عمدة الأصول - ج ٦

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٦

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: ولي عصر (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٣

انّ الضابط في مجرى هذه القاعدة هو ما إذا عدّ الفاقد ميسورا للواجد بحسب العرف مطلقا كان فاقدا للجزء أو الشرط بداهة أنّ فاقد معظم الأجزاء لا يعدّ ميسورا للمركب كما أنّ فاقد بعض الشروط لا يعدّ ميسورا للواجد لها كما لا يخفى حاصله أنّ مع وجود معظم الأجزاء وعدم كون المفقود من المقومات يصدق الميسور وهو موجب لجريان قاعدة الميسور لا يسقط بالمعسور عند تعذر بعض الشروط كما تجري عند تعذّر بعض الأجزاء وهذا هو الذي صرّح به في الكفاية أيضا حيث قال ثمّ إنّه حيث كان الملاك في قاعدة الميسور هو صدق الميسور على الباقي عرفا كانت القاعدة جارية مع تعذّر الشرط أيضا لصدقه حقيقة عليه مع تعذره عرفا كصدقه عليه كذلك مع تعذر الجزء في الجملة وإن كان فاقد الشرط مباينا للواجد عقلا ولأجل ذلك ربما لا يكون الباقي الفاقد لمعظم الأجزاء أو لركنها موردا لها فيما إذا لم يصدق عليه الميسور عرفا وإن كان غير مباين للواجد عقلا (١) نعم ربما يلحق به شرعا ما لا يعدّ بميسور عرفا بتخطئته للعرف وأنّ عدم العدّ كان لعدم الاطلاع على ما هو عليه الفاقد من قيامه في هذا الحال بتمام ما قام عليه الواجد أو بمعظمه في غير الحال وإلّا عدّ انّه ميسوره كما ربما يقوم الدليل على سقوط ميسور عرفي لذلك أي للتخطئة وانّه لا يقوم بشيء من ذلك وبالجملة ما لم يكن دليل على الاخراج أو الالحاق كان المرجع هو الاطلاق (أي الاطلاق العرفي) ويستكشف منه ان الباقي قائم بما يكون المأمور به قائما بتمامه أو بمقدار يوجب ايجابه في الواجب واستحبابه في المستحب. (٢)

فتحصّل : انّ قاعدة الميسور تجري مع تعذّر بعض الشروط كما تجري مع تعذّر الجزء حرفا بحرف والملاك هو صدق الميسور عرفا والصدق المذكور لا يكون إلّا إذا كان المعظم من الأجزاء والشرائط موجودا ولم يكن المفقود من المقومات واستشكل صاحب الكفاية

__________________

(١) كما إذا كان الفاقد فاقدا لبعض مراتب الواجد ألا ترى أنّ بقاء الرجحان الاستحبابي بعد ارتفاع الوجوب ممكن عقلا لعدم كون الرجحان الاستحبابي مباينا مع سائر المراتب بخلاف العرف فإنّه يرى الاستحباب غير الوجوب ويرى المباينة بينهما كما لا يخفى.

(٢) الكفاية / ج ٢ ، ص ٢٥٤.

٣٠١

في حاشيته على ذلك بأنّ الباقي تحت هذه القاعدة بالنسبة إلى الخارج كالقطرة من البحر ولأجله لا يجوز التمسك بها ومعه كيف يمكن أن ينزل عليها قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله الميسور لا يترك بالمعسور ثمّ تفصّى عنه نفسه في مباحثه الفقهية بأنّه يمكن أن يكون خروج ما خرج عن تحتها على نحو التخصص لا التخصيص بأن يكون الفاقد في هذه الموارد أجنبيا غير مربوط بالواجد في نظر الشارع وإن كان العرف يتخيل كونه ميسورا له ولا ينافي ذلك أن يكون العبرة ما لم يعلم خلافه بنظرهم في ذلك الباب هذا انتهى وعليه فلا يلزم تخصيص الأكثر مع كون كل ما ورد عن الشارع تخطئة للعرف خارجا عن تحت القاعدة تخصصا لا تخصيصا وعدم كون المفقود من المقومات.

أورد سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد على ما أفاده صاحب الكفاية من اشتراط صدق الميسور بوجود معظم الأجزاء والشرائط بأنّ الظاهر إمكان التمسك بالحديث في جميع الموارد التي تعذّر بعض الأجزاء أو الشرائط سواء كان المتعذّر معظمها أو كان غير معظمها فإنّه يصدق على الباقي الفاقد للمعظم أيضا أنّه الميسور من المركب ولو لم يكن إلّا جزءا واحدا إلى أن قال فدعوى اعتبار أن لا يكون المتعذر معظم الأجزاء والشرائط محل المنع والنظر كما لا يخفى على المتأمل فتأمّل ثمّ تفرع عليه اشكالا آخر وهو انّ التفصّى بالتخصص عن إشكال تخصيص الأكثر لا يكون صحيحا لعدم إمكان أن يكون موارد عدم وجوب الميسور تخصصا لأنّ المفروض دلالة الحديث على وجوب ذلك مطلقا في جميع الموارد فقيام الدليل على إخراج مورد لا يعقل إلّا أن يكون تخصيصا لهذا العموم المستفاد وهذا واضح فيبقى الكلام في الجواب عن إشكال تخصيص الأكثر واجيب عنه بوجهين أحدهما انّه يستكشف من عدم تمسك الأصحاب في الموارد الكثيرة بالحديث احتفافه بما كان يمنع عن شموله لتلك الموارد المجمع على خروجها عن تحت القاعدة قيل ولذا يحتاج في كل مورد إلى عمل الأصحاب به في هذا المورد فما لم يحرز عمل الأصحاب بالحديث في مورد يشكل التمسك به فيه.

٣٠٢

أقول الظاهر عدم الحاجة إلى احراز عملهم في مورد للتمسك بالحديث فيه بل القدر المسلم عدم جواز العمل به فيما أجمعوا على إخراجه عن تحت القاعدة لأنّه يستكشف من ذلك احتفاف الحديث بما يمنع من شموله له وأمّا غيره من الموارد التي ما أجمعوا على إخراجها فيجري الحديث فيه قطعا ولا بأس بالتمسك به حينئذ وذلك لأنّ القدر المتيقن من القرينة المانعة عن ظهوره لجميع الموارد إنما كان ما يعرفه عن موارد الإجماع واحتمال وجود القرينة بالنسبة إلى غير تلك الموارد ينفيه أصالة عدم القرينة المعتمد عليه عند العقلاء.

