بالاستصحاب بناء على حرمة الصلاة على الحائض ذاتا بمعنى أن يكون نفس الصلاة حراما عليها ولو أتت بها من دون قصد القربة.

ففي هذه الصورة وإن لم تمكن الموافقة القطعية لدوران الأمر بين المحذورين إلّا أنّ المخالفة القطعية ممكنة فإنّه إذا جاءت المرأة بالصلاة بدون قصد القربة قطعت بالمخالفة القطعية إمّا من

٤٩

جهة ترك الواجب لو كانت الصلاة واجبة عليها وإمّا من جهة الاتيان بالحرام لو كانت الصلاة محرمة عليها ذاتا.

ومع تمكنها من المخالفة القطعية فلا مانع من تنجيز العلم الإجمالي بالنسبة إلى المخالفة القطعية فلا يجوز لها أن تأتى بالصلاة بدون قصد القربة ومع تنجيز العلم الإجمالي فلا مجال للرجوع إلى البراءة الشرعية أو العقلية بل يحكم العقل بالتخيير بين الاتيان بالصلاة برجاء المطلوبية والقربة وبين تركها رأسا ولا يجوز لها أن يترك كلا الأمرين رأسا باتيان الصلاة من دون قصد القربة لما عرفت من أنّه مخالفة قطعية ينافي تنجيز العلم الإجمالي.

المقام الخامس : في عدم التزاحم فيما إذا كانت القدرة في طرف شرعية

لا اشكال في الحكم بالتخيير في مقام الامتثال عند التزاحم ان لم يكن أهم في البين ولكنّه يختص ذلك بما إذا كانت القدرة المأخوذة في طرفى التزاحم عقلية أو شرعية وأمّا إذا كانت في طرف شرعية وفي طرف آخر عقلية فالصحيح هو تقديم طرف القدرة العقلية على طرف القدرة الشرعية فلا مجال للتخيير.

وذلك لتعليق طرف القدرة الشرعية على عدم ارتكاب المحرم أو ترك الواجب ومن المعلوم أنّ هذا الحكم يرتفع بتزاحمه مع ارتكاب المحرم أو ترك الواجب.

والسرّ في ذلك أنّ القدرة المعتبرة في الأجزاء والقيود قدرة شرعية فمع توقف احراز شيء منهما على ترك الواجب أو مخالفة الحرام تسقط تلك الأجزاء والقيود عن الوجوب لعدم تمكن المكلّف منه شرعا فيتنزل إلى الصلاة فاقدة الشرط أو الجزء فلا مساغ لارتكاب المحرم أو ترك الواجب مقدمة لاتيان شيء من الاجزاء والقيود المعتبرة في الصلاة.

مثلا إذا بنينا على أنّ الصلاة في النجس محرمة بالذات نظير ساير المحرمات المولوية وتردد الثوب الطاهر بين الثوبين المشتبهين الذين أحدهما طاهر والآخر نجس فالقدرة المعتبرة في الصلاة في الثوب الطاهر شرعية والقدرة المأخوذة في ترك المحرم (كالصلاة في

٥٠

النجس بناء على ثبوت ذلك) عقلية وعند تزاحم التكليفين المشروط أحدهما بالقدرة الشرعية يتقدم ما هو المشروط بالقدرة العقلية على غيره ولا مجال للتزاحم والحكم بالتخيير.

نعم اذا كانت القدرة المعتبرة في الطرفين عقلية أو شرعية كان المورد فيحكم من المتزاحمات وتمّ ما ذكر فيه من أنّ المقدم هو الأهم وإلّا بالتخيير في مقام الامتثال.

المقام السادس : في دوران الأمر بين شرطية شيء وبين مانعيته في العبادات

إذا دار الأمر بين المحذورين في العبادات الضميمة كما إذا دار الأمر بين شرطية شيء أو جزئيته لواجب وبين مانعيته عنه ذهب بعض الاساطين إلى التخيير في الاتيان بما يحتمل كونه شرطا أو جزءا وبين تركه لاحتمال كونه مانعا واطلاق القول بالتخيير محلّ نظر وتوضيح المقام أنّ احتمال كون شيء مانعا أو شرطا أو جزءا يتصور بصورتين.

الصورة الاولى : ما يتمكن فيه المكلّف من الامتثال التفصيلى ولو برفع اليد عمّا هو مشتغل به فعلا كما لو شك بعد النهوض للقيام في الاتيان بالسجدة الثانية فانّه بناء على تحقّق الدخول في الغير بالنهوض كان الاتيان بالسجدة زيادة في الصلاة وموجبا لبطلانها وبناء على عدم تحققه به كان الاتيان بها واجبا ومعتبرا في صحتها وفي هذه الصورة يتمكن من الامتثال التفصيلي بابطال الصلاة والاتيان بالصلاة الكاملة بناء على عدم حرمة قطع الصلاة في مثل المقام أو مطلقا ولا يجوز له الاكتفاء بأحد الاحتمالين والحكم بالتخيير لعدم احراز الامتثال بذلك والاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقينى فعليه الامتثال التفصيلى برفع اليد عن هذه الصلاة بناء على عدم حرمة القطع واعادتها أو اتمامها على أحد الاحتمالين ثم اعادتها وعلى كلّ تقدير لا وجه للحكم بالتخيير وجواز الاكتفاء بأحد الاحتمالين.

هذا بناء على عدم حرمة ابطال صلاة الفريضة مطلقا أو في خصوص المقام من جهة أنّ دليل الحرمة هو الاجماع والقدر المتيقن منه هو الحكم بحرمة قطع الصلاة التي يجوز للمكلف

٥١

الاختصار عليها في مقام الامتثال وأمّا الصلاة المحكوم بوجوب اعادتها فلا دليل على حرمة قطعها وأمّا لو بنينا على حرمة قطع الفريضة حتّى في مثل المقام كان الحكم بالتخيير في محله إلّا أنّه لا لأجل دوران الأمر بين الجزئية والمانعية بل من جهة دوران الأمر بين حرمة الفعل وتركه.

الصورة الثانية : ما يتمكن فيه المكلّف من الامتثال الإجمالي إمّا بتكرار الجزء أو بتكرار أصل العمل كما إذا دار أمر القراءة بين وجوب الجهر بها أو الاخفات فانه إذ كرّر القراءة بالجهر مرة وبالاخفات مرة اخرى مع قصد القربة وقصد جزئية أحدهما الواقعية وكون الزيادة قرآنا فقد أتى بالامتثال الإجمالي ولا يجوز الاقتصار على الامتثال الاحتمالى على القول بالتخيير بل يجب عليه احراز الامتثال ولو اجمالا لأنّ الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقينى.

نعم هذا فيما إذا أمكن التكرار واحراز الامتثال وأمّا اذا لم يمكن التكرار تضيق الوقت فلا محيص عن التخيير في الدوران بين الشرطية والمانعية بناء على ابتناء وجوب القضاء على صدق عنوان الفوت وهو غير ثابت وأمّا بناء على أنّ القضاء بالأمر السابق لا بالأمر الجديد المترتب على عنوان الفوت صح القول بوجوب الاحتياط بالأداء والقضاء ومع وجوب الاحتياط لا مجال للتخيير كما لا يخفى.

فتحصّل أنّ القول بالتخيير مطلقا في ما إذا دار الأمر بين الجزئية أو المانعية محلّ تأمل ونظر فيما إذا أمكن الامتثال التفصيلى أو الإجمالي نعم فيما إذا لم يتمكن منهما فلا محيص عن التخيير بين الشرطية وبين المانعية.

المقام السابع : في مجرى أصالة التخيير

واعلم أنّ الظاهر من أكثر العبائر أنّ مجرى أصالة التخيير في علم الاصول هو يختص بموارد دوران الأمر بين المحذورين اللذين لا يتمكن المكلّف فيها من الموافقة القطعيّة ولا من

٥٢

المخالفة القطعيّة كما إذا علم بالتكليف وشك في المكلّف به بين فعل شيء وبين تركه بحيث لا يتمكن المكلّف فيه من الموافقة القطعية ولا من المخالفة القطعية ففيه يسقط العلم الإجمالى عن التأثير ويحكم العقل بالتخيير الاضطرارى التكوينى وهذا في التوصليين واضح.

وأمّا بالنسبة إلى غيرهما كما إذا كانا تعبدين أو كان أحدهما تعبديا يشكل الأمر للتمكن من المخالفة القطعية فيه باتيان العمل من دون قصد القربة بناء على حرمة العمل ذاتا ولو بدون قصد القربة كالصلاة عن المرأة المردّدة في الطهر والحيض فإنّه إذا اتت بالصلاة وتركت قصد القربة قطعت بالمخالفة لأنها أتت بالحرام باتيان الصلاة وتركت الواجب بترك قصد القربة.

وفي مثله لا يسقط العلم الإجمالي عن التأثير لتمكنها من المخالفة القطعية وإن لم تكن متمكنة من ناحية الموافقة القطعية ومقتضى اشتراط عدم التمكن من المخالفة القطعية هو خروج هذه الصورة عن محلّ البحث إذ في هذه الصورة يتمكن المكلّف من المخالفة القطعية مع أنّ المكلّف مختار بعين أن يفعل الفعل بنحو قربى وبين أن يترك الفعل رأسا فالأظهر أنّ يقال يكفى عدم التمكن من الموافقة القطعية في حكم العقل بالتخيير الاصولى وعليه فيعمّ مجرى أصالة التخيير لما إذا كانا تعبدين أو كان أحدهما المعين تعبّديا ولا يختص بالموارد التي لا يتمكن من المخالفة القطعية ولا الموافقة القطعية بل يكفى كما عرفت عدم التمكن من الموافقة القطعية في جريانه فلا تغفل.

ثم إنّ محلّ البحث في التخيير الاصولى يختص بما إذا كان عدم التمكن من الموافقة القطعية ناش من جهة فقد النص أو اجماله أو تعارضه لا من جهة التزاحم في مقام الامتثال.

وأمّا الموارد التي لا يمكن الجمع بينهما في مقام الامتثال من جهة التزاحم بين الواجبين فلا اشكال في حكم العقل فيها بالتخيير وكان هذا التخيير تخييرا فقهيا بين المتزاحمين فيما إذا لم يكن ترجيح لأحد المتزاحمين ولم يمكن الجمع بينهما.

وأمّا إذا كان ترجيح في بعض الأطراف فاللازم هو الاتيان به لأنّ الأمر يدور بين التعيين

٥٣

والتخيير والأصل فيه هو التعيين لأنّ الشك في السقوط بعد العلم بالثبوت كما أنّ الجمع إذا كان ممكنا فلا مجال لتركه بعد وجود الملاك فيهما.

المقام الثامن : في اشتراط عدم أصل لفظي في جريان أصالة التخيير

إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير فإن كان الشك في ثبوت التكليف من ناحية خصوصية في طرف منهما فمقتضى القاعدة هو التخيير إذا لم يكن أصل لفظي في المورد لأنّ الشك في التكليف الزائد من ناحية الخصوصية ويجرى فيها البراءة ويحكم العقل بالتخيير مثلا إذا علمنا أنّ الشارع وجب علينا خصال الكفارات ثم شككنا في أنّ بعضها مرتب على الآخر أو واجب في عداد البقية وكان الشك في التعيين والتخيير ويحكم العقل بالتخيير إذا لم يكن أصل لفظي في البين وإلّا فمعه لا مجال للأصل العملى وان كان الشك في السكوت بعد العلم بالثبوت ولم يكن اطلاق في البين فمقتضى الأصل هو التعيين والاتيان بما يحتمل تعينه كما إذا شككنا في حجية قول غير الأعلم والأمر يدور بين تعيين الأعلم والتخيير بين الأعلم وغير الأعلم فاللازم حينئذ هو الأخذ بقول الأعلم لأنّ الشك في السقوط بعد العلم بالثبوت ومقتضى القاعدة أنّ الاشتغال اليقينى يقتضي الفراغ اليقينى وهو لزوم الاكتفاء بقول الأعلم أو الراجح من جهة اخرى وعليه فالأصل هو التعيين ولكنّ هذا فيما إذا لم يكن اطلاق لفظي وإلّا فلا مجال للأصل لأنّ موضوعه هو الشك وهو يرتفع باطلاق الدليل فافهم.

٥٤

الفصل الثالث : في أصالة الاشتغال

انّه إذا كان الشك في المكلّف به مع العلم بالتكليف من الإيجاب أو التحريم وأمكن الاحتياط فالشك إما يكون من جهة تردد المعلوم بين المتباينين كتردد الواجب بين كونه جمعة أو ظهرا وإما يكون من جهة تردده بين الأقل والأكثر الارتباطيين كتردد الصلاة بين فاقد السورة وواجدها وعليه فالكلام فيه يقع في مقامين :

المقام الأوّل : في الشك في المكلّف به مع العلم بالتكليف وامكان الاحتياط ودوران الأمر بين المتباينين ومثاله ان يعلم بوجوب أحد الشيئين أو بحرمة أحدهما أو ان يعلم بوجوب فعل أمر أو ترك آخر مع امكان الاحتياط فيه بفعل هذا وترك ذاك كما إذا علم بخطاب الزامي وتردد بين كونه وجوب شيء كالدعاء عند رؤية الهلال وبين حرمة شيء آخر كشرب التتن والشك في هذا المثال راجع إلى العلم بجنس التكليف وتردده من حيث نوعه من الوجوب والحرمة والفرق بين هذا المثال والدوران بين المحذورين الذي مر بحثه في أصالة التخيير انما يكون في امكان الاحتياط في المقام وعدمه في الدوران بين المحذورين وإلّا ففي الموردين تعلّق العلم بجنس التكليف وكان الترديد في نوعه من الوجوب والحرمة.

ثمّ أنّه لا فرق في المقام بين كون العلم الإجمالي متعلقا بأصل التكليف والترديد في النوع وبين كونه متعلقا ببطلان إحدى الصلاتين في مرحلة الامتثال إذ الترديد في مورد العلم الإجمالي كما يمكن ان يكون في نوع التكليف أو متعلقه فكذلك يمكن ان يكون في مرحلة الامتثال بعد العلم التفصيلي بثبوت التكليف كما إذا علمنا اجمالا ببطلان احدى الصلاتين

٥٥

بعد الاتيان بهما فان قلنا بجريان الاصول النافية في جميع الأطراف أو بعضها فلا مانع من جريان قاعدة الفراغ في كلتا الصلاتين أو في أحدهما فلا وجه لتخصيص النزاع بالاصول الجارية عند الشك في أصل التكليف دون الجارية في مرحلة الامتثال (١).

ثمّ إنّ البحث في هذا المقام يقع من جهات مختلفة :

الجهة الاولى : في إمكان الترخيص الشرعي في أطراف المعلوم بالإجمال

ولا يخفى أنّ العلم الإجمالي كما مر في مبحث القطع كالعلم التفصيلي في كونه منجّزا للحكم الواقعي ومقتضاه كالعلم التفصيلي عدم جواز المخالفة ووجوب الموافقة القطعية. والوجه في ذلك أنّ العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي بيان تامّ ومعه لا مجال لقاعدة قبح العقاب بلا بيان وهو واضح.

وإنّما الكلام في أنّه هل يمكن جعل الترخيص عقلا في مورد العلم الإجمالي أو لا يمكن وبعد ثبوت الامكان هل ورد ترخيص في ذلك شرعا أو لا.

وقد فرغنا في مبحث القطع من أنّ العلم الإجمالي يكون مقتضيا للتنجيز وليس كالعلم التفصيلي علة تامة لذلك والمقصود من كون العلم الإجمالي مقتضيا لذلك أنّ العلم الإجمالي طريق كالعلم التفصيلي بالنسبة إلى الواقع ويترتب عليه ما يترتب على العلم التفصيلي ولكنّ حيث كان العلم الإجمالي مشوبا بالشك أمكن للشارع أن يرفع اليد عن فعلية الحكم المعلوم بالإجمال.

وقد ذكرنا بالتفصيل الوجوه التي ذكرت هناك لعدم امكان الترخيص الشرعي في أطراف المعلوم بالإجمال من قبيل أنّ الترخيص يوجب المنافاة لما دلّ على حرمة ذلك العنوان المشتبه مثل قوله اجتنب عن الخمر لأنّ الإذن في كلا المشتبهين ينافي المنع عن عنوان مردد بينهما ويوجب الحكم بعدم حرمة الخمر المعلوم اجمالا في متن الواقع وهو ممّا يشهد

__________________

(١) راجع مصباح الاصول / ج ٢ ، ص ٣٤٥.

٥٦

الاتفاق والنص على خلافه. أو أنّ اذن الشارع في اخذ المشتبهين ينافي أيضا حكم العقل بوجوب امتثال التكليف المعلوم بالإجمال أو أنّ الترخيص في أطراف المعلوم بالإجمال ترخيص في المعصية وهو قبيح أو أنّ الترخيص تجويز في الظلم والتجاوز بالنسبة إلى حق الله تعالى أو أنّ الترخيص يوجب نقض الغرض من جعل الحكم حيث أنه إنشاء بداعي جعل الداعي والترخيص فيه ينافيه وغير ذلك من الوجوه.

والجواب عن ذلك كلّه أنّ الأمور المذكورة متفرعة على بقاء الحكم الواقعي على ما هو عليه من الفعلية والتنجيز كما إذا تعلّق العلم التفصيلي بها وأما مع شوب العلم الإجمالي بالشكّ أمكن للشارع رفع اليد عن المعلوم بالإجمال جمعا بينه وبين أدلّة الترخيص لمصلحة التسهيل أو غيره كما رفع اليد عن الأحكام الواقعية في موارد الشبهات البدوية جمعا بينها وبين أدلة الترخيص مع أنّ الترخيص فيها أيضا ينافي لما دل على حرمة ذلك العنوان المشتبه واقعا مثل قوله اجتنب الخمر وهكذا رفع اليد عن الأحكام الواقعية فيما إذا خالفها الأحكام الظاهرية جمعا بينهما وبالجملة فمع رفع اليد عن الحكم الواقعي بجهة شوب العلم الإجمالي بالشك لا حكم للعقل بوجوب امتثال التكليف المعلوم بالإجمال حتّى يكون الترخيص فيه منافيا لحكم العقل.

وهكذا بعد رفع اليد عن الحكم الواقعي لا مجال لدعوى أنّ الترخيص فيه ترخيص في المعصية أو ترخيص في الظلم.

وأما دعوى لزوم نقض الغرض ففيها أنّ الحكم الواقعي لا يختص بأطراف المعلوم بالإجمال بل يشمل غيرها ومع شموله لغيرها لا يلزم اللغوية ولا يلزم نقض الغرض لكفاية ذلك في كونه موجبا لجعل الداعي بالنسبة إلى من علم به بالتفصيل والمفروض أنّ الأحكام مجعولة على نحو ضرب القانون لا القضايا الشخصية.

وعليه فالمتجه هو امكان رفع اليد عن الحكم الواقعي بعد شوب العلم الإجمالي بالشك نعم لو كان الحكم الواقعي فعليا من جميع الجهات بحيث لا يرضى الشارع برفعه بوجه من

٥٧

الوجوه لما كان مجال لرفع اليد عنه ولو لم يكن في أطراف المعلوم بالإجمال كالشبهات البدوية لكنه يحتاج إلى دليل يدلّ على أنّ الحكم يكون فعليا بالمعنى المذكور والحاصل أنّ الترخيص في جميع أطراف المعلوم بالإجمال فيما إذا لم يثبت كون الحكم فعليّا من جميع الجهات لا مانع منه عقلا فضلا عن الترخيص في بعض الأطراف فلا تغفل.

وممّا ذكر يظهر ما في كلام شيخنا الأعظم قدس‌سره في المقام حيث ذهب إلى عدم جواز المخالفة القطعية وحرمتها مستدلا له بوجود المقتضي للحرمة وعدم المانع عنها أما ثبوت المقتضي فلعموم تحريم ذلك العنوان المشتبه فإنّ قول الشارع اجتنب عن الخمر يشمل الخمر الموجود المعلوم المشتبه بين الإنائين أو أزيد ولا وجه لتخصيصه بالخمر المعلوم تفصيلا مع أنّه لو اختص الدليل بالمعلوم تفصيلا خرج الفرد المعلوم اجمالا عن كونه حراما واقعيا ولا أظنّ أحدا يلتزم بذلك.

وأمّا عدم المانع فلأنّ العقل لا يمنع من التكليف عموما أو خصوصا بالاجتناب عن عنوان الحرام المشتبه في أمرين أو أمور والعقاب على مخالفة هذا التكليف إلى أن قال إنّ الإذن (الشرعي) في كلا المشتبهين ينافي المنع عن عنوان مردد بينهما ويوجب الحكم بعدم حرمة الخمر المعلوم اجمالا في متن الواقع وهو ممّا يشهد الاتفاق والنصّ على خلافه حتّى نفس هذه الأخبار (أخبار الإباحة) حيث إنّ مؤداها ثبوت الحرمة الواقعية للأمر المشتبه (١).

ويمكن الجواب عنه بأنّ معنى الترخيص ليس هو عدم الحكم في متن الواقع حتّى يكون الاتفاق والنصّ على خلافه بل معناه هو جعل العذر بالنسبة إليه كجعل العذر بالنسبة إليه في موارد الشبهات البدوية والأحكام الظاهرية ومن المعلوم أنّ ذلك لا يوجب عدم الحكم في متن الواقع في موارد الشبهات البدوية والأحكام الظاهرية لاشتراك العالم والجاهل في الأحكام الواقعية فكما أنّ جعل العذر في موارد الشبهات البدوية والأحكام الظاهرية لا ينافي وجود الأحكام في متن الواقع فكذلك جعل العذر في أطراف المعلوم بالإجمال بسبب

__________________

(١) فرائد الاصول / ص ٢٤١.

٥٨

الجهل لا ينافي وجود الحكم في متن الواقع.

ودعوى : أنّ الحكم الظاهري لا يقدح مخالفته للحكم الواقعي في نظر الحاكم مع جهل المحكوم بالمخالفة لرجوع ذلك إلى معذورية المحكوم الجاهل كما في أصالة البراءة. وأمّا مع علم المحكوم بالمخالفة فيقبح من الجاعل جعل كلا الحكمين لأنّ العلم بالتحريم يقتضي وجوب الامتثال بالاجتناب عن ذلك المحرم فإذن الشارع في فعله ينافي حكم العقل بوجوب الإطاعة.

مندفعة : بأنّ القبح والمنافاة المذكورة ثابت فيما إذا كان العلم الإجمالي علة تامة كالعلم التفصيلي وأمّا إذا كان العلم الإجمالي مقتضيا كما قويناه في محلّه فلا يلزم من الترخيص الشرعي وجعل العذر قبيح ولا منافاة لأنّ حكم العقل بوجوب الاطاعة حكم تعليقي ومنوط بما إذا لم يرخص الشارع في حكمه من باب التسهيل وعليه فبعد العلم بالترخيص الشرعي وجعل العذر فلا حكم للعقل بالقبح ولا بالعقوبة على الحكم الواقعي ولا يلزم منه ترخيص في المعصية وذلك لشوب العلم الإجمالي بالشك فإنّه يوجب امكان جعل العذر في اطرافه وعليه فلا يقاس بالعلم التفصيلي فلا تغفل.

لا يقال : إنّه لا فرق بين العلم الإجمالي والتفصيلي في المنجزية لأنّ الإجمال إنّما هو في الخصوصيات ولا دخل لها فيما يدخل في العهدة وتشتغل به الذمة بحكم العقل إذ ما هو موضوع لذلك إنّما هو العلم بالأمر أو النهي الصادرين عن المولى وأمّا خصوصية كونه متعلقا بالجمعة أو الظهر فلا دخل لها في المنجزية وإلّا كان وجوب صلاة الجمعة مثلا منجّزا على المكلّف لكونه وجوبا لصلاة الجمعة بالخصوص وهو واضح البطلان فالحاصل المنجز هو أصل الالزام وهو معلوم تفصيلا ولا اجمال فيه فلا قصور في منجزية العلم الإجمالي لما تعلّق به من التكليف وأنّه بنظر العقل بالإضافة إلى ما تعلّق به كالعلم التفصيلي.

لأنّا نقول : إنّ العلم بالالزام حاصل بسبب العلم باحد النوعين وموقوف على عدم الترخيص الشرعي بالنسبة إلى النوعين وعليه فمع جريان البراءة في النوعين للشك فيهما

٥٩

لا يبقى علم بأصل الالزام هذا مضافا إلى أنّ حكم العقل بالتنجيز في العلم الإجمالي معلق على عدم ورود الترخيص ومعه لا حكم للعقل قال الشهيد الصدر قدس‌سره إنّ عدم الفرق بين العلمين في المنجزية بمقدار أصل الالزام الذي تعلّق به وكون المنجز إنّما هو الالزام المولوي صحيح.

إلّا أنّ حكم العقل بالمنجزية هذا معلق في نفسه على عدم ورود ترخيص من الشارع سواء في مورد العلم التفصيلي أو الإجمالي غاية الأمر المعلق عليه وهو عدم الترخيص الشرعي في موارد العلم التفصيلي ضروري الثبوت لاستحالة الترخيص فيه إذ لو كان نفسيا لزم التضاد وإن كان طريقيا وبملاك التزاحم الحفظي فهو غير معقول لعدم التزاحم وعدم الالتباس بحسب نظر العالم تفصيلا وهذا بخلاف العلم الإجمالي الذي يكون الالتباس والتزاحم الحفظي بين ملاكات الأحكام الواقعية الترخيصية والإلزامية حاصلا فيه (١).

ولا يخفي عليك أنّ جعل العلم التفصيلي مساويا للعلم الإجمالي في التعليق كما ترى لما مرّ من أنّه علة تامة والأولى في الجواب هو أن يقال إنّ العلم بالإلزام لا يحصل إلّا بسبب العلم بأحد النوعين وعليه فيكون العلم التفصيلي المذكور في طول العلم بأحد النوعين ومتفرعا عليه ومعلق على عدم جريان البراءة في النوعين فإذا جرت البراءة في النوعين لكونهما مشكوكين فلا يبقى العلم التفصيلي بالإلزام كما لا يخفى وكيف كان فتحصّل أنّ العلم الإجمالي لا يمنع عن ورود الترخيص بالنسبة إلى المخالفة القطعية فضلا عن المخالفة الاحتمالية نعم لو لم يرد في المعلوم بالإجمال ترخيص فالعقل يحكم بمنجزية العلم الإجمالي كما في التفصيلي فتدبّر جيدا. هذا كلّه بالنسبة إلى مقام الثبوت وسيأتي إن شاء الله تعالى البحث في مقام الإثبات.

الجهة الثانية : في إمكان جواز الترخيص في بعض الأطراف

ولا يخفى أنه على فرض تسليم عدم إمكان الترخيص بالنسبة إلى جميع الأطراف

__________________

(١) مباحث الحج / ج ٢ ، ص ١٧٩.

٦٠