عمدة الأصول - ج ٦

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٦

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: ولي عصر (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٣

وأجاب عنه بعض الأكابر بأنّ الصيقل ليس له كتاب كما أنّ السعدآبادي ليس له كتاب وعليه فالكتاب للبرقي أو يونس وكتابهما مرويان بطريق آخر صحيح والشاهد على أنّ الصدوق نقل من كتاب البرقي هو تكرار النقل عنه مرات عديدة فإنّه قرينة على أخذه من الكتاب لا أنّهم رووا له مرات عديدة ولا فرق فيه بين ابتدائه باسم البرقي وبين عدم ذلك كما لا يخفى.

فتحصّل : أنّ ما رواه الصدوق في الفقيه عن الحسن الصيقل معتبر ولا يرد عليه المناقشات المذكورة وعليه فلا يصح دعوى أنّ قضية سمرة لم تذكر مقرونة بجملة لا ضرر ولا ضرار في كتبنا إلّا بطريق واحد فقط فلا ينبغي الخلط بين ثبوت هذه القضية في نفسها وبين ثبوتها مقرونة بهذه الجملة فإنّه إن صحت دعوى استفاضة أصل القضية فلا تصح دعوى استفاضتها مقرونة بهذه الجملة كما يظهر من المحكي عن المحقّق النائيني. (١)

وذلك لما عرفت من أنّ الطريق لا ينحصر بما رواه زرارة بل يروي القضية المذكورة بطريق آخر وهو على ما ذكره الصدوق في المشيخة محمّد بن موسى المتوكل عن علي بن الحسين السعدآبادي عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي عن أبيه عن يونس بن عبد الرحمن عن الحسن بن زياد الصيقل عن أبي عبيدة الحذاء عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام لا يقال إنّ ما رواه الصدوق لا يكون مقرونا بجملة لا ضرر ولا ضرار.

لأنّا نقول : يكفي في اقترانها دلالة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله سمرة ما اراك يا سمرة إلّا مضارا فإنّه بمنزلة الصغرى لقوله لا ضرر ولا ضرار كما لا يخفى وحينئذ فإن قلنا بكفاية الاثنين في صدق الاستفاضة فالرواية مستفيضة لنقل زرارة وابي عبيدة الحذاء ولكن قال شيخنا البهائي عليه الرحمة في تعريف المستفيض ان نقله في كل مرتبة ازيد من ثلاثة فمستفيض انتهى (٢) وعليه فلا يعد هذه الرواية الدالة على قضية سمرة مستفيضة وإن ذهب إليه بعض الأكابر

__________________

(١) قاعدة لا ضرر للسيد المحقّق السيستاني مد ظله العالي / ص ٢٥.

(٢) وجيزة شيخنا البهائي.

٤٠١

فتدبّر.

هذا مع قطع النظر عن غير قصة سمرة وإلّا فدعوى الاستفاضة واضحة لنقل هذه الجملة أعني لا ضرر ولا ضرار في قضايا أخرى باسناد مختلفة متعددة.

منها ما رواه الكليني عن محمّد بن يحيى عن محمّد بن الحسين عن محمّد بن عبد الله بن هلال عن عقبة بن خالد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن وقال لا ضرر ولا ضرار وقال إذا رفّت الارف وحدّت الحدود فلا شفعة. (١)

والسند ضعيف ولكن يحتوي كبرى لا ضرر ولا ضرار وهي مرتبطة مع صدر الحديث من جهة أنّه يصلح لكونه حكمة لعدم لزوم المعاملة في مورد جعل حق الشفعة بناء على ظهور قوله وقال لا ضرر ولا ضرار في كونه مقولا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو للامام عليه‌السلام في وجه تشريع الشفعة كما هو المختار لا أنّه قول الراوي بدعوى أنّه ذكره هنا من باب الجمع بين الروايات.

ومنها : ما رواه الكليني عن محمّد بن يحيى عن أحمد بن محمّد عن محمّد بن يحيى عن طلحة بن زيد عن أبي عبد الله عن أبيه عليهما‌السلام قال قرأت في كتاب لعلي عليه‌السلام أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كتب كتابا بين المهاجرين والأنصار ومن لحق بهم من أهل يثرب أنّ كل غازية غزت بما يعقب بعضها بعضا بالمعروف والقسط بين المسلمين فإنّه لا يجوز حرب إلّا باذن أهلها وأنّ الجار كالنفس غير مضار ولا آثم وحرمة الجار على الجار كحرمة أمّه وأبيه لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلّا على عدل وسواء. (٢)

والظاهر أنّ في الرواية تصحيفا والشاهد لذلك ما رواه الشيخ في التهذيب عن الكافي بهذا السند عن أبي عبد الله عن أبيه عليهما‌السلام قال قرأت في كتاب علي عليه‌السلام أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كتب كتابا بين المهاجرين والأنصار ومن لحق بهم من أهل يثرب أنّ كل غازية غزت معنا يعقب

__________________

(١) الكافي / ج ٥ ، ص ٢٨٠.

(٢) الكافي / ج ٥ ، ص ٣١ ، ح ٥.

٤٠٢

بعضها بعضا بالمعروف والقسط ما بين المسلمين وأنّه لا يجار حرمة إلّا باذن أهلها وأنّ الجار كالنفس غير مضار ولا آثم وحرمة الجار كحرمة أمّه وأبيه لا يسالم مؤمن دون مؤمنين في قتال في سبيل الله إلّا على عدل وسواء (١) ونسخة الشيخ من الكافي مصححة ومنها : يعلم ان كلمة «بما» غلط والصحيح «معنا» وعليه فقوله يعقب بعضها بعضا بالمعروف والقسط بين المسلمين خبر لقوله كل غازية غزت معنا والمراد منه هو التوصية برعاية النوبة في الجهاد ويعلم منها أنّ قوله فإنّه لا يجوز حرب إلّا باذن أهلها غلط والصحيح هو وأنّه لا يجار حرمة إلّا باذن اهلها والمراد من الحرمة هو المرأة وعليه فمعناه أنّه لا يجوز ان تجار المرأة إلّا باذن اهل المرأة وعليه كان ما أفاده العلامة المجلسي قدس‌سره من أنّ المراد من الجار فيه من آجرته لا جار الدار (٢) صحيحا لأنّ الجار يأتي بمعنى المستجير والمستجار كليهما ثمّ إنّ هذه المكتوبة مروية مع سائر المكتوبات المروية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في كتب العامة كما نقلها آية الله الاحمدي قدس‌سره في مكاتيب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وهي تؤيد صحة نسخة الشيخ من كتاب الكافي وكيف كان يحتوي هذا الخبر عنوان غير مضار وهو بمنزلة الصغرى لقوله لا ضرر ولا ضرار ويدلّ على عدم جواز ايراد الاضرار من الغير إلى الجار كما لا يجوز أن يورد الجار الضرر إلى الغير بحيث يكون آثما بناء على كون قوله غير مضار ولا آثم راجعا إلى الجار أو كما لا يجوز ايراد الاضرار من الغير إلى النفس ومن النفس إلى الغير فكذلك الجار بناء على رجوع قوله غير مضار ولا آثم إلى النفس وبالجملة يدل الحديث على عدم جواز الاضرار بالنسبة إلى الغير ولا نظر له إلى الاضرار بالنفس.