والحاصل أنّه لا اشكال في اتباع أصالة الظهور وأصالة عدم القرينة ما لم يدلّ دليل على خلافها وكما يتبع هذا الأصل فيما إذا شك في أصل احتفاف الكلام بما يمنع عن ظهوره كذلك يتبع فيما إذا علم باحتفافه بما يصرفه عن ظاهره بالنسبة إلى بعض الموارد وشك في احتفافه أيضا بما يصرفه عن الموارد الأخر وبه ينفي غير ما كان معلوما.

لا يقال يقطع باحتفاف الكلام بالصارف إلّا أنّ ذلك الصارف مجمل مردّد بين الأقل والأكثر وقد تبين في محله أنّ إجمال القرينة المتصلة بالكلام ليسري إلى الكلام فإنّه يقال هذا إنما هو فيما إذا علم بوجود قرينة مجملة والمقام ليس من هذا القبيل فإنّه يعلم في المقام بوجود القرينة المانعة عن انعقاد الظهور بالنسبة إلى الموارد المجمع على خروجها وشك في أصل وجود غيرها ممّا يوجب رفع اليد عن ظهور الكلام بالنسبة إلى غير تلك الموارد وأصالة عدم القرينة ينفي ذلك الاحتمال.

الثاني أنّ تخصيص الأكثر لا قبح ولا استهجان فيه إذا كان الأكثر خارجا بعنوان عام يشمله أقول وقد استوعبنا الكلام فيه في الفقه وإجماله أنّ تخصيص الأكثر ليس ممتنعا ذاتا ولا قبيحا عقلا فاستهجانه ليس إلّا من جهة أنّ إلقاء الكلام العام وإخراج أكثر أفراده عنه يعد عرفا خارجا عن طريقة المحاورة والمكالمة وإذا نقول كلما يستلزم التخصيص ذلك يعد مستهجنا عرفا وإلّا فلا وإذا كان المخرج خارجا بعنوان واحد أو عنوانين لا يكون الكلام على غير نحو المتعارف فليس بمستهجن أصلا ولو فرض أنّ الخارج أكثر أفراد من

٣٠٣

الداخل تدبر تعرف. (١)

ولا يخفى عليك ما قلنا في ذيل حديث الميسور لا يسقط بالمعسور من تفكيك الصدق العرفي عن الصدق اللغوي واختصاص الأول بما يترتب عليه ما يترتب على المركب من الأثر والخاصية ولو بنحو ناقص وأمّا ما لم يترتب عليه شيء من الأثر والخاصية فلا يعد عرفا أنّه الميسور منه وعليه فلا يرد إشكال على صاحب الكفاية في اختصاص الميسور بما إذا لم يكن المفقود معظم الأجزاء والشرائط أو من المقومات.

وعليه فدعوى التخصص للتفصّى عن إشكال تخصيص الأكثر باعتبار أهمية أثر بعض الأجزاء أو الشرائط بمثابة تكون فقدانها كفقدان المعظم غير مجازفة.

نعم ما أفاده سيّدنا الاستاذ قدس‌سره على تقدير التخصيص في الوجهين المذكورين يكون تاما أيضا فتحصّل : أنّ قاعدة الميسور تجري في موارد تعذّر بعض الأجزاء أو الشرائط ومقتضاها هو لزوم الإتيان بغير المتعذّر ما لم يقم إجماع على خلافه ولا حاجة في التمسك بها في الموارد إلى تمسك الأصحاب بها فيها بل اللازم هو صدق الموضوع وهو الميسور فتدبّر جيّدا.

هذا كله بناء على تمامية الأدلة الاجتهادية وأمّا بناء على عدم تماميتها لعدم جبران ضعفها فالمحكم هو استصحاب الحكم مع صدق بقاء الموضوع عرفا وهي ذات الأجزاء والمشروط بالشرائط لما عرفت من أنّ المستصحب هو وجوب نفس الأجزاء والمشروط بالشرائط بناء على أن الوجوب هو الوجوب المنبسط عليها لا وجوب المركب منها وغيرها من المتعذرة وعليه فالموضوع باق عرفا وحكمه يستصحب كما لا يخفى.

فرعان :

الأوّل : في دوران الأمر بين ترك الجزء وترك الشرط قال الشيخ الأعظم إنّه لو دار الأمر

__________________

(١) المحاضرات لسيدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره / ج ٢ ، ص ٤٧٤ ـ ٤٧٦.

٣٠٤

بين ترك الجزء وترك الشرط كما فيما إذا لم يتمكن من الاتيان بزيارة عاشورا. لجميع أجزائه في مجلس واحد على القول باشتراط اتحاد المجلس فيه فالظاهر تقديم ترك الشرط فيأتي بالاجزاء تامة في غير المجلس وترك الشرط باتيان جميع الأجزاء أو بعضها بغير شرط لأنّ فوات الوصف أولى من فوات الموصوف ويحتمل التخيير (١) وتبعه سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره فيما إذا دار الأمر بين ترك جزء وبين ترك الشرط المعتبر في نفس هذا الجزء معللا بأنّ الدوران إنّما هو بين ترك الجزء رأسا وايجاده بلا شرط ولا ريب في أنّ مقتضى القواعد في هذه الصورة تقديم ترك الشرط وإتيان الجزء خاليا عن الشرط. (٢)

ولكن ذهب المحقّق الآشتياني في تعليقته على الرسائل إلى أنّ المتبع هو الأهم نعم لو لم يكن أهم في البين فالحكم هو التخيير وتبعه المحقّق العراقي قدس‌سره حيث قال إذا دار الأمر بين سقوط الجزء أو الشرط لتعذر الجمع بينهما في الامتثال ففي وجوب صرف القدرة إلى الجزء أو الشرط أو التخيير بينهما مطلقا أو في صورة عدم إحراز مزية لأحدهما ملاكا وجوه أقواها الأخير كما هو الشأن في كلية المتزاحمين. (٣)

يمكن أن يقال : لا كلام في الكبرى من أنّ الأهم مقدم إن كان وإلّا فالحكم هو التخيير وإنّما الاختلاف في الصغرى ولا يبعد دعوى أهمية الإتيان بالجزء وترك الشرط لما أفاده الشيخ الأعظم وتبعه سيّدنا الاستاذ قدس‌سرهما إلّا أنّه فيما إذا دار الأمر بين ترك الجزء وترك الشرط المعتبر في نفس هذا الجزء.

وأمّا إذا دار الأمر بين ترك جزء المركب وترك ما هو شرط في جميع الأجزاء أو دار الأمر بين ترك الجزء وترك الشرط المعتبر في الجزء المتأخر أو دار الأمر بين ترك شرط في جزء وترك جزء متأخر فلا يأتي فيه التعليل المذكور في كلام الشيخ الأعظم قدس‌سره من أنّ فوات الوصف أولى من فوات الموصوف لو اريد به وصف نفس الموصوف كما هو الظاهر من عبارة

__________________

(١) فرائد الاصول / ص ٢٩٦ ـ ٢٩٧ الطبعة القديمة.

