عمدة الأصول - ج ٦

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٦

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: ولي عصر (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٣

المتبادر من قول القائل «لا ضرب ولا مضاربة في داري» إرادة ضرب بعض بعضا لا مطلق الضرب وعلى أيّ حال فالقول بشمول الحديث للاضرار بالنفس لازمه حرمة الوضوء الضرري أو الحج الضرري ونحو ذلك (وهو) في غاية الاشكال ولذا ترى كثيرا من الفقهاء بل كلهم يحكمون بلزوم البيع الضرري مع علم المكلف به مستدلا بأنّه اقدم على الضرر على نفسه ولو لا انصراف حديث لا ضرر عن مثل هذا الاضرار لما كان لحكمهم بذلك وجه ولا فرق في ذلك بين ان يكون الحديث محمولا على النهي أو على الضرر المجرد عن التدارك أو على الحكم الذي ينشأ منه الضرر كما قواه وقد تلخص من جميع ما ذكر أنّه كما لا يشمل الحديث الضرر المقدم عليه في البيع الغبني ونحوه كذلك لا يشمل الاضرار بالنفس لأنّه في المعنى راجع إلى الضرر المقدم عليه فالحكم بحرمة الوضوء الضرري أو الحج ونحو ذلك الذي لازمه فساده ممّا لا يخلو عن اشكال بل الحكم بالصحة ممّا لا يخلو عن وجه. (١)

حاصله أنّ حديث نفي الضرر لا يشمل الاضرار بالنفس للاقدام ولا فرق في ذلك بين أن يكون المراد من حديث النفي هو النهي أو نفي الضرر المجرد عن التدارك أو الحكم الضرري وعليه فالوضوء أو الغسل الضرري لا يكون مشمولا لحديث لا ضرر حتى يقال بأنّ حرمته توجب الفساد.

ولقائل أن يقول أوّلا : لا وجه لتنظير قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا ضرر ولا ضرار بما دل على وجوب اطعام الناس على اولياء الاوقاف في عدم شموله للنفس لأنّ في المثال المذكور يمنع عن الشمول ذكر من يجب اطعامه وهو الناس وهو في قوة أن يقال يجب على الأولياء اطعام الغير ومن المعلوم أنّه لا يشمل الأولياء بخلاف لا ضرر ولا ضرار فإنّ عدم ذكر من يرد عليه الضرر فيه يكفي للتعميم في مثل لا ضرر ولا ضرار وفي مثل لا ضرب ولا مضاربة في داري من دون فرق بينهما وليس المقصود حمل لا ضرر ولا ضرب على خصوص ضرر النفس وضربه حتى يقال إنّه حمل المطلق على الفرد النادر بل المقصود أنّه من أفراده فلا

__________________

(١) المحاضرات لسيدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره / ج ٢ ، ص ٥٣١ ـ ٥٣٢.

٤٤١

يختص باضرار الغير وضربه ولا فرق فيما ذكر بين الضرر والضرار فإنّ حذف المتعلق فيهما يوجب التعميم بالنسبة إلى النفس وإلى الغير وعلى فرض تسليم اختصاص (لا ضرار) بالاضرار بالغير لا وجه لحمل (لا ضرر) عليه مع أنّ حذف المتعلق فيه يدلّ على التعميم.

وثانيا : إنّ مجرد الاقدام لا يؤثر في عدم شمول حديث نفي الضرر ألا ترى أنّه إذا أقدم من دون الدواعي العقلائية على الضرر المالي أو البدني ونحوهما فلا وجه في هذه الصورة لدعوى الانصراف مع أنّه أقدم على الضرر بل شمول لا ضرر يدلّ على ممنوعية الاقدام المذكور وهذا الشمول موافق للامتنان فالمعيار في شمول لا ضرر أنّه موافق للامتنان أو غير موافق فإن كان موافقا للامتنان فلا يضره الاقدام وإلّا فلا وجه للشمول فالقول بعدم الشمول بمجرد الاقدام ممنوع.

وثالثا : إنّه لا ملازمة بين الانصراف في صورة الاقدام العقلائي على المعاملات والانصراف عن مطلق موارد الاقدام العقلائي على غيرها لامكان الفرق بينهما في صدق الامتنان وعدمه والمنافي للامتنان فيما إذا أقدم على نفس الأمر الضرري أو معلوله لا على المستلزم للضرر أو علته ولقد أفاد وأجاد الشهيد الصدر قدس‌سره حيث قال لا اشكال أنّ عنوان عدم الاقدام لم يرد في لسان القاعدة ليستظهر الاطلاق وإنّما مأخذ ذلك كما اشرنا سياق الامتنان ومناسبات الحكم والموضوع الذي يقتضي في مورد وجود غرض عقلائي للمكلف في الاقدام على الضرر عدم انتفاء الحكم لأنّه خلاف غرض المكلف فلا يكون نفيه منة عليه ولو بحسب النظر العرفي (ولو فرض أنّ مصلحته الواقعية على خلاف غرضه) نعم لو كان ذلك الغرض سفهيا فلا باس باطلاق القاعدة لثبوت الامتنان في رفع الحكم عندئذ وهذا واضح.

إنّما الحديث في أنّه إذا تعلق غرض عقلائي بحكم ضرري فأقدم عليه المكلف فهل يكون نفيه على خلاف الامتنان مطلقا أم هناك تفصيل؟

الصحيح هو التفصيل بين ما إذا كان ذلك الغرض هو نفس الأمر الضرري أو معلولا له

٤٤٢

بحيث ينتفي بنفي الحكم الضرري وما إذا كان الغرض في أمر يكون مستلزما للضرر أو علّة له فالأوّل هو الحاصل في الاقدام على المعاملة الغبنية فإنّ غرض المشتري المغبون في نفس المعاملة وتملك المبيع تملكا مطلقا لازما رغم الغبن فيه فهو يقدم على الحكم الضرري ابتداء لأنّ غرضه في ذلك وهنا لا اشكال في عدم المنّة في رفع الحكم بصحة المعاملة ولزومها إلى أن قال وامّا الثاني فهو المحقّق في باب الاجناب عمدا فإنّ غرض المكلف ليس في الاقدام على الغسل ولا فيما يتوقف على الغسل بل الأمر بالعكس فإنّه يريد الاجناب الذي هو علّة قهرية لوجوب الغسل ومن امنياته أن لا يكون هذا الاجناب علّة لوجوب الغسل فيتوصل إلى مقصوده من دون التبعة المتفرعة عليه وفي هذا النوع من الاقدام على الضرر لا يكون نفي الحكم الضرري على خلاف الامتنان بل على طبق الامتنان فلا مانع من اطلاق الحديث لنفي مثل هذا الحكم الضرري وبهذا يندفع التهافت بين موقف الفقهاء في مسألة الاقدام على المعاملة الغبنية والاقدام على الجنابة مع ضررية الغسل. (١)