ومنها : ما رواه الكليني عن محمّد بن يحيى عن محمّد بن الحسين عن محمّد بن عبد الله بن هلال عن عقبة بن خالد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بين أهل البادية أنّه لا يمنع فضل ماء ليمنع به فضل كلاء وقال لا ضرر ولا ضرار. (٣)

__________________

(١) التهذيب / ج ٦ ، ص ١٤٠ ، الباب ٦١ باب اعطاء الامان.

(٢) مرآة العقول / ج ١٨ ، ص ٣٥٨.

(٣) الكافي / ج ٥ ، ص ٢٩٣ ـ ٢٩٤.

٤٠٣

والسند ضعيف هذا كله مع قطع النظر عما ورد في كتب العامة كمسند احمد بن حنبل عن عبادة بن الصامت أنّ من قضاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ان لا ضرر ولا ضرار وسنن ابن ماجة عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا ضرر ولا ضرار وسنن البيهقي عن أبي سعيد الخدري أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لا ضرر ولا ضرار من ضار ضره الله ومن شاق شق الله عليه.

والموطأ لمالك عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لا ضرر ولا ضرار وغير ذلك من أخبارهم التي جمعها في تسديد الاصول (١) هذا كله بالنسبة إلى الأخبار الدالة على الكبرى المذكورة أعني لا ضرر ولا ضرار بنحو من الدلالة وقد عرفت أنّ دعوى استفاضة قوله لا ضرر ولا ضرار في مثل هذه المجموعة من الأخبار ليست بمجازفة هذا مضافا إلى الأخبار الكثيرة الواردة في الموارد الخاصة التي يمكن استفادة عموم لا ضرر منها وهذه الأخبار كثيرة جدا (٢) منها ما رواه في الكافي بسند صحيح عن هارون ابن حمزة الغنوي عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن رجل شهد بعيرا مريضا وهو يباع فاشتراه رجل بعشرة دراهم فجاء وأشرك فيه رجلا بدرهمين بالراس والجلد فقضى أنّ البعير بريء فبلغ ثمنه دنانير قال فقال لصاحب الدرهمين خذ خمس ما بلغ فأبى قال أريد الرأس والجلد فقال ليس له ذلك هذا الضرار وقد اعطى حقه إذا اعطى الخمس. (٣)

ومنها : صحيحة البزنطي عن حماد عن المعلى بن خنيس عن أبي عبد الله عليه‌السلام من اضر بطريق المسلمين شيئا فهو ضامن (٤) ومثلها صحيحة الكناني (٥) وغير ذلك قال سيّدنا الاستاذ بعد ذكر جملة من الأخبار ولا يخفى أنّ هذه الطائفة أكثر من أن يحصى. (٦)

__________________

(١) تسديد الاصول / ج ٢ ، ص ٢٦٦ ـ ٢٦٧.

(٢) لعل جماعة الرواة الّذين رووا الموارد الخاصة تكون أزيد من اربعين رجلا وهكذا الروايات المسندة ازيد من خمسين رواية فراجع.

(٣) الكافي / ج ٥ ، ص ٢٩٣.

(٤) التهذيب / ج ٩ ، ص ١٥٨.

(٥) الكافي / ج ٧ ، ص ٣٥٠.

(٦) المحاضرات لسيدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره / ج ٢ ، ص ٥١٨.

٤٠٤

وكيف ما كان يكفي صحة بعض الطرق المذكورة لاثبات الكبرى المذكورة أعني لا ضرر ولا ضرار ولا حاجة إلى اثبات الاستفاضة ولا إلى التواتر وإن أمكن اثباتهما مع ملاحظة قصة سمرة وغيرها ومع ضميمة موارد خاصة كما نسب ذلك إلى فخر المحققين هذا كله بالنسبة إلى اسناد حديث لا ضرر ولا ضرار.

الأمر الثاني : في ألفاظ الحديث والثابت هو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا ضرر ولا ضرار كما في موثقة زرارة المنقولة في الكافي والفقيه وأمّا قيد في الاسلام فلم يرد في رواية صحيحة من طرقنا نعم احتج به الصدوق في قبال العامة الذين قالوا إنّ المسلم لا يرث الكافر بأنّ الله عزوجل إنّما حرم على الكفار الميراث عقوبة لهم بكفرهم كما حرم على القاتل عقوبة لقتله فأمّا المسلم فلأي جرم وعقوبة يحرم الميراث؟ فكيف صار الاسلام يزيده شرا مع قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لا ضرر ولا ضرار في الاسلام فالاسلام يزيد المسلم خيرا ولا يزيده شرا ومع قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله الاسلام يعلو ولا يعلى عليه والكفّار بمنزلة الموتى لا يحجبون ولا يرثون (١) ومن المعلوم أنّه في مقام الاحتجاج به على العامة بما ورد في طرقهم ولذا قال السيد المحقّق السيستاني مد ظله العالي لم يذكر مع هذه الزيادة في كتب اصحابنا فيما اطلعنا عليه إلّا في مقام الاحتجاج به على العامة من حيث وروده من طرقهم فلا يدلّ على نقله من طرقنا أيضا ليقال انه مروي من طرق الفريقين فيمكن الوثوق بصحته. (٢)

ودعوى انجبار ضعف هذا الحديث مع هذه الاضافة اعني قيد في الاسلام بعمل الاصحاب به واعتمادهم عليه كالصدوق في الفقيه والشيخ في الخلاف والعلّامة في التذكرة وغيرهم مندفعة بما أفاده المحقّق السيستاني مد ظله العالي أولا بأنّ هذا المقدار لا يكفي في جبر الخبر الضعيف فإنّ الجبر عند القائل به إنّما يتم في موارد عمل المشهور لا بمجرد عمل البعض كما هو الحال في المقام.

__________________

(١) الفقيه / باب ١٦٢ باب ميراث اهل الملل ٥٦٧ الطبع القديم.

(٢) قاعدة لا ضرر للسيد المحقّق السيستاني مد ظله العالي / ص ٨٤.

٤٠٥

وثانيا بأنّه لم يظهر اعتماد هذا البعض أيضا على حديث (لا ضرر ولا ضرار في الاسلام) لأنّ ما يستدل به علماؤنا في المسائل الخلافية من الروايات المروية بطرق العامة ليس من باب الاعتماد عليها وإنّما هو من باب الاحتجاج على الخصم بما يعترف بحجيته ونقل الرواية في الخلاف والتذكرة إنّما هو من هذا القبيل بل الأمر كذلك في نقل الفقيه أيضا لأنّ هذا الكتاب وإن لم يكن قد وضعه شيخنا الصدوق للمحاجّة مع العامة في الفروع إلّا أنّه قد تعرض لرد كلامهم في عدة مسائل خلافية وقد كان منهجه في هذه المسائل نقل اخبار العامة التي تؤيد رأي الامامية وتقوم حجة عليهم وكانت من تلكم المسائل مسالة إرث المسلم من الكافر. (١)

وأمّا قيد (على مؤمن) فلا دليل عليه إلّا مقطوعة الكافي عن على بن محمّد بن بندار عن أحمد بن أبي عبد الله عن أبيه عن بعض أصحابنا عن ابن مسكان عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه قال إنّ سمرة بن جندب كان له عذق إلى أن قال قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّك رجل مضار ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن الحديث. (٢)

ولا حجية للمقطوعة المذكورة لا سيما أنّ راويها هو البرقي الذي طعن عليه بالرواية عن الضعفاء ودعوى أنّ وجود الرواية في الكافي يكفي للحجية ولا يضرّها الانقطاع هذا مضافا إلى أنّ أصل القضية مروية باسناد معتبرة عن ابن بكير وابي عبيدة فمطابقة الرواية في أصل القضية ممّا يوجب الوثوق بصدورها.

مندفعة أوّلا بأنّ وجود الرواية في الكافي لا يكفي بدون تمامية السند وثانيا بما أفاده السيد المحقّق السيستاني مد ظله العالي من أنّه إذا كان مبنى الاعتماد على رواية ابن مسكان توافقها في المضمون مع رواية ابن بكير وأبي عبيدة فاللازم الاقتصار في ذلك على موارد الاتفاق ولا يمكن التعدي عنها إلى موارد الاختلاف. (٣)

__________________

(١) قاعدة لا ضرر للسيد المحقّق السيستاني (مد ظله العالى) / ص ٨٨ ـ ٨٩.

(٢) الكافي / ج ٥ ، ص ٢٩٤.

(٣) قاعدة لا ضرر ولا ضرار للسيد المحقّق السيستاني (مد ظله العالى) / ص ٩٤.

٤٠٦

فتحصّل : ممّا تقدم أنّ قيد (على مؤمن) لم يقم عليه دليل معتبر بل الثابت هو لا ضرر ولا ضرار من دون قيد في الإسلام أو قيد على مؤمن نعم لا مانع من أن يقال إنّ نفي الشارع بما هو الشارع لا يكون إلّا بالنسبة إلى تشريعاته وقوانينه.

الأمر الثالث : في فقه الحديث والكلام فيه تارة في مفاد المادة اللغوية للضرر والاضرار والضرار أعني (ض ر ر) واخرى في مفاد هيئتها الافرادية اعني هيئة فعل وفعال من تلك المادة وثالثة في مفاد الهيئة التركيبية.

فهنا ثلاث مقامات :

المقام الأوّل : في مفاد مادة (ض ر ر)

والظاهر أنّها موضوعة لجامع النقص سواء كان في المال أو البدن أو الحال أو الحقوق ودعوى أنّ الضرر بمعنى سوء الحال أو الضيق وقد يستعمل الضرر في النقص بلحاظ تسبيبه لسوء الحال أو للضيق مندفعة أولا بأنّ ذلك خلاف المنساق من الضرر والضرار وهو جامع النقص نعم سوء الحال أو الضيق من مصاديق النقص والموضوع له هو مفهوم النقص لا بعض مصاديقه والظاهر أنّ تفسيره بسوء الحال أو الضيق من باب الخلط بين المصداق والمفهوم.

وثانيا بما أفاده السيد المحقّق السيستاني مد ظله العالي من أنّ سوء الحال من المفاهيم المعنوية المحضة بخلاف الضيق والنقص فإنّهما من المعاني المحسوسة وفرض الامور المعنوية المحضة معنى أصيلا للفظ يخالف طبيعة اللغة فإنّ اصول اللغة معاني محسوسة وإنّما ارتبطت الألفاظ بالمفاهيم غير المحسوسة (متأصلة كانت أو اعتبارية) بالتطور في المفاهيم الأصلية المحسوسة ولذلك قلنا في محله في الاصول أنّ الاعتبارات المتاصلة كالاعتبارات القانونية مثل الملكية والزوجية متاخرة في حدوثها عن الاعتبارات الادبية كالاستعارات والمجازات كما أنّ الاعتبارات الادبية متاخرة عن المعاني الحسية فالمعاني الحسية هي بمثابة رأس المال

٤٠٧

للمفاهيم اللغوية حتى أنّ لفظ العقل المعبّر عن القوة المفكرة للانسان أصله من عقال البعير وهو الحبل الذي يشد به ليمنعه عن الحركة وهو أمر محسوس وهذا يشير إلى مدى أصالة المفاهيم الحسية في تكوين اللغة وعليه فتفسير اللفظ بمعنى حسّي أو أعم من الحسّي وغيره بحيث يكون أصيلا في الحسّ ثمّ يتطور إلى معنى أعم هو الأقرب إلى طبيعة اللغة وما يعرف من مبادي تكوينها ففي المقام يكون تفسير مادة (ض ر ر) بالضيق أو النقص أولى وأقرب من تفسيرها بمفهوم تجريدي كسوء الحال والحاصل أنّ تفسير الضرر بسوء الحال بعيد عن المعنى اللغوي إلى أن قال كما أنّ تفسيره بالضيق بأن يجعل المعنى الاصلي (الضيق) سواء كان حسيا مكانيا أو معنويا حاليا بحيث يكون استعمال الضرر في موارد النقص وسوء الحال إنّما هو بلحاظ تسبيبها للضيق يرد عليه أنّ الملاحظ كثرة استعمال الضرر في موارد النقص وإن لم يستوجب ضيقا على الشخص مضافا إلى أنّ الضيق قد جعل في الآية الكريمة (وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ) غاية للاضرار فلا ينسجم مع كون الضرر بمعنى الضيق إذ لا معنى لجعل الشيء غاية لنفسه. (١)

لقائل أن يقول إنّ مسالة التطور في الاستعمالات العرفية لا يرتبط بوضع الألفاظ للمعاني في اللغة واللغوي جعل مثلا لفظ السراج لمطلق ما يضيء لا أنّه وضع أولا لمنور محسوس ثمّ تطور في الاستعمالات العرفية ويعم المنور المعنوي وهكذا في لفظ الميزان ونحوه ويشهد على ذلك أنّ استعمال الألفاظ في المعاني غير المحسوسة مورد الحاجة في عرض الاحتياج إلى استعمالها في المعاني المحسوسة أفيمكن أن يقال إنّ كلمة سوء الحال لم تكن موضوعة في أول وضع اللغات مع أنّ سوء الحال من المعاني غير المحسوسة هذا مضافا إلى أنّ الاستدلال بجعل الضيق غاية للاضرار لا يخلو عن الاشكال لأنّ الاستعمال مع القرينة لا يكون دليلا على كون معنى اللفظ هو ذلك بدون القرينة. فالأولى في اثبات كون معنى الضرر هو النقص بمعناه الجامع هو أن يقال إنّ ذلك هو المتبادر من لفظه لا النسبية للتدرج

__________________

(١) قاعدة لا ضرر ولا ضرار للسيد المحقّق السيستاني مد ظله العالي / ص ١١١ ـ ١١٣.

٤٠٨

في توسعة دائرة مفهوم اللفظ من الأمور المحسوسة إلى غيرها لما عرفت من امكان جعل لفظه للأعم من أول الأمر لمقارنة الحاجة إلى غير المحسوس مع الحاجة إلى المحسوس.

وكيف ما كان فقد عرفت أنّ الصحيح هو أنّ المعنى الأصلي هو النقص بمعناه الجامع وعليه فيعمّ الضرر للنقص البدني والمالي والحالي والحقوقي. ثمّ إنّ المحكي عن سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره أنّ الظاهر أنّ الضرر عبارة عن اعدام النفع الموجود أعم من أن يكون وجودا حقيقية أو تنزيلا بأنّ يكون مقتضى وجوده موجودا. (١)

ولا فرق بين أن يكون سبب الأعدام المذكور هو الأحكام الوجودية أو العدمية لما صرح به الاستاذ في التنبيه الخامس من كتابه المذكور بانه لا قصور للقاعدة في شمولها للأحكام العدمية على نحو شمولها للأحكام الوجودية (٢) فكما أنّ اطلاق وجود الأحكام ربما يوجب اعدام النفع الموجود فكذلك قد يوجب ذلك اطلاق الأحكام العدمية كعدم حكم الشارع بالضمان فيما لو حبس أحد غيره عدوانا فشرد حيوانه أو أبق عبده أو كعدم حكم الشارع بثبوت حق الشفعة ونحوهما من الأحكام العدمية. هذا كله بالنسبة إلى مادة (ض ر ر).

المقام الثاني : في مفاد الهيئة الإفرادية لمادة (ض ر ر)

وهي هيئة الفعل للضرر وهيئة الفعال للضرار أمّا الضرر فهو اسم مصدر من ضرّ يضرّ ضرّا والوجه في ذلك هو التبادر إذ المنساق من لفظ الضرر أنّه لا يتضمن نسبة تقييدية ناقصة بخلاف المصدر فإنّه يحتوي تلك النسبة فإذا كان النظر مثلا إلى نفس العلم لا إلى عالم كما يقال العلم خير من الجهل فهو اسم مصدر ويعبر عنه في اللغة الفارسية ب ـ «دانش» وإذا كان النظر إليه مع نسبته إلى شخص كما يقال علم زيد بكذا أقوى من علم عمرو به فهو

__________________

(١) المحاضرات لسيدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره / ج ٢ ، ص ٥٢٥.

(٢) المحاضرات لسيدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره / ج ٢ ، ص ٥٥٦ ـ ٥٥٧.

٤٠٩

مصدر ويعبر عنه ب ـ «دانستن» والمصدر في الفارسية مختوم بالنون دون اسم المصدر هذا بالنسبة إلى مفاد هيئة الفعل من مادة الضرر.

وأمّا الضرار فهو مصدر على وزن (فعال) لباب (المفاعلة) يقال ضاره يضاره مضارة وضرارا أو لباب الثاني المجرد أي ضر ضرارا على ما قيل وكيف ما كان قال سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره وأمّا الضرار فبناء على كونه بمعنى الضرر كما عن غير واحد أو بمعنى الاضرار من غير الانتفاع به كما عن النهاية والمجمع أو بمعنى الاضرار مع التعمد والقصد والاصرار عليه كما عن المحقّق النائيني يكون تاكيدا للأول أمّا على الأوّل فواضح وامّا على الثاني والثالث فلأنّه إذا انتفى الضرر من غير التعمد والاصرار عليه أو مع الانتفاع به يفهم منه انتفائه مع التعمد والاصرار أو بدون الانتفاع به بطريق أولى.

فذكر الأوّل يغني عن الثاني وهذا معنى التاكيد وحيث إنّه خلاف الأصل بل خلاف ظاهر الحديث كما لا يخفى على من له أدنى تامل فلا يصار إليه بلا ملزم يلزمه والظاهر أنّ المراد به في المقام هو المجازاة على الضرر ويؤيّده ما حكى عن ابن الأثير وعن مجمع البحرين فالمعنى أنّه لا ضرر ولا مجازاة عليه بمثله في الإسلام فكما ليس للمسلم أن يضر أخاه فكذلك ليس له أن يجازيه بمثل ما فعل اخوه به من النقص في الأموال والأعراض وغيرهما ولا يخفى أنّ اخذ العوض والضمان بحكم الشارع ليس ضرارا بهذا المعنى. (١)

يرد عليه أنّه لا ضرر من ناحية الأنصاري حتى يحمل نفي الضرار على نفي المجازاة وعليه فما ذهب إليه سيّدنا الاستاذ لا ينطبق على مورد رواية سمرة بن جندب والقول بأنّ الحاجة إلى الإذن في التصرف في مال نفسه يوجب الضيق على صاحب المال وهذا ضرر وارد من ناحية الأنصاري عليه فبهذه الملاحظة يصح اطلاق المجازاة على الضرر الوارد من ناحية سمرة بن جندب غير سديد لأنّ الحاجة إلى الاستيذان مع لزوم الإذن عقيبه لا توجب ضررا كما لا يخفى هذا مضافا إلى أنّ نفي الضرر بعمومه يشمل نفي الضرر المجازاتي فذكر

__________________

(١) المحاضرات لسيدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره / ج ٢ ، ص ٥٢٥ ـ ٥٢٦.

٤١٠

الأوّل يغني عن الثاني وهذا هو معنى التاكيد.

اللهمّ إلّا أن يقال : وجه ذكره بعد ذكر الأوّل توهم جواز الاضرار إذا كان بعنوان المجازاة إذ لو لم يصرح بنفي الضرار لما فهم من نفي الضرر نفي الضرار المجازاتي فبهذه الملاحظة خرج عن التكرار والتأكيد ولكن بقي عدم انطباقه على مورد الرواية فتأمّل.

وقد ذهب السيد المحقّق السيستاني مد ظله العالي إلى أنّ معنى اسم مصدري مأخوذ من المجرد والضرار مصدر يدلّ على نسبة صدورية مستتبعة لنسبة أخرى ولذلك ذكر المحقّق الرضي قدس‌سره إلى أنّ الصيغة تفيد معنى المبالغة وأوضحنا في المسلك المختار أنّ إفادة معنى المبالغة إنّما هي باعتبار الدلالة على تكرار النسبة أو استمرارها. (١)

وهذا أيضا لا يخلو عن الاشكال وهو أنّ نفي الضرر المستمر والمكرر يستفاد بالأولوية من نفي الضرر غير المكرر إن خصصنا نفي الضرر بغير المكرر وعليه فذكر الأوّل يغني عن الثاني وهذا هو معنى التاكيد الذي عرفت أنّه خلاف الأصل.

نعم لو قلنا بأنّ الأوّل يعمّ المكرر وغيره فذكر الثاني يكون من باب ذكر الخاص بعد العام فلا بد من ذكره بعد ذكر العام من نكتة ولا يبعد أن يكون المناسبة مع المورد نكتة لذكره وممّا ذكر يظهر النظر فيما أفاده الشهيد الصدر قدس‌سره من أنّ المقصود من الضرار هو الضرر المتعمد الذي يصرّ عليه ويتخذه ذريعة إليه وهذا هو المتعين في المقام فإنّ سمرة بن جندب كان يتذرع ويصرّ على الاضرار بالأنصاري باتخاذ حقه في العذق ذريعة إلى الدخول عليه بلا استئذان فالحكم بأنّ الناس مسلّطون على أموالهم وإن كان غير ضرري في نفسه ولكن قد يتخذ ذريعة للاضرار بالآخرين ويتقصد به ذلك كما فعل سمرة بن جندب إلى أن قال وهذا المعنى مضافا إلى استفادتنا له وجدانا من كلمة الضرار هو المناسب من استعمال هذه الكلمة في هذه الروايات بلحاظ ما اشرنا إليه من لزوم التكرار المستهجن. (٢)

__________________

(١) قاعدة لا ضرر / ج ٢ ، ص ١٣٢.

(٢) بحوث في علم الاصول / ج ٥ ، ص ٤٥٨.

٤١١

وذلك لأنّ حرمة الضرر المتعمد الذي يصر عليه ويتخذه ذريعة إليه تستفاد أيضا من حرمة الضرر من غير تقييده بالتعمد والاصرار بالاولوية نعم لو قلنا بأنّ الأوّل يعمّ المتعمد عليه ومورد الاصرار وغيره فذكر المتعمد الذي يصرّ عليه من باب ذكر الخاص بعد العام فلا يبعد حينئذ أن يكون المناسبة مع المورد نكتة لذكره كما لا يخفى ثمّ لا يخفى عليك أنّ بعض الأكابر ذهب إلى أنّ الفرق بين الضرر والضرار أنّ الثاني لا يشمل ايراد الضرر على النفس بخلاف الأوّل فإنّه يعمّه وعليه فذكر الضرار بعد الضرر من قبيل ذكر الخاص عقيب العام ومناسبته مع المورد تصلح لذكره وعليه فالمقصود من الضرار هو الاضرار للغير ومن قوله إنّك رجل مضار هو ذلك والاهتمام بنفيه يوجب ذكره بالخصوص وكيف كان ففي الاحتمالات المذكورة إمّا نقول برجحان بعضها على بعض فهو وإلّا فهي متساوية في معنى نفي الضرار ولكن تساويها لا يوجب الإجمال في معنى نفي الضرر فلا تغفل هذا كله بالنسبة إلى مفاد هيئة (الفعال) من مادة (ض ر ر).

والمقام الثالث : في مفاد الهيئة التركيبية للجملتين

ولا يخفى عليك تعذر الإخبار عن نفي الضرر والضرار حقيقة لوجودهما في الخارج فالإخبار عن عدمهما في الخارج كذب محض فمع تعذر الإخبار عن الخارج حقيقة ذهب جماعة منهم الشيخ الشريعة قدس‌سره إلى أنّ المراد من النفي هو النهي واستدلوا له بوجوه :

منها أنّ (لا ضرر ولا ضرار) كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله «لا جلب في الإسلام» أو «لا بنيان كنيسة في الاسلام» فكما يدلّ النبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله على النهي عن الزام صاحب الماشية بسوق الماشية نحو الساعي للزكاة وعن احداث الكنيسة فكذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا ضرر ولا ضرار يدلّ على النهي عن ايجاد الضرر.

أورد عليه سيّدنا الاستاذ قدس‌سره بأنّ إرادة خصوص النهي من النفي من دون قيام قرينة عليه مع إمكان إرادة التعميم (اي تعميم النفي) بلحاظ مطلق الحكم تكليفا كان أو وضعيا

٤١٢

خلاف الظاهر وإن ذهب إليه بعض اللغويين وشراح الحديث انتهى هذا بخلاف الأمثلة المذكورة.

فإنّ نفي الحكم فيها بنحو المطلق تكليفا كان أو وضعيا غير ممكن لأنّ المفروض كونهما محكومين بالحكم التكليفي وهو النهي عن الالزام في الأوّل والنهي عن الاحداث في الثاني ومن المعلوم أنّ عدم امكان تعميم النفي يكون قرينة على إرادة خصوص النهي من النفي.

هذا مضافا إلى أنّ مدخول (لا) في المقام طبيعة الضرر بمعناه الإسم المصدري لا بمعناه المصدري الذي هو فعل المكلف فنفيه لا يختص بخصوص فعل المكلف ليكون لازم نفيه حرمته بل يعمه والضرر الحاصل من امتثال أحكامه تعالى. (١)

هذا بناء على ما عرفت من ظهور عنوان الضرر في الإسم المصدري وكيف ما كان فلا يقاس المقام بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله «لا جلب في الاسلام» أو قوله تعالى (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ) لأنّ المنفي في أمثاله هو الفعل لا الإسم المصدري هذا مع إمكان ارادة النفي مع الفعل المصدري أيضا.

ومنها : أنّه يقدر كلمة المجوز في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا ضرر ولا ضرار.

فيدلّ على انه لا ضرر ولا ضرار مجوز في الإسلام والمستفاد من عدم تجويز الشارع له هي الحرمة التكليفية.

وفيه كما افاد سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره أنّه خلاف الظاهر إذ الأصل عدم التقدير ما لم يدلّ عليه الدليل.

ومنها : أنّ المراد من حديث (لا ضرر ولا ضرار) نفي الضرر ادعاء في الخارج ويكون مصحح الادعاء حكم الشارع بتحريم الضرر والضرار ومنعه من ذلك وفيه ما مر في الايراد على الوجه الأوّل من أنّ تخصيص ما هو مصحح للادعاء المذكور بحكم الشارع بحرمته تكليفا لا وجه له بعد امكان تعميم النفي بلحاظ مطلق الحكم تكليفا كان أو وضعيا

__________________

(١) تسديد الاصول / ج ٢ ، ص ٢٧٤.

٤١٣

كما هو الظاهر.

قال سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره وبالجملة فدعوى أنّ المستفاد من الحديث المبارك حرمة الاضرار فقط بأحد الوجوه الثلاثة المذكورة ممنوعة جدا وقد عرفت أنّه اصر عليه شيخ الشريعة الاصفهاني قدس‌سره مستشهدا بنظائره ممّا ورد في الكتاب والسنة اطراد منه خصوص الحرمة تكليفا كقوله «لا جلب في الاسلام» و «لا بنيان كنيسة» ونحو ذلك وفيه أنّ الكلام فيما ليس في البين قرينة على إرادة خصوص التكليف كما في المثالين فإنّ إرادة غيره فيهما ممّا لا معنى له (١) كما أنّ إرادة غير الوضع في مثل قوله لا شفاء ونحوه كذلك وبالجملة فالكلام في ما يمكن أن يرجع الرفع إلى كل من الحكم التكليفي والوضعي كما في المقام فتدبّر. (٢)

هذا كله بناء على ارادة النهي من النفي وقد عرفت أنّه لا شاهد لها.

وذهب الفاضل التوني ومن تبعه بعد تسليم عدم ارادة النهي إلى أنّ المراد من المنفي هو الضرر الغير المتدارك ومرجعه إلى اثبات الحكم بالتدارك شرعا كما حكاه في فرائد الاصول.

وتقريبه بوجوه أحدها أن يكون المراد من المنفي الضرر الغير المتدارك بنحو التقييد سواء كان بنحو استعمال المطلق في الخاص مجازا أو كان ارادة الخاص بتعدد الدال والمدلول والإخبار بعدم وجود الضرر الغير المتدارك مع وجوده منه في الخارج ادعاء وكناية عن حكم الشارع بلزوم تداركه.

أورد عليه الشيخ الأعظم قدس‌سره أولا بأنّ الضرر الخارجي لا ينزّل منزلة العدم بمجرد حكم الشارع بلزوم تداركه وإنّما المنزل منزلته الضرر المتدارك فعلا.

__________________

(١) إذا الجلب بفتحتين اي سوق الماشية نحو الساعي وهو منهي عنه كما أن إحداث الكنيسة غير جائز فمع كونهما محكومين بالحكم لا يمكن نفي الحكم عنهما وعليه فيحمل مثله في عدم الامكان المذكور على النهي عن الجلب والنهي عن احداث الكنيسة فلا تغفل.

(٢) المحاضرات لسيدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره / ج ٢ ، ص ٥٢٦ ـ ٥٢٧.

٤١٤

واجيب عنه بأنّه إذا حكم الشارع بالتدارك وجعل تنفيذ ذلك قوة اجرائية كما أنّ لكل قانون من القوانين الاجتماعية بحسب التشريع قوة اجرائية طبعا فإنّه يكون التدارك حينئذ من نظر المقنن جاريا مجرى الأمر الواقع فيصح اعتباره واقعا تنزيلا. (١)

وفيه أنّ التدارك من جهة المقنن لا يكفي في صدقه بنظر العرف مع ما رآه العرف من موانع الاجراء.

وثانيها أن يكون المراد منه الضرر الذي لم يحكم الشارع بتداركه باحد النحوين المذكورين ونفي الضرر على هذا المعنى نفي حقيقي لا ادعائي.

أورد عليه الشيخ الأعظم بأنّ الظاهر أنّ قوله في الاسلام ظرف للضرر فلا يناسب أن يراد به الفعل المضر وإنّما المناسب الحكم الشرعي الملقى للعباد.

يشكل ذلك بما مرّ من أنّه لا يثبت قوله في الإسلام في متن الحديث وإن كان نفيه في هذا المقام نعم يرد عليه ما أورده على الوجه الثالث.

وثالثها أن يكون المراد منه هو الضرر المطلق ويكون نفيه ادعاء ومصحح الادعاء حكم الشارع بلزوم تداركه.

أورد عليه الشيخ قدس‌سره بأنّ اللازم من ذلك عدم جواز التمسك بالقاعدة لنفي الحكم الضرري المتعلق بنفس التكليف انتهى قال سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره هذا الاشكال أعني الاشكال الثالث مشترك الورود بالنسبة إلى الوجوه الثلاثة. (٢)

هذا مضافا إلى أنّ اختصاص المنفي بالضرر الغير المتدارك أو الضرر الغير المحكوم بالتدارك خلاف الظاهر ولا شاهد له وبعيد عن الأذهان قال السيد المحقّق السيستاني أنّ ما ذكر في تعين هذا المعنى ليس بتام لأنّ نفي الضرر والضرار كما يمكن أن يكون بملاحظة جعل الحكم بالتدارك الذي يوجب انتفاؤهما بقاء فكذلك يمكن أن يكون. لعناية التسبيب إلى

__________________

(١) قاعدة لا ضرر للسيد المحقّق السيستاني (مد ظله العالي) / ص ١٩٨.

(٢) المحاضرات لسيدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره / ج ٢ ، ص ٥٢٨.

٤١٥

عدم الاضرار فيكون مفاد الحديث هو النهي أو بعناية عدم التسبيب إلى ضرر المكلفين فيكون مفاده نفي الحكم الضرري فلا يتعين التفسير المذكور وأيضا أنّ هذا المعنى لا يناسب موارد تطبيق الحديث من قبيل سمرة فإنّه لم يحكم فيها بتدارك الضرر الواقع على الأنصاري لعدم كونه قابلا للتدارك كما هو واضح. (١)

فتحصّل : أنّ المنفي ليس هو الضرر الغير المتدارك.

فإذا عرفت ذلك فيقع السؤال حينئذ في أنّ المنفي بالنفي المذكور أيّ شيء يكون هل هو الحكم الضرري أو الموضوع الضرري أو نفس الضرر هنا ثلاث احتمالات.

أحدها : هو ما اختاره الشيخ الأعظم قدس‌سره من أنّ المنفي هو الحكم الذي يوجب ثبوته ضررا على العباد وكان منشأ له فمعنى قوله لا ضرر اي أنّه لا حكم كان موجبا للضرر ومنشأ له في الإسلام فكل حكم كان سببا للضرر تكليفا كان أو وضعيا منفي بحكم اطلاق الحديث وإليك لفظه :

فاعلم أنّ المعنى بعد تعذر ارادة الحقيقة عدم تشريع الضرر بمعنى أنّ الشارع لم يشرع حكما يلزم منه ضرر على أحد تكليفا كان أو وضعيا فلزوم البيع مع الغبن حكم يلزم منه ضرر على المغبون فينتفي بالخبر وكذلك لزوم البيع من غير شفعة للشريك وكذلك وجوب الوضوء على من لم يجد الماء إلّا بثمن كثير وكذلك سلطنة المالك على الدخول إلى عذقه واباحته له من دون استيذان من الأنصاري وكذلك حرمة الترافع إلى حكام الجور إذا توقف أخذ الحق عليه ومنه براءة ذمة الضار عن تدارك ما أدخله من الضرر إذ كما أنّ تشريع حكم يحدث معه الضرر منفي بالخبر كذلك تشريع ما يبقى معه الضرر الحادث بل يجب أن يكون الحكم المشروع في تلك الواقعة على وجه يتدارك ذلك الضرر كأن لم يحدث (٢) فالمراد من الضرر المنفي هو الحكم الموجب للضرر وعليه فالنفي والمنفي كلاهما

__________________

(١) قاعدة لا ضرر / ص ١٩٦.

(٢) فرائد الاصول / ص ٣١٤ الطبعة القديمة.

٤١٦

حقيقيان ولا يلزم من النفي الكذب بعد كون المنفي هو الحكم الموجب للضرر ولا المجاز بعد كون المنفي هو الحكم الضرري في عالم الشرع.

ولا يخفى ما فيه لأنّ ارادة الحكم من الضرر يحتاج إلى مجاز الحذف أو المجاز في الكلمة بأن يستعمل الضرر في أحد مصاديقه ولقد أفاد وأجاد المحقّق الخراساني حيث قال في رد الشيخ الأعظم قدس‌سره أنّ قضية البلاغة في الكلام هو ارادة نفي الحقيقة ادعاء لا نفي الحكم أو الصفة كما لا يخفى ونفي الحقيقة ادعاء بلحاظ الحكم أو الصفة غير نفي أحدهما ابتداء مجازا في التقدير أو في الكلمة إلى أن قال وقد انقدح بذلك بعد ارادة نفي الحكم الضرري أو الضرر الغير المتدارك أو ارادة النهي من النفي جدّا ضرورة بشاعة استعمال الضرر وارادة خصوص سبب من اسبابه أو خصوص الغير المتدارك منه ومثله لو اريد ذلك بنحو التقييد فإنّه وإن لم يكن ببعيد إلّا أنّه بلا دلالة عليه غير سديد. (١)

والحاصل أنّ ارادة نفي الحكم حقيقة من نفي الضرر بتقدير الحكم أو استعمال الضرر فيه مجازا خلاف الظاهر إذ الأصل في الكلام هو عدم التقدير والأصل في الكلمة هو استعمالها في معناها لا في فرد منها وعليه فنفي الضرر وإرادة نفي الحكم الناشي من قبله الضرر حقيقة كما ذهب إليه الشيخ خلاف الظاهر لأنّ ظاهر النفي هو نفي نفس الضرر لا نفي الناشي من قبله الضرر وهو الحكم فتقدير الحكم أو استعمال الضرر في الحكم لا يساعد الظاهر ولا الأصل ولا قرينة على ذلك حتى يمكن ذلك بتعدد الدال والمدلول فما ذهب إليه الشيخ الأعظم من أنّ المنفي هو الحكم منظور فيه وإن كان كلام صاحب الكفاية أيضا لا يخلو عن الاشكال لامكان أن يكون النفي حقيقيا محضا ومع هذا الامكان لا وجه لجعل النفي حقيقيا ادعائيا وسيأتي إن شاء الله تحقيقه.

وثانيها : ما اختاره صاحب الكفاية وحاصله أنّ أقرب المجازات بعد عدم إمكان إرادة نفي الحقيقة حقيقة هو نفيها ادعاء تحفظا على نوع المعنى المستفاد من هذه الجملة واشباهها

__________________

(١) الكفاية / ج ٢ ، ص ٢٦٨.

٤١٧

ويشهد له كثرة استعمال هذا التركيب في النفي الادعائي كقوله عليه‌السلام يا اشباه الرجال ولا رجال فالمنفي في هذا التركيب أي لا ضرر ولا ضرار هو العمل المضر والمقصود من نفي الموضوع الضرري ادعاء نفي الحكم الثابت للعمل بعنوانه لا الحكم الثابت للضرر بعنوان الضرر لوضوح ان الضرر علّة للنفي ولا يكاد يكون الموضوع يمنع عن حكمه وينفيه بل يثبته ويقتضيه ثمّ المصحح للحقيقة الادعائية عند صاحب الكفاية أنّ تمام حقيقة الموضوع وهو العمل المضر عبارة عن ترتب آثاره عليه فإذا كانت الآثار مترتبة عليه صح نسبة الوجود إليه وإذا فقدت الآثار صح ادعاء نفيه بسبب نفي آثاره فالعقد الضرري الذي لم يجب الوفاء به صح أنّ يدعي عدمه باعتبار عدم وجود أظهر خواصه وهو اللزوم.

أورد عليه أوّلا بما أفاده المحقّق الاصفهاني قدس‌سره من أنّ الحكم التكليفي ليس من آثار حقيقة الفعل في الخارج حتى يصح نفي الموضوع بلحاظ عدم ترتب الحكم عليه إلّا مثل اللزوم والصحة من الأحكام الوضعية فإنّها تعد أثرا للمعاملة فيصح نفيها بنفيها فمع عدم ترتب الملكية على المعاطاة شرعا يصح نفي البيع حقيقة إذ ليس حقيقة البيع إلّا التمليك المتحد مع الملكية ذاتا واختلافهما اعتبارا هذا مضافا إلى أنّ الفعل الخارجي ليس موضوعا للحكم التكليفي حتى يصح نفيه ادعاء بعنوان نفي الحكم بنفي موضوعه وبلحاظ وجوده العنواني يصح نفيه حقيقة لا ادعاء (١) هذا إذا كانت القضية خبرية محضة وامّا إن كانت القضية انشائية إمّا بمعنى نفي الحكم تشريعا حيث إنّ جعله وسلبه بيد الشارع أو بمعنى نفي الموضوع تشريعا فالنفي حقيقي لا ادعائى أمّا نفي الحكم فواضح وإمّا نفي الموضوع فإن الموضوع في مرتبة موضوعية للحكم مجعول بجعل الحكم بالعرض لما مر منّا غير مرة أنّ حقيقة الحكم بالاضافة إلى موضوعه المتقوم به في مرحلة تحققه بحقيقة الحكمية من قبيل العوارض الماهية ومثل هذا العارض يكون ثبوت معروضه بثبوته فالحكم مجعول بالذات ومعروضه المقوم له مجعول بالعرض وجعله كجعل الحكم جعل بسيط وسلبه التشريعي كسلب الحكم سلب

__________________

(١) لان النفى حينئذ يكون تشريعيا.

٤١٨

بسيط. (١)

حاصله أنّ نفي الموضوع ادعاء لا مصحح له إن كانت القضية خبرية وإن كانت القضية انشائية فالنفي حقيقي لا ادعائي.

يمكن أن يقال كما قال شيخنا الاستاذ الأراكي قدس‌سره إنّه خلط بين مبادي القضايا ونفس القضايا إذ الحكم بمعنى الحب والشوق الأكيد يكون من قبيل عوارض الماهية ومتحدا مع موضوعه ولكنه ما لم يبرز في ضمن القضية لا يكون خبرا ولا إنشاء إذ الأخبار والانشاء من أقسام القضايا والقضية مركبة من الموضوع والمحمول والنسبة وعروض المحمول كقولهم الصلاة مطلوبتي من قبيل عوارض الوجود لا من قبيل عوارض الماهية لأنّ الموضوع ملحوظ مرآة عن الخارج لا بمعنى الخارج الموجود حتى يلزم منه تحصيل الحاصل أو الزجر عن الموجود بل بمعنى الوجود اللافراغي وعليه فالتعدد محفوظ انتهى ومعه لا يصح الايراد من المحقّق الاصفهاني على صاحب الكفاية فيما ذهب إليه من النفي الادعائي بأنّ النفي حقيقي لا ادعائي فيما إذا كانت القضية انشائية لامكان انشاء نفي الموضوع ادّعاءً مع فرض التعدد ووجود الموضوع وكون العروض من باب عوارض الوجود فتأمّل.

وثانيا بأنّ نفي الضرر وإرادة نفي الفعل المضر خلاف الظاهر لأنّ عنوان الضرر غير عنوان المضر والمنفي هو نفس الضرر الذي يتقوم بنفس النقص لا المنقّص كما لا يخفى قال السيد المحقّق السيستاني مد ظله قصد العمل المضر من الضرر اما بنحو المرآتية أو بنحو آخر فان كان بنحو المرآتية ففيه أولا ان جعل العنوان مرآة للمعنون (٢) هو خلاف الظاهر لأنّ ظاهر الكلام هو أنّ ما اخذ مرتبطا بالحكم في القضية اللفظية بنفسه مرتبط معه في القضية اللبية وبهذا يفقد هذا التفسير ما جعله ميزة له من أنّ فيه تحفظا على الظاهر اللفظي من نفي الطبيعة لكن ادعاء بخلاف تفسيره بنفي الحكم الضرري مثلا فإنّه يقتضي ارادة نفي سبب

__________________

(١) نهاية الدراية / ج ٢ ، ص ٣١٨ ـ ٣١٩.

(٢) بحيث يكون الموضوع هو المعنون والعنوان هو العنوان المشير.

٤١٩

وجود الطبيعة وهو الحكم الضرري لانفسها.

وثانيا أنّه لا يمكن جعل الضرر مرآة للعمل المضر لأنّ مرآتية شيء لشيء ليست جزافية بل أقل ما يعتبر فيها نحو اتحاد بين المفهومين وجودا كما في العنوان والمعنون وليست نسبة الضّرر إلى العمل المضر كالوضوء من هذا القبيل بل هي من قبيل نسبة المعلول إلى العلة وإن كان على غير المرآتية كالسببية والمسببية فهو أبعد منها استظهارا لأنّ المرآتية فيها يقال أخف مراحل المجاز. (١)

وثالثا بأنّ كثرة النفي الادعائي في أمثال هذا التركيب على تقدير التسليم لا توجب ترجيح ما ذهب إليه صاحب الكفاية في المقام لاختلاف تلك الموارد في امكان الادعاء وعدمه كما عرفت في الاشكالات المتقدمة أنّ النفي الادعائى يتوقف على كون الفعل الخارجي موضوعا للآثار حتى يصح ادعاء نفي الموضوع بنفي الآثار وهذا مفقود في المقام.

وثالثها : وهو المختار وهو ان المنفي هو نفس الضرر ولا نظر في هذا النفي إلى الافعال المضرة الخارجية لأنّها أجنبية عن مرحلة التشريع إذ الخارج ظرف السقوط لا ظرف الثبوت بل النظر في هذا النفي إلى الضرر المعلول الناشي من قبل الأحكام الشرعية وحينئذ يكون نفي هذا الضرر دالا بدلالة الاقتضاء على نفي أسبابه الشرعية وهي الأحكام مطلقا تكليفية كانت أو وضعية وجودية كانت أو عدمية ولا حاجة في هذا إلى دعوى المجاز في الكلمة وإرادة الحكم من نفس الضرر كما حكي ذلك عن الشيخ ولا إلى إرادة فعل الضار والمضر الخارجي من نفس الضرر كما ذهب إليه صاحب الكفاية ولا إلى المجاز السكاكي بمعنى اطلاق المسبب وإرادة نفسه لكن بادعاء أنّ السبب عين المسبب وأنّ نفيه عين نفيه.

بل مفاد لا ضرر نفي نفس الضرر المعلول والناشي من الأحكام الشرعية بالنفي الحقيقي في عالم التشريع والقرينة عليه هو أنّ الشارع بما هو الشارع لا يتصرف إلّا في حيطة أحكامه وتشريعاته ولا نظر له إلى الخارج وهذا النفي حقيقي وليس بادعائي لأنّه نفي

__________________

(١) قاعدة لا ضرر / ص ١٩١ ـ ١٩٢.

٤٢٠