(٢) المحاضرات لسيدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره / ج ٢ ، ص ٤٨١.

(٣) نهاية الأفكار / ج ٣ ، ص ٤٦١.

٣٠٥

سيّدنا الاستاذ حيث قال في صورة الدوران بين ترك الجزء وترك الشرط أنّ الدوران فيه بين ترك الجزء رأسا وايجاده بلا شرط ولا ريب في أنّ مقتضى القواعد في هذه الصورة تقديم ترك الشرط وإتيان الجزء خاليا عن الشرط.

وأمّا إذا اريد منه وصف الموصوف ولو في الجزء المتاخر أو في جميع الأجزاء ونحوهما فالأولوية المذكورة غير معلومة.

ولعلّه لذلك قال سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد في محكي كلامه مقتضى القاعدة في تلك الصور غير الصورة الأولى هو التخيير ما لم يعلم بأهمية واحد من الشرط أو الجزء في نظر الشارع وإلّا يقدم الأهمّ لا محالة إلّا إذا ورد الدليل الخاص في بعض الموارد على وجوب صرف القدرة فيما تمكن فعلا كما في باب الصلاة حيث ورد فيها أنّه يجب الإتيان بها تامة الأجزاء والشرائط إذا كان قادرا عليها فعلا مطلقا سواء عرض له التعذّر بعد بالنسبة إلى بعض الأجزاء والشرائط أو لم يعرض له ذلك. (١)

الثاني : في تقديم البدل الاضطراري على الناقص واعلم أنّه لو جعل الشارع للكل بدلا اضطراريا كالتيمم ففي تقديمه على الناقص وجهان من أنّ مقتضى البدلية كونه بدلا عن التام فيقدم على الناقص كالمبدل ومن أنّ الناقص حال الاضطرار تام لانتفاء جزئية المفقود فيقدم على البدل كالتام ويدلّ عليه رواية عبد الأعلى المتقدمة كما أفاده الشيخ الأعظم قدس‌سره. (٢)

ظاهر كلامه هو ترجيح الوجه الثاني لدلالة رواية عبد الأعلى على الاكتفاء بالوضوء والمسح من دون شرطه وهو المباشرة وهو كذلك ولقد أفاد وأجاد المحقّق الآشتياني حيث قال إنّ جميع ما دلّ على مشروعية الناقص حاكم على دليل البدل.

أورد عليه بأنّ البدل يكون وجودا تنزيليا للمبدل ومع التمكن من الاتيان به ينتفي

__________________

(١) المحاضرات لسيدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره / ج ٢ ، ص ٤٨١ ـ ٤٨٢.

(٢) فرائد الاصول / ص ٢٩٤ الطبعة القديمة.

٣٠٦

موضوع القاعدة لأنّ جريانها انما يكون في ظرف تعذر الواجب المنتفي بالتمكن من البدل.

ويمكن أن يقال : إنّ تنزيل البدل منزلة المبدل لا يكون إلّا فيما إذا تعذّر المبدل ومع تمكّنه عنه بقاعدة الميسور لا يسقط بالمعسور لا مجال للوجود التنزيلي كما لا يخفى.

وممّا ذكر يظهر ما في نهاية الأفكار حيث ذهب إلى التخيير بين الإتيان بالمبدل ناقصا وبين الإتيان ببدله الاضطراري. (١)

والوجه فيه واضح فإنّ جعل البدلية متاخر عن عدم التمكن من المبدل ولا يكون في عرض التمكن من الاتيان بالمبدل حتى يقال يتزاحمان ومع التزاحم فالحكم هو التخيير وقاعدة الميسور توجب التوسعة في التمكن من الاتيان بالمبدل لا من باب تنزيل الباقي منزلة الواجب حتى يقال إنّ كلّا من الميسور والبدل وجود تنزيلي للواجب ولا ترجيح لأحدهما على الآخر فيتخير بل من باب انتفاء جزئية المفقود ورفع اليد عنه فلا تغفل.

فالميسور مقدّم على البدل مطلقا من دون فرق بين وجود التباين بين البدل الاضطراري وما دلت عليه قاعدة الميسور وعدمه وينقدح ممّا ذكرنا ما في محكي كلام سيّدنا الاستاذ حيث قال ففيما يكون البدل الذي يدلّ على وجوبه دليل البدل الاضطراري متباينا مع الذي يدلّ على وجوبه قاعدة الميسور (كالوضوء والتيمم) يحكم بالتخيير إذا لم يكن لأحدهما ترجيح بحسب الدلالة وإلّا يقدم كما لا يخفى وفيما ليس بينهما تباين كما في الصوم ستين يوما حيث إنّ مقتضى دليل البدل الاضطراري فيه وجوب ثمانية عشر يوما إذا تعذّر صوم ستين يوما ومقتضى قاعدة الميسور وجوب ما تمكّن منه كان بقدر ثمانية عشر أو أزيد أو أقل وحيث إنّ التخيير بين الأقل والأكثر لا معنى له فلا محالة يجب الجمع بين الدليلين وترجيح ما كان منها أظهر ولا إشكال في أنّه في المثال يكون الدليل على وجوب ثمانية عشر يوما عند تعذّر الكلّ مقدما على قاعدة الميسور حيث إنّ العكس يستلزم حمله على ما اذا لم يتمكن إلّا من ثمانية عشر وذلك حمل بعيد بخلاف حمل قاعدة الميسور على ما إذا لم يتمكن إلّا من

__________________

(١) نهاية الافكار / ج ٣ ، ص ٤٦١.

٣٠٧

ذلك المقدار أو أقل منه وذلك واضح لا يخفى فتدبّر. (١)

وذلك لما عرفت من أنّ التخيير فيما إذا لم يكن أحد الدليلين في طول الآخر وإلّا فلا مجال للتخيير والمفروض في المقام هو أنّ دليل البدل مترتب على عدم التمكن من المبدل فمع جريان قاعدة الميسور وانتفاء جزئية المتعذر يتمكن من المبدل ومع التمكن منه لا مجال للبدل هذا كلّه فيما إذا كان التباين بين البدل الاضطراري والبدل الذى يدلّ عليه قاعدة الميسور.

وإمّا إذا لم يكن بينهما تباين كالصوم ستين يوما والصوم ثمانية عشر يوما في كفارة شهر رمضان أو كفارة الظهار فمقتضى قاعدة الميسور أيضا هو عدم وجود مجال للبدل الاضطرارى إلّا أن يكون ظهور الدليل الدال على البدل الاضطرارى في تخصيص القاعدة في مورد المثال أقوى من ظهور قاعدة الميسور كما لا يبعد تلك الدعوى في رواية أبى بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال سألته عن رجل كان عليه صيام شهرين متتابعين فلم يقدر على الصيام ولم يقدر على العتق ولم يقدر على الصدقة قال فليصم ثمانية عشر يوما عن كلّ عشرة مساكين ثلاثة أيام (٢) لقوة ظهور الرواية في أنّ مع عدم التمكن من تمام الصيام والعتق والصدقة فالواجب هو الصوم ثمانية عشر يوما لا مقدار الميسور من الصيام والرواية وإن كانت ضعيفة من جهة اسماعيل بن مرار وعبد الجبار ولكنها معتضدة برواية اخرى عن أبى بصير عن رجل ظاهر من امراته فلم يجد ما يعتق ولا ما يتصدق ولا يقوى على الصيام قال يصوم ثمانية عشر يوما لكل عشرة مساكين ثلاثة أيام (٣) ولا فرق في ذلك بين أن يكون ثمانية عشر يوما مجعولة في كفارة شهر رمضان او كفارة الظهار وبالجملة يمكن تخصيص القاعدة عند ظهور الأدلة في التخصيص بالنسبة إلى ما زاد على ثمانية عشر يوما كما يمكن تخصيصها في جانب القلّة فلا تشمل القاعدة مورد الرواية لا بالنسبة إلى ما زاد على ثمانية

__________________

(١) للمحاضرات لسيدنا الاستاذ / ج ٢ ، ص ٤٨٢ ـ ٤٨٣.

(٢) الوسائل / الباب ٩ من أبواب بقية الصوم الواجب ، ح ١.

(٣) الوسائل / الباب ٨ من أبواب الكفارات ، ح ١.

٣٠٨

عشر يوما ولا بالنسبة إلى الأقل منها بناء على تمامية الروايات وقوة ظهورها وإلّا فالمتبع هو مقتضى قاعدة الميسور من دون فرق بين وجود التباين بينهما وعدمه فلا تغفل.

التنبيه السادس : في وجوب الاحتياط بالتكرار أو التخيير بين الفعل والترك فيما إذا دار الأمر بين جزئية شيء أو شرطيته وبين مانعيته أو قاطعيته بمعنى أنّا نعلم اجمالا باعتبار أحد الأمرين في الواجب إمّا فعل هذا الشيء أو تركه وبتعبير آخر إذا دار الأمر بين اعتبار وجود شيء في المأمور به وبين اعتبار عدمه فيه فهل يجب الاحتياط بتكرار العمل وايجاده مرة مع هذا الشيء وأخرى بدونه أو يختار بين فعله وتركه مرة واحدة وجهان قال المحقّق الخوئي قدس‌سره ظاهر شيخنا الانصاري ابتناء هذه المسألة على النزاع في دوران الأمر بين الأقل والأكثر فعلى القول بوجوب الاحتياط هناك لا بد من الاحتياط في المقام أيضا وعلى القول بالبراءة فيه يحكم بجريان البراءة في المقام فإنّ العلم الإجمالي باعتبار وجود شيء أو عدمه لا أثر له لعدم تمكن المكلف من المخالفة العملية القطعية لدوران الأمر بين فعل شيء وتركه وهو لا يخلو من أحدهما مع قطع النظر عن العلم الإجمالي فلم يبق إلّا الشك في الاعتبار وهو مورد لأصالة البراءة انتهى فيكون مختارا بين الفعل والترك ومقتضى إطلاق كلامه هو عدم الفرق بين كون طرفي المعلوم بالإجمال توصليين أو تعبديين ثمّ أورد عليه السيد المحقّق الخوئي قدس‌سره بأنّ التحقيق وجوب الاحتياط والإتيان بالواجب مع هذا الشيء مرة وبدونه أخرى وذلك لأنّ المأمور به هو الطبيعي وله أفراد طولية فالمكلف متمكن من الموافقة القطعية بتكرار العمل ومن المخالفة القطعية بترك العمل رأسا فيكون العلم الإجمالي منجزا للتكليف لا محالة فيجب الاحتياط.

وأمّا عدم التمكن من المخالفة القطعية في الفرد الخارجي لاستحالة ارتفاع النقيضين فهو لا ينافي تنجيز العلم الإجمالي بعد تمكن المكلف من المخالفة القطعية في أصل المأمور به وهو الطبيعة إذ الاعتبار إنّما هو بما تعلق به التكليف لا بالفرد الخارجي فلا مناص من القول بوجوب الاحتياط في المقام وإن قلنا بالبراءة في دوران الأمر بين الأقل والأكثر إذ في المقام

٣٠٩

لنا علم اجمالي باعتبار شيء في المأمور به غاية الأمر أنّا لا ندري أنّ المعتبر هو وجوده أو عدمه في المأمور به فلا بدّ من الاحتياط والاتيان بالعمل مع وجوده تارة وبدونه أخرى تحصيلا للعلم بالفراغ بخلاف دوران الأمر بين الأقل والأكثر فإنّه ليس فيه إلّا احتمال اعتبار شيء في المأمور به فيكون مجرى للبراءة فكيف يقاس العلم بالاعتبار على الشك فيه. (١)

وهذا هو الذي ذهب إليه في الكفاية من وجوب الاحتياط حيث قال في مفروض المسألة إنّه كان من قبيل المتباينين ولا يكاد يكون من الدوران بين المحذورين لامكان الاحتياط باتيان العمل مرتين مع ذاك الشيء مرة وبدونه أخرى (٢) ومقتضى اطلاقه هو عدم الفرق بين كون طرفي المعلوم بالاجمال توصليين أو تعبديين.

أورد عليه سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره بأنّ على القول بجريان البراءة الشرعية في الشك في الشرطية والجزئية فتجري في المقام فيما لا يلزم منه مخالفة القطعية العملية بناء على عدم المحذور في الالتزامية منها والحاصل أنّ من كان بناؤه على البراءة الشرعية في دوران الأمر بين الأقل والأكثر عن جزئية المشكوكة أو شرطيتها يلزمه القول بالتخيير في المقام فيما إذا كان المشكوك اعتبار وجوده أو عدمه توصليا حيث لا يلزم من اجراء الأصل (٣) حينئذ مخالفة قطعية عملية والمفروض انه لا محذور في المخالفة الالتزامية.

والعجب من المحقّق الخراساني والمحقّق النائيني قدس‌سرهما حيث ذهبا في الشك في الشرطية والجزئية إلى البراءة الشرعية واختارا هنا وجوب الاحتياط بتكرار العمل فالحق بعد مع الشيخ قدس‌سره حيث أختار التخيير بناء على القول بعدم وجوب الاحتياط في تلك المسألة وعدم حرمة المخالفة القطعية الالتزامية والاحتياط بناء على القول بوجوب الاحتياط فيها أو القول بحرمة المخالفة القطعية ولو كانت التزامية وكلامه قدس‌سره وإن كان خاليا عن التقييد بما إذا

__________________

(١) مصباح الاصول / ج ٢ ، ص ٤٨٧.

(٢) الكفاية / ج ٢ ، ص ٢٥٤.

(٣) أي من اجراء الأصل في كل طرف من أطراف المعلوم بالاجمال ولو كان متعلق التكليف هو الطبيعة لا الفرد.

٣١٠

كان ما علم إجمالا اعتبار فعله أو تركه توصليا إلّا أنّه ممّا لا بدّ منه حيث إنّه لو كان تعبديا لوجب الاحتياط مطلقا. (١)

وقد تلخص من جميع ما ذكرناه أنّ القول بالتخيير في المقام فرع أمور الأوّل أن يجري الأصل في الشك في الشرطية والجزئية الثاني أن لا يكون في المخالفة القطعية الالتزامية محذور شرعي أو عقلي الثالث أن يجري الأصل في أطراف المعلوم بالإجمال ما لم يؤد إلى المخالفة القطعية العملية الرابع أن يكون كل من الفعل والترك المعلوم اعتبار أحدهما توصليا.

إذا عرفت ذلك نقول من تسلم لامور الثلاثة الاولى كالمحقق الخراساني والنائيني وغيرهما يلزمه القول بالتخيير إذا كان المعلوم بالإجمال توصليا وبالاحتياط إذا كان تعبديا فحكمه بالاحتياط (٢) لا وجه له ولعمري أنّ المسألة في غاية الوضوح تدبر تعرف. (٣)

حاصله أنّ مع تسليم كون الطبيعة مورد تعلق التكليف لا الفرد أمكن التفصيل بين التوصليين وجريان البراءة في الطرفين والحكم بعدم اعتبارهما لعدم لزوم المخالفة العملية القطعية من جريان الأصل بناء على عدم المانع من جريان البراءة في أطراف المعلوم بالإجمال إذا لم يؤد إلى المخالفة القطعية العملية وبين التعبديين ولزوم الاحتياط للتمكن من المخالفة القطعية في هذه الصورة ومعه لا يجوز الترخيص بالنسبة إلى الطرفين.

ودعوى أنّ المخالفة العملية تصبح ممكنة إذا فرض أنّ الجزئية أو المانعية كانت قربية فإنّه يمكن للمكلف أن ياتي بالفعل أو الترك على وجه غير قربي فيكون مخالفا للمعلوم بالاجمال على كل تقدير ويكون جريان الأصلين معا مؤديا إلى الإذن في ذلك فيتعارض الأصلان ويتساقطان. (٤)

__________________

(١) حيث إنّه يتمكن حينئذ من المخالفة القطعية بترك قصد القربة في طرفي المعلوم بالاجمال بأن يأتي بالفعل أو الترك على وجه غير قربي.

(٢) أي بالاحتياط مطلقا.

(٣) المحاضرات لسيدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره / ج ٢ ، ص ٤٨٦.

(٤) مباحث الحجج / ج ٢ ، ص ٣٦٤.

٣١١

مقبولة ولكنّها لا توجب القول بالاحتياط فيما إذا فرض كونهما توصليين والمفروض أنّ كلام سيّدنا الاستاذ فيما إذا كان المعلوم بالاجمال توصليا فلا وجه لما ذهب إليه في مباحث الحجج من وجوب الاحتياط بتكرار العمل مرة مع الإتيان بذلك الشيء ومرة بدونه ولو في التوصليين.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّه إذا دار الأمر بين كون شيء شرطا أو جزء وبين كونه مانعا أو قاطعا فالعلم الإجمالي بتقييد الواجب بأمر حاصل إلّا أنّه دائر بين وجود ذاك الشيء وعدمه وحيث إنّه لا جامع أصلا بينهما والاحتياط ولو بالتكرار ممكن فالعقلاء يحكمون في مثله بوجوب الموافقة القطعية ولو لم يلزم من جريان الأصل فيه مخالفة قطعية عملية ومع حكم العقلاء وعدم الردع عنه لا مجال للرجوع إلى البراءة ولو في التوصليات.

وبالجملة فما نحن فيه عندهم من قبيل المتباينين لا من قبيل الدوران بين المحذورين ولا مجال للاحتياط في الثاني دون الأوّل فان الاحتياط بتكرار العمل ممكن فيه والوجه في امكان الاحتياط في المتباينين كما أفاد المحقّق الاصفهاني قدس‌سره أنّ مورد دوران الأمر بين المحذورين يكون المطلوب في كل واقعة أحد الأمرين اللذين لا يتمكن من موافقة التكليف فيه والفعل في واقعة والترك في اخرى ليس موافقة قطعية للتكليف لأنّه هناك بعدد الوقائع تكاليف متعددة فالفعل موافقة احتمالية لتكليف والترك موافقة احتمالية لتكليف آخر لا للتكليف في الواقعة الاولى بخلاف ما نحن فيه فإنّه ليس المطلوب إلّا صلاة واحدة متخصصة إمّا بجزء وجودي أو بجزء عدمي ويتمكن من موافقة التكليف بذلك الخاص قطعيا باتيانه مرتين. (١)

فتحصّل : أنّ الأقوى هو وجوب الاحتياط في مفروض المسألة مطلقا سواء كان طرفي المعلوم بالاجمال من التوصليات أو التعبديات وعليه فالحق مع المحقّق الخراساني ومن تبعه قدّس الله أرواح جميع العلماء والصالحين.

__________________

(١) نهاية الدراية / ج ٢ ، ص ٣٠٣ ط قديم.

٣١٢

خاتمة في شرائط الاصول :

والكلام يقع تارة في الاحتياط واخرى في البراءة.

والاحتياط إمّا في التوصليات وإمّا في العباديات أمّا الاحتياط في التوصليات فلا يعتبر في العمل به أمر زائد على تحقق موضوعه ويكفي في تحقق موضوعه كما أفاد الشيخ الأعظم قدس‌سره إحراز الواقع المشكوك فيه بالجمع بين المحتملات ولو كان على خلافه دليل اجتهادي بالنسبة إليه فإنّ قيام الخبر الصحيح على عدم وجوب شيء لا يمنع من الاحتياط فيه لعموم أدلّة رجحان الاحتياط غاية الأمر عدم وجوب الاحتياط وهذا ممّا لا خلاف فيه ولا اشكال انتهى. (١)

فالاحتياط في غير العبادات من التوصليات لا يعتبر في حسنه إلّا أن يكون الاحتياط بنحو يوجب احراز الواقع وهو أن ياتي بجميع المحتملات حتى يتحقق أصل عنوان الاحتياط وهو حسن ما لم يؤد إلى الاختلال في النظام إذ مع اقتران اختلال النظام فهو وأن يصدق عليه عنوان الاحتياط ولكن مقرون بما يكون مبغوضا للمولى وهو لزوم الاختلال فيسقط حسنه حينئذ عن الفعلية كما هو واضح وممّا ذكر يظهر ما في مصباح الاصول حيث قال مع كونه مخلا للنظام لا يصدق عنوان الاحتياط لكونه مبغوضا للمولى.

وذلك لما عرفت من صدق الاحتياط عليه من جهة كونه موجبا لإدراك الواقع على ما هو عليه ولكن مقرون بما هو مبغوض يوجب سقوط الحسن عن الفعلية والأمر سهل هذا في التوصليات وكيف ما كان فلا يتوقف حسن الاحتياط فيما إذا لم يكن موجبا للاختلال على شيء آخر فيحسن الاحتياط عن المجتهد أو المقلد في التوصليات ولو مع عدم الفحص عن الأدلة أو رأي المجتهد والجهل بالتفصيل كما لا يخفى.

وأمّا الاحتياط في العباديات فلا شك في حسنه ورجحانه فيما إذا لم يتمكن المكلف من

__________________

(١) فرائد الاصول / ص ٢٩٨.

٣١٣

تحصيل العلم التفصيلي أو لم يكن الواقع منجّزا عليه كما في الشبهات البدوية الموضوعية أو الشبهات البدوية الحكمية بعد الفحص وعدم الظفر بالدليل.

وأمّا إذا كان المكلف متمكنا من الامتثال التفصيلي بأن امكن له العلم به بالفحص عن الأدلة أو رأي المجتهد وكان الواقع منجّزا عليه على تقدير وجوده كما في الشبهات البدوية الحكمية قبل الفحص ففي جواز الاحتياط قبل الفحص وعدمه أقوال ثالثها التفصيل بين كون الاحتياط مستلزما للتكرار وعدمه.

والأقوى هو الأوّل إذ لا دليل على اعتبار قصد الوجه ودعوى عدم تحقق الاطاعة بدون قصد الوجه إلّا بعد الفحص عن الطرق الشرعية المثبتة لوجه الفعل من الوجوب أو الندب ممنوعة لصدق الاطاعة عرفا باتيانه كذلك سواء استلزم التكرار أو لم يستلزم.

والمفروض أنّه لا دليل على اعتبار قصد الوجه شرعا.

نعم لو شك في اعتبار نية الوجه وتمكن منها بالفحص عن الأدلة أو رأي المجتهد أمكن القول بوجوب الفحص عن الأدلة إن كان مجتهدا أو عن رأي مجتهده إن كان مقلدا لاحتمال دخالته في الاحتياط وادراك الواقع ولكن عرفت عدم الدليل على دخالة نيّة الوجه فيه شرعا سواء استلزم الاحتياط للتكرار أو لم يستلزم ويكفي صدق الاطاعة عرفا ودعوى الاجماع على اعتبار نية الوجه غير ثابتة كما سيأتي تفصيله إن شاء الله.

وممّا ذكر يظهر ما في كلام شيخنا الأعظم قدس‌سره حيث ذهب عند الشك في اعتبار نيّة الوجه شرعا إلى اعتبار نية الوجه في صورة عدم استلزام الاحتياط للتكرار للاجماع وفي صورة استلزام الاحتياط للتكرار لعدم العلم بكفاية هذا النحو من الاطاعة الاجمالية وقوة احتمال اعتبار التفصيلية وإليك عباراته قال ...

فإن لم يكن مستلزما للتكرار فالأقوى فيه الصحة بناء على عدم اعتبار نية الوجه في العمل ... نعم لو شك في اعتبارها (أي نيّة الوجه) ولم يقم دليل معتبر من الشرع أو العرف حاكم بتحقق الاطاعة بدونها كان مقتضى الاحتياط اللازم الحكم بعدم الاكتفاء بعبادة

٣١٤

الجاهل حتى على المختار من اجراء البراءة في الشك في الشرطية لأنّ هذا الشرط ليس على حدّ سائر الشروط المأخوذة في المأمور به الواقعة في حيّز الأمر حتى إذا شك في تعلق الالزام به من الشارع حكم العقل بقبح المؤاخذة المسببة عن تركه والنقل بكونه مرفوعا عن المكلف بل هو (أي قصد الوجه) على تقدير اعتباره شرط لتحقق الاطاعة وسقوط المأمور به وخروج المكلف عن العهدة ومن المعلوم أنّ مع الشك في ذلك لا بد من الاحتياط واتيان المأمور به على وجه يقطع معه بالخروج عن العهدة ... لكن الانصاف أنّ الشك في تحقق الاطاعة بدون نيّة الوجه غير متحقق لقطع العرف بتحققها ... إلّا أنّ الأحوط عدم اكتفاء الجاهل عن الاجتهاد او التقليد قدس‌سره بالاحتياط لشهرة القول بذلك بين الاصحاب ونقل غير واحد اتفاق المتكلّمين على وجوب اتيان الواجب والمندوب لوجوبه أو ندبه أو لوجههما ونقل السيّد الرضي اجماع أصحابنا على بطلان صلاة من صلى صلاة لا يعلم أحكامها وتقرير أخيه الأجلّ علم الهدى قدس‌سره له على ذلك في مسالة الجاهل بالقصر بل يمكن أن يجعل هذان الاتفاقان المحكيان من أهل المعقول والمنقول المعتضدان بالشهرة العظيمة دليلا في المسألة فضلا عن كونهما منشأ للشك الملزم للاحتياط كما ذكرنا.

وإن كان مستلزما للتكرار فقد يقوى في النظر ايضا جواز ترك الطريقين فيه إلى الاحتياط بتكرار العبادة بناء على عدم اعتبار نيّة الوجه لكن الانصاف عدم العلم بكفاية هذا النحو من الاطاعة الاحتمالية وقوة احتمال اعتبار الاطاعة التفصيلية في العبادة بأن يعلم المكلف حين الاشتغال بما يجب عليه أنّه هو الواجب عليه ولذا يعد تكرار العبادة لاحراز الواقع مع التمكن من العلم التفصيلي به أجنبيّا عن سيرة المتشرعة بل من أتى بصلوات غير محصورة لاحراز شروط صلاة واحدة بأن صلى في موضع تردد فيه القبلة بين أربع جهات في خمسة اثواب أحدها طاهر ساجدا على خمسة اشياء أحدها ما يصحّ السجود عليه مائة صلاة مع التمكن من صلاة واحدة يعلم فيها تفصيلا اجتماع الشروط الثلاثة يعدّ في الشرع

٣١٥

والعرف تكرارا لاعبا بأمر المولى. (١)

وفيه ما عرفت من صدق عنوان الاطاعة عرفا ولو مع عدم نيّة الوجه والشك في دخالته فيه شرعا والاستدلال بالاجماع ضعيف والفرق بين صورة استلزام التكرار وعدمه لا وجه له لصدق الاطاعة في كلا الصورتين ولقد أفاد وأجاد سيّدنا الاستاذ في ايراده عليه بقوله أولا بأنّ الاجماع المنقول من أهل المعقول فلا يصح الاعتماد عليه ظاهرا في الحكم بوجوب قصد الوجه لوضوح مستندهم فيه فإنّهم اتفقوا ظاهرا على أنّه لا يجب في العبادات إلّا قصد القربة أو قصد الأمر إلّا أنّه ذهب بعضهم إلى وجوب قصد وجه العمل من الوجوب أو الاستحباب بدعوى أنّ العمل المستحب ليس امتثالا لأمر الوجوبي والعمل الواجب ليس امتثالا لأمر الاستحبابي فلا يتحقق امتثال الأمر إلّا بقصد ما كان عليه الأمر من الوجوب أو الاستحباب.

وذهب بعض آخر إلى أنّه لما كان المأمور به واقعا وحقيقة هي المصالح الكامنة في الأشياء الواقعة بحسب الظاهر في حيز الأوامر فلا محالة يجب قصد تلك في تحقق الاطاعة والامتثال حيث إنّ الأمر لا يدعو إلّا إلى متعلقه والمفروض أنّ متعلقه هي تلك المصالح وحيث لا يمكن قصدها بعناوينها لعدم العلم بها فيجب قصد العنوان المشير إليها وهو وجه العمل من الوجوب والاستحباب غاية أو وصفا.

وأنت خبير بأنّ مرجع كل ذلك إلى وجوب قصد الأمر والقربة إلّا أنّ وجه ذهابهم إلى وجوب قصد الوجه إنّما هو لدخله في ذلك بزعمهم فلا يكون اجماعهم حجة على من لا يذهب إلى دخل قصد الوجه في تحقق الاطاعة أصلا فتدبّر.

وكيف كان فمثل هذا الاجماع ليس حجة مع ذكر مدركه في كلمات المجمعين.

ولقائل أن يقول إنّ اللازم هو اتصال الاجماع إلى زمان المعصوم فيكشف عن تقريره ولو كان مدركيا ثمّ أضاف الاستاذ في الاشكال بقوله وثانيا بأنّ الاجماع المنقول من أهل المنقول

__________________

(١) فرائد الاصول / ج ٢ ، ص ٥٠٧ ـ ٥٠٨ ، الطبعة الجديدة غير المحشى لجامعة المدرّسين بقم.

٣١٦

لا يخفى ما فيه فانّا بعد التفحص التام عن كلمات بعض المتقدمين وعن الكتب المعدة لذكر المنصوصات لم نجد منهم قولا بذلك بل إنّما يظهر منهم وجوب أصل قصد القربة وهذا دليل قوي على عدم ورود الدليل شرعا إلّا على وجوب هذا القصد فقط فيقوى في النظر أنّ ذهاب بعض المتأخّرين إلى وجوبه ليس إلّا لزعمه دخله في تحقق قصد القربة وعليك بالرجوع إلى كلمات المتقدمين من الأصحاب تجد صدق ما ادّعيناه فإنّ مذهب الشيخ في النهاية بل ظاهر المبسوط وكذا المفيد في المقنعة والسيد المرتضى على ما حكي عنه وكذا غيرهم من متقدميهم أو المتاخرين عدم وجوبه حيث اقتصروا في النيّة على وجوب قصد الأمر من دون التعرض لقصد الوجه.

ومن ذلك تعرف ما في كلام أهل الكلام نسبة هذا القول إلى مذهب الإمامية ولا يبعد دعوى القطع بأنّ وجه هذه النسبة مع خلوّ كلمات أكثر الفقهاء عن ذكر قصد الوجه إنّما هو اتفاق الإمامية بل كل المسلمين ظاهرا على وجوب قصد القربة في العبادات فيتخيل أهل الكلام أنّ اللازم من هذا الاتفاق اتفاقهم على وجوب قصد الوجه أيضا لزعمهم عدم حصول قصد القربة إلّا به وعلى أي حال فهذا الإجماع ممّا لا أصل له مضافا إلى أنّه إجماع منقول ومضافا إلى احتمال أن يكون مدركه بعض ما أشرنا إليه.

وأمّا ما نسب إلى السيد الرضي والسيد المرتضى قدس‌سرهما من دعوى أحدهما الاجماع على بطلان صلاة من صلى صلاة لا يعلم أحكامها وتقرير الآخر له في ذلك فلا بأس بذكره لتعلم أنّه أجنبي عن المقام.

فنقول قال في المختلف في مسالة من أتمّ في السفر ما هذا لفظه وأمّا السيد المرتضى فإنّه قال في الانتصار إذا تعمّد أعاد على كل حال وإن نسي أعاد في الوقت دون خارجه ولم يذكر حال الجاهل بل قال في المسائل الرسية حيث قال له السائل ما الوجه فيما يفتي به الطائفة من سقوط فرض القضاء عمّن صلّى من المقصّرين صلاة يتم (ونقل صلاة المتمم) بعد خروج الوقت إذا كان جاهلا بالحكم في ذلك مع علمنا بأنّ الجهل بأعداد الركعات لا يصح مع العلم

٣١٧

(ونقل معه العلم) بتفاصيل أحكامها ووجوهها إذ من البعيد أن يعلم التفصيل من جهل الجملة التي هي كالأصل (ونقل مع الجهل بالجملة التي هي كالاصل ولعله أصح) والاجماع على أنّ من صلى صلاة ولا يعلم أحكامها فهي غير مجزية وما لا يجزي من الصلوات يجب قضائه فكيف يجوز الفتوى بسقوط القضاء عمن صلّى صلاة لا يجزيه فأجاب قدس‌سره بأنّ الجهل وإن لم يعذر صاحبه بل هو مذموم جاز أن يتغير معه الحكم الشرعي ويكون حكم العالم بخلاف حكم الجاهل انتهى كلامه.

وقال الشهيد في الذكرى في مسالة الجاهل بالقصر في السفر أنّ السيد الرضي سأل أخاه المرتضى رحمه‌الله فقال إنّ الإجماع واقع على أنّ من صلّى صلاة لا يعلم أحكامها فهي غير مجزية والجهل بأعداد الركعات جهل بأحكامها فلا تكون مجزية فأجاب المرتضى عنه بجواز تغير الحكم الشرعي بسبب الجهل وإن كان الجاهل غير معذور انتهى كلامه.

وأنت بعد التأمّل التام تعرف أنّ هذا الكلام غير مرتبط بالمقام فإنّ كلامنا هذا في الجاهل البسيط المحتاط في أعماله أنّه هل يبطل عمله من جهة وجوب قصد الوجه شرطا في صحة العمل أو لا ومورد الاجماع الذي ادعاه السيد الرضي وقرره أخوه على ذلك هو الجهل المركب وأنّ الجاهل الذي لا يعلم أحكامها وفرائضها كالعامد التارك لها وهذا هو الذي اشتهر في ألسن فقهاء المتأخّرين أنّ الجاهل كالعامد إلّا في موضعين إلى أن قال وقد تلخص من جميع ما ذكرناه أنّ الإجماع في المقام إمّا غير موجود وإمّا غير مفيد وكذلك الشهرة فيجب المشي على مقتضى القواعد.

فنقول قد تقدم منّا في بحث الوضوء في الفقه أنّ الأقوى عدم وجوب قصد الوجه فلا مجال إلّا عن القول بصحة عمل المحتاط فيما لا يحتاج إلى التكرار ولو صادف الدليل على وجوب بعض ما احتاط فيه فتدبّر وأمّا فيما يحتاج اليه (أي إلى التكرار) فإن قلنا باعتبار قصد الوجه فلا يصح الاحتياط إلّا بعد الاجتهاد أو التقليد وإن قلنا بعدم اعتباره كما هو المختار يصح فلا فرق بعد التامل بين الصورتين وثالثا بأنّ الفرق بين صورة الحاجة إلى التكرار وصورة

٣١٨

عدمها بما يرجع حاصله إلى وجهين أحدهما اعتبار أن يكون الباعث للعبد الأمر المحتمل فيما أمكن وثانيهما أنّ التكرار لعب بأمر المولى ضعيف لما في وجه الأوّل أولا من عدم اعتبار ذلك قطعا لصدق الامتثال عرفا بدون الجزم بالأمر حين العمل وثانيا أنّه لو تم لجرى فيما لا يحتاج إلى التكرار أيضا بل مقتضاه عدم صحة الاحتياط حتى في الشبهات البدوية قبل الفحص واليأس عن الدليل ولما في الوجه الثاني أوّلا من أنّ التكرار ربما يكون بداع عقلائي فلا يكون عبثا ولعبا بل قد يكون تحصيل العلم التفصيلي عبثا ولعبا كما لا يخفى على من راجع وجدانه فيما لو أمر المولى عبده أن يسلم على زيد فاشتبه بين اثنين فإنّ الاحتياط بتكرار التسليم عليهما لا يعدّ عبثا عقلا بل تحصيل العلم بخصوص زيد من بينهما يعدّ كذلك خصوصا في بعض الموارد ونظير ذلك كثير فالتكرار من حيث هو لا يعدّ لعبا بأمر المولى عقلا ولا عرفا وثانيا سلمنا كونه لعبا مطلقا إلّا أنّه لا ينافي قصد الامتثال حيث إنّه إنّما كان في خصوصيات الامتثال وكيفياته وقد تقدم في الفقه أنّ خصوصيات الفردية لا بدّ وأن يؤتى بها ببعض الدواعي الراجعة إلى الشهوات النفسانية فإنّ الأمر لا يكاد يدعو إلّا إلى متعلقه الذي هو نفس الطبيعة من حيث هي فخصوصيات الفردية وكيفيات الامتثال خارجة عن تحت دائرة الطلب وترجيح بعضها على الآخر ليس إلّا بداعي شهوة النفس وأميالها وإذا لا فرق بين أن يكون هذا الداعي من الدواعي العقلائية أو من غيرها. (١)

فيتحصّل أنّ الاحتياط مطلقا لا يتوقف على الفحص والعلم بوجه الأحكام من الوجوب أو الندب ومع عدم توقفه على ذلك يجوز الاحتياط في العبادات كالتوصليات من دون فرق بين استلزام الاحتياط للتكرار وعدمه كما لا يخفى.

وأمّا البراءة فالكلام فيها يقع في مقامين :

المقام الأوّل : في البراءة العقلية

__________________

(١) المحاضرات لسيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره / ج ٢ ، ص ٤٨٩ ـ ٤٩٥.

٣١٩

ولا يخفى عليك أنّه لا يجوز إجراؤها إلّا بعد الفحص واليأس عن الظفر بالحجة على التكليف إذ لا مورد لقاعدة قبح العقاب بلا بيان إلّا بعد ثبوت موضوعها وهو عدم البيان ولا يثبت الموضوع المذكور إلّا بالفحص واليأس وعليه فلو كان التكليف مبينا من ناحية المولى ولم يتفحص عنه العبد صح العقاب على مخالفته لوجود البيان المتعارف بحيث لو تفحص عنه لظفر به ولا يلزم في البيان أزيد من ذلك كما لا يخفى ولا فرق في ذلك بين الشبهات الموضوعية والحكمية ما لم يرخّص الشارع وأمّا إذا رخص الشارع فهو ترخيص شرعي يرفع به عما يقتضيه الدليل العقلي لأنّ حكمه بالاحتياط قبل الفحص من باب الاقتضاء.

قال سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره في محكي كلامه لا بدّ في استقلال العقل بالبراءة من الفحص والياس عن البيان ولا فرق في ذلك بين الشبهات الموضوعية والحكمية نعم لو دلّ دليل شرعي على عدم اعتبار الفحص في الشبهات الموضوعية يحكم به فيها بالخصوص فيرفع اليد عما اقتضاه الأصل العقلي فيها. (١)

فتحصّل : أنّ الفحص والتعلم من شرائط البراءة العقلية أو محققاتها فلا تجري البراءة العقلية بدونهما.

المقام الثاني : في البراءة الشرعية

وهي إمّا في الشبهة الموضوعية التحريمية وإمّا في الشبهة الموضوعية الوجوبية وإما في الشبهة الحكمية.

أمّا الشبهة الموضوعية التحريمية فلا دليل على اعتبار الفحص في جريان البراءة فيها لاطلاق بعض أدلّة البراءة الشرعية من حيث الفحص وعدمه كقوله عليه‌السلام كل شيء منه حرام

__________________

(١) المحاضرات لسيدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره / ج ٢ ، ص ٥٠١.

٣٢٠