وعليه فيختلف صدق الامتنان بحسب الموارد وليس مجرد الاقدام مانعا عن شمول حديث نفي الضرر بل العبرة في الشمول وعدمه هو صدق الامتنان وعدمه والاقدام على نفس الضرر أو مستلزم له ففيما أقدم على نفس الضرر فلا مجال لقاعدة لا ضرر هذا بخلاف ما إذا أقدم على شيء مستلزم للضرر فلا مانع حينئذ من جريان قاعدة لا ضرر وممّا ذكرنا ينقدح أنّ حديث لا ضرر يشمل الوضوء الضرري أو الحج الضرري ولا يكون ذلك منافيا للامتنان وذلك لأنّ المتوضي أو الحاج لا يقدم على نفس الضرر بل يقدم على العبادة التي تكون مستلزمة للضرر وعليه فالوضوء أو الحج بما هو مستلزم للضرر حرام وبما هو معنون للعبادة مطلوب وحيث قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي كان مقتضى القاعدة هو صحة العبادة لو لم يدل على بطلانها دليل خاص فالقول بحرمة الوضوء أو الحج للضرر لا يستلزم الفساد بل يمكن اجتماع الحرمة مع الصحة بناء على جواز اجتماع الأمر والنهي كما لا يخفى.

__________________

(١) بحوث في علم الاصول / ج ٥ ، ص ٥٠٠.

٤٤٣

ولا يصلح قوله عليه‌السلام إنّ الله تعالى لا يعبد من حيث يعصى للدلالة على الفساد لأنّه محمول على أنّه تعالى لا يعبد من حيثية العصيان بل يعبد من حيثية العبادة وعليه فهو مؤيد لما ذكرناه هذا مضافا إلى ضعف الرواية من ناحية الارسال.

ودعوى : أنّ الفقرة الاولى أعني لا ضرر لا تدلّ على حرمة الاضرار بالغير فضلا عن الاضرار بالنفس بل هي ناظرة إلى نفي الأحكام الضررية في عالم التشريع والفقرة الثانية منها أعني لا ضرار تدلّ على حرمة الاضرار بالغير بالأولوية ولا يدلّ على حرمة الاضرار بالنفس بوجه. (١)

مندفعة : بأنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا ضرر يدلّ على نفي الضرر مطلقا من ناحية الأحكام ومن المعلوم أنّ تجويز ضرر النفس على النفس ضرر كما أنّ تجويز ذلك بالنسبة إلى الغير ضرر ومقتضى اطلاق نفي الضرر بأسبابه هو نفي التجويز المذكور أيضا ومع نفي التجويز يكون الضرر على النفس حراما فلا وجه لنفي دلالة لا ضرر على الحرمة فلا تغفل.

لا يقال إنّ لا ضرر ولا ضرار لا يشمل الضرر المالي بالنسبة إلى النفس وإلّا لزم جواز دخول سمرة في الحائط بلا استيذان لأنّ لزوم الاستيذان عن الانصاري على سمرة للاستطراق إلى نخلته حكم ضرري.

لأنّا نقول : إنّ الاستيذان مع تعقبه بالإذن ليس ضررا ماليا وعلى تسليم كون الاستيذان ضرريا فعدم شمول الحديث له في المورد من جهة تزاحمه مع ضرر الأنصاري وهو ضرر العرض وعليه فلا يكون شاهدا على عدم شمول لا ضرر للضرر المالي الوارد على النفس فلا تغفل.

فتحصّل : أنّ الملاك في شمول حديث لا ضرر وعدمه هو صدق الامتنان وعدمه لا الاقدام وعدمه وعليه فكل مورد أقدم على نفس الضرر كالمعاملات الغبنية بداع من الدواعي العقلائية فلا تجري فيه قاعدة لا ضرر إذ لا امتنان في شمول قاعدة لا ضرر بالنسبة

__________________

(١) مصباح الاصول / ج ٢ ، ص ٥٤٩.

٤٤٤

إليه وكل مورد اقدم فيه على المستلزم للضرر لا نفس الضرر كالاجناب المستلزم لوجوب الغسل الضرري تجري فيه القاعدة لأنّ شمول حديث لا ضرر بالنسبة إلى وجوب الغسل الضرري يكون امتنانا على المجنب كما لا يخفى.

وهكذا كل مورد أقدم على نقص البدن بداع من الدواعي العقلائية كحفظ حياته أو حيوة أقربائه أو الآخرين من المؤمنين لا يكون شمول حديث لا ضرر امتنانا وعليه فلا يكون ذلك محرما وعليه فيجوز اعطاء عضو لمن يكون في معرض الموت نعم لو أقدم من دون داع من الدواعي العقلائية كان شمول حديث نفي الضرر امتنانا فتدبّر جيّدا.

وينقدح ممّا ذكرنا أنّه لا وجه لانكار دلالة لا ضرر على حرمة اضرار النفس على النفس بدعوى عدم الفرق في ذلك بين أن يكون لا ضرر محمولا على النهي أو على الضرر المجرد عن التدارك أو على الحكم الذي ينشأ منه الضرر كما ذهب إليه سيّدنا الاستاذ لما عرفت من دلالته على الحرمة فيما إذا كان المراد هو الحكم الذي ينشأ منه الضرر وكان الشمول امتنانيا ولا يلزم منه الفساد بناء على جواز اجتماع الأمر والنهي فلا تغفل.

والقول بأنّ حديث لا ضرر بحسب المراد التفهيمي منه على المختار لا يشمل جملة من الاضرار فإنّ المراد التفهيمي له هو نفي الزام المكلف بتحمل الضرر وعليه فلا ينفى الحكم الشرعي فيما لو أقدم المكلف بنفسه على تحمل الضرر كما إذا اشترى شيئا مع اسقاط جميع الخيارات أو كان عالما بالغبن أو العيب أو صالح صلحا محاباتيا أو ألزم نفسه شيئا بالنذر والعهد واليمين ففي مثل ذلك لا يعدّ امضاء الشارع لما انشأه المكلف تسبيبا من قبله ليتحمل المكلف للضرر وإنّما الشخص هو الذي حمل نفسه الضرر ابتداء والشارع إنّما أقرّه على ذلك. (١)

محل تأمل ونظر إذ لا دليل على تخصيص النفي في حديث لا ضرر بنفي إلزام المكلف بل يعم مطلق الضرر ولو كان ناشئا من التجويزات ومقتضى هذا العموم هو عدم جواز ايراد

__________________

(١) قاعدة لا ضرر للسيد المحقّق السيستاني (مد ظله العالي) / ص ٢٢٧.

٤٤٥

الضرر على النفس مطلقا سواء كان من الالزامات أو التجويزات عدى ما يكون المنع عنه منافيا للامتنان لما عرفت من أنّ حديث نفي الضرر يكون بمناسبة الحكم والموضوع للامتنان سواء كان الاضرار للغير أو للنفس والوجه في عدم شمول لا ضرر للموارد المذكورة هو اختصاصه بموارد الامتنان.

وإن أبيت اختصاصه بموارد الامتنان وقلت باطلاق حديث نفي الضرر فلا بد من سقوط حديث نفي الضرر بسبب تزاحمه مع المصلحة الملزمة في الموارد المذكورة وأشباهها فلو ترتب على الاضرار بالنفس بقاء النفس كما في قطع بعض الأعضاء والجوارح قدم البقاء على عدم القطع وجاز ايراد الضرر على النفس وهكذا لو دار الأمر بين قطع بعض الاعضاء وحفظ حياة بعض الاولاد أو الاقرباء أو الاحباء أو المؤمنين قدّم حفظ حياتهم على النقص فيجوز ايراد الضرر على النفس للتزاحم واهمية حفظ الحياة.

فتحصّل : ممّا ذكرناه عدم جواز ايراد الضرر على النفس مطلقا كعدم جوازه على الغير إلّا إذا كان شمول حديث نفي الضرر منافيا للامتنان بناء على اختصاص الحديث بموارد الامتنان بمناسبة الحكم والموضوع كما هو الظاهر أو إلّا إذا تزاحم مفسدة الاضرار مع المصلحة الملزمة واهمية المصلحة بناء على عدم اختصاص الحديث بموارد الامتنان وعليه فيجوز ايراد الضرر حينئذ للتزاحم واهمية المزاحم فلا تغفل.

ثمّ إنّه لو سلّمنا عدم تمامية دلالة حديث لا ضرر على حرمة الإضرار بالنفس فقد استدل لها بوجوه اخرى.

منها قوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)(١)

وفيه أنّه لا يدلّ إلّا على صورة كون الضرر موجبا للهلاكة أو ما يدانيها وأمّا غيرها ممّا يصدق عليه الضرر فلا دلالة لها عليها إذ الهلاكة أخص من عنوان الضرر.

ومنها : ما رواه الكليني رحمه‌الله في الكافي بسند مرسل أو مجهول عن أبي عبد الله عليه‌السلام ورواه

__________________

(١) البقرة / ١٩٥.

٤٤٦

الصدوق في الفقيه بسند مجهول وفي العلل بسند مرسل أو بسند مجهول عن أبي جعفر وعن أبي عبد الله عليهما‌السلام ورواه البرقي في المحاسن بسند مجهول وبسند مرسل عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث طويل من قوله عليه‌السلام إنّ الله تعالى لم يحرم ذلك على عباده وأحل لهم ما سواه من رغبة منه فيما حرم عليهم ولا زهدا فيما أحل لهم ولكنه عزوجل خلق الخلق وعلم ما تقوم به أبدانهم وما يصلحهم فأحلّه لهم وأباحه تفضلا عليهم به تبارك وتعالى لمصلحتهم وعلم عزوجل ما يضرّهم فنهاهم عنه وحرّمه عليهم إلى أن قال عليه‌السلام أمّا الميتة فإنّه لا يدمنها أحد إلّا ضعف بدنه ونحل جسمه وذهبت قوته وانقطع نسله الحديث. (١)

بدعوى أنّ الظاهر منها أنّ علّة حرمة المحرمات هي اضرارها بالنفس فالحرمة تدور مدار الاضرار بالنفس أورد عليه بأنّ التامل فيها يشهد بعدم دلالتها على حرمة الاضرار بالنفس فإنّ المستفاد منها أنّ الحكمة في تحريم جملة من الأشياء كونها مضرّة بنوعها لا أنّ الضرر موضوع للتحريم والذي يدلنا على هذا أمور :

الأوّل : أنّ الضرر لو كان علّة للتحريم يستفاد عدم حرمة الميتة من نفس هذه الرواية لأنّ المذكور فيها ترتب الضرر على إدمانها فلزم عدم حرمة الميتة من غير الادمان لأنّ العلة المنصوصة كما توجب توسعة الحكم توجب تضييقه أيضا هذا مع قطع النظر عن النص الخاص الدال على حرمة غير الادمان.

الثاني : أنّه لو كان الضرر علّة للتحريم كانت الحرمة دائرة مدار الضرر فإذا انتفى الضرر في مورد انتفت الحرمة ولازم ذلك أن لا يحرم قليل من الميتة مثلا بمقدار نقطع بعدم ترتب الضرر عليه مع أنّ ذلك خلاف الضرورة من الدين.

الثالث : أنّا نقطع بعدم كون الميتة لجميع أقسامها مضرة للبدن فإذا ذبح حيوان إلى غير جهة القبلة فهل يحتمل أن يكون أكله مضرا بالبدن مع التعمد في ذبحه إلى غير جهة القبلة وغير مضرّ مع عدم التعمد في ذلك أو يحتمل أن يكون مضرّا في حال التمكن من الاستقبال

__________________

(١) المحاسن / ج ٢ ، ص ٣٣٤ ـ ٣٣٥ ، الوسائل / الباب ١ من ابواب الاطعمة والاشربة ، ح ١.

٤٤٧

وغير مضرّ في حال العجز عنه.

الرابع : ما ورد في الروايات من ترتب الضرر على أكل جملة من الأشياء كتناول الجبن في النهار وإدمان أكل السمك وأكل التفاح الحامض إلى غير ذلك ممّا ورد في الأطعمة والأشربة فراجع أبواب الأطعمة والأشربة من الوسائل مع أنّه لا خلاف ولا اشكال في جواز أكلها. (١)

ونحوه في دروس مسائل علم الاصول حيث قال إنّ الاضرار بالنفس في مثل هذه الروايات يؤخذ حكمة للتحريم كتحريم الميتة والدم وغير ذلك كما يجعل حكمة في النهي التنزيهي في بعض الماكولات ومن الظاهر أنّ لحاظ الاضرار حكمة في بعض الأحكام غير كونه موضوعا للحكم بالحرمة وعلّة لها وما ينفع في التعدي أو التمسك به هو الثاني لا الأوّل. (٢)

ولا يخفى عليك أوّلا : أنّ الاضرار بالنفس إذا كان حكمة لحرمة أشياء كالميتة ونحوها كما دلّ عليه قوله عليه‌السلام : «وعلم ما يضرهم فنهاهم عنه وحرّمه عليهم» كان نفس الاضرار بالنفس محرما بالضرورة وإلّا فالأمر الجائز وهو الاضرار بالنفس كيف يصير حكمة لتحريم أشياء أخرى كالميتة والدم ونحوهما.

فالمستفاد من هذه الرواية أمران أحدهما هو حرمة الاضرار بالنفس وثانيهما حرمة الأشياء المحرمة من جهة كونها مؤدية إلى الاضرار بالنفس غالبا فالاضرار بالنفس حكمة لحرمة تلك الأشياء وعليه فلا يرد أنّ الضرر لو كان علّة للتحريم كانت الحرمة دائرة مدار الضرر لأنّ الضرر حكمة بالنسبة إلى حرمة تلك الأشياء كالميتة لا علّة ومقتضى كونه حكمة هو حرمة الميتة مطلقا ولو لم تكن ضرريا فلا تغفل ومن ذلك يظهر عدم ورود الاشكالات الثلاثة لأنّها متفرعة على كون الضرر علّة لتحريم الأشياء المحرمة لا الحكمة لها.

__________________

(١) مصباح الاصول / ج ٢ ، ص ٥٤٩ ـ ٥٥٠.

(٢) دروس مسائل علم الاصول / ج ٣ ، ص ٥٠٥ ـ ٥٠٦.

٤٤٨

وثانيا : أنّ قوله عليه‌السلام : «وعلم ما يضرهم فنهاهم عنه» بمنزلة الكبرى ومقتضى الجمع بينها وبين كل مورد دل الدليل على كون أكله أو شربه أو خصوص ادمانهما يوجب الضرر هو الحكم بحرمة الاكل أو الشرب أو ادمانهما ودعوى أنّ الحرمة لا تساعد المعروف من القول بالكراهة مندفعة بأنّ تلك المسائل ليست من المسائل الاصلية وعليه فلا اعتبار بالاجماع فيها كما قرر في محله.

وثالثا : أنّ حرمة الاضرار بالنفس ثابتة فيما إذا كان الضرر معتدا به وعليه فلا ينافيه ما ورد من ترتب الضرر على أقل جملة من الأشياء كتناول الجبن أو ادمان أكل السمك وأكل التفاح الحامض وغيرهما لأنّ الضرر الحاصل منها ليس معتدا به عرفا نعم يصلح للكراهة.

ورابعا : أنّ من الممكن أن يكون المراد من ترتب الضرر في مثل تناول الجبن أو إدمان أكل السمك ونحوهما كون هذه الأشياء مظانا للضرر وعليه فمع عدم ثبوت الضرر يرجح الاجتناب عنها وليس بواجب كترجيح الاجتناب عن الشبهات مع لزوم الاجتناب عن الهلكات المعلومة فتأمّل.

وعليه فالعمدة في الاشكال على هذه الروايات أنّها ضعيفة السند وإن نقلت في جوامع الحديث فتدبّر جيّدا.

ومنها : ما ورد في حرمة أكل الطين وهي الأخبار المستفيضة مثل ما رواه في الكافي عن عدة من اصحابنا عن احمد بن محمّد عن الحسن بن علي عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إنّ الله عزوجل خلق آدم من طين فحرم أكل الطين على ذريته (١) وهي صحيحة.

ومثل موثقة السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من أكل الطين فمات فقد اعان على نفسه. (٢)

__________________

(١) الوسائل / الباب ٥٨ من ابواب الاطعمة والاشربة ، ح ٥.

(٢) الوسائل / الباب ٥٨ من ابواب الاطعمة والاشربة ، ح ٧.

٤٤٩

ومثل ما رواه عن عدة من أصحابنا عن سهل عن ابن فضال عن ابن القداح عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قيل لأمير المؤمنين عليه‌السلام في رجل ياكل الطين فنهاه وقال لا تاكله فإن أكلته ومت كنت قد أعنت على نفسك. (١) أورد عليه بأنّ المستفاد منها ونظائرها أنّ الحكمة في حرمة بعض الأشياء هي كونه مضرا بحسب النوع والحكمة في حلية بعض الأشياء هي كونه ذا منفعة ومصلحة نوعية فلا دلالة لها على كون الحرمة دائرة مدار الضرر هذا مضافا إلى ضعف الروايات. (٢)

يمكن أن يقال : إنّ ضعف الروايات وإن كان صحيحا بالنسبة إلى بعضها ولكن لا يتم بالنسبة إلى بعض آخر كالروايات المذكورة هذا مضافا إلى أنّ جعل الضرر حكمة لحرمة بعض الأشياء يدلّ على مفروغية الحرمة عن نفس الضرر وإلّا فكيف يجعل الأمر الجائز حكمة للتحريم.

نعم تختص موثقة السكوني وموثقة ابن القداح بالضرر المهلك فلا تشملان مطلق الضرر هذا مضافا إلى أنّ صحيحة هشام بن سالم لم تدلّ على أنّ حرمة أكل الطين من جهة حكمة الضرر ولعلّ حرمته من جهة أخرى ومنها : ما رواه الصدوق في العلل وعيون الأخبار بأسانيده عن محمّد بن سنان عن الرضا عليه‌السلام فيما كتب إليه من جواب مسائله في حديث من قوله عليه‌السلام وحرمت الميتة لما فيها من فساد الأبدان والآفة ولمّا أراد الله عزوجل أن يجعل تسميته سببا للتحليل وفرقا بين الحلال والحرام وحرم الله الدم كتحريم الميتة لما فيه من فساد الأبدان وأنّه يورث الماء الاصفر ويبخر الفم وينتن الريح ويسيء الخلق ويورث القسوة للقلب وقلة الرأفة والرحمة حتى لا يؤمن أن يقتل ولده ووالده وصاحبه وحرم الطحال لما فيه من الدم ولأنّ علته وعلّة الدم والميتة واحدة لأنّه يجري مجريها في الفساد. (٣)

__________________

(١) الوسائل / الباب ٥٨ من ابواب الاطعمة والاشربة ، ح ٦.

(٢) مصباح الاصول / ج ٢ ، ص ٥٥١.

(٣) علل الشرائع / ص ٤٨٥ ، باب ٢٣٧ ، ح ٤ ، الوسائل / الباب ١ ، من ابواب كتاب الاطعمة والاشربة ، ح ٣ ، ج ١٦ ، ص ٣٠٩.

٤٥٠

وفيه أنّه مضافا إلى أنّه أخص لأنّ فساد الأبدان غير عنوان مطلق الضرر يكون سند الحديث ضعيفا والسند هكذا حدثنا علي بن احمد رضي الله عنه قال حدثنا محمّد بن أبي عبد الله الكوفي عن محمّد بن إسماعيل البرمكي عن علي بن العباس قال حدثنا القاسم بن الربيع الصحاف عن محمّد بن سنان.

وجه الضعف هو أنّ القاسم بن الربيع الصحاف ضعيف اللهمّ إلّا أن يكتفي بما في التعليقة من أنّ تضعيف العلامة ناش عن تضعيف ابن الغضائري كما في النقد وفي جش في ترجمة مصباح (صباح) ما يشير إلى الاعتماد عليه هذا مضافا إلى أنّ التضعيف من جهة الغلو في المذهب لا يعادل مع الاعتماد عليه. نعم ان علي بن العباس الجراذيني ضعيف وأمّا محمّد بن اسماعيل بن أحمد بن بشير البرمكي كان ثقة مستقيما له كتب محمّد بن جعفر الأسدي روى عنه بها وهكذا كان محمّد بن أبي عبد الله الكوفي ثقة لأنّه محمّد بن جعفر الأسدي وهو كان أحد الأبواب وله كتاب الرد على أهل الاستطاعة اخبرنا به جماعة عن التلعكبري عنه وأمّا علي بن احمد فهو علي بن أحمد بن محمّد أبي جيد وهو من مشايخ الشيخ والنجاشي قدس‌سرهما.

منها ما رواه الشيخ في التهذيب بسند موثق عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قرأت في كتاب لعلي عليه‌السلام أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كتب كتابا بين المهاجرين والانصار ومن لحق بهم من أهل يثرب أنّ كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضا بالمعروف والقسط ما بين المسلمين وأنّه لا يجار حرمة إلّا باذن أهلها وأنّ الجار كالنفس غير مضار ولا آثم وحرمة الجار كحرمة أمّه وأبيه الحديث. (١)

والمراد من الحرمة في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (لا يجار حرمة) هي المرأة ثمّ إنّ المراد من الجار هو من آجرته لا جار الدار بقرينة السياق وإن احتمل أن يكون المراد هو جار الدار ولذا أدرجه في الكافي في البابين باب الأمان وباب جار الدار وكيف ما كان يمكن الاستدلال بقوله وأنّ الجار كالنفس غير مضار ولا آثم على حرمة الاضرار بالنفس بدعوى أنّ المستفاد منه هو

__________________

(١) التهذيب / ج ٦ ، ص ١٤٠.

٤٥١

مفروغية حرمة الاضرار بالنفس بحيث صارت سببا لتنزيل الجار منزلته في حرمة الاضرار.

أورد عليه أوّلا : بأنّ المراد هو تنزيل الجار منزلة النفس في عدم جواز اضرار الغير له والمقصود أنّه كما لا يجوز اضرار الغير للنفس فكذلك لا يجوز اضرار الغير للجار ولعلّ التعبير بقوله غير مضار شاهد على مغايرة من أراد الاضرار للنفس مع النفس فإنّ باب المفاعلة ظاهر في ذلك فحمله على اضرار النفس بالنفس محتاج إلى العناية ولا فرق في ذلك بين كون غير مضار وصفا للنفس أو للجار فلا نظر للخبر إلى الاضرار من النفس إلى النفس.

وثانيا : بأنّه لو سلّمنا أنّ المقصود من التنزيل تنزيل الاضرار بالجار منزلة الاضرار من النفس إلى النفس فلا يدلّ على حرمة الاضرار بالنفس لاحتمال أن يكون المراد كما أنّ الانسان يحترز من الاضرار بالنفس بالطبع فليكن كذلك في حق الجار ومن المعلوم أنّ الاحتراز المذكور حيث كان بالطبع لا بالشرع لا يدلّ على حرمة خلافه فتدبّر جيّدا.

فتحصّل : ممّا ذكرناه عدم تمامية دلالة هذه الاحاديث على تقدير صحتها على اثبات حرمة مطلق الضرر على النفس لاختصاصها بالهلاكة وإفساد البدن أو غير ذلك فالعمدة في حرمة مطلق الاضرار بالنفس هو عموم حديث نفي الضرر بالتقريب الذي قدمناه فاغتنم.

ثمّ لا يخفى عليك ان بناء على شمول لا ضرر ولا ضرار للاضرار بالنفس فالمقصود من الضرر هو الضرر المعتد به عند العقلاء فلا يشمل ما لا يكون كذلك فلو شك في ان الضرر معتد به أو لا فمقتضى الأصل هو الجواز كما لا يخفى.

التنبيه الثاني : في عمومية حديث نفي الضرر بالنسبة إلى الأحكام العدمية كالأحكام الوجودية

قد يقال إن قاعدة لا ضرر لا تشمل الأحكام العدمية لأنّها ناظرة إلى نفي ما ثبت

٤٥٢

بالعمومات من الأحكام الشرعية وعدم حكم الشارع بشيء ليس من الأحكام المجعولة واطلاق الحكم عليها ليس إلّا من باب المسامحة وهذا هو المترائي من كلمات الشيخ قدس‌سره في رسالته المعمولة لقاعدة نفي الضرر وتبعه في ذلك المحقّق النائيني قدس‌سره.

وفيه كما أفاد سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره التحقيق أنّه لا قصور في شمول القاعدة للأحكام العدمية على نحو شمولها للأحكام الوجودية أمّا على المعنى المختار من أنّها اخبار بعدم وجود الضرر بمعناه الحدثي بعناية عالم التشريع وجعل الأحكام فواضح إذ هي على هذا المعنى تسدّ باب الضرر والمضارة بلحاظ تشريع الأحكام التكليفية والوضعية من دون فرق بين أن يكون الضرر ناشئا من الحكم الوجودي أو العدمي.

وأمّا على ما اختاره الشيخ وتبعه غيره من أنّ معناها عدم تشريع أحكام ينشأ منها الضرر فلأنّها ليست ناظرة إلى ما يصدق عليه الحكم كي يناقش في شمولها للأحكام العدمية من جهة أنّ الحكم العدمي ليس بحكم مجعول حقيقة إذ ليس لفظ الحكم في العبارة لينازع في أنّه هل هو صادق على ما ليس بمجعول أو لا وكأنّهم لما ذهبوا في معنى الحديث إلى هذا تخيلوا أنّه حينئذ بمنزلة ما لو قيل لم يشرع في الاسلام حكم ينشأ منه الضرر وحيث رأوا عدم صدق الحكم على العدميات على سبيل الحقيقة أفتوا بعدم شمول الحديث لها وفيه أنّه فرق ظاهر بين ما إذا ذكر لفظ الحكم في العبارة فقيل لا حكم ينشأ منه الضرر وبين ما إذا لم يذكر هذا اللفظ حيث يمكن منع شمول العبارة الأولى بظاهرها للأحكام العدمية من جهة عدم صدق الحكم عليها حقيقة.

بخلاف العبارة الثانية التي ليس فيها ما يصرفها بظاهرها عن تلك الأحكام وإذا يرجع الكلام ويقال معنى هذه العبارة نفي ما ينشأ منه الضرر ممّا يمكن أن يستند إلى الشارع ولا فرق حينئذ بين الأحكام العدمية والوجودية إذ كما يكون الحكم الوجودي مستندا إليه حدوثا وبقاء كذلك يكون الحكم العدمي مستندا إليه لكنّه لا حدوثا بل بلحاظ عالم البقاء مثل استناد عدم الفعل إلى الفاعل بهذا اللحاظ.

٤٥٣

وبالجملة لا أرى قصورا في شمول القاعدة لمورد الكلام كما يساعده الوجدان والاعتبار فإنّ لازم ما ذكروه أن لا يصح الحكم بحرمة الاضرار في الموارد الخالية عن الدليل على جوازه أو حرمته والالتزام به في غاية الاشكال ودعوى أنّ الحكم الظاهري من أصالة الاباحة والجواز مجعول في تلك الموارد بعموم أدلّة الأحكام الظاهرية جارية بعينها بالنسبة إلى الضمان حيث إنّ أصالة عدم تعلقه أو أصالة البراءة منه حكم ظاهري مجعول في مورده بعموم أدلّة الاستصحاب أو البراءة.

إن قلت فما وجه عدم حكمهم بالضمان في الموارد التي لم يقتضيه دليل من قاعدة الاتلاف أو على اليد أو غيرها وهل هو إلّا لعدم شمول قاعدة لا ضرر للأحكام العدمية.

قلت لعلّ وجهه أن الحكم به ضرر على المضرّ كما أنّ عدمه ضرر على المضار فيتعارض الضرران وسيأتي الكلام في تعارض الضررين من أنّ مقتضى القاعدة هل هو تساقط قاعدة لا ضرر في مورده أو شمولها لما كان أولى بالشمول دون غيره فانتظر لتفصيل الكلام. (١)

واستشكل المحقّق النائيني في شمول لا ضرر للعدميات بقوله في محكي كلامه بأنّ دعوى أنّ ما هو الملاك في صحة تعلق النهي بنفس أن لا تفعل من صحة استناد العدم إلى الفاعل بقاء وإن لم يصح حدوثا هو الملاك في صحة استناد عدم جعل الأحكام إلى الجاعل فلا مانع من شمول القاعدة لها واثبات الحكم بها.

مندفعة بأنّ هذا يصح فيما تعلق الجعل بالعدم بأن يجعل عدم الضمان مثلا فما لم يتعلق الجعل به رفعا ووضعا لا يمكن اثبات الجعل فيه بالقاعدة.

يمكن الجواب عنه بما أفاد سيّدنا الاستاذ من أنّ المستفاد من قاعدة لا ضرر هو نفي ما ينشأ منه الضرر ممّا يمكن أن يستند إلى الشارع ولا فرق فيه بين الأحكام العدمية والوجودية ولا يلزم فيه الجعل بل يكفي صحة الاستناد وممّا ذكر ينقدح ضعف ما قاله أيضا

__________________

(١) المحاضرات لسيدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره / ج ٢ ، ص ٥٥٧ ـ ٥٥٩.

٤٥٤

في جواب من استدل للشمول بالاستصحابات العدمية وقال ما يقال في وجه استصحابات العدمية يقال بعينه في المقام من أنّ مرجع الاستصحابات العدمية إلى حكم الشارع بالعدم فلا يقاس عليه ما ليس في مورده حكم أصلا.

وجه الضعف هو ما أشار إليه سيّدنا الاستاذ من أنّه فرق ظاهر بين ما إذا ذكر لفظ الحكم في العبارة فقيل لا حكم ينشأ منه الضرر وبين ما إذا لم يذكر هذا اللفظ حيث يمكن منع شمول العبارة الأولى بظاهرها للأحكام العدمية من جهة عدم صدق الحكم عليها حقيقة بخلاف العبارة الثانية التي ليس فيها ما يصرفها بظاهرها عن تلك الأحكام وإذا يرجع الكلام ويقال معنى هذه العبارة نفي ما ينشأ منه الضرر ممّا يمكن ان يستند إلى الشارع ولا فرق حينئذ بين الأحكام العدمية والوجودية إذ كما يكون الحكم الوجودي مستندا إليه حدوثا وبقاء كذلك يكون الحكم العدمي مستندا إليه لكنه لا حدوثا بل بلحاظ عالم البقاء مثل استناد عدم الفعل إلى الفاعل بهذا اللحاظ. (١)

ويقرب منه ما حكي عن الشهيد الصدر قدس‌سره من أنّا جعلنا النفي منصبّا على الاضرار الخارجية وقد خرج من اطلاقها بمقيّد كالمتصل الضرر غير المرتبط بالشارع والّذي لا يستطيع الشارع بما هو مشرّع رفعه أو وضعه فيبقى ما عداه تحت الاطلاق سواء كان من جهة حكم من الشارع أم عدم حكم كالترخيص من قبله. (٢)

التنبيه الثالث : في إضرار الغير لدفع الضرر المتوجه إلى نفسه وفي دفع الضرر عن الغير بإضرار نفسه

ذهب الشيخ الأعظم قدس‌سره على ما حكي عنه في رسالته المعمولة لقاعدة دفع الضرر إلى أنّ مقتضى هذه القاعدة أن لا يجوز لأحد اضرار انسان لدفع الضرر المتوجه إليه وأنّه لا يجب

__________________

(١) المحاضرات لسيدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره / ج ٢ ، ص ٥٥٨.

(٢) بحوث في علم الاصول / ج ٥ ، ص ٤٩٢.

٤٥٥

على أحد دفع الضرر عن الغير باضرار نفسه لأنّ الجواز في الأوّل والوجوب في الثاني حكمان ضرريان ويترتب على الأوّل ما ذهب إليه المشهور من عدم جواز اسناد الحائط المخوف وقوعه إلى جذع الجار خلافا للشيخ رحمه‌الله مدعيا عدم الخلاف فيه وقد حمل على ما إذا خاف من وقوعه هلاك نفس محترمة إذ يجب حفظ النفس المحترمة غاية الأمر لزوم أجرة المثل للاسناد كأخذ الطعام لسد الرمق ويمكن حمله على ما لم يتضرر أصلا بحيث يكون كالاستظلال بحائط الغير فتأمّل.

ويترتب على الثاني جواز اضرار الغير اكراها أو تقية بمعنى أنّه إذا أمر الظالم باضرار أحد وأوعد على تركه الاضرار بالمأمور إذا تركه جاز للمأمور اضرار الغير ولا يجب تحمل الضرر لدفع الضرر عن الغير ولا يتوهم أنّ هذا من قبيل الأوّل لأنّ المأمور يدفع الضرر عن نفسه باضرار الغير لأنّ المفروض أنّ الضرر يتوجه إلى الغير أولا لأنّ المكره مريد ابتداء تضرر الغير فيأمره وإنّما يضرك لأجل ترك ما أراده أولا وبالذات انتهى كلامه زيد في علو مقامه.

قال سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره قد يتوجه الضرر بجريانه الطبيعي العادي إلى المكلف وأخرى إلى الغير وثالثة إلى الغير أيضا لكن لا بجريانه الطبيعي بل بان يكون المكلف واسطة في ايصاله.

ويقع التكلم في هذه الموارد تارة مع قطع النظر عن قاعدة لا ضرر واخرى مع النظر اليها لا اشكال في أنّ مقتضى القواعد الأوّلية مع قطع النظر عن قاعدة لا ضرر عدم جواز اضرار الغير بدفع الضرر المتوجه إلى نفسه في الفرض الأول لأنّه من اضرار المؤمن الدال على حرمته أخبار كثيرة.

وعدم وجوب دفع الضرر عن الغير في الفرض الثاني لعدم الدليل على وجوب حفظ مال الغير سواء استلزم الضرر على نفسه أو لا وعدم حفظ ماله ودفع الضرر عنه ليس اضرارا عليه كي يدل على حرمته الأدلة الدالة على حرمة اضرار الغير وعدم جواز

٤٥٦

اضراره في الفرض الثالث لأنّ توسطه في ايصال الضرر إلى الغير اضرار المؤمن فيحرم بأدلته وكونه مكرها في ذلك لا يخرجه عن الحرمة لما تبين في محله من أنّ أدلة رفع الاكراه قاصرة عن شمولها لما إذا اكره المكلف على ترك الواجبات أو فعل المحرمات إلّا إذا اوعد على ما علم كونه اهم من مخالفة التكليف في نظر الشارع.

وأمّا مقتضى قاعدة نفي الضرر فهي على ما ذكرناه من المعنى لا تزيد أمرها عن الأدلة الدالة على حرمة اضرار الغير ولا يتغير حكم الفروض المذكورة بها.

والذي اختاره سيدنا الاستاذ كما صرّح به على المحكي عنه هو أن يكون مفاد الحديث اخبارا بنفي الضرر نفسه وحيث يتعذر حمل ذلك الاخبار على حقيقته لاستلزامه الكذب يكون لا محالة ادعاء ومصحح الادعاء تشريع الأحكام وجعلها بحيث لا يجوز لأحد اضرار الغير ولا يجب عليه تحمل الضرر عنه ويجب على من أضر تدارك الضرر ونحو ذلك. (١)

وأمّا على ما اختاره العلامة الانصاري والمحقق النائيني فيشكل الأمر من جهة أنّ جواز اضرار الغير بدفع الضرر عن نفسه ضرر على الغير وعدم جوازه ضرر على نفسه ووجوب دفع الضرر عن الغير ضرر على نفسه وعدم وجوبه ضرر على الغير فيتعارض الضرران ويتساقطان ويرجع إلى مقتضى القواعد الأولية إلّا أن يكون أحدهما أولى بالشمول من الآخر فتدبّر واغتنم. (٢)

ولا يخفى عليك أنّ ظاهر كلامه الشريف أنّ أدلة رفع الاكراه قاصرة عن شمولها لما إذا أكره على ترك الواجبات أو فعل المحرمات إلّا إذا اوعد على ما علم كونه أهم من مخالفة التكليف في نظر الشارع.

وفيه نظر لحكومة حديث رفع الاكراه على الأدلة الأولية وما بمعناها عدى ما علم أن

__________________

(١) المحاضرات لسيدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره / ج ٢ ، ص ٥٣٠.

(٢) المحاضرات لسيدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره / ج ٢ ، ص ٥٦١ ـ ٥٦٢.

٤٥٧

بلغ من الأهمية إلى ما لا يرضى الشارع بتركه أو فعله ولو بلغ ما بلغ ايعاد المكره بالكسر فدعوى عدم شموله لفعل المحرمات أو ترك الواجبات ممنوعة ألا ترى قوله تعالى : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ)(١)

وإليه يؤول ما أفاده سيدنا الامام المجاهد قدس‌سره على ما حكي عنه من أنّ الظاهر حكومة حديث رفع الاكراه على دليل نفي الضرر بأي معنى فسر سواء كان نهيا شرعيا أو نهيا سلطانيا فان حديث رفع ما استكرهوا حاكم على الرواية إلى أن قال نعم القول بحكومة حديث رفع الاكراه على أدلة الأحكام على اطلاقها غير صحيح.

ولا يمكن الجمود على اطلاق الحديث والعمل به وإن تحقق الاكراه كما إذا اوعده واكرهه على هدم الكعبة واحراق القرآن وابطاله بحيث يقع الناس معه في الضلالة أو أمره بمعاصي الموبقة المهلكة ولا أظن التزامهم بحكومة الحديث على ما دل على حرمة تلك الأفعال وإن أوعده المكره بما أوعد به في طلاق امرأته أو عتق عبده لتحقق الاكراه وصار الطلاق والعتق باطلين كما لو أوعده بالشتم والضرب ونهب مال يسير فإنّ الايعاد بها يدخل الطلاق والعتاق لأجله تحت حديث الرفع ويحكم الطلاق وعديله بالبطلان إلّا أنّ ذلك الايعاد لا يمكن أن يكون ملاكا للاتيان بالمحارم الموبقة والعزائم المذكورة بل لا يجوز في بعض الصور وإن أوعده بالقتل وإن ورد التقية في كل شيء إلّا الدماء.

وبذلك يتضح أنّه لو أمره الوالي بهدم بيوت الناس وضربهم وسبي نسائهم ونهب أموالهم وأوعده بما يتحقق معه أول مرتبة من الاكراه من الشتم ونحوه لا يجوز له ذلك وإن اطلاق قوله كل ما اضطر إليه ابن آدم فقد أحلّه الله منصرف عنه وعلى ذلك فالأولى التفصيل بين الوضع والتكليف وأنّ حديث الرفع حاكم على الأحكام الوضعية في عامة مراتب الإكراه

__________________

(١) سورة النحل / الآية ١٠٦.

٤٥٨

وأمّا التكليفية فالحق التفصيل بين مهماتها وغيرها. (١)

التنبيه الرابع : في حكومة دليل لا ضرر على الأدلة المثبتة للتكاليف

لا إشكال في أنّ دليل لا ضرر حاكم على الأدلة المثبتة للتكاليف بناء على ما عرفت من أنّ معناه هو نفي طبيعة الضرر في حومة الشرع فإنّه يدلّ بدلالة الاقتضاء على عدم جعل أسبابه وهو الحكم الضرري وعليه فهو ناظر إلى الأحكام الضررية ويدل على عدم ارادة الضررية منها وبعد ورود الدليل على بيان المراد من الأحكام من ناحية اطلاقها أو عمومها وعدمهما فلا مجال للأخذ بأصالة الجدّ والارادة عند الشك في أنّ الاطلاق أو العموم مراد أو لا.

ولقد أفاد وأجاد السيّد المحقق الخوئي قدس‌سره حيث قال وأمّا إن كان الدليل الحاكم ناظرا إلى جهة الصدور في الدليل المحكوم أو إلى عقد الحمل فيه فالوجه في تقديمه عليه أنّ حجية الظهور وحجية جهة الصدور ثابتتان بسيرة العقلاء فإنّ بناء العقلاء قد استقر على كون الظاهر هو المراد الجدّي وكون الداعي إلى التكلم هو بيان الحكم الواقعي ومورد هذا البناء وموضوعه هو الشك في المراد والشك في جهة الصدور وبعد ورود الدليل الدال على بيان المراد وجهة الصدور لا يبقى شك حتى يعمل بالظهور أو جهة الصدور فيكون الدليل الحاكم مبيّنا للمراد من الدليل المحكوم ومبيّنا لجهة صدوره وبه يرتفع الشك ولم يبق مورد للعمل بأصالة الظهور أو بأصالة الجهة وهذا هو السر في تقديم الحاكم على المحكوم من دون ملاحظة النسبة والترجيح بينهما بعد احراز حجية الحاكم. (٢)

وأمّا بناء على كون معنى لا ضرر هو تحريم الاضرار فقد يتوهم أنّه لا وجه للحكومة حينئذ لعدم نظر لحديث لا ضرر إلى سائر الأحكام على هذا المعنى ولكن يدفعه ما أفاده

__________________

(١) تهذيب الأصول / ج ٢ ، ص ٤٩٩.

(٢) مصباح الأصول / ج ٢ ، ص ٥٤٢ ـ ٥٤٣.

٤٥٩

سيّدنا الاستاذ المحقق الداماد قدس‌سره حيث قال لا فرق في حكومة دليل لا ضرر على الأدلة الأولية بين أن يكون مفاده تحريم الاضرار وبين غيره من الوجوه المتقدمة قبل أمّا على الثاني فواضح وأمّا على الأول فلأنّه وإن كان مدلوله المطابقي تحريم الضرر بلسان الخبر المراد منه الانشاء والطلب إلّا أنّ مدلوله المطابقي تحريم الضرر بلسان الخبر المراد منه الانشاء والطلب إلّا أنّ مدلوله الالتزامي عدم جعل حكم جواز الاضرار وبهذا المدلول الالتزامي يحكم على ما دلّ باطلاقه أو عمومه على جواز الاضرار وهذا النحو من الحكومة يعبّر عنها بحكومة السياقية ومثلها حكومة الأمارات على الاصول لأنّ مفاد أدلة حجية الأمارات وإن كانت حجية مفادها وتنزيلها منزلة الواقع وبهذا المفاد لا تحكم على أدلة الاصول إلّا أنّ مدلولها الالتزامي الذي هو عبارة عن الغاء آثار الشك في مورد الأمارات يحكم على تلك الأدلة. (١)

ولقائل أن يقول لازم ما ذكر أن يكون كل نهي حاكما على الأدلة الأولية بمدلوله الالتزامي على عدم جعل حكم المنهي فتامل ثم إنّ المستفاد من كلام السيّد المحقق الخوئي قدس‌سره أنّ دليل الحاكم يحدّد موارد الارادة الجدية وينفي الشك من جهة الصدور أو الشك من ناحية المراد الجدي.

ويرد عليه أنّ هذا المعنى غير مطرد فيما اقتضى دليل الحاكم توسعة دليل المحكوم لأنّ المفروض حينئذ عدم وجود الارادة الاستعمالية كي يقتضي دليل الحاكم عدم تطابقها مع الارادة الجدية.

وتفصيل ذلك كما أفاد سيّدنا الاستاذ المحقق الداماد قدس‌سره أنّ معنى الحكومة ادعاء نفي الجعل في مورد قد اقتضى العمومات أو الاطلاقات ثبوته في ذلك المورد إمّا بادعاء نفي الموضوع كأن يقال بعد ما ورد اكرم العلماء عاما زيد ليس بعالم أو بادعاء نفي المتعلق كان يقال الضيافة ليست باكرام أو بادعاء نفي الحكم كأن يقال لم يجعل الوجوب في مورد زيد فإنّ

__________________

(١) المحاضرات لسيدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره / ج ٢ ، ص ٥٤٨.

٤٦